البنفسجي ناعم مثل القطن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الهام ملهبي
    عضو الملتقى
    • 04-11-2008
    • 113

    البنفسجي ناعم مثل القطن

    البنفسجي ناعم مثل القطن

    مد يده إلى المذياع وضغط على الزر، فأتى صوت المطرب حادا إلى أذنيه: "حبيبي عيونك سحروني ووجهك مثل القمر"، ثم ضغط على الزر مرة أخرى ليطفئه. ما الذي يحبه هؤلاء المبصرون في حبيباتهم؟ وجه جميل وخصر نحيل؟ هو لا يعرف شكلها، ولكنه متأكد أنها جميلة رغم أنه لا يراها. يسمع خطواتها عندما تمر بجانب غرفته، يسمعها تغني عندما تنشر الغسيل، يسمع صوتها المضيء عندما تأتي لتسأله إن كان في حاجة لمساعدة، يشم رائحة ثيابها المنشورة على حبل الغسيل. عندما علم من صديقه أنها معلمة في روض أطفال، ازداد حبه لها، ما هذه العظمة! إنها ملاك. ولكن المبصرون لا يحسون بهذا الجمال. إنهم فعلا سطحيون، لا يستطيعون أن يتجاوزوا حدود بصرهم الضيقة. يبحثون عن معنى الأشياء وهم لا يعرفون سوى شكلها الذي يبصرونه أمامهم، و لا يعلمون أن جمالها في إحساسهم بسحرها الذي لا تراه العين. جميعهم يسقطون في فخ الأشكال، ويمضون في بحث مستمر عن معنى الأشكال.
    يوم اشترى لوحة وعلقها على جدار غرفته، اندهش جميع أصدقائه. لماذا يزين الجدار بلوحة لن يستطيع رؤيتها. لم يفهموا أنه يملك أصابعاً، وأنفا ، وأنفاسا، وآهات. كل يوم عندما يستيقظ، يقترب من الجدار ويمرر أصابعه على اللوحة. في البداية يتحسس الإطار، مرة يجده أكبر حجما ومرة أصغر حجما، ولكنه عندما يصل بأصابعه إلى الوسط كان يحس الإحساس نفسه، لم يتغير أبدا. لذلك فشكل اللوحة وحجمها لم يعنيانه أبدا، كان يعنيه ذلك الإحساس الذي هو بحاجة إليه يوميا كي يبدأ يوما جميلا يحس فيه بالتوازن.
    سمع طرقات على باب الغرفة، لا بد أنه صديقه أحضر له الأشرطة التي طلبها منه أمس، فتح الباب واستقبله ساخرا:
    - أهلا .. أهلا يا أخ العرب.
    - ألف مرة أقول لك لا تناديني أخ العرب، نحن المغاربة أمازغيون، ويجب ألاَّ نتنكر لهويتنا.
    - ستبدأ من جديد محاضرتك عن الهوية، وعندما تذهب لمنزلك تنسى كل ما قلته وتقرأ أشعار العرب الذين تحبهم كثيرا.
    - ليس كلهم، يعجبني شعر بشار وعروة بن الورد والمعري لأنه استطاع أن يفهم الحياة أحسن من الذين يبصرونها صباح مساء.
    - أرأيت؟ نحن العميان علاقتنا بالحياة نبيلة. وهي تحبنا أكثر منكم لأننا نعرف كيف نتغزل بها في كل لحظة: عندما نلمس الباب لندخل المفتاح إلى مكانه، عندما تتلمس أقدامنا بهدوء طريقا لا نبصره، عندما نشم رائحة الفجر، عندما نكتشف الدهشة في أنفاس طفل...
    - ولكننا متفوقين عليكم، نملك نعمة البصر. هل تستطيع أنت أن تخبرني عن اللون الأزرق ما هو؟
    - هو نسيم الصباح، والأصفر هو رائحة البصل، والبنفسجي ناعم مثل القطن، والأسود يشبه قطتي عندما تغمض عينيها...
    - على رسلك.. على رسلك، لم يبق سوى أن تقول بأن الأحمر يشبه رائحة حذائك.
    - كفاك سخرية. أنا أكتشف الحياة كل يوم و كل لحظة، أما أنت فاكتشفتها مرة واحدة. هل تستطيع أن تخبرني عن شكل الله؟
    - عندما كنت صغيرا كنت أتخيله مثل العفريت علاء الدين، أما اليوم فلا أستطيع أن أتخيل أكثر من الحروف الأربعة: ا.ل.ل.ه
    - أرأيت ؟ لا تستطيعون أن تتجاوزوا الحدود التي خطها لكم دي سوسير، نصب لكم فخ الدليل اللساني، وانتم أوقعتم نفسكم فيه ببلادة.
    - كيف؟!
    - إحساسكم بالأشياء لا يتجاوز حدود ما تبصرونه، وعندما تعجزون أمام ما لا يبصر تعودون مهرولين إلى اللغة لتمسحوا فيها عجزكم وخيبتكم. أتعْلم أن بورخيس حين كتب قصته "كتاب الرمل"* كان يتنبأ بأنه سيصبح أعمى. كتاب الرمل هو كتاب العميان، لا شكل له ولا بداية ولا نهاية، كل لحظة تكتشفه وكل لحظة تكتشف أنك لم تكتشفه بعد.
    - ولكنك لا تستطيع أن تنفي أن وجود الأشياء يكمن في شكلها.
    - الأشكال خدعة فيزيائية. كل مرة عندما أفتح مزلاج الباب أجده مختلفا مرة أكثر خشونة ومرة أكثر نعومة، ولكنه دائما يصدر الصرير نفسه. وجوده في صريره وليس في الحديد الذي صنع منه. لذلك فبورخيس لم يتحدث عن الكتاب في وجود واحد ثابت تراه العين وتلمسه اليد، ولكن تحدث عن الإحساس بالرعب كلما فتح الكتاب. في الوقت الذي كانت هناك صفحات تظهر لمرة واحدة وتختفي ورسومات لا تتكرر، كان ذلك الإحساس بالرعب هو وحده الثابت الذي لا يتغير.
    - وعندما كتب "أنا وبورخيس"** كان يتنبأ بأنه سيشيخ في يوم من الأيام.. أليست هذه هي فلسفتك أيها العبقري؟
    - اتركنا من سخرياتك، وأخبرني ما هو لون الدموع عندكم أنتم المبصرون؟
    - ولماذا تسأل؟
    - سمعتها تمر بجانب الغرفة مسرعة وعرفت من تسارع أنفاسها أنها كانت تبكي، ولم أحس أي لون في دموعها.
    - يا أخي .. إلى متى ستظل تحبها؟ كم مرة أخبرتك بأنها ليست جميلة.
    - وما أدراك أنت بجمالها؟ أنت لم تبصر سوى وجهها ولا تستطيع أن تحدد إن كانت جميلة أم لا. ثم يكفي أنها معلمة أطفال، من يربي الملائكة لا بد أن يكون ملاكا.
    - ولكنها لا تعلمهم سوى نشيد "مدرستي الحلوة"***.
    - لن تستطيع أن تثنيني عن حبها، لأنه يشبه...
    - ستبدأ من جديد حديثا عن نظرياتك في الحب والجمال، أنا لا أستطيع أن أبقى معك مدة أطول، سأغادر.
    - كما تشاء. في المرة القادمة لا تعد لي اختبارا عن الألوان، ولكن أخبرني عن لون النجوم باللغة الأمازيغية لأن لونها بالعربية لا يعجبني.
    لماذا يسخر من حبي لها بهذا الشكل؟ لا يستطيع أن يتصور مدى شساعته، إنه حب ذو طعم جميل، لا يستطيع أن يشم رائحته. ولكنك أنت المخطئة، لماذا تعلمين الأطفال "مدرستي الحلوة" ؟ تخيلتك أكثر جمالا وأكثر أناقة. علميهم كيف يرسمون القطن، علميهم كيف يلونون ارتطام الموج بالصخر، علميهم كيف يغنون عن ارتجاف الأرض تحت أقدامنا، علميهم كيف يصفون انبهار العدم بلذة الفجر. ولكنك مبصرة مثلهم جميعا، كيف لك أن تدركي كل هذا؟
    عندما ذهب بالأمس إلى معرض الصور كان يبحث عن لوحة بمذاق الشجر رآها في الحلم. ذهب إلى هناك ليشتريها، كان يريد أن يهديها إليها. تجول بين اللوحات عدة مرات، وكل مرة كان يتأكد من لا جدوى ما يقوم به، لا مكان للوحة هناك. و كان يتخيلهم جميعا ينظرون إليه ويتساءلون عن مغزى قدومه إلى المعرض إذا كان لا يبصر اللوحات ويسخرون. هو أيضا كان يسخر منهم، المبصرون قاصرون ولن يتمكنوا من رسم لوحته. كان عليه أن يعرف هذا قبل قدومه. خرج من هناك وذهب مباشرة إلى متجر اشترى منه أدوات للرسم، عليه أن يرسم اللوحة بنفسه، لا يمكن أن ينتظر من المبصرين عملا مثل هذا.
    منذ الصباح وهو يفكر، هل يشرع في الرسم اليوم أم يؤجله إلى وقت لاحق؟ تردد غريب يشل حركته. عليه أن يستجمع شجاعة العالم ويبدأ بالرسم. إنها فرصته الوحيدة لإثبات أن المبصرين قاصرون عن حب الحياة. ولكن.. هل تستحق هي أن يرسم لأجلها لوحة كهذه؟ ستعلقها على الجدار وتذهب إلى المدرسة لتجبر الأطفال على ترديد "مدرستي الحلوة". وإن يكن، سيرسمها من أجله هو، من أجل حلمه.
    نهض بهدوء يتحسس جوانب الكرسي حتى لا يصدم الفازة الموجودة فوق الطاولة، واتجه نحو زاوية الغرفة حيث ثبت الورقة على قطعة خشب، وضع علب الصباغة فوق طاولة صغيرة وحمل الفرشاة في يده. سيبدأ الآن، على اليسار سيرسم مئة عام، وبجانبها نغمة ناي، وفي الأسفل سيرسم ابتسامتها عندما تمر مسرعة وتقول له صباح الخير.
    كيف سيبدأ؟ هل المائة عام ستكون عمودية أم أفقية؟ ما هو لون نغمة الناي؟ وكيف سيرسم ابتسامتها؟ بفرشاة صغيرة أم كبيرة؟ يداه ترتجفان.. ما هو لون كل سنة من المائة التي سيرسمها؟ يده اليمنى ترتجف أكثر، كيف سيبدأ ؟ ما هو شكل الابتسامة وما لونها ؟ وقعت الفرشاة من بين أصابعه، لماذا ؟ ما هو لون نغمة الناي؟ دفع الطاولة بيده وسمع صوت علب الصباغة وهي تسقط أرضا.
    الألوان أيضا خدعة، كان عليه أن يعرف هذا من قبل. بل كان عليه أن لا يتنكر لعماه. ما كان يجب أن ينزل إلى هذا المستوى القاصر أبدا. سمع طرقات مسرعة وذهب ليفتح الباب. ما هذا ؟ إنه عطرها.. وصلته رائحة عطرها قبل أن يصل صوتها إلى مسمعه هادئا نديا.
    - ما الذي حصل؟ سمعت صوت طاولة تقع و أشياء تنكسر.
    - لا شيء، فقط تعثرت بالطاولة.
    - سأدخل لأجمع ما تناثر على الأرض. آه.. ما هذا ؟ أنت ترسم؟ كيف وأنت أعمى؟ حقا أنتم العميان دائما مجانين.
    - ( أحس كثيرا من السخرية في كلامها فأجابها بحزم وهو يحس غصة في الحلق) وماذا تظنين؟ أن العميان لا يستطيعون اكتشاف أسرار الألوان؟
    لماذا تقول له أعمى وهو يراها الآن أمامه ويتحسس جمالها بأنفاسه؟ يبدو فعلا أنها لا تستحق أن يحبها كل هذا الحب، إنها مبصرة مثلهم جميعا.
    - شكرا على شفقتك، تستطيعين أن تغادري الآن. و لكن لي عندك رجاء واحد، علمي الأطفال كيف ينسوا "مدرستي الحلوة" عندما يكبرون.



    * قصة شهيرة للكاتب العالمي خورخي لويس بورخيس يتحدث فيها عن كتاب خرافي لا بداية له و لا نهاية صفحاته متعددة إلى ما لا نهاية ، مكتوب بخط غريب و رسوماته غريبة .
    ** قصة لبورخيس يصف فيها مشهدا يلتقي فيه بورخيس الشاب ببورخيس الشيخ على كرسي في حديقة عمومية.
    *** نشيد سخيف يردده جميع أطفال المغرب في مراحل التعليم الأولي ، و عندنا نسخر من كل التفاهات و نشبهها بنشيد" مدرستي الحلوة"
    التعديل الأخير تم بواسطة الهام ملهبي; الساعة 19-11-2008, 08:41.
    [SIZE="5"][B][COLOR="Red"][CENTER]واصل معي يا صاحبي
    لا زال في القلب شيء يستحق الانتباه[/CENTER][/COLOR][/B][/SIZE]
  • عثمان علوشي
    أديب وكاتب
    • 04-06-2007
    • 1604

    #2
    إلهام ملهبي،
    قصة تحمل الكثير، لأن في جعبتها/صاحبتها الكثير. وأجمل ما أثار انتباهي هو توظيف ما تراكم لديك من قراءات عن الأديب العالمي خورخي لويس بورخيس.
    بالتوفيق
    عثمان علوشي
    مترجم مستقل​

    تعليق

    يعمل...
    X