شيخٌ.. وكرسيّ ٌ.. ودموع

في زيارة إحدى اللجان إلى دار المسنّين، استقبلهم القائمون عليها وقد هيأوا للعيد أدواته، بعدما نشروا بعض الأوراق الملوّنة،
كزينة على جدران ذات لون فضيّ داكن، تقشـّرت عن زُرقةٍ أقرب للكُحليّ، يتخلّلها ضوء النهار المتسلّل من بين أوراق الأشجار الكثيفة.
يساعد بزيادة كآبتها مصباح أبيض ضعيف لغرفة كبيرة، يفوق عمرها أعمار نزلائها، ويتدلى من سقفها المرتفع، المدعّم بجسور حديديّة صدئة،
بضع عناكب استوطنت الزوايا المسودّة.
في البهوالداكن اجتمع تسعة رجال مسنيّن حول طاولة احتوت الكعك المحلى، والعصائر، وحلوى اللوز، وقد ارتدى واحدهم أحدث (بيجاماته)،
التي يعود أغلبها لسنوات مضت. تملأ الأجواء موسيقى تصدر من مسجّل عتيق يُكمل الصورة بتناغمٍ مع محيطه.
اقترب أحد أعضاء اللجنة، من العمّ (صابر)على كرسيّه، وبادره:"كل عام وأنت بخير يا عم"، ففاجأه (صابر) -بعدما فاضت عيناه بدمعٍ اعتاد طريقه-
بغمرةٍ أقوى من أن تصدر من جسم أنهكته التجارب الثمانينيّة، فطوّقت يداه رقبة محدّثه، كأنّما وقع على فلذة كبده بعد فراق مئة عام،
وتخضّب وجهه الأبيض بحُمرة الانفعال، مردّداً ذات العبارة: "وأنت بخير يا ولدي.. وأنت بخير" على باقي أعضاء اللجنة، الذين قدموا هدايا رمزيّة،
دون أن يسألوا الموظّف المسؤول عن قصّته... بعدما روتها تلك الدموع بأبلغ من الكلمات.
دنا بعضهم من نزيل آخر، وكما فعل مع مَن قبلهم.. طفق يشرح لهم، عن أهميّته كمدير عام سابق لمؤسّسة كبرى.. وإجادته التحدّث بستّ لغات..
والتحاقه بدورات مختلفة في عدة دول أجنبيّة. بلسان حال يقول: "لقد كنتُ مهمّاً ذات يوم".
في ركن قصيّ أطرق ثالث غير عابيء بما يدور حوله، وكأنّه بأجواء فرحٍ طفوليّ حلّ في غير مكانه،
على شخص لم يكن الاحتفال مدرجاً على قاموس حياته.
وآخر يلتهم الحلوى بعد حرمان بغرض الحِمية. بينما يتفقـّد زميلاه الهديّة المتواضعة باهتمام.
صرّح أحدهما، أنها المرة الأولى في حياته، التي يتلقى فيها هديّة من أحد.
في إحدى الزوايا، ما زال شيخ يهزّ رأسه مُطرقاً بصيغة ندم، وكأنه يعُضّ على ذكريات لا يريد لها بوحاً،
وبدا كمن يرى في مآله قصاصاً عادلاً فيما قدّمت يداه.
غادرت اللجنة دار المسنّين، وقد سجلت ذاكراتهم صوراً لن يمحوها تقادم السنين، باعتبارها خبرة مؤثـّرة ببصمة أبديّة.
عادت اللجنة في العام اللاحق، كان كرسيّ العم (صابر) فارغاً، ينتظر معمّراً آخر، ليذرف فوقه دموعاً أخرى، تروي حكاياتٍ بدون كلام.
محمود عادل بادنجكي

في زيارة إحدى اللجان إلى دار المسنّين، استقبلهم القائمون عليها وقد هيأوا للعيد أدواته، بعدما نشروا بعض الأوراق الملوّنة،
كزينة على جدران ذات لون فضيّ داكن، تقشـّرت عن زُرقةٍ أقرب للكُحليّ، يتخلّلها ضوء النهار المتسلّل من بين أوراق الأشجار الكثيفة.
يساعد بزيادة كآبتها مصباح أبيض ضعيف لغرفة كبيرة، يفوق عمرها أعمار نزلائها، ويتدلى من سقفها المرتفع، المدعّم بجسور حديديّة صدئة،
بضع عناكب استوطنت الزوايا المسودّة.
في البهوالداكن اجتمع تسعة رجال مسنيّن حول طاولة احتوت الكعك المحلى، والعصائر، وحلوى اللوز، وقد ارتدى واحدهم أحدث (بيجاماته)،
التي يعود أغلبها لسنوات مضت. تملأ الأجواء موسيقى تصدر من مسجّل عتيق يُكمل الصورة بتناغمٍ مع محيطه.
اقترب أحد أعضاء اللجنة، من العمّ (صابر)على كرسيّه، وبادره:"كل عام وأنت بخير يا عم"، ففاجأه (صابر) -بعدما فاضت عيناه بدمعٍ اعتاد طريقه-
بغمرةٍ أقوى من أن تصدر من جسم أنهكته التجارب الثمانينيّة، فطوّقت يداه رقبة محدّثه، كأنّما وقع على فلذة كبده بعد فراق مئة عام،
وتخضّب وجهه الأبيض بحُمرة الانفعال، مردّداً ذات العبارة: "وأنت بخير يا ولدي.. وأنت بخير" على باقي أعضاء اللجنة، الذين قدموا هدايا رمزيّة،
دون أن يسألوا الموظّف المسؤول عن قصّته... بعدما روتها تلك الدموع بأبلغ من الكلمات.
دنا بعضهم من نزيل آخر، وكما فعل مع مَن قبلهم.. طفق يشرح لهم، عن أهميّته كمدير عام سابق لمؤسّسة كبرى.. وإجادته التحدّث بستّ لغات..
والتحاقه بدورات مختلفة في عدة دول أجنبيّة. بلسان حال يقول: "لقد كنتُ مهمّاً ذات يوم".
في ركن قصيّ أطرق ثالث غير عابيء بما يدور حوله، وكأنّه بأجواء فرحٍ طفوليّ حلّ في غير مكانه،
على شخص لم يكن الاحتفال مدرجاً على قاموس حياته.
وآخر يلتهم الحلوى بعد حرمان بغرض الحِمية. بينما يتفقـّد زميلاه الهديّة المتواضعة باهتمام.
صرّح أحدهما، أنها المرة الأولى في حياته، التي يتلقى فيها هديّة من أحد.
في إحدى الزوايا، ما زال شيخ يهزّ رأسه مُطرقاً بصيغة ندم، وكأنه يعُضّ على ذكريات لا يريد لها بوحاً،
وبدا كمن يرى في مآله قصاصاً عادلاً فيما قدّمت يداه.
غادرت اللجنة دار المسنّين، وقد سجلت ذاكراتهم صوراً لن يمحوها تقادم السنين، باعتبارها خبرة مؤثـّرة ببصمة أبديّة.
عادت اللجنة في العام اللاحق، كان كرسيّ العم (صابر) فارغاً، ينتظر معمّراً آخر، ليذرف فوقه دموعاً أخرى، تروي حكاياتٍ بدون كلام.
محمود عادل بادنجكي
تعليق