بين أرصفة الموت وأرصفة الحياة
هناك..على سرير قابع في غرفة باردة راودتني فكرة الكتابة, فحاولت قدر استطاعتي أن أكتب لأخاطب مشاعر أبناء هذا البلد الطيب, تلك المشاعر التي اهتزت عند سماع الخبر, فما بين أروقة الموت والحياة أهدانا الله نعمة العيش من جديد .
فمن هناك.. من انصهار الأرصفة المبتلة بدماء عائلتي الغالية تدفقت الحياة فينا من جديد..
من هناك..حيث اجتمع الناس من حولنا متدافعين ليترك كل منهم ديانته على قارعة الطريق, وليقفوا جميعا على رصيف أنساني مشترك ليقدم كل منهم ما يستطيع من مساعدة أو حتى كلمة طيبة أوصى الله تعالى عباده بها واعتبرها من الصدقات.
من هنا.. حيث سرير المرض الذي تمسي فيه الحركة أنجاز كبير يفرح بها القلب وتطمئن لها النفس لتنساب كضوء من أمل في سراج يبشرنا بنعمة الحياة من جديد.
فمن ظلمات المرض نصير ننسج جديلة الصحة مدركين ما غاب عنا مطولا, وهو كون الصحة نعمة لم ندرك معناها الحقيقي إلا حينما أوشكنا على خسارتها وحينما بدأنا نخشى افتقاد كل جزء فينا.
في لحظة ما بين الموت والحياة تصير خارج عالمك المألوف, في لحظة الصدام تلك قد تُترك مسجىً ما بين مطرقة الموت وسندان الحياة, حيث لا تنتظر ألا قدر الله ولطفه.
فبين أرصفة الموت وأرصفة الحياة يعتريني حزن من النوع الثقيل, فأخجل منكم ابنائي لأني في دوامة ضعفي وصدمتي عجزت عن تلقف صرخاتكم المفزوعة, ولأن قواي الخائرة التي كانت تشبه قواكم كثيرًا لم تستطع-رغم إفعامها بالرحمة- أن تلملم جزءًا من آهاتكم التي تبعثرت على شفاهكم وعلى ناصية الطريق, تلك التي مزقت قلبي وجرفت أجزاء كبيرة منه.
وأنت زوجي.. أتأسف بالنيابة عن أنفاسي التي أربكت سمعك بجملة "لقد مات أبناؤك يا أبا علي", فتلك كلمات فلتت من صميم الخوف الذي يلف أمومتي, فأنا لم استطع حتى لحظتي هذه أن ألملم الدهشة التي رسمت على محياك, أو أن أفك شفرة مزيج الألم والصدمة التي نُقشت في تفاصيلك التائهة في وجهك.
عذرًا زوجي..ولكني صرت كأم مجنونة تنادي أمومتي بنوتهم التي تبعثرت على أطراف الطريق.
شريك أيامي وزهرات عمري..لا بأس..فعلى الطريق لم ينجح سائق متهور أن يقضي بمجونه على متانة أيامنا, ولم يستطع أن يصهر فولاذية تماسكنا, أو أن يغزو بمركبته جمال أحلامكم وأحلامي أنا فيكم.
فرغم أن هذه الحادثة الرهيبة قد تحولت إلى كابوس يطاردني ليسرق مني صحوتي في وضح النهار, ويلاحقني ليطرد مني نومي في حلكة الليل, فجفنيَّ-رغم كل أنواع المهدئات والمنومات- يجافي كلٌّ منهما الآخر, ولكن لا تغيب عن فكري صورتكم أبنائي وكلُّ منكم يتناسى جراحه ليطمئن الآخر, كلُّ منكم يرسم للآخرين لوحة جميله ليحول احمرار دمه إلى ألوان دافئة..هادئة تؤكد أن كل شيء سيغدو أفضل, حينها أدركت كل الإدراك أن لا بد لمن زرع يوما أن يجني, وأدركت أني ووالدكم نجحنا بزرع المحبة والعلاقة السليمة في نفوسكم الغضة.
