سرد واقعي يخاطب القارئ غير العادي «هاوية الجنون» ليحيى الحباشنة د. إبراهيم خليل
في الصفحات الأخيرة من روايته هاوية الجنون أنهى يحيى الحباشنة حياة بطله نبيه عقل ، تماما مثلما فعل عماد مدانات بحياة بطله إبراهيم في روايته "حنو البير" . بيد أنّ ليحيى الحباشنة أسبابه التي تعدّ أكبر
من تمهيد فني متدرج يجعل القارئ يتوقع أن ينتهي نبيه هذه النهاية. ففي المراحل الأخيرة من الرواية يكثرُ حديث البطل عن الموت ، فهو تارة مستسلم لفكرة الموت حتى إنه ليتأمل اللحظة التي يكون فيها ميتا (ص )243 وتارة يقول في حديثه إلى زياد"الآن أنتبه لشيء آخر هو الموت.. لم يعد ثمة حاجز سميك بيني وبين فكرة الموت .. لقد انهار ذلك الحاجز. إنَّ شعوري بالموت يُلازمني .." (ص 253 - )254 وفي موقع آخر يقول زياد لنبيه: "بالله عليك أخبرني ما الذي يحصل لك في الفترة الأخيرة وفكرة الموت المسيطرة عليك؟" (ص )252 و.."أفكارك عن الموت والانتحار يا صديقي تخيفني" (ص 246).
ففي مثل هذه المقدمات يجد القارئ تفسيرا للنهاية التي لم تكن مفاجئة ، بل جاءت متوقعة ، وطبيعية ، غير مفتعلة ، مما يوحي بمراعاة المؤلف لسلاسة الحبكة ، وسوق الحوادث سوقا يؤدي إلى نهاية محددة بعيدة عن الاعتساف ، أو إكراه الشخوص على التوقف.
من جهة أخرى تقوم رواية الكاتب - الحباشنة - على شخصيتين بارزتين ، وشخوص آخرين أقل أثرا من هاتين الشخصيتين. والشخصية الأولى هي شخصية نبيه عقل الذي انتهت الرواية بموته مثلما تقدمت الإشارة.
فنبيه عقل مثقف ، شاعر ، كاتب ، له ديوان شعر"ولربّما تتصفحين وتصفحين"مطبوع(24). ومسرحيات معدة للإخراج منها مسرحية وزارة الانتحار ، ومسرحية من ينتظر في الخارج ، ومسرحية الطرق يشتد على الباب . ومسرحية ابنة الماركيز ، وغيرها من النصوص ، والأشعار ، والرسائل ، والكتابات النثرية المتعددة .وهو في الأصل من قرية يقال لها سيلة الظهر ، تقع بين جنين ونابلس . ذكر لزياد أن جدَّه سبق أحمد شوقي إلى الفكرة التي يتضمنها بيته الشعري"وطني لو شغلت بالخلد عنه"فكان يفضل الاحتفاظ بسيلة الظهر على الاحتفاظ بروحه (ص22) .وهو يؤمن بأفكار وجودية الطابع ، ويكتب أدبا يبحث في أسئلة العدم والوجود. (ص25) وهو لا يكتفي بكتابة الشعر ، والمسرحيات ، ولكنه يشارك في الإخراج والتمثيل والانتاج. وعلاوة على ذلك كله ، قارئ نهمّ ، تتكرر على لسانه ، وفي كتاباته أسماء سارتر ، وسيمون دو بوفوار ، وكانْتْ ، وصموئيل بيكت ، وكولن ولسن ، وهيغل ، وديكارت(ص26).
زيادة على ذلك لا يؤمن بالحلول الوسط ، يقول معلقا على امرأة شحاذة رفض إعطاءها بعض النقود ، "لا أومن بالحلول الوسط ، فإما أن أغير حال هذه المرأة ، أو التزم اللامبالاة"(30). ومع أنه وجودي في طبعه وفكره إلا أنه مختلف عن الوجوديين ، فلديه فكرة تناقض أفكارهم ، فهم أكثرهم ملحدون وهو عميق الإيمان ، ففي رأيه لو أن الفلاسفة اطلعوا على القرآن الكريم ، وفهموه ، واستوعبوه ، لوجدوا فيه الكثير من الإجابات عن الأسئلة الكثيرة التي يتطارحونها في مؤلفاتهم دون أن يتوصلوا إلى يقين"لو قرؤوا القرآن لما كتبوا شيئا على الإطلاق".(ص39). وتناقضات نبيه هذه ، ومواقفه الكثيرة وتصرفاته التي تظهر من خلال تفاصيل حياته اليومية: كالاعتقاد حينا بأنه امرأة اسمها نبوية ، أو الإصرار على أنه طفل ، والتصرف كالأطفال ، أو الرغبة الشديدة في التخلص من (عفش) البيت ، أو الانقطاع عن العمل بلا سبب إلخ.. توحي للآخرين بأنه غامضّ ، أو في عقله ما يشبه الجنون ، أو المرض النفسي ، لكنه يرفض مثل هذا الاستنتاج ، فهو يصر على أنه مريضّ عقليّّ لا نفسيّ ، وفي رأيه أن الفرق كبير بين المرض النفسي والعقلي ، على الرغم من أن بعض الأطباء ، ممن شخصوا داءه ، لا يفرقون بين الاثنين. يقول"أنا أعي مرضي جيداً. وهو مرض عقلي . ولا بد أن يعالج عقلي بوساطة عقلي ". (ص45)
