بسم الله الرحمن الرحيم
لا أماني في تلك الأغاني

محمد حسام الدين دويدري
[align=justify]كثيراً ما يشعر أحدنا بشيء من السحر والصفاء وهو يستمع إلى صوت "فيروز" يتهادى حانياً عبر مذياع السيارة التي تقله إلى عمله في الصباح، لكنّ ماحدث معي منذ أيام كان مختلفاً تماماً عمّا كان معتاداً، إذ وجدت نكهةالصخب تنبعث من إحدى محطات الـ FM عبر ذلك المذياع؛ ثم مالبث صوت المذيغ أن انطلق ليعلن للمستمعين بلهفة ماكرة عن بثّ أغنية اسمها "البورصة"، ولأول وهلة خُيِّل إليّ أن تأثير الأزمة المالية العالمية وتذبذباتها المتقهقرة قد انعكس على قرائح الفنانين وكتاب النصوص الغنائية، لكنني وجدت نفسي غارقاً في ذهول تام لما فاجأني من كلمات لم أكن أتوقعها في تلك الأغنية التي وجدتها تضرب بكل صلافة وجرأة عرض الحائط كلَّ القيم مستهينةً بالمشاعر الإنسانية الجميلة التي طالما شغفت القلوبَ والنفوس السامية. يقول مطلع الأغنية باللهجة المحليّة الدارجة: "قلبك غليت أسعاره؛ وأسعاره نار؛ الغمزه منك باليورو؛ والبوسه بدولار...". لم أصدّق ماسمعت، توهمت أنها مما كان يروّج له خفية بين المراهقين. لكنني حينما تذكرت أنني أستمع إلى الراديو شعرت بالأسى الجامح يجتاح ذاتي لما بات يداهم كياننا التربوي والثقافي من شرخ، فيما كانت بصيرتي ترشق حُزَماً من التساؤلات عن كنه ذلك الحُب الذي يروِّجون له عبر تلك الأغاني المسمومة الهابطة والفن الرخيص؛ وعن طبيعة تلك النفس التي تقبل أن تتحول مشاعرها إلى سلعةٍ تُباع وتُشرى وبالعملة الصعبة؛ وعن دور نقابة الفنانين والجهات المعنية والقائمين على وسائل الإعلام في الحد من انتشار مثل هذه الأغاني التي بدأت تتكاثر وتستفحل آثارها المشوهة لقيمنا التربوية وللذوق العام بدعوى حرية التعبير وادعاءات المنتجين الكاذبة: "الجمهور عايز كده". ففي كل يوم جديد يطلع علينا وجه جديد بكلام فاسد فريد يشوّه ذائقة الناشئة مع كثرة الترديد...؛ فهذا يغني متفاخراً بانحرافه: "نسونجي أنا نسونجي..." وهذا يصيح متحدياً: " عم اطلّع بالنسوان شوبدك مني قللي والمابيحب النسوان الله يبعتلو عله..." إضافة إلى كثيرٍ من الأغاني التي يندى لسماع كلماتها الجبين وتشمئز لمرأى مشاهدها النفوس السليمة؛ وباتت تبث وتذاع حتى في القنوات والإذاعات الرسمية، ولعلّ المخيف في الأمر أننا بتنا نسمعها على ألسن الصغار؛ وصارت تتناقلها أجهزة الهواتف النقالة في باحات المدارس ومدرجات الجامعات بشكل اعتيادي لا حرج فيه...؛ بل وإننا لنجد الإذاعات والقنوات التلفزيونية تروِّج لها بشكل سافر وتُجري المقابلات مع منتجيها ومنفذيها جاعلة منهم نماذج لامعة ونماذج يتطلع إلى الاقتداء بها المراهقون...
لاشك في أنّ واقعنا الذي نعايشُهُ اليوم في هذا العالم المتصارع على القوة والسيادة بات يحتّم علينا أن نجتهد في تربية أجيالنا وتوجيههم الوجهة السليمة كي يكونوا فاعلين منتجين؛ وأن نكون أكثر جدِّية في وعي أمورنا و معالجة قضايانا المؤلمة سعياً وراء تدارك مافات وإصلاح مافسد وتحاشي كل مامن شأنه تمييع مشاعرنا وحرف سلوك أجيالنا عن الطريق القويم الذي سادت بمسلكه أمتنا فبنت حضارة كانت هي الدعامة الحقيقية لكل تقدم علمي عرفته البشرية عبر التاريخ.
لم ينقشع عني انزعاج ذلك اليوم الذي وجدت ذاكرتي فيه تستجمع كل آلام تلك الأغاني والمشاهد التي نسبت إلى الفن زوراً وبهتاناً؛ لكنني منذ ذلك الحين وأنا أتخيل وجه ذلك الشاعر الجاهلي الفارس عنترة بن شدّاد الذي تفصلنا عنه قرون؛ والذي طارت شهرة عنفوانه في الآفاق وعبر العصور ولم يَجرح حياؤُه وعفّتُه قوتَه؛ إذ قال بملء ما في نفسه من أنفة وعنفوان:[/align]
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي - حتى يواري جارتي مأواها
تعليق