لا بأس..فقد استطاع الوجع أن يوحدنا أكثر, أن يقوينا ويعلمنا الكثير الكثير, فهناك..على الطريق كانت رحمة ربي-كعادته-واسعة, وأبى قدره إلا أن يحفظ ضحكاتكم ويبقي لنا على عالمنا-عائلتنا-ذلك الصرح الذي لطالما اعتززنا به وببنيانه لبنة لبنة.
اشتاق لبيتنا, واشتاق أكثر ما اشتاق لعبارة "صباح الخير يا أمي", تلك التي كانت تنطلق من ثغور ورودي مرفقة بنكهة قبلات الصباح, واشتاق لالتفافنا حول مائدة الطعام, ولاحتساء فنجان من القهوة في ظل أشجار الحديقة.
أترقب بحرارة الشوق ولهفته ذلك اليوم الذي نجتمع فيه ثانية, حيث يلتف حولي صغاري فيصرخ هذا ويحكي ذاك, يضحك هذا ويتذمر ذاك..
لست امرأة مختلفة.. بل شأني شأن جميع النساء في بلدي, آكل من أرغفة أفرانها وأشرب من مشاربها, ولكني اليوم إنسانة يسيل من قلبها الحبر,ذاك الذي امتزج برائحة الألم ليقدم صدق الكلمات النابعة من فيض المعاناة.
تمتد يداي وتنادي نفسي لترتد إليها ثانية, فكم يحتاج الإنسان إلى نفس تنسلخ عنه, فيمتد ويمتد ليصل إلى لحظة التماهي ما بين الذات القديمة والذات الجديدة التي نتمناها..
على أسرة تكنولوجية باردة تحركها بصمات أزرار صغيرة تنطوي أيامنا..ثقيلة..وتلسعنا عقارب الساعة ببطئها الصامت وتشابهها الروتيني الخانق, فتتداخل الساعات وتصير الأيام تشبه بعضها بعضًا, فقد وحدتها آلامنا وصارت معاناتنا قاسمها المشترك, حتى صار الألم جزءًا منا أن فاض عن طاقة احتمالنا صرنا نطلب رحمة من الله ومهدئا, وان ولى وزال صرنا نبحث عنه ونتفقده, ذاك الذي صار جزءًا منا يتهادى معنا إذا تهادينا..
نعس قلمي المنهك الأطراف, فحال القلم يشبه حال أنامل حامله, قلمي الذي أبى إلا أن يخط كلماته وقد اختلط حبره بالدم فصار لونه أرجوانيا.
هل سيأتي اليوم الذي نجلس فيه حول المدفأة ونتحادث عن هذه الأيام الرابضة بكل ثقلها فوق صدورنا وكأنها ماضٍ مشاكس داعب الحاضر بخشونته ولكنه لم يستطع اختراق المستقبل.!!
وأخيرا..لسنا بصدد الحديث عن الحروب ولكن الشيء بالشيء يُذكر,فكم من الجنود على مختلف أشكالهم وهيئاتهم فقدوا أجزاءهم تلك التي اختلطت بتراب الأرض ونُسيت بين حباته, من اجل حروب ليس لهم فيها ناقة ولا بعير, ولكن بإيعاز من غيرهم وبزجهم تحت شعارات الواجب الوطني الذي لا يحتمل إلا التنفيذ, فعلى مستوى العالم ككل كيف لمخلوق أن يفكر بسلب مخلوقات الله الأخرى أغلى ما أهداها-حق الحياة.
إلى عائلتي-أهلي وأهل زوجي- شكرًا بملء القلب, فقد قدمتم فوق الوزر ودموعكم ما زالت تبلل أطراف جبهتي..
والى كل من سأل أو فاته السؤال من بلدي الغالية...
آمنه أبو حسين
هناك..على سرير قابع في غرفة باردة راودتني فكرة الكتابة, فحاولت قدر استطاعتي أن أكتب لأخاطب مشاعر أبناء هذا البلد الطيب, تلك المشاعر التي اهتزت عند سماع الخبر, فما بين أروقة الموت والحياة أهدانا الله نعمة العيش من جديد .
فمن هناك.. من انصهار الأرصفة المبتلة بدماء عائلتي الغالية تدفقت الحياة فينا من جديد..
من هناك..حيث اجتمع الناس من حولنا متدافعين ليترك كل منهم ديانته على قارعة الطريق, وليقفوا جميعا على رصيف أنساني مشترك ليقدم كل منهم ما يستطيع من مساعدة أو حتى كلمة طيبة أوصى الله تعالى عباده بها واعتبرها من الصدقات.
من هنا.. حيث سرير المرض الذي تمسي فيه الحركة أنجاز كبير يفرح بها القلب وتطمئن لها النفس لتنساب كضوء من أمل في سراج يبشرنا بنعمة الحياة من جديد.
فمن ظلمات المرض نصير ننسج جديلة الصحة مدركين ما غاب عنا مطولا, وهو كون الصحة نعمة لم ندرك معناها الحقيقي إلا حينما أوشكنا على خسارتها وحينما بدأنا نخشى افتقاد كل جزء فينا.
في لحظة ما بين الموت والحياة تصير خارج عالمك المألوف, في لحظة الصدام تلك قد تُترك مسجىً ما بين مطرقة الموت وسندان الحياة, حيث لا تنتظر ألا قدر الله ولطفه.
فبين أرصفة الموت وأرصفة الحياة يعتريني حزن من النوع الثقيل, فأخجل منكم ابنائي لأني في دوامة ضعفي وصدمتي عجزت عن تلقف صرخاتكم المفزوعة, ولأن قواي الخائرة التي كانت تشبه قواكم كثيرًا لم تستطع-رغم إفعامها بالرحمة- أن تلملم جزءًا من آهاتكم التي تبعثرت على شفاهكم وعلى ناصية الطريق, تلك التي مزقت قلبي وجرفت أجزاء كبيرة منه.
وأنت زوجي.. أتأسف بالنيابة عن أنفاسي التي أربكت سمعك بجملة "لقد مات أبناؤك يا أبا علي", فتلك كلمات فلتت من صميم الخوف الذي يلف أمومتي, فأنا لم استطع حتى لحظتي هذه أن ألملم الدهشة التي رسمت على محياك, أو أن أفك شفرة مزيج الألم والصدمة التي نُقشت في تفاصيلك التائهة في وجهك.
عذرًا زوجي..ولكني صرت كأم مجنونة تنادي أمومتي بنوتهم التي تبعثرت على أطراف الطريق.
شريك أيامي وزهرات عمري..لا بأس..فعلى الطريق لم ينجح سائق متهور أن يقضي بمجونه على متانة أيامنا, ولم يستطع أن يصهر فولاذية تماسكنا, أو أن يغزو بمركبته جمال أحلامكم وأحلامي أنا فيكم.
فرغم أن هذه الحادثة الرهيبة قد تحولت إلى كابوس يطاردني ليسرق مني صحوتي في وضح النهار, ويلاحقني ليطرد مني نومي في حلكة الليل, فجفنيَّ-رغم كل أنواع المهدئات والمنومات- يجافي كلٌّ منهما الآخر, ولكن لا تغيب عن فكري صورتكم أبنائي وكلُّ منكم يتناسى جراحه ليطمئن الآخر, كلُّ منكم يرسم للآخرين لوحة جميله ليحول احمرار دمه إلى ألوان دافئة..هادئة تؤكد أن كل شيء سيغدو أفضل, حينها أدركت كل الإدراك أن لا بد لمن زرع يوما أن يجني, وأدركت أني ووالدكم نجحنا بزرع المحبة والعلاقة السليمة في نفوسكم الغضة.