ويتكرر في الرواية ذكر ما جرى لنبيه من مجريات أدت إلى وضعه المتأزم هذا. من ذلك ما سبقت الإشارة إليه من علاقته بأمه التي ظلت تريده طفلاً إلى الأبد. ومن ذلك العملية الجراحية التي أجريت له لاستئصال الدوالي ، فقد كان لتلك العملية أثرها السلبي الكبير فيه "إذْ أفاق من التخدير ليجد نفسه إنساناً مختلفاً تماما" (ص 139 ، وص )154 قد نسمي ذلك انفصاماً ، أو شيزوفرينيا ، ولكنه يرفض ذلك ، لأن ما ينطبق عليه هو الشخص المتفكك ، أو المتعدد . بعد ذلك أدخل إلى مشفى الأمراض العقلية في الفحيص غير مرة (ص148) ومن الحوار يستخلص القارئ أنّ نبيهاً هذا عانى مما يُسمى في علم النفس بالنكوص ، وهو التثبُّت عند مرحلة عمرية معيّنة ، وعلة ذلك مركـّبّ أوديبى عميق رسخته فيه والدته التي ظلت - مثلما أشرنا قبلا - تحيطه بعنايتها الشديدة ، وتحظر عليه مخالطة الناس الذين هم في رأيها ذئابّ ووحوش. كأنها تريده أن يبقى"طفلاً إلى الأبد"و" بقيت أنا رهين إرادتها هي . طفلاً كما أرادت"(ص163) وفي موضع آخر يقول نبيه عن نفسه:"لقد صنعت مني والدتي طفلاً إلى الأبد"(ص 174).
الكاتب الضمني
أما الشخص الثاني في الرواية فهو زياد
ومن يقرأ الرواية يكتشف ، بيُسْر ، أنَّ زيادا هذا هو الكاتب الضمني للرواية ، مع أن المؤلف يعتمد في روايته على السارد الكلي العلم . والسارد العليم مثلما هو معروف ساردّ من خارج الرواية ، لا علاقة له مباشرة بالحوادث ، ولا بالأشخاص. فما يضطلع به زياد من وظائف تقوم على رصد العالم الخفيّ لبطل الرواية ، والكشف عن الأسرار التي لم يطلع عليها أحد ، مما جعل من شخصية نبيه لغزا حتى لأقرب المقرّبين ، بمن فيهم أم سامر زوجته ، يُؤكـّد لنا أنَّ المؤلف أدار لعبته بذكاء ، فبدلا من أن يجعل زياداً هو الراوي ، وبذلك يقع في فخّ السّيرة ، لجأ لاصطناع سارد من خارج اللعبة تمويهاً على القارئ ، فيبدو لنا زياد ، والحال هذه ، شخصية سردية تشاطر نبيه عقل دوْرَ البطولة في الحكاية.
وزياد جنوبيّّ من الكرك ، من بلدة يقال لها (راكين). وهي قرية يصفها الراوي بكومة من الحجارة ، والبيوت الطينية المتراكمة بعضها على بعض ، تتخللها طرق ترابية ، وتظهر البيوت من بعيد مثل ثآليل في ظاهر اليد. والنساء فيها ينتشلن الماء من الآبار ، ويذهبن للعمل الشاقّ في الحقول ، وحصاد القمح ، والحبوب الأخرى. وثمة رعاة أغنام ، وفي الليل تضاء البيوت الطينية بالفوانيس التي تؤدي إلى تراقص الظلال على الجدران كالأشباح (ص68).
وهو في أول العقد الثالث من العمر ( 21 عاماً) قدم من بيئة أشد قسوة من الصخور إلى عمان ، واستطاع في أقلَّ من عامين أن يعرفها بجلًّ ما فيها من تفاصيل ، وأن ينشئ علاقات اجتماعية وسياسية تنظيمية بفضل صديقه تيسير. وأنْ يعقد الحبُّ أواصرَ متينة وشديدة بينه وبين (رندة) التي يتكرر ظهورها في الرواية تكرارا لافتا للنظر. ومن الأشخاص الذين عرفهم في عمان عبد الكريم ، وهو جنوبيّّ أيضاً ، ونبيه عقل الذي التقاه لأول مرة في مبنى رابطة الكتاب ذات يوم (ص21) ولم ينته ذلك اللقاء حتى كان نبيه يصطحبه في زيارة لمنزله الذي يقع في مكان قريب من جبل اللويبدة (ص33).
