معاناة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد الملا محمود
    استاذ متقاعد ومترجم
    • 27-09-2020
    • 575

    معاناة

    معاناة
    خرج صباحا يطلب الرزق لم يكن من يعيل العائلة سواه .. أولاده يدرسون في المدارس
    موظفا وراتب الدولة آنذاك لا يسد رمق عصفور سجين ..هراء أن نتكلم عن غلاء المعيشة فربما غلاء معيشة الحمير أسمى من غلاء معيشة البشر
    توكل على الله ركب سيارته البوليسكي ولوحها الأحمر يشير انها سيارة أجرة .. كم من مرة تشائم من الرقم ( 13 ) ترتابه الظنون والهواجس أن يؤدي به يوما إلى فناء سجن قبيح , لكن ليس باليد حيلة سيارته التاكسي العتيقة لا من يوقفه كي يركب معه عندما يجتاز شوارع المدينة عابثا في الطرقات كأنما متسول كريم يجد من العار أن يسأل أحدا , وهكذا أعتاد حياة الصمت . يقوم بتصليحها بيده حينما تتعطل , يركب إطاراتها بيده , يصنع المستحيل ليجعلها تسير حتى لو في منتصف ليلة ظلماء وهكذا كان قدره
    سار في الطريق مصطحبا أخاه غير الشقيق ووضع في حوض السيارة الخلفي 6 ستة جلكانات سعة كل منها 20 لترا وملئها بالبنزين كي يبيعه هناك في قرية ( وردك ) قرية تقع على الخازر وهناك يشترون ويبيعون وينقلون البضائع إلى الضفة الأخرى بالقوارب صوب كردستان
    في قرارة نفسه يعتبر هذه المهنة لا تليق به ويعلم جيدا أنها لا تخلو من الخطورة سيما بعد أن صدرت قرارات من الرئيس الفاحش قوله " طلعوا دم عينه " !
    لكن لا سبيل ولا مهرب العائلة تريد لقمة والأطفال يتباكون وهم المعيشة أثقل من جبل من الرصاص
    الطريق ترابي والفصل في مقدمة الربيع حيث الأرض الخضراء تمتد مد البصر والأوحال تجعل إطارات السيارة تنزلق تارة وتغور تارة في الأطيان لكن بمهارته كان يستطيع جعلها تجري بسهولة
    مشى ومشى إذ الطريق طويل قرابة خمسون كيلومترا ....اجتاز منعطفا واجتاز آخر تغطيه سيقان نبات القمح الذي بدى في عينه كأنما سيقان نخيل بارعة الطول , وكان القمح في أوج نضارته باسقا وعاليا يتلألأ في كل مكان يلامس أنفه بعبق رائحته.
    هو الآخر كان يشمخ كما سيقان القمح تلك لأنه يعتبر نفسه مكافحا ومجاهدا من أجل عائلته ورغم تلك المعاناة كان يغني كي يسكت صرير ألمه العميق
    أخوه غير الشقيق ينصت له ويملأ نظراته متطلعا في وجهه فيسأله قائلا " ألا تخاف ... كم قلبك قوي يا أخي الأصغر ! " يهمس مع نفسه ويبلع ريقه ولا يجيب لأن الألم يعصر ثناياه ... يصر على مواصلة الطريق رغم كل المستحيل
    ولكن هيهات فالطريق محفوف بالمخاطر ولم تمض دقائق قليلة حتى سمع قرقعة السلاح في أذنيه
    أين تذهب وماذا تحمل في سيارتك فتشوها لم يكن فيها سوى 120 لترا من البنزين وحتى لو باعه لن يجني منه إلا ربحا يسيرا لا يستحق الذكر
    خذوه ! إنه " مُهرَّب " بعد سين وجيم وتطلع في الوجوه كان بينهم ضابط برتبة ملازم ثان اسمه جمعة
    وكان ذلك اليوم يوم جمعة ... تعجب في نفسه عن تلك المصادفات الغريبة وقال ربما فرج !
    لكن تذكر بعد حين حُلمه في تلك الليلة الفائتة وتحديدا قبيل الفجر , وكما يقول أهل العلم الثقاة أن الرؤية تكون صادقة لو كانت قصيرة وحدثت في آواخر الليل !
    هممم إنه السجن شاهد في حلمه أنه يلقى في بطانية خضراء على قارعة الطريق ويمر من جنبه أخوته غير الأشقاء فلان وفلان يلوحون بأيديهم نحوه غير راضين ويقولون ( لا لا لا ) وهكذا توجسه اصبح حقيقة منذ تخوفه من الرقم 13 وكذلك الحلم الذي رآه
    انتهت به إلى الزنزانة وثمانية أشهر ونصف حبس دون أن يعلم مكانه أحد هو وكثيرون غيره لا بل كان معه في نفس الزنزانة طبيبا من أهل السليمانية وكان اخصائيا في أمراض المسالك البولية سجنوه أيضا لأنه كان قد سافر من بغداد صوب السليمانية حيث مدينته وأهله حاملا في جيبه مبلغ 2000 دينار عراقي في وقتها المبلغ المذكور كان لا يعادل 4 دولارات بل وصلت قيمتها بعد ذلك إلى ما يعادل دولار واحد ... فهراء أن نتكلم عن البطولة وأيام الحصار الجائرة وقدسية السلطان
    السلطان الذي أضر بشعبه وأهلكهم حتى كانت نهايته الشنيعة في 2003
    طلعوا دم عينه ! وكانت الرواتب هزيلة والناس تتضور جوعا وهو يبني القصور
    القصور التي بقيت للكلاب السائبة وعلوج الأمريكان ... يقول أنها قصور الشعب وهي محرمة عليهم بل محرم عليهم حتى التوقف قربها
    ولو حدث لديك انفلات إطار في سيارتك فعليك مواصلة الطريق كيفما كان دون أن تقف لحظة
    8 أشهر ونصف حبس بسبب 120 لترا من البنزين التي لا تتراوح قيمتها آنذاك أكثر من ألف دينار ولو باعها لن يربح أكثر من ألف أخرى
    هكذا كان العراق في سنين الطيش والحمق وصنع الأسلحة الجرثومية بل نحن الشعب تحولنا إلى مخلوقات قزمية الشكل مقززة للنفس كما الجراثيم بسبب الجوع ومرارة العيش والظلم السائد
    وهكذا سخر قائد الضرورة شعبه إلى مجانين وحمقى ومتسولين عراة وهم يحملون أرقى الشهادات
    اف لكل ظالم عنيد مناع للخير ومعتد شديد
    وقل ربي زدني علما
    حسابي توتير : https://x.com/alrobaey51
    مدونتي في قوقل : https://mohammad-al-mullah-mahmood.blogspot.com/
يعمل...
X