الثمن - قصة قصيرة
هادي زاهر
لم يبخل محمود على رؤسائه بأية معلومة من شانها ان تفيدهم. كان يشرح الامور بالتفصيل الممل. وقد اتاح له موقعه الاطلاع على كل الفعاليات والبرامج، لقد اظهر حماسا منقطع النظير، فاستطاع ان يدخل كل الاطر، الا انه كان يدرك جيدا بأن لكل شيء نهاية. ولا بد من ان يأتي يومٌ نكشف فيه امره، ولكن الى ذلك الحين (يخلق الله ما لا تعلمون) كانت الاغراءات قوية.. فالصفقة واضحة: "اذا ما انكشف امرك، تنتقل فورا للعيش داخل اسرائيل.. سوف تمنح لك سيارة مع راتب شهري يقدر بألفي دولار مدى الحياة اضافة الى شقة، ذلك شريطة الا ترتكب اية مخالفة جنائية، والا فقدت الجلد والسَقط كما يقولون.." لم يكن الجهاز يكتف بالمعلومات الشفوية التي يطلعهم عليها محمود، اذ قاموا بتزويده في احدى المرات بآلات تصوير دقيقة للغاية ليزرعها في اماكن محددة. كما زودوه اكثر من مرة بمادة سرية يقوم بدلقها فوق سيارات المطلوبين من القيادات فتعطي تلك المادة انعكاسا خاصا لاجهزة طائرات الاستطلاع والقنص، ليوجه الطيار صاروخه بدقة ليدمر السيارة بمن فيها. وكم كان محمود حزينا عندما تطايرت اجساد ابن عمه وزوجته وابنهما الرضيع اشلاءًا عندما وجهت الاباتشي صاروخها على سيارته؟! انتابته لفترة حالة من عذاب الضمير، وتزايدت عمليات ملاحقة القيادات ميدانيا، فقررت تلك القيادات رصد تحركات بعضها البعض لمعرفة الوشاة. وعندما احس محمود انه بات موضعا للشك، لاذ بالفرار غير آبه للشك الذي تأكد في نفوس ذويه. استقبله مسؤول المخابرات "حاييم" بالترحاب، شاكرا له جهوده، وقدم له استمارة ليقوم بتقديمها الى احدى وكالات السيارات الحديثة، لاستلام سيارة منها، اما بالنسبة للشقة فقد اخبره بأن هناك بعض الترتيبات الضرورية، لا بد من اجرائها قبل ان تسلم له، ويمكنه حتى ذلك الحين ان يقيم في الفندق الذي يحلو له، وانهم سوف يتولون دفع الفاتورة عنه حتى يتسلم الشقة. اما بالنسبة للمعاش فهو سار منذ تلك اللحظة. وبعد صمت اضاف حاييم: سنكون لك سندا مدى الحياة، فقد تم بفضل جهودك، افشال الكثير من العمليات التخريبية. اننا نقدر اصدقاءنا، ونتمنى لك الصحة والنجاح في حياتك الجديدة المريحة. ولكن تذكر جيدا بأن راحتك مرهونة بعدم قيامك بأي مخالفات جنائية لانك عندها ستخسر كل شيء فالقانون عندنا هو القانون. ثم غادر محمود وبه شيء من القلق لا يدري مصدره، توجه الى مكتب وكالة السيارات لاستلام السيارة، وهناك وجد المسؤول في انتظاره. استقبله بترحاب، وقام بواجب ضيافته، وبعد ان قام باعداد وتوقيع كافة المستندات اللازمة، قاده الى المرآب واشار باصبعه وابتسامة عريضة تشيع في وجهه وهو يقول: هذه سيارتك مبروك... واقترب محمود من السيارة، واخذ يمرر فوقها كفه بحنان والمسؤول يشرح ويوضح له مميزات هذا النوع بالذات، وهو يستمع اليه دون ان يستوعب مما يقوله شيئا، لانه كان يحلق في عالم آخر امتلأ بالبهجة والنشوة والبشر... "اخيرا نلت اجرا حقيقيا عن عملي... ياه.. حقا انهم صادقون بوعودهم.." حدث محمود نفسه بذلك وهو يجلس خلف مقود السيارة، وراح يلامسه في زهو وانبهار... ادار المحرك، ثم انطلق وهو يلوح للمسؤول بيديه. اخذ يصول ويجول في شوارع تل ابيب وهو يدندن سعيدا (عش كما تهوي.. قريبا او بعيدا) وكان