وفي عمان التي بهرته بما فيها من الأضواء ، والشوارع ، والمطاعم ، والنوادي ، والمقاهي ، والبارات ، يستأجر غرفة يسميها صديقه صلاح الحوراني (خرابة) تارة ، وقصر الأليزيه تارة أخرى ، في حيّ قديم بعمان ، هو حي المصاروة (ص46) أما الأثاث فيها ، فلا يتعدى سريرا معدنيا صاخب الصرير كلما تقلب عليه في منامه ، أو في يقظته. وطربيزة متهالكة ، ومكنسة ذات عصا يمكن استخدامها سلاحا لمطاردة القطط ، أو الجرذان. ومرآة قديمة عديمة الشكل تفي بالغرض الوحيد لها ، وهو التحديق بوجهه قبل المغادرة. وعلبة معدنية تقوم مقام سلال المهملات ، ومسامير مثبتة في الحائط تقوم مقام المشجب الذي تعلق عليه الملابس . بيد أن خيْرَ ما في هذه الغرفة (الخرابة) هو النافذة المطلة على البيت المقابل ، فمنها يستطيع رؤية صديقته الشابة (رندة) وذلك شيء يعني له الكثير ، بل الكثير جداً.(ص49) فقد كانت زياراتها المتكررة لوكره - إذا صح التعبير - مدعاة للإحساس بإنسانيته من جهة ، وطريقة فنية للخروج بالسرد من هيمنة الحوار ، وهيمنة التركيز على الشخصية الرئيسة ، وهي شخصية نبيه.
لكن (رندة) اقترنت بآخر في غياب زياد الذي استمر نحو العامين.
فالمعروف أنّ من مفاصل الرواية الزمنية مفصلا يبدأ بالإعلان عن اجتياح إسرائيل للبنان ، وضربها حصارا مشددا حول بيروت في العام (1982 ص81) ولأن الأنظمة العربية في ذلك الحين اتسم موقفها بالتخاذل المشين: فقد سمحت للمتطوعين الراغبين في الذهاب إلى لبنان للقتال إلى جانب الفلسطينيين ، واللبنانيين ، بحرية العبور ، والالتحاق بصفوف المقاومة ، وكان زياد أحد المتطوعين الأردنيين . اتخذ هذا الموقف على الرغم من أنه شيوعي ، والشيوعيون لهم موقف مختلفّ من تلك الحرب (ص82). ولهذا اضطر للاستقالة من الحزب محتجا بأنَّ هذا الحزب لا يعدو أنْ يكون - في أحسن الأحوال - صدىً باهتا لمواقف موسكو ، حتى إنَّ الشيوعيين في عمان يسارعون لحمل المظلات كلما أمطرت في موسكو.(ص83) وبعد عودة زياد من بيروت اكتشف أنّ الحجرة (الخرابة) قد شغلها ساكن آخر. وأبلغه صاحب البقالة بزواج (رندة) قبل سبْعة أشهر. لكن الزواج - لحسن حظه - كان زواجا فاشلا ، فقد عادت المياه إلى مجاريها في علاقتهما ببعض ، وظلت على هذا النحو إلى أن سافر للسعودية للعمل حيث يعمل أخوه المهندس محمد.
أما علاقة زياد بنبيه فقد توطدت ، وازدادت وثوقا ، مع الأيام. فبعد اللقاء الأول الذي جرى في يوم من أيام العام 1981 توالت زياراته لمنزل نبيه ، وتوالت اللقاءات ، فكان زياد يقضى الليل كاملا في بيته ، ويتحدث إلى أولاده ، وبناته ، وزوجته ، فأصبح كواحد من الأسرة ، حتى إن زوجته (أم سامر) كانت تشكو له بعض تصرفات نبيه ، وحرَدَه أحياناً ، معتقدة أنَّ له تأثيرا إيجابيا فيه لا يُتاح لغيره من الناس (ص80) . وقد أكدت الأحداث اللاحقة صحة ما كان يظنه زياد ، فعندما توقف نبيه عن العمل في وزارة البلديات حاول الكثيرون إقناعه بالعدول عن ذلك ، وإقناعه بعدم التغيب عن الدوام حتى لا يفقد حقه في التقاعد ، ولم ينجحوا ، إلا أن زياداً استطاع إقناعه بيُسر ، وفي أقل من غمضة عين (ص80 و ص 183). وقد أضحت صداقتهما فريدة من نوعها ، يقول نبيه موجها حديثه لزياد ، كاشفا عما لدى هذا الأخير من قدرة على فهمه :"أنتَ الصديق الوحيد الذي سمحت له بالولوج إلى عالمي الداخلي .. عالمي الخاص ." (ص 128)
لقد تعمقت بينهما الصداقة ، وساد التفاهم طوال المدة الزمنية التي جمعت بينهما على الرغم من أنّ لزياد أفكارا ورؤىً لا تتفق مع أفكار نبيه ورؤاه ، سواء في السياسة ، أو في العقيدة ، أو في الدين ، أو فيما يتصل بحق المرأة ، أو حتى في الفن والحياة . فزياد يكرر لنبيه مراراً أنه ذو تفكير ماركسي ، اعتنقه عندما انتسب للحزب الشيوعي ، وظل محتفظا بأفكاره تلك حتى بعد أن استقال منه. ففكرُه"ماديّ بحْت ، والبحثُ في أمور الغيب مما لا يعنيه على الإطلاق "(ص43).
وقد ازدادت هذه العلاقة قوة عندما أنشأ زياد فرقة مسرحية ، واقترح على نبيه كتابة نص مسرحي لتقديمه ، فاتجه كلاهما إلى العمل المشترك ، مما أضفى على علاقتهما الخاصة صفة الفريق ، لا سيما بعد أن انضم إليهما الممثلون ، وبقية أفراد الطاقم المسرحي. غير أن سفر زياد المفاجئ إلى السعودية هو الذي وضع حدا لذلك التواصل الروحي بين الاثنين مما دعا نبيه لإرسال الرسائل باستمرار ، منها ما يتضمّن بعض ما يكتبه من نصوصْ جديدة ، ومنها ما يرجوه فيه ألا يطيل المقام هناك ، فما يظنه شحما قد لا يتعدى ضربا من الورم الخبيث . وهذا ما تبين لزياد لاحقا ، فعاد إلى عمان ليجد صديقه الروحي قد فارق الحياة.
شخصيات أخرى
من الشخصيات الأخرى التي لعبت دورا هامشيا في الرواية: عبد الكريم ، وهو معلم مدرسة ، ويجيد العزف على آلة العود ، جاء من الجنوب ليقيم في عمان ، ويعطي دروسا في الموسيقى لزيادة دخله ، ومواجهة متطلبات الأسرة في الكرك. وهو إنسان ودود ، وطيب وكريم ، لا يخلو منزله من الخمور الجيدة ، التي يقبل عليها زياد بشره. يصفه زياد بالمضياف ، الذي لا تنقصه الدعابة ، وخفة الروح. وقد اضطر زياد في مرحلة لاحقة من الرواية للإقامة في منزله المتواضع في جبل الحسين (ص 74 ، وص 83).
وعبد الكريم هو الذي استثار لدى زياد الرغبة في الحديث عن تجربته في بيروت ومقامه في مستشفى في دمشق ، وفي بلغاريا ، وعلاقته بالبلغارية ياكوفا ليلي (ص )87 إلخ.
أما الشخصيات الأخرى مثل أم سامر زوجة نبيه ، فكان دورها في الرواية ثانويا جداً.
وقد حشد الكاتب أسماء كثيرة في الرواية لكتاب وممثلين ومخرجين ومسرحيين وكل ذلك مما يعطي الرواية صفة السرد الواقعي ، ويضفي على العمل طابع التوثيق. وليس أدل على ذلك من كلام السارد في بعض المواقف عن الحراك المسرحي الذي شهده الأردن في أواخر الثمانينات. أو حديثه عن بعض الفرق المسرحية الشبابية مثل فرقة (جدايل) التي أسسها جبريل الشيخ وقدمت مسرحية ناجحة بعنوان ظريف الطول (ص54). وفرقة المسرح الصامت التي أنشأها زياد نفسه ( ص )71 وغيرها من فرق. وكاد العمل يتحول بسبب هذه الإشارات إلى سيرة ، أو كتاب وثائقي ، لولا ما أشرْت إليه في السابق ، وهو لجوء الكاتب للراوي العليم ، فقد وضع كلا من نبيه ، وزياد ، في دائرة التركيز ، أو التبئيرfocalization. أولهما في دائرة التبئير الداخلي ، والثاني في دائرة التبئير الخارجي. في حين ظلت الشخصيات الأخرى غير مبأرة.
الراوي العليم
فلجوء الكاتب للراوي العليم استبعد الصلة بين المؤلف والراوي ، مثلما استبعد الصلة بين المؤلف وزياد ، وفي ذلك ما يقصي عن الرواية شبح التماثل مع السَّير. من ناحية أخرى ساعد الراوي العليمُ المؤلفَ على هتك الأسرار ، والكشف عن المخبوء ، والوقوف بنا على لغز الأنا في شخصية نبيه ، دون أنْ يبدو ذلك ضربا من الاعتراف . وينسحبُ الأمر ذاته على شخصية زياد الذي تحول في بعض فصول الرواية إلى مُحلل نفسي ، وفي بعضها إلى خبير بالنماذج الإنسانية التي تعاني من التفكك ، ودليله في ذلك كتب الطب النفسي ، والفلسفة ، والأرواح .
أساليب السرد
إلى ذلك استخدم المؤلف أساليب في السرد أنقذت الرواية من الطابع التوثيقي على الرغم مما هي غارقة فيه من توثيق. ومن هذه الأساليب اعتماد المونولوج تارة ، والديالوج تارة أخرى ، في تحليل الشخصية ، ممّا يقرب المسافة بين الشخص والقارئ. واللجوء المتكرر إلى الحوار ، وقد أسرف في ذلك إسرافا يؤدي في كثير من الأحيان للضجر. وتلاعب بمفردات الزمن الروائي ، فهو تارة يتبع السرد اللاحق مثلما هي الحال في سرده لما جرى لنبيه بعيد عملية استئصال الدوالي (ص139) فالطبيعي أن يروي لنا هذا الخبر قبل ذلك لأن كل ما بني من تصورات عن مرض نبيه يترتب على تلك العملية. ومن ذلك أيضا ما رواه السارد عن إقامة نبيه في مشفى الأمراض العقلية في الفحيص (ص )148 فهو خبر متصل بالعملية الجراحية لكن الراوي لم يذكره إلا بعد زمن غير قصير. ومنه أيضا ما رواه السارد عن العشبة التي أكل منها زياد وهو صغير (ص170) فهي جزءّ قديم من الحكاية لكنه رواه قرابة النهاية خلافا لما هو طبيعي. ومن ذلك أيضا حكاية نبيه مع نبوية ، وهي شعوره بأنه تحول إلى امرأة مصرية اسمها نبوية ، فارتدى ثياب زوجته أم سامر ، واكتحل ، ووضع أحمر الشفاه ، وتوجه إلى عمله مما أثار ضحك الكثيرين ، وإشفاقهم ، وقناعتهم - في الوقت نفسه - بأن الرجل مجنونّ ولا شك (ص173). وهذه الحوادث رُويتْ في غير الموقع الذي يجب أنْ تروى فيه إذا توخينا التسلسل الطبيعي للزمن.
علاوة على ما سبق ، اعتمد المؤلف على الفجوة والتلخيص ، وهي طريقة تسمح للسارد بحذف الكثير من التفاصيل التي لا وظيفة لها في الحكاية. فبعد أن اقترح زياد على صديقه نبيه كتابة عمل مسرحي جديد لإخراجه نجد الراوي يخبرنا في الفقرة التالية للحوار بتوجّه زياد إلى الدائرة المختصة بإجازة النصوص "بعد عدة أيام كان زياد يتوجه وبيده نصوص ، وأوراق ، باتجاه مديرية المسرح في وزارة الثقافة." (ص )179 وهذه الفجوة تختصر المدة الفاصلة بين طلب الاقتراح والتنفيذ ، وهي مدة قد تكون طويلة. ولا ريب في أن هذا النوع من المفارقات السردية يجنّب الكاتبَ شرَك الوقوع في التوثيق.
أما المواضع التي برز فيها التواترُ وهو سرد الحدث الواحد غيْر مرة ، فكثيرة. منها على سبيل التمثيل وليس الحصر سرده لخبر زواج رندة:"علم من البقال أن رندة تزوجت منذ سبعة أشهر." (ص )133 وكان قد روى هذا الخبر في موضع سابق. (ص83) ومن التواتر أيضا ذكره لخبر العملية الجراحية التي أجريت لنبيه لاستئصال الدوالي. (ص139 ، وص )154 : بعد أنْ صحوت من البنج أصبحت شخصا آخر ، له صورتي وملامحي وصوتي لكنه ليس أنا.. لقد تحرَّرْت من ذاتي. وعندما نظرتُ في المرآة رأيت شخصا يشبهني لكنه ليس أنا". ومن التواتر المهمّ ، اللافت ، تكرار رواية الخبر الخاص بعلاقته بأمه ومنعه من مخالطة الناس. والحق أنّ من يتأمل تلك الأخبار التي جرى عليها التواتر ، يلاحظ كم هي مهمة بالنسبة لشخصية نبيه ، وكم يستطيع الكاتب الضمني - اعتمادا عليها - أن يفسر لنا الكثير من غموض عالم نبيه الداخلي. فالعملية الجراحية ، والمركب الأوديبي ، من المفاصل الرئيسة في شخصية هذا الرجل الذي يقف على حافة الجنون ، فيما يراه الناس على حافة وادي عبقر.
زمكان الرواية
تقع حوادث هذه الرواية في المدة بين 1981 1995و وفي هذه الحقبة من الزمن وقعت حوادث تاريخية أشار لها الكاتب من غير تفصيل ، بيد أنها تمثل خلفية للرواية. وهي تقع في إطار مكاني هو عمَّانُ تلكَ الأعوام ، وقد رأينا السارد مشدودا لذكر بعض التفاصيل التي تعيد القارئ لتلك الأجواء التاريخية. ولم يكنْ إلحاحه على ذكر أمكنة معينة من المدينة بالإلحاح العبثي الذي لا خير فيه ، ولا جدوى.بل كانت وظيفة هذا الإلحاح وضع المتلقي في جو الفترة زمانا ومكانا ، وإلا لماذا يكثر من الحديث عن الأدراج ، وعن مطعم هاشم مثلا ، وعن شارع كذا وحي كذا.. وعن جبل اللويبدة تارة وجبل الحسين تارة أخرى؟ ولمَ لمْ يفتْه أن يذكر بعض التغيير الذي وقع في هذا الشارع أو ذاك؟ وهو إلى ذلك يتخذ من المطر وأجواء العاصفة المطرية والثلجية خلفية تشبه الموسيقى التصويرية التي ترافق مشاهد الفيلم السينمائي والمؤثرات الموسيقية التي ترافق فصول أو مشاهد العمل الدرامي:"الرياح قوية وباردة .. لمع برق في السماء وأضاء مساحة كبيرة جداً. . ثم دوى رعد بقوة جعلته يجفل من شدة الصوت. وانهمر المطر بغزارة." (ص )131
مثل هذا المشهد يتكرر في الرواية كثيرا ، في شيء من الاختلاف الكبير ، أو اليسير.
صفوة القول أنَّ رواية يحيى الحباشنة (هاوية الجنون) رواية أحكم فيها الكاتب التزامه بقواعد اللعبة ، غير أن الإسراف في الحوار - لا سيما الحوار الفلسفي - أضعف عنصر التشويق ، وغيب عنها وحدة الحدث المركزي المتنامي ، وهما عنصران ضروريان يلتمسهما القارئ العادي ، الذي يبدو أنه في منأى عن اهتمام المؤلف. فما يشغله في المقام الأول هو أن يخاطب أولئك القراء الذين كانوا على معرفة بنبيه عقل ، قبل أن يصبح نبيها: (نابيلا) تارة ، ونبيل عطية تارة أخرى.
? ناقد وباحث أردني
date : 10-10-2008
التاريخ : 10/10/2008
في الصفحات الأخيرة من روايته هاوية الجنون أنهى يحيى الحباشنة حياة بطله نبيه عقل ، تماما مثلما فعل عماد مدانات بحياة بطله إبراهيم في روايته "حنو البير" . بيد أنّ ليحيى الحباشنة أسبابه التي تعدّ أكبر
من تمهيد فني متدرج يجعل القارئ يتوقع أن ينتهي نبيه هذه النهاية. ففي المراحل الأخيرة من الرواية يكثرُ حديث البطل عن الموت ، فهو تارة مستسلم لفكرة الموت حتى إنه ليتأمل اللحظة التي يكون فيها ميتا (ص )243 وتارة يقول في حديثه إلى زياد"الآن أنتبه لشيء آخر هو الموت.. لم يعد ثمة حاجز سميك بيني وبين فكرة الموت .. لقد انهار ذلك الحاجز. إنَّ شعوري بالموت يُلازمني .." (ص 253 - )254 وفي موقع آخر يقول زياد لنبيه: "بالله عليك أخبرني ما الذي يحصل لك في الفترة الأخيرة وفكرة الموت المسيطرة عليك؟" (ص )252 و.."أفكارك عن الموت والانتحار يا صديقي تخيفني" (ص 246).
ففي مثل هذه المقدمات يجد القارئ تفسيرا للنهاية التي لم تكن مفاجئة ، بل جاءت متوقعة ، وطبيعية ، غير مفتعلة ، مما يوحي بمراعاة المؤلف لسلاسة الحبكة ، وسوق الحوادث سوقا يؤدي إلى نهاية محددة بعيدة عن الاعتساف ، أو إكراه الشخوص على التوقف.
من جهة أخرى تقوم رواية الكاتب - الحباشنة - على شخصيتين بارزتين ، وشخوص آخرين أقل أثرا من هاتين الشخصيتين. والشخصية الأولى هي شخصية نبيه عقل الذي انتهت الرواية بموته مثلما تقدمت الإشارة.
فنبيه عقل مثقف ، شاعر ، كاتب ، له ديوان شعر"ولربّما تتصفحين وتصفحين"مطبوع(24). ومسرحيات معدة للإخراج منها مسرحية وزارة الانتحار ، ومسرحية من ينتظر في الخارج ، ومسرحية الطرق يشتد على الباب . ومسرحية ابنة الماركيز ، وغيرها من النصوص ، والأشعار ، والرسائل ، والكتابات النثرية المتعددة .وهو في الأصل من قرية يقال لها سيلة الظهر ، تقع بين جنين ونابلس . ذكر لزياد أن جدَّه سبق أحمد شوقي إلى الفكرة التي يتضمنها بيته الشعري"وطني لو شغلت بالخلد عنه"فكان يفضل الاحتفاظ بسيلة الظهر على الاحتفاظ بروحه (ص22) .وهو يؤمن بأفكار وجودية الطابع ، ويكتب أدبا يبحث في أسئلة العدم والوجود. (ص25) وهو لا يكتفي بكتابة الشعر ، والمسرحيات ، ولكنه يشارك في الإخراج والتمثيل والانتاج. وعلاوة على ذلك كله ، قارئ نهمّ ، تتكرر على لسانه ، وفي كتاباته أسماء سارتر ، وسيمون دو بوفوار ، وكانْتْ ، وصموئيل بيكت ، وكولن ولسن ، وهيغل ، وديكارت(ص26).
زيادة على ذلك لا يؤمن بالحلول الوسط ، يقول معلقا على امرأة شحاذة رفض إعطاءها بعض النقود ، "لا أومن بالحلول الوسط ، فإما أن أغير حال هذه المرأة ، أو التزم اللامبالاة"(30). ومع أنه وجودي في طبعه وفكره إلا أنه مختلف عن الوجوديين ، فلديه فكرة تناقض أفكارهم ، فهم أكثرهم ملحدون وهو عميق الإيمان ، ففي رأيه لو أن الفلاسفة اطلعوا على القرآن الكريم ، وفهموه ، واستوعبوه ، لوجدوا فيه الكثير من الإجابات عن الأسئلة الكثيرة التي يتطارحونها في مؤلفاتهم دون أن يتوصلوا إلى يقين"لو قرؤوا القرآن لما كتبوا شيئا على الإطلاق".(ص39). وتناقضات نبيه هذه ، ومواقفه الكثيرة وتصرفاته التي تظهر من خلال تفاصيل حياته اليومية: كالاعتقاد حينا بأنه امرأة اسمها نبوية ، أو الإصرار على أنه طفل ، والتصرف كالأطفال ، أو الرغبة الشديدة في التخلص من (عفش) البيت ، أو الانقطاع عن العمل بلا سبب إلخ.. توحي للآخرين بأنه غامضّ ، أو في عقله ما يشبه الجنون ، أو المرض النفسي ، لكنه يرفض مثل هذا الاستنتاج ، فهو يصر على أنه مريضّ عقليّّ لا نفسيّ ، وفي رأيه أن الفرق كبير بين المرض النفسي والعقلي ، على الرغم من أن بعض الأطباء ، ممن شخصوا داءه ، لا يفرقون بين الاثنين. يقول"أنا أعي مرضي جيداً. وهو مرض عقلي . ولا بد أن يعالج عقلي بوساطة عقلي ". (ص45)
ويتكرر في الرواية ذكر ما جرى لنبيه من مجريات أدت إلى وضعه المتأزم هذا. من ذلك ما سبقت الإشارة إليه من علاقته بأمه التي ظلت تريده طفلاً إلى الأبد. ومن ذلك العملية الجراحية التي أجريت له لاستئصال الدوالي ، فقد كان لتلك العملية أثرها السلبي الكبير فيه "إذْ أفاق من التخدير ليجد نفسه إنساناً مختلفاً تماما" (ص 139 ، وص )154 قد نسمي ذلك انفصاماً ، أو شيزوفرينيا ، ولكنه يرفض ذلك ، لأن ما ينطبق عليه هو الشخص المتفكك ، أو المتعدد . بعد ذلك أدخل إلى مشفى الأمراض العقلية في الفحيص غير مرة (ص148) ومن الحوار يستخلص القارئ أنّ نبيهاً هذا عانى مما يُسمى في علم النفس بالنكوص ، وهو التثبُّت عند مرحلة عمرية معيّنة ، وعلة ذلك مركـّبّ أوديبى عميق رسخته فيه والدته التي ظلت - مثلما أشرنا قبلا - تحيطه بعنايتها الشديدة ، وتحظر عليه مخالطة الناس الذين هم في رأيها ذئابّ ووحوش. كأنها تريده أن يبقى"طفلاً إلى الأبد"و" بقيت أنا رهين إرادتها هي . طفلاً كما أرادت"(ص163) وفي موضع آخر يقول نبيه عن نفسه:"لقد صنعت مني والدتي طفلاً إلى الأبد"(ص 174).
الكاتب الضمني
أما الشخص الثاني في الرواية فهو زياد
ومن يقرأ الرواية يكتشف ، بيُسْر ، أنَّ زيادا هذا هو الكاتب الضمني للرواية ، مع أن المؤلف يعتمد في روايته على السارد الكلي العلم . والسارد العليم مثلما هو معروف ساردّ من خارج الرواية ، لا علاقة له مباشرة بالحوادث ، ولا بالأشخاص. فما يضطلع به زياد من وظائف تقوم على رصد العالم الخفيّ لبطل الرواية ، والكشف عن الأسرار التي لم يطلع عليها أحد ، مما جعل من شخصية نبيه لغزا حتى لأقرب المقرّبين ، بمن فيهم أم سامر زوجته ، يُؤكـّد لنا أنَّ المؤلف أدار لعبته بذكاء ، فبدلا من أن يجعل زياداً هو الراوي ، وبذلك يقع في فخّ السّيرة ، لجأ لاصطناع سارد من خارج اللعبة تمويهاً على القارئ ، فيبدو لنا زياد ، والحال هذه ، شخصية سردية تشاطر نبيه عقل دوْرَ البطولة في الحكاية.
وزياد جنوبيّّ من الكرك ، من بلدة يقال لها (راكين). وهي قرية يصفها الراوي بكومة من الحجارة ، والبيوت الطينية المتراكمة بعضها على بعض ، تتخللها طرق ترابية ، وتظهر البيوت من بعيد مثل ثآليل في ظاهر اليد. والنساء فيها ينتشلن الماء من الآبار ، ويذهبن للعمل الشاقّ في الحقول ، وحصاد القمح ، والحبوب الأخرى. وثمة رعاة أغنام ، وفي الليل تضاء البيوت الطينية بالفوانيس التي تؤدي إلى تراقص الظلال على الجدران كالأشباح (ص68).
وهو في أول العقد الثالث من العمر ( 21 عاماً) قدم من بيئة أشد قسوة من الصخور إلى عمان ، واستطاع في أقلَّ من عامين أن يعرفها بجلًّ ما فيها من تفاصيل ، وأن ينشئ علاقات اجتماعية وسياسية تنظيمية بفضل صديقه تيسير. وأنْ يعقد الحبُّ أواصرَ متينة وشديدة بينه وبين (رندة) التي يتكرر ظهورها في الرواية تكرارا لافتا للنظر. ومن الأشخاص الذين عرفهم في عمان عبد الكريم ، وهو جنوبيّّ أيضاً ، ونبيه عقل الذي التقاه لأول مرة في مبنى رابطة الكتاب ذات يوم (ص21) ولم ينته ذلك اللقاء حتى كان نبيه يصطحبه في زيارة لمنزله الذي يقع في مكان قريب من جبل اللويبدة (ص33).
وفي عمان التي بهرته بما فيها من الأضواء ، والشوارع ، والمطاعم ، والنوادي ، والمقاهي ، والبارات ، يستأجر غرفة يسميها صديقه صلاح الحوراني (خرابة) تارة ، وقصر الأليزيه تارة أخرى ، في حيّ قديم بعمان ، هو حي المصاروة (ص46) أما الأثاث فيها ، فلا يتعدى سريرا معدنيا صاخب الصرير كلما تقلب عليه في منامه ، أو في يقظته. وطربيزة متهالكة ، ومكنسة ذات عصا يمكن استخدامها سلاحا لمطاردة القطط ، أو الجرذان. ومرآة قديمة عديمة الشكل تفي بالغرض الوحيد لها ، وهو التحديق بوجهه قبل المغادرة. وعلبة معدنية تقوم مقام سلال المهملات ، ومسامير مثبتة في الحائط تقوم مقام المشجب الذي تعلق عليه الملابس . بيد أن خيْرَ ما في هذه الغرفة (الخرابة) هو النافذة المطلة على البيت المقابل ، فمنها يستطيع رؤية صديقته الشابة (رندة) وذلك شيء يعني له الكثير ، بل الكثير جداً.(ص49) فقد كانت زياراتها المتكررة لوكره - إذا صح التعبير - مدعاة للإحساس بإنسانيته من جهة ، وطريقة فنية للخروج بالسرد من هيمنة الحوار ، وهيمنة التركيز على الشخصية الرئيسة ، وهي شخصية نبيه.
لكن (رندة) اقترنت بآخر في غياب زياد الذي استمر نحو العامين.
فالمعروف أنّ من مفاصل الرواية الزمنية مفصلا يبدأ بالإعلان عن اجتياح إسرائيل للبنان ، وضربها حصارا مشددا حول بيروت في العام (1982 ص81) ولأن الأنظمة العربية في ذلك الحين اتسم موقفها بالتخاذل المشين: فقد سمحت للمتطوعين الراغبين في الذهاب إلى لبنان للقتال إلى جانب الفلسطينيين ، واللبنانيين ، بحرية العبور ، والالتحاق بصفوف المقاومة ، وكان زياد أحد المتطوعين الأردنيين . اتخذ هذا الموقف على الرغم من أنه شيوعي ، والشيوعيون لهم موقف مختلفّ من تلك الحرب (ص82). ولهذا اضطر للاستقالة من الحزب محتجا بأنَّ هذا الحزب لا يعدو أنْ يكون - في أحسن الأحوال - صدىً باهتا لمواقف موسكو ، حتى إنَّ الشيوعيين في عمان يسارعون لحمل المظلات كلما أمطرت في موسكو.(ص83) وبعد عودة زياد من بيروت اكتشف أنّ الحجرة (الخرابة) قد شغلها ساكن آخر. وأبلغه صاحب البقالة بزواج (رندة) قبل سبْعة أشهر. لكن الزواج - لحسن حظه - كان زواجا فاشلا ، فقد عادت المياه إلى مجاريها في علاقتهما ببعض ، وظلت على هذا النحو إلى أن سافر للسعودية للعمل حيث يعمل أخوه المهندس محمد.
أما علاقة زياد بنبيه فقد توطدت ، وازدادت وثوقا ، مع الأيام. فبعد اللقاء الأول الذي جرى في يوم من أيام العام 1981 توالت زياراته لمنزل نبيه ، وتوالت اللقاءات ، فكان زياد يقضى الليل كاملا في بيته ، ويتحدث إلى أولاده ، وبناته ، وزوجته ، فأصبح كواحد من الأسرة ، حتى إن زوجته (أم سامر) كانت تشكو له بعض تصرفات نبيه ، وحرَدَه أحياناً ، معتقدة أنَّ له تأثيرا إيجابيا فيه لا يُتاح لغيره من الناس (ص80) . وقد أكدت الأحداث اللاحقة صحة ما كان يظنه زياد ، فعندما توقف نبيه عن العمل في وزارة البلديات حاول الكثيرون إقناعه بالعدول عن ذلك ، وإقناعه بعدم التغيب عن الدوام حتى لا يفقد حقه في التقاعد ، ولم ينجحوا ، إلا أن زياداً استطاع إقناعه بيُسر ، وفي أقل من غمضة عين (ص80 و ص 183). وقد أضحت صداقتهما فريدة من نوعها ، يقول نبيه موجها حديثه لزياد ، كاشفا عما لدى هذا الأخير من قدرة على فهمه :"أنتَ الصديق الوحيد الذي سمحت له بالولوج إلى عالمي الداخلي .. عالمي الخاص ." (ص 128)
لقد تعمقت بينهما الصداقