ما هو نوعُ حُمورِيَّتِكَ؟
▀ في ليلةٍ كان لى فيها برنامجى الخاص، رن هاتفى المزعِجُ. وكان هذا هوَ أحد اصدِقائى الذين يحلو لهم محاورتى حتى الصباح. وبعدَ وَصْلَةٍ منَ التَّـرَجِّى‘ قبلتُ أن ألغي برنامجى على مضَضٍ، وذهبتُ إليه بعدَ أن ركلتُ سيارتى المترنِّحةَ مرَّاتٍ عديدة، حتى نطق لسانُ حالِها : أتانُكَ العرجاء تغنيكَ عن سؤالِ اللَّئيم.
▀ وسألنى صديقٌى مستفِزٌّ جدّا سؤالاً مستفزَّا مثلَه ! وللحقِّ فإنى كدت أن أبطِشَ به. وبينما كنت أتخيرُ مكان لكمتى الإنتقامِيَّةِ فى وجهِه، وهو يتأرجح فى كرسيِّه الخشبىِّ الذى وددتُ لو أهداهُ إلىَّ يوماً، قال لي تمهَّل. فأنفى لم تزل تؤلِمنى من لكمةِ حِمارٍ قبلك. فانتفضتُ وأمسكتُ بخِناقِه، وقٌلتُ حسناً أيها الوغد، لن يؤلِمُك شيءٌ بعد اليوم. ولكننى توقفتُ عن خنقه لعجبي من شدَّة ضَحِكِه. وقال لي وهو يسعل: فقط لماذا لا تجبني على سؤالي أيها الأحمق؟ فقلت ربما لأني لستُ حماراً أيها الجرز. فقال كفانا من طول لسانِك وطيشِ جنانك، وأجبني قبل أن تبلغ زوجى الشرطة (وكان قد تزوج حديثاً وزوجه لا تعرفنى). فقلت لو أعرف نتيجة زواجك من قبلُ ما زوجتُك. وعلى أي حال، ما هو مقصدُكَ من هذا السُّؤال؟ يا حكيم البَرِّ والأدغال!
▀ فقال لي: أحمارٌ وحشِىٌّ أنتَ أم حِمارٌ عادى؟ فضحكتُ وقلتُ: لعلِّي كنتُ عادياً قبل أن تستفزني أيها الأخرق. وهنا قال لي: حسنٌ، سأشرحُ لك. لعلك تعرفٌ أن هناك نوعين من الحَمير، الحِمارُ الوحشىي والحِمار العادِىُّ. قلت بلى. قال فهل تعرفَ الفرقَ بينهما؟ قلتُ: العادىي لونه "سادة" والآخر "مخطط كاروهات"، فضحك حتى ظننتُه سيقع. وقال: كلا، واعتدل فى جلسته وقال:
- أما الحمار الوحشِىُّ فهو حِمارٌ حُرٌّ يعيشُ فى البرِّية، ويأكُلُ مما يشاء، ويجرى حيثُ يشاء، ينتظِرُ الموتَ فى كلِّ لحظَةٍ، أو الإعتقالَ في حديقةِ الحيوان. فإذا ماتَ ماتَ كريماً، وإذا اعتُقِلَ عاش ضيفاً يأكُلُ مما لا يأكُلُهُ أنزَهُ حِمارٍ عادِي، ويعيشُ نظيفاً ويحظى بحبِّ مَن يراهُ من الكبارِ أو الأطفالِ. فهوَ جميلٌ فى كلِّ شىءٍ. وهو لا يخشى الذِّئبَ وكأنَّهُ يقولُ فى قرارةِ نفسِه: لماذا أخشاهُ وهو لن يؤذيـَنى سوى قبيل موتى بلحظات، أمِنْ أجلِ دقائقَ معدودَةٍ منَ الألمِ أعيشُ حياتى كلَّها ذليلاً ؟ لستُ حِماراً إلى هذه الدرجة.
▀ وأما الحمارُ العادِي فهوَ يحملُ صاحِبهُ كُلَّ يومٍ على أحسنِ الحالات، ولا يلقى منهُ شُكراً على خدمَتِهِ بل مزيداً من الرَّكْلِِ برجليهِ والحثِّ على مزيدٍ من السرعة‘ فضلاً عن أسوأِ أنواعِ السَّباب فى اللغةِ الحَمِيرِيَّة. والكلُّ يتحسَّنُ حالهم بشراء سيارةٍ خاصَّة، أما هو فالويلُ لهُ من ذلك. فهو يجُرٌّ العرَبةَ تحت نير السياطِ وفى عماية الصَُبحِ كما فى حَرِّ الظَّهيرَة. وقد لا يُسمَحُ لهُ بالنومِ فينقِلُ أثقلَ الأشياءِ ولا يذوق الماءَ إلا قليلاً. وهو لا ينالُ منَ الأكلِ إلا ما يشاءُ صاحِبُه. وكثيراً ما كثسِرتْ ساقُهُ فلم يرِحهُ صاحِبُهُ إلا أياماً معدودات، تمنَّى خلالها لو كُسِرَت ساقَهُ الأخرى. وهو يقولُ بلسانِ حالهِ، ليتنى كثنتُ مُخَطَّطَاً، ليتنى لم أكن جباناً، ليتنى لم أكن حِماراً إلى هذه الدَّرَجة. ما أتعسَّ الجُبناء. أخدِمُ كحمارٍ ولا ألقى غيرَ الموتِ مطحوناً تحت عَجَلِ العرَبةِ الخَشَبِيَّةِ أو دَهْسَاً بالسيَّارة. وأنا أتعذَبُ كُلَّ يومٍ ولا ارتاح أبداً.
▀ وهُنا أدركتُ مقصِدَهُ، وكنتُ قد كتبتُ مقالاً عن السلامِ لم أكن مقتنعاً بهِ كثيراً، وبعثتُ به إلى صديقى هذا لآعرِفَ رأيه، وكأننى كُنْتُ أبحثُ عن مسوِّغٍ لعدم نشره. وكنتُ أظُنُّ زواجَهُ الجديدَ قد شغَلَه. وشكرتُ له ردِّى إلى جادَّة الصواب. وعندما كُنتُ أغادرُ بيتَهُ، دُهِشَت زوجه وأنا أقولَ له: شكراً يا ملكَ الحِمير الوحشِيَّة، وأعِدُكَ بألا أعودَ حِماراً عادِياً أبدا. ولكنها لم تنطق، غير أن قالت: على أيَّةِ حالٍ فقد تزوجتُ مِنهُ، حِماراً كان أم جاموسة، فانفجرنا ضاحِكَين وتركتهما وهو يقولُ لها: بالله عليكِ أىَّ شىءٍ خلا الجاموسة. وكأنَّهُ لا يزالُ يضحك.
▀ ورغمَ أنِّى اليومِ في المُعتَقلِ بعدَ التغييرِ الذى أحدثتُهُ على مقالي الأخير، غير أني لا زلت أذكُرُ القصَّة، والفارق الوحيد‘ هو أن الوضعَ هنا معكوسٌ، فَمَن بداخل القفصِ ليس بالحيوان. ولازلت أضحكُ منذ قرأت رسالة من صديقى هذا منذُ ساعات، والتى يقول فيها: من مملكةِ الغَنَمِ إلى مملكةِ الحُمُرِ الوَحشِيَّةِ، هنيئاً لكم بالحُرِّية، فقد عرفتُ انه يفتقدنى، وسيلحقُ بى قريباً. ورددت عليه: ليتك تكمِلُ شَهرَ العسَلِ، ثُم فلتكُن حتَّى جاموسة.
وعَبَثَا حاولوا أن يعرِفوا مقاصدنا في عالمِ الحيَوان.
تعليق