قد قرر ان لا ينزع غطاء النايلون عن الكراسي حتى يلفت انتباه المارة بأنه يقود سيارة خارجة لتوها من المستودعات.. وعندما توقف عند ممر للمشاة في انتظار الضوء الاخضر من الاشارة الضوئية، سحرته ابتسامة فتاة شقية.. ولكن سرعان ما فتح الخط، فعاد يصول ويجول وهو يحدث نفسه: "يبدو ان الصبايا هنا هن اللواتي يتحشرن بالشباب.. ايوه.. بكفينا ما كنا نعاني منهن"... وبعد اكثر من ساعة، فكر: "ان النهار ما زال طويلا، فكيف سامضي وقتي".. ولكن فرحه وسروره في السيارة لم يجعلاه يشعر بالملل. وامام احدى دور السينما التي كان قد دخلها في السابق اكثر من مرة، توقف.. القى نظرة على اعلانات الفيلم المعروض.. هتف: "آه.. الحظ اليوم من السماء... سكس"... فركن سيارته في الموقف، ودخل الى السينما ليعيش ساعتين متواصلتين وهو في حالة من الشبق اثاره حتى بدأ يلهث.. في تلك اللحظة، كان "حاييم" يعرض على "بنينة" فيلما، يبين صور عدد من العملاء. و"بنينة" احدى الفتيات صاعقات الجمال، ممن اخترن خصيصا لاداء بعض المهام الخاصة. خرج محمود من السينما شبقا، وعاد يصول ويجول، وقبل المغيب استعرض منطقة الفنادق، وقرر ان ينزل في احد الفنادق المطلة مباشرة على الشاطئ. دخل الى بهو الفندق الذي اختاره بالصدفة، وتوجه الى زاوية الاستقبال، شرح للموظفة التي استقبلته بابتسامة خدّرت اوصاله، امره، وابرز بطاقة مدون فيها بالخط العريض ثلاثة احرف (أ- ح- م) وتعني بالعربية رجل مهم جدا، وهي بطاقة تمنح في العادة للعملاء لكي يتم تسهيل امورهم على (الحواجز)، بهتت الابتسامة بين شفتي الموظفة وهي تطلب منه "بطاقة الاعتماد" التي لم تكن بحوزته. فاضطرت الى استدعاء مدير الفندق، الذي اتصل بدوره مع "حاييم" وكإجراء احترازي طلب المدير ارسال وثيقة تعهد بواسطة الفاكس ثم توجه الى محمود قائلا وهو يشير الى احد المقاعد المريحة: بإمكانك ان تجلس هناك حتى يصل الفاكس. انزعج محمود من الامر وكاد ان يحتج على مدير الفندق الذي افهمه بدوره ان الفندق منطقة خاصة لا علاقة للمخابرات بها، وان الاجراء الذي اتخذه هو نوع من التسهيل غير المطلوب، اذ كان على رجل المخابرات ان يتصل ويقوم بالحجز قبل وصوله.. وانتظر محمود بنفاذ صبر وضيق، حتى تمت الاجراءات التي استغرقت اكثر من ساعة. وفي الصباح نهض محمود متأخرا، فأسرع الى غرفة الطعام، وتناول فطوره ثم توجه الى الشاطئ. هناك لم يصدق ما يدور، فهذه فتاة جميلة بالنسبة له كانت كالحلم، تشير اليه بأن يلحق بها، وقبل ان تتلقى منه جوابا القت نفسها في الماء.. تساءل محمود مع نفسه.. "ترى هل تقصدني؟"... نظر يمينا ويسارا، فلم يجد احدا غيره فأردف لنفسه: "انها تقصدني".. فهم باللحاق بها، ولكنه لم يجرؤ، لقد منعه شيء ما وهو يكذب نفسه.. "انها لا تقصدني، ومن انا حتى تقصدني فتاة بهذا المستوى من الجمال". وكان محمود يملك حضورا جيدا، لونه اسمر، وزادته اشعة الشمس سمرة ليصبح لونا برونزيا، وهذا اللون غريب على القادمات من اوروبا وروسيا. اخذته (كبسة الشمس) في غفوة لذيذة. وعندما استيقظ تمنى لو طالت غفوته.. نهض وتوجه الى الفندق، وعاد يسترخي مجددا.. وعندما هل الليل، قرر ان يستكشف كافة العوالم من حوله، فتوجه الى ناد ليلي، جلس وطلب زجاجة "جعة".. وعندما اخذ يرشف منها اقتربت منه فتاة، توقفت قبالته قائلة بصوت هز كيانه كصعقة كهربائية: - ان رائحة عطرك رائعة جدا... - شكرا. - هيا بنا نرقص... - انا لا اجيد الرقص - سوف اعلمك اقتربت منه. امسكت بيده، ثم جذبته الى الاعلى ليقف.. نظر اليها محمود غير مصدق.. بهره جمالها الصاعق، فقال لنفسه: "يبدو انها حورية قادمة من عالم آخر"... سار برفقتها حتى وصلا الى باحة الرقص. اخذت الفتاة تهتز على ايقاع الموسيقى الصاخبة، اشارت اليه بأن يقترب، قالت له وهي تصب كلماتها في اذنه: - قلد حركاتي وستجد نفسك منسجما مع الايقاعات الموسيقية تلقائيا.. ثم مرت بشفتيها فوق شفتيه بقبلة بنّجته... لم يستوعب محمود حركة الفتاة التي اذهلته. امسكته بكلتا يديه ونفضته، فأفاق من حالته، وتأكد بأنه يعيش واقعا. قام محمود ببعض الحركات، لحظات وهدأت الموسيقى الصاخبة لتنساب موسيقى هادئة، فتعانق الراقصون. همست الفتاة في اذنه: - اسمي "بنينة" فما هو اسمك؟ صمت محمود ولم يجب.. فكر في ان يطلق على نفسه اسما يسهل امره، الا ان "بنينة" التي كانت تعرف كل كبيرة وصغيرة عنه احتضنته بقوة وقالت: - ما لك حزينا، ان من هو في روعتك يجب ان يعيش سعيدا.. يجب ان يحلق في السماء. لم يعلق محمود على حديثها، فقد كان مصعوقا، فأردفت بنينة قائلة: - ارجو الا اكون قد ضايقتك؟! واخذت تدغدغه بخفة، وتحتك به، وكانت حركاتها منسجمة تلقائيا مع الايقاعات الموسيقية، حتى احست برجولته؟!! وعندها قالت له: - لقد وجدت فيك ضالتي. فما هي حقيقة شعورك نحوي؟ - الحقيقة انني لا اصدق... ما الذي يدفع حورية مثلك الى احضان لا يتقن اللعب؟. - ولم لا؟.. انك تملك كل المقومات المطلوبة التي تطلبها كل فتاة، واستمرت "بنينة" في حركاتها حتى احست بأنه بات ملك يديها، وعندها سألته: - اين ستتوجه بعد انتهاء الحفل؟ ثم نفثت انفاسها الحارة على عنقه، فأحس بلهيب تلك الانفاس وهو يقول: - الى الفندق.. سأكون مضطرا للمبيت هناك حتى احصل على شقتي بعد ايام.. - أذهب معك الى الفندق؟ - ولكن لا ادري ماذا سيكون ردة فعل مدير الفندق... - لا عليك.. سوف أتدبر الامر معه... لم تنتظر الاجابة واخذته في قبلة "فرنسية". لم يكن قد تعرف محمود على هذا النوع من القبل في حياته. كان يعتقد بأن هذه القبل لا تمارس الا في الافلام، ارتخت مفاصله وكاد ان يسقط، ولكنها امسكت به وهي تقول بصوت ماعت له اطرافه: - هيا بنا... واستمرت اللقاءات الملتهبة. ومحمود مسحورا بها. وكان عادة ما يقول لنفسه: "هذه هي الحياة.. من اين كنت ساجد بين اهلي مثل هذا النعيم. فرق شاسع بين هنا وهناك، فهنا المياه المتدفقة، بينما هناك تمنح المياه بالقطارة. رائحة الصبايا هنا تنعش الروح، بينما رائحة العرق هناك تقزز النفس". واستفاق ذات يوم على صوت طرق عنيف على الباب.. نظر الى حيث تنام بنينة الى جواره، فلم يجدها. نهض مسرعا ليرى من الطارق... فتح الباب. كانت هناك مجموعة من رجال الشرطة، قال الضابط: - لدينا امر بتفتيش الغرفة.. - غرفتي انا؟!! - أأنت محمود العبد؟ - نعم... ودخل رجال الشرطة وتوجهوا الى السرير، وعندما رفعوا الفرشة عثروا على كيس كان بداخله مسحوق ابيض، وعندها فقط استوعب الفخ الذي نصب له، وانه العصفور الذي نقر الدودة وكان عادة يصرخ من وراء القضبان.. انا براقش... انا براقش
هادي زاهر
لم يبخل محمود على رؤسائه بأية معلومة من شانها ان تفيدهم. كان يشرح الامور بالتفصيل الممل. وقد اتاح له موقعه الاطلاع على كل الفعاليات والبرامج، لقد اظهر حماسا منقطع النظير، فاستطاع ان يدخل كل الاطر، الا انه كان يدرك جيدا بأن لكل شيء نهاية. ولا بد من ان يأتي يومٌ نكشف فيه امره، ولكن الى ذلك الحين (يخلق الله ما لا تعلمون) كانت الاغراءات قوية.. فالصفقة واضحة: "اذا ما انكشف امرك، تنتقل فورا للعيش داخل اسرائيل.. سوف تمنح لك سيارة مع راتب شهري يقدر بألفي دولار مدى الحياة اضافة الى شقة، ذلك شريطة الا ترتكب اية مخالفة جنائية، والا فقدت الجلد والسَقط كما يقولون.." لم يكن الجهاز يكتف بالمعلومات الشفوية التي يطلعهم عليها محمود، اذ قاموا بتزويده في احدى المرات بآلات تصوير دقيقة للغاية ليزرعها في اماكن محددة. كما زودوه اكثر من مرة بمادة سرية يقوم بدلقها فوق سيارات المطلوبين من القيادات فتعطي تلك المادة انعكاسا خاصا لاجهزة طائرات الاستطلاع والقنص، ليوجه الطيار صاروخه بدقة ليدمر السيارة بمن فيها. وكم كان محمود حزينا عندما تطايرت اجساد ابن عمه وزوجته وابنهما الرضيع اشلاءًا عندما وجهت الاباتشي صاروخها على سيارته؟! انتابته لفترة حالة من عذاب الضمير، وتزايدت عمليات ملاحقة القيادات ميدانيا، فقررت تلك القيادات رصد تحركات بعضها البعض لمعرفة الوشاة. وعندما احس محمود انه بات موضعا للشك، لاذ بالفرار غير آبه للشك الذي تأكد في نفوس ذويه. استقبله مسؤول المخابرات "حاييم" بالترحاب، شاكرا له جهوده، وقدم له استمارة ليقوم بتقديمها الى احدى وكالات السيارات الحديثة، لاستلام سيارة منها، اما بالنسبة للشقة فقد اخبره بأن هناك بعض الترتيبات الضرورية، لا بد من اجرائها قبل ان تسلم له، ويمكنه حتى ذلك الحين ان يقيم في الفندق الذي يحلو له، وانهم سوف يتولون دفع الفاتورة عنه حتى يتسلم الشقة. اما بالنسبة للمعاش فهو سار منذ تلك اللحظة. وبعد صمت اضاف حاييم: سنكون لك سندا مدى الحياة، فقد تم بفضل جهودك، افشال الكثير من العمليات التخريبية. اننا نقدر اصدقاءنا، ونتمنى لك الصحة والنجاح في حياتك الجديدة المريحة. ولكن تذكر جيدا بأن راحتك مرهونة بعدم قيامك بأي مخالفات جنائية لانك عندها ستخسر كل شيء فالقانون عندنا هو القانون. ثم غادر محمود وبه شيء من القلق لا يدري مصدره، توجه الى مكتب وكالة السيارات لاستلام السيارة، وهناك وجد المسؤول في انتظاره. استقبله بترحاب، وقام بواجب ضيافته، وبعد ان قام باعداد وتوقيع كافة المستندات اللازمة، قاده الى المرآب واشار باصبعه وابتسامة عريضة تشيع في وجهه وهو يقول: هذه سيارتك مبروك... واقترب محمود من السيارة، واخذ يمرر فوقها كفه بحنان والمسؤول يشرح ويوضح له مميزات هذا النوع بالذات، وهو يستمع اليه دون ان يستوعب مما يقوله شيئا، لانه كان يحلق في عالم آخر امتلأ بالبهجة والنشوة والبشر... "اخيرا نلت اجرا حقيقيا عن عملي... ياه.. حقا انهم صادقون بوعودهم.." حدث محمود نفسه بذلك وهو يجلس خلف مقود السيارة، وراح يلامسه في زهو وانبهار... ادار المحرك، ثم انطلق وهو يلوح للمسؤول بيديه. اخذ يصول ويجول في شوارع تل ابيب وهو يدندن سعيدا (عش كما تهوي.. قريبا او بعيدا) وكان قد قرر ان لا ينزع غطاء النايلون عن الكراسي حتى يلفت انتباه المارة بأنه يقود سيارة خارجة لتوها من المستودعات.. وعندما توقف عند ممر للمشاة في انتظار الضوء الاخضر من الاشارة الضوئية، سحرته ابتسامة فتاة شقية.. ولكن سرعان ما فتح الخط، فعاد يصول ويجول وهو يحدث نفسه: "يبدو ان الصبايا هنا هن اللواتي يتحشرن بالشباب.. ايوه.. بكفينا ما كنا نعاني منهن"... وبعد اكثر من ساعة، فكر: "ان النهار ما زال طويلا، فكيف سامضي وقتي".. ولكن فرحه وسروره في السيارة لم يجعلاه يشعر بالملل. وامام احدى دور السينما التي كان قد دخلها في السابق اكثر من مرة، توقف.. القى نظرة على اعلانات الفيلم المعروض.. هتف: "آه.. الحظ اليوم من السماء... سكس"... فركن سيارته في الموقف، ودخل الى السينما ليعيش ساعتين متواصلتين وهو في حالة من الشبق اثاره حتى بدأ يلهث.. في تلك اللحظة، كان "حاييم" يعرض على "بنينة" فيلما، يبين صور عدد من العملاء. و"بنينة" احدى الفتيات صاعقات الجمال، ممن اخترن خصيصا لاداء بعض المهام الخاصة. خرج محمود من السينما شبقا، وعاد يصول ويجول، وقبل المغيب استعرض منطقة الفنادق، وقرر ان ينزل في احد الفنادق المطلة مباشرة على الشاطئ. دخل الى بهو الفندق الذي اختاره بالصدفة، وتوجه الى زاوية الاستقبال، شرح للموظفة التي استقبلته بابتسامة خدّرت اوصاله، امره، وابرز بطاقة مدون فيها بالخط العريض ثلاثة احرف (أ- ح- م) وتعني بالعربية رجل مهم جدا، وهي بطاقة تمنح في العادة للعملاء لكي يتم تسهيل امورهم على (الحواجز)، بهتت الابتسامة بين شفتي الموظفة وهي تطلب منه "بطاقة الاعتماد" التي لم تكن بحوزته. فاضطرت الى استدعاء مدير الفندق، الذي اتصل بدوره مع "حاييم" وكإجراء احترازي طلب المدير ارسال وثيقة تعهد بواسطة الفاكس ثم توجه الى محمود قائلا وهو يشير الى احد المقاعد المريحة: بإمكانك ان تجلس هناك حتى يصل الفاكس. انزعج محمود من الامر وكاد ان يحتج على مدير الفندق الذي افهمه بدوره ان الفندق منطقة خاصة لا علاقة للمخابرات بها، وان الاجراء الذي اتخذه هو نوع من التسهيل غير المطلوب، اذ كان على رجل المخابرات ان يتصل ويقوم بالحجز قبل وصوله.. وانتظر محمود بنفاذ صبر وضيق، حتى تمت الاجراءات التي استغرقت اكثر من ساعة. وفي الصباح نهض محمود متأخرا، فأسرع الى غرفة الطعام، وتناول فطوره ثم توجه الى الشاطئ. هناك لم يصدق ما يدور، فهذه فتاة جميلة بالنسبة له كانت كالحلم، تشير اليه بأن يلحق بها، وقبل ان تتلقى منه جوابا القت نفسها في الماء.. تساءل محمود مع نفسه.. "ترى هل تقصدني؟"... نظر يمينا ويسارا، فلم يجد احدا غيره فأردف لنفسه: "انها تقصدني".. فهم باللحاق بها، ولكنه لم يجرؤ، لقد منعه شيء ما وهو يكذب نفسه.. "انها لا تقصدني، ومن انا حتى تقصدني فتاة بهذا المستوى من الجمال". وكان محمود يملك حضورا جيدا، لونه اسمر، وزادته اشعة الشمس سمرة ليصبح لونا برونزيا، وهذا اللون غريب على القادمات من اوروبا وروسيا. اخذته (كبسة الشمس) في غفوة لذيذة. وعندما استيقظ تمنى لو طالت غفوته.. نهض وتوجه الى الفندق، وعاد يسترخي مجددا.. وعندما هل الليل، قرر ان يستكشف كافة العوالم من حوله، فتوجه الى ناد ليلي، جلس وطلب زجاجة "جعة".. وعندما اخذ يرشف منها اقتربت منه فتاة، توقفت قبالته قائلة بصوت هز كيانه كصعقة كهربائية: - ان رائحة عطرك رائعة جدا... - شكرا. - هيا بنا نرقص... - انا لا اجيد الرقص - سوف اعلمك اقتربت منه. امسكت بيده، ثم جذبته الى الاعلى ليقف.. نظر اليها محمود غير مصدق.. بهره جمالها الصاعق، فقال لنفسه: "يبدو انها حورية قادمة من عالم آخر"... سار برفقتها حتى وصلا الى باحة الرقص. اخذت الفتاة تهتز على ايقاع الموسيقى الصاخبة، اشارت اليه بأن يقترب، قالت له وهي تصب كلماتها في اذنه: - قلد حركاتي وستجد نفسك منسجما مع الايقاعات الموسيقية تلقائيا.. ثم مرت بشفتيها فوق شفتيه بقبلة بنّجته... لم يستوعب محمود حركة الفتاة التي اذهلته. امسكته بكلتا يديه ونفضته، فأفاق من حالته، وتأكد بأنه يعيش واقعا. قام محمود ببعض الحركات، لحظات وهدأت الموسيقى الصاخبة لتنساب موسيقى هادئة، فتعانق الراقصون. همست الفتاة في اذنه: - اسمي "بنينة" فما هو اسمك؟ صمت محمود ولم يجب.. فكر في ان يطلق على نفسه اسما يسهل امره، الا ان "بنينة" التي كانت تعرف كل كبيرة وصغيرة عنه احتضنته بقوة وقالت: - ما لك حزينا، ان من هو في روعتك يجب ان يعيش سعيدا.. يجب ان يحلق في السماء. لم يعلق محمود على حديثها، فقد كان مصعوقا، فأردفت بنينة قائلة: - ارجو الا اكون قد ضايقتك؟! واخذت تدغدغه بخفة، وتحتك به، وكانت حركاتها منسجمة تلقائيا مع الايقاعات الموسيقية، حتى احست برجولته؟!! وعندها قالت له: - لقد وجدت فيك ضالتي. فما هي حقيقة شعورك نحوي؟ - الحقيقة انني لا اصدق... ما الذي يدفع حورية مثلك الى احضان لا يتقن اللعب؟. - ولم لا؟.. انك تملك كل المقومات المطلوبة التي تطلبها كل فتاة، واستمرت "بنينة" في حركاتها حتى احست بأنه بات ملك يديها، وعندها سألته: - اين ستتوجه بعد انتهاء الحفل؟ ثم نفثت انفاسها الحارة على عنقه، فأحس بلهيب تلك الانفاس وهو يقول: - الى الفندق.. سأكون مضطرا للمبيت هناك حتى احصل على شقتي بعد ايام.. - أذهب معك الى الفندق؟ - ولكن لا ادري ماذا سيكون ردة فعل مدير الفندق... - لا عليك.. سوف أتدبر الامر معه... لم تنتظر الاجابة واخذته في قبلة "فرنسية". لم يكن قد تعرف محمود على هذا النوع من القبل في حياته. كان يعتقد بأن هذه القبل لا تمارس الا في الافلام، ارتخت مفاصله وكاد ان يسقط، ولكنها امسكت به وهي تقول بصوت ماعت له اطرافه: - هيا بنا... واستمرت اللقاءات الملتهبة. ومحمود مسحورا بها. وكان عادة ما يقول لنفسه: "هذه هي الحياة.. من اين كنت ساجد بين اهلي مثل هذا النعيم. فرق شاسع بين هنا وهناك، فهنا المياه المتدفقة، بينما هناك تمنح المياه بالقطارة. رائحة الصبايا هنا تنعش الروح، بينما رائحة العرق هناك تقزز النفس". واستفاق ذات يوم على صوت طرق عنيف على الباب.. نظر الى حيث تنام بنينة الى جواره، فلم يجدها. نهض مسرعا ليرى من الطارق... فتح الباب. كانت هناك مجموعة من رجال الشرطة، قال الضابط: - لدينا امر بتفتيش الغرفة.. - غرفتي انا؟!! - أأنت محمود العبد؟ - نعم... ودخل رجال الشرطة وتوجهوا الى السرير، وعندما رفعوا الفرشة عثروا على كيس كان بداخله مسحوق ابيض، وعندها فقط استوعب الفخ الذي نصب له، وانه العصفور الذي نقر الدودة وكان عادة يصرخ من وراء القضبان.. انا براقش... انا براقش
تعليق