قصة قصيرة
الرقص على الحبال ا
هادي زاهر
"عليزا" سيدة أنيقة، ما زالت تحتفظ بكثير من حيويتها ونشاطها وجمالها رغم اجتيازها الخمسين من عمرها. ويبدو أنها اسم على مسمى ، إذ أن اسمها يعني مبتهجة .. وهي دائماً مبتهجة منشرحة، تسعى لمجاملة كل الزبائن الذين يتعاملون معها.. وربما كان ذلك من أسباب احتفاظها بعملها في وكالة لبيع السيارات الجديدة حتى الآن .
كانت سعيدة بجلوسها خلف مكتب أنيق مزود بكافة المعدات العصرية اللازمة لتسريع المعاملات .. يدخل الزبون من غرفة الانتظار إلى غرفتها، فتستقبله بابتسامة عريضة.. وبعد أن يستقر في جلسته، فوق مقعد مريح أمام مكتبها، تطلب منه برقة بطاقة الهوية لتسجيل التفاصيل الشخصية، ومن خلال البيانات المدونة في البطاقة، تعرف انتماء الزبون الطائفي أو المذهبي، ومن هنا كانت تجد مداخلها للحديث مع زبائنها، لتمضية الوقت من جهة، ولإدخال البهجة في نفوسهم من جهة ثانية.. والأسلوب لم يتغير منذ بدأت العمل.. لم تكن تسعى لاصطياد أحبة لها أو عشاق.. بل إرضاء لرغبتها في الحديث حيث كانت تجد متعتها في ذلك.. تبدأ بمدح الزبون ومن ثم مدح طائفته، مظهرة مدى تعاطفها معهم.. إلا أن ذلك لم يكن يمر بسلام دائماً.. فكثيرا ما كانت تجد نفسها متورطة في أمور ما كان لها أن تتورط بها لو أنها اكتفت بالمجاملة دون الولوج في معارج أخرى.. وها هو زبون جديد يدخل، وقبل أن يجلس أعلن عن اسمه قائلاً :
- اسمي مناحم..
أشارت عليزا إلى الكرسي وقالت وابتسامتها العريضة لا تفارقها:
- أهلاً.. تفضل اجلس سيد مناحم..
وبشكل روتيني وجدت نفسها تقول في محاولة للتقرب إليه:
- لقد حكمت علينا الظروف أن نكون أقوياء لكي نضمن استمرارية وجودنا في هذا الشرق العنصري.
التزم مناحم الصمت، وقد دلت حركاته على أنه على عجلة من أمره.. فشرحت له عليزا الشروط اللازم توفرها حتى يتمكن من الحصول على السيارة التي يرغب فيها.. استمع إليها في صمت، ثم غادر دون أن يسجل طلباً.. ودخل زبون أخر، أدركت عليزا انتماء الزبون الطائفي من خلال اسمه.. جريس.. فابتدرته قائلة في ود:
- إننا نحبكم. فنحن مثلكم في هذا الشرقالعنصري، أنتم أقلية ونحن كذلك لذلك علينا أن نتحد لنصد خطر الأعداء الذين يريدون رمينا جميعاً في البحر...
فقاطعها قائلاً في بسخرية مريرة:
- اعتقد أن طموحاتكم العريضة هي التي سترمي البشرية جمعاء في البحر.
أدركت عليزا بأنها قد وقعت في مطب جديد، فقالت وهي تبتسم:
- أرجو أن لا تأخذ حديثي على محمل الجد فإني أمازحك.
- إنكم تريدون عسل النحل كله لأنفسكم، حتى أنكم لا تتركون للنحل شيئاً ليقتات به في فصل الشتاء، فتحولونه بذلك من حشرات مفيدة إلى حشرات لاذعة شرسة، خوفاً من أن يستفيد منه غيركم..
هزت عليزا رأسها وهي تبتسم في ود وسألته:
- هل أنت شاعر؟
- كنت أتمنى ذلك حتى أستطيع أن أفجر ضيقي وسخطي مما تمارسونه ضدنا..
قالت وقد غيرت من طبقة صوتها:
- لماذا العصبية فنحن أيضا في أسرتنا تعلمنا وتربينا على المفاهيم الإنسانية الراقية.. بعيداً عن العنصرية البغيضة. فقد عشنا في قرية تعاونية وكان المرحوم والدي اشتراكيًا، فعلمنا بأن البشر إخوة أينما تواجدوا.
- لا أظن بأنني ساذج لدرجة الحمق أو العبط.. ولكن دعينا من ذلك.. وبيِّني لي المطلوب مني فقط للحصول على سيارة جديدة، قبل أن يتبخر غيظي منك ومن ترهاتك..
- حالاً..
ثم أخذت تشرح له بإسهاب الشروط التي وضعتها الشركة في تعاملها مع الزبائن بإسهاب
وعندما فرغت هم بالمغادرة وهو يقول:
- سوف أفحص إمكانياتي لأقرر، فلا أريد العجلة..
قبل أن تنفخ غيظها دخل إليها زبون آخر، وبعد أن جلس وألقت نظرة على هويته قالت وقد استبشرت خيرًا:
- أهلاً سيد أمل.. الحقيقة هي أننا نحبكم جداً فهناك حلف للدم بيننا.. ومصير مشترك.. لقد ربطتم مصيركم بمصيرنا وهي خطوة حكيمة من جانبكم.. كما أنها تعبر عن طيبتكم ونحن بدورنا لن ننسى تضحياتكم أبداً.
ابتسم أمل ولم يناقشها فقد ملَّ من سماع هذه الكلمات الممجوجة، خاصة وأن الواقع يدحضها.. رفعت عليزا رأسها بعد أن زودت الحاسوب بالمعلومات التي أخذتها منه، قالت:
- يؤسفني جداً.. هناك رفض لطلبك، فالضمانات المقدمة منك لا تتيح لك امتلاك سيارة جديدة.
- حاول أمل أن يناقشها فقطعت عليه النقاش قائلة:
- إن الأمر لا يتعلق بي.. إن شروط الشركة واضحة ومحدودة.. وضماناتك ليست كافية..
خرج أمل وهو يتأفف ويتمتم ودخل زبون أخر، ابتدرها قائلاً :
- اسمي "أوري"..
وبعد أن طلبت إليه الجلوس، نظرت إليه ، ثم قالت وهي تتنهد بارتياح:
- إن الزبائن الذين سبقوك، كلهم من "الأغيار" إنهم يتطورون بالرغم من كل العراقيل التي نضعها أمامهم، ولكننا لن نعدم الوصول إلى الوسيلة التي يمكن أن نحجمهم بها...
وما أن سمع أوري حديثها حتى صرخ:
- أما آن لهذا الصوت أن يخرس..كفى هوساً..
ذهلت عليزا من شدة غضبه المفاجئ، وطلبت منه أن يخفض صوته، كي لا يصل إلى حجرة الانتظار.. ولكنه صرخ:
- ليصل إلى الجحيم.. لقد جئت لكي أفحص إمكانية قدرتي على شراء سيارة وليس لمناقشة أمور أخرى.. عليك أن تتقيدي في نطاق عملك.. ليس إلا.. أتفهمين؟!.
شعرت عليزا بأنها قد تورطت معه فحاولت أن تستدرك:
- أرجو أن تفهمني جيداً فنحن أيضاً في أسرتنا تعلمنا هذه القيم الإنسانية.. بعيداً عن العنصرية البغيضة، فقد عشنا في قرية تعاونية، وقد علمنا المرحوم والدي الذي كان اشتراكياً بأن البشر إخوة أينما تواجدوا.
نظر "أُوري" إليها وهو يعقد حاجبيه قائلاً في سخط:
- يبدو أنني أمام حرباءة.. مؤسف جداً أن الحركة الصهيونية استطاعت أن تسخر قطاعات واسعة من الشعب اليهودي لخدمة أطماعها.. أدرك بأنني من الأقلية الشاذة التي ترى الأمور بشمولية وبمنظار إنساني.. على كل حال، أعلمك بأني لا أريد شراء سيارة ولا أريد العيش هنا أيضاً. فقد مللت.. سوف أترك لك ولأمثالك البلاد وأرحل.. فأنا لا أريد أن أجلس على صدر أحد ولا أريد لأحد أن يجلس على صدري.
خرج أوري وقد صفق الباب خلفه بعنف، فجاء مدير الشركة الذي كان يمر بين المكاتب صدفة، ليسأل عما يحدث، فقالت عليزا بصوت حرصت على اتزانه:
إنه مجنون. لقد جاء ليناقش أموراً سياسية معتقداً أن هذا المكان منتدى سياسي مما اضطرّني أن أوجه له درساً في الأخلاق والأدب، فقد أفهمته بأن البشر أخوة أينما تواجدوا
فهز المدير رأسه وغادر.
الرقص على الحبال ا
هادي زاهر
"عليزا" سيدة أنيقة، ما زالت تحتفظ بكثير من حيويتها ونشاطها وجمالها رغم اجتيازها الخمسين من عمرها. ويبدو أنها اسم على مسمى ، إذ أن اسمها يعني مبتهجة .. وهي دائماً مبتهجة منشرحة، تسعى لمجاملة كل الزبائن الذين يتعاملون معها.. وربما كان ذلك من أسباب احتفاظها بعملها في وكالة لبيع السيارات الجديدة حتى الآن .
كانت سعيدة بجلوسها خلف مكتب أنيق مزود بكافة المعدات العصرية اللازمة لتسريع المعاملات .. يدخل الزبون من غرفة الانتظار إلى غرفتها، فتستقبله بابتسامة عريضة.. وبعد أن يستقر في جلسته، فوق مقعد مريح أمام مكتبها، تطلب منه برقة بطاقة الهوية لتسجيل التفاصيل الشخصية، ومن خلال البيانات المدونة في البطاقة، تعرف انتماء الزبون الطائفي أو المذهبي، ومن هنا كانت تجد مداخلها للحديث مع زبائنها، لتمضية الوقت من جهة، ولإدخال البهجة في نفوسهم من جهة ثانية.. والأسلوب لم يتغير منذ بدأت العمل.. لم تكن تسعى لاصطياد أحبة لها أو عشاق.. بل إرضاء لرغبتها في الحديث حيث كانت تجد متعتها في ذلك.. تبدأ بمدح الزبون ومن ثم مدح طائفته، مظهرة مدى تعاطفها معهم.. إلا أن ذلك لم يكن يمر بسلام دائماً.. فكثيرا ما كانت تجد نفسها متورطة في أمور ما كان لها أن تتورط بها لو أنها اكتفت بالمجاملة دون الولوج في معارج أخرى.. وها هو زبون جديد يدخل، وقبل أن يجلس أعلن عن اسمه قائلاً :
- اسمي مناحم..
أشارت عليزا إلى الكرسي وقالت وابتسامتها العريضة لا تفارقها:
- أهلاً.. تفضل اجلس سيد مناحم..
وبشكل روتيني وجدت نفسها تقول في محاولة للتقرب إليه:
- لقد حكمت علينا الظروف أن نكون أقوياء لكي نضمن استمرارية وجودنا في هذا الشرق العنصري.
التزم مناحم الصمت، وقد دلت حركاته على أنه على عجلة من أمره.. فشرحت له عليزا الشروط اللازم توفرها حتى يتمكن من الحصول على السيارة التي يرغب فيها.. استمع إليها في صمت، ثم غادر دون أن يسجل طلباً.. ودخل زبون أخر، أدركت عليزا انتماء الزبون الطائفي من خلال اسمه.. جريس.. فابتدرته قائلة في ود:
- إننا نحبكم. فنحن مثلكم في هذا الشرقالعنصري، أنتم أقلية ونحن كذلك لذلك علينا أن نتحد لنصد خطر الأعداء الذين يريدون رمينا جميعاً في البحر...
فقاطعها قائلاً في بسخرية مريرة:
- اعتقد أن طموحاتكم العريضة هي التي سترمي البشرية جمعاء في البحر.
أدركت عليزا بأنها قد وقعت في مطب جديد، فقالت وهي تبتسم:
- أرجو أن لا تأخذ حديثي على محمل الجد فإني أمازحك.
- إنكم تريدون عسل النحل كله لأنفسكم، حتى أنكم لا تتركون للنحل شيئاً ليقتات به في فصل الشتاء، فتحولونه بذلك من حشرات مفيدة إلى حشرات لاذعة شرسة، خوفاً من أن يستفيد منه غيركم..
هزت عليزا رأسها وهي تبتسم في ود وسألته:
- هل أنت شاعر؟
- كنت أتمنى ذلك حتى أستطيع أن أفجر ضيقي وسخطي مما تمارسونه ضدنا..
قالت وقد غيرت من طبقة صوتها:
- لماذا العصبية فنحن أيضا في أسرتنا تعلمنا وتربينا على المفاهيم الإنسانية الراقية.. بعيداً عن العنصرية البغيضة. فقد عشنا في قرية تعاونية وكان المرحوم والدي اشتراكيًا، فعلمنا بأن البشر إخوة أينما تواجدوا.
- لا أظن بأنني ساذج لدرجة الحمق أو العبط.. ولكن دعينا من ذلك.. وبيِّني لي المطلوب مني فقط للحصول على سيارة جديدة، قبل أن يتبخر غيظي منك ومن ترهاتك..
- حالاً..
ثم أخذت تشرح له بإسهاب الشروط التي وضعتها الشركة في تعاملها مع الزبائن بإسهاب
وعندما فرغت هم بالمغادرة وهو يقول:
- سوف أفحص إمكانياتي لأقرر، فلا أريد العجلة..
قبل أن تنفخ غيظها دخل إليها زبون آخر، وبعد أن جلس وألقت نظرة على هويته قالت وقد استبشرت خيرًا:
- أهلاً سيد أمل.. الحقيقة هي أننا نحبكم جداً فهناك حلف للدم بيننا.. ومصير مشترك.. لقد ربطتم مصيركم بمصيرنا وهي خطوة حكيمة من جانبكم.. كما أنها تعبر عن طيبتكم ونحن بدورنا لن ننسى تضحياتكم أبداً.
ابتسم أمل ولم يناقشها فقد ملَّ من سماع هذه الكلمات الممجوجة، خاصة وأن الواقع يدحضها.. رفعت عليزا رأسها بعد أن زودت الحاسوب بالمعلومات التي أخذتها منه، قالت:
- يؤسفني جداً.. هناك رفض لطلبك، فالضمانات المقدمة منك لا تتيح لك امتلاك سيارة جديدة.
- حاول أمل أن يناقشها فقطعت عليه النقاش قائلة:
- إن الأمر لا يتعلق بي.. إن شروط الشركة واضحة ومحدودة.. وضماناتك ليست كافية..
خرج أمل وهو يتأفف ويتمتم ودخل زبون أخر، ابتدرها قائلاً :
- اسمي "أوري"..
وبعد أن طلبت إليه الجلوس، نظرت إليه ، ثم قالت وهي تتنهد بارتياح:
- إن الزبائن الذين سبقوك، كلهم من "الأغيار" إنهم يتطورون بالرغم من كل العراقيل التي نضعها أمامهم، ولكننا لن نعدم الوصول إلى الوسيلة التي يمكن أن نحجمهم بها...
وما أن سمع أوري حديثها حتى صرخ:
- أما آن لهذا الصوت أن يخرس..كفى هوساً..
ذهلت عليزا من شدة غضبه المفاجئ، وطلبت منه أن يخفض صوته، كي لا يصل إلى حجرة الانتظار.. ولكنه صرخ:
- ليصل إلى الجحيم.. لقد جئت لكي أفحص إمكانية قدرتي على شراء سيارة وليس لمناقشة أمور أخرى.. عليك أن تتقيدي في نطاق عملك.. ليس إلا.. أتفهمين؟!.
شعرت عليزا بأنها قد تورطت معه فحاولت أن تستدرك:
- أرجو أن تفهمني جيداً فنحن أيضاً في أسرتنا تعلمنا هذه القيم الإنسانية.. بعيداً عن العنصرية البغيضة، فقد عشنا في قرية تعاونية، وقد علمنا المرحوم والدي الذي كان اشتراكياً بأن البشر إخوة أينما تواجدوا.
نظر "أُوري" إليها وهو يعقد حاجبيه قائلاً في سخط:
- يبدو أنني أمام حرباءة.. مؤسف جداً أن الحركة الصهيونية استطاعت أن تسخر قطاعات واسعة من الشعب اليهودي لخدمة أطماعها.. أدرك بأنني من الأقلية الشاذة التي ترى الأمور بشمولية وبمنظار إنساني.. على كل حال، أعلمك بأني لا أريد شراء سيارة ولا أريد العيش هنا أيضاً. فقد مللت.. سوف أترك لك ولأمثالك البلاد وأرحل.. فأنا لا أريد أن أجلس على صدر أحد ولا أريد لأحد أن يجلس على صدري.
خرج أوري وقد صفق الباب خلفه بعنف، فجاء مدير الشركة الذي كان يمر بين المكاتب صدفة، ليسأل عما يحدث، فقالت عليزا بصوت حرصت على اتزانه:
إنه مجنون. لقد جاء ليناقش أموراً سياسية معتقداً أن هذا المكان منتدى سياسي مما اضطرّني أن أوجه له درساً في الأخلاق والأدب، فقد أفهمته بأن البشر أخوة أينما تواجدوا
فهز المدير رأسه وغادر.