لا بأس..فقد استطاع الوجع أن يوحدنا أكثر, أن يقوينا ويعلمنا الكثير الكثير, فهناك..على الطريق كانت رحمة ربي-كعادته-واسعة, وأبى قدره إلا أن يحفظ ضحكاتكم ويبقي لنا على عالمنا-عائلتنا-ذلك الصرح الذي لطالما اعتززنا به وببنيانه لبنة لبنة.
اشتاق لبيتنا, واشتاق أكثر ما اشتاق لعبارة "صباح الخير يا أمي", تلك التي كانت تنطلق من ثغور ورودي مرفقة بنكهة قبلات الصباح, واشتاق لالتفافنا حول مائدة الطعام, ولاحتساء فنجان من القهوة في ظل أشجار الحديقة.
أترقب بحرارة الشوق ولهفته ذلك اليوم الذي نجتمع فيه ثانية, حيث يلتف حولي صغاري فيصرخ هذا ويحكي ذاك, يضحك هذا ويتذمر ذاك..
لست امرأة مختلفة.. بل شأني شأن جميع النساء في بلدي, آكل من أرغفة أفرانها وأشرب من مشاربها, ولكني اليوم إنسانة يسيل من قلبها الحبر,ذاك الذي امتزج برائحة الألم ليقدم صدق الكلمات النابعة من فيض المعاناة.
تمتد يداي وتنادي نفسي لترتد إليها ثانية, فكم يحتاج الإنسان إلى نفس تنسلخ عنه, فيمتد ويمتد ليصل إلى لحظة التماهي ما بين الذات القديمة والذات الجديدة التي نتمناها..
على أسرة تكنولوجية باردة تحركها بصمات أزرار صغيرة تنطوي أيامنا..ثقيلة..وتلسعنا عقارب الساعة ببطئها الصامت وتشابهها الروتيني الخانق, فتتداخل الساعات وتصير الأيام تشبه بعضها بعضًا, فقد وحدتها آلامنا وصارت معاناتنا قاسمها المشترك, حتى صار الألم جزءًا منا أن فاض عن طاقة احتمالنا صرنا نطلب رحمة من الله ومهدئا, وان ولى وزال صرنا نبحث عنه ونتفقده, ذاك الذي صار جزءًا منا يتهادى معنا إذا تهادينا..
نعس قلمي المنهك الأطراف, فحال القلم يشبه حال أنامل حامله, قلمي الذي أبى إلا أن يخط كلماته وقد اختلط حبره بالدم فصار لونه أرجوانيا.
هل سيأتي اليوم الذي نجلس فيه حول المدفأة ونتحادث عن هذه الأيام الرابضة بكل ثقلها فوق صدورنا وكأنها ماضٍ مشاكس داعب الحاضر بخشونته ولكنه لم يستطع اختراق المستقبل.!!
وأخيرا..لسنا بصدد الحديث عن الحروب ولكن الشيء بالشيء يُذكر,فكم من الجنود على مختلف أشكالهم وهيئاتهم فقدوا أجزاءهم تلك التي اختلطت بتراب الأرض ونُسيت بين حباته, من اجل حروب ليس لهم فيها ناقة ولا بعير, ولكن بإيعاز من غيرهم وبزجهم تحت شعارات الواجب الوطني الذي لا يحتمل إلا التنفيذ, فعلى مستوى العالم ككل كيف لمخلوق أن يفكر بسلب مخلوقات الله الأخرى أغلى ما أهداها-حق الحياة.
إلى عائلتي-أهلي وأهل زوجي- شكرًا بملء القلب, فقد قدمتم فوق الوزر ودموعكم ما زالت تبلل أطراف جبهتي..
والى كل من سأل أو فاته السؤال من بلدي الغالية...
آمنه أبو حسين
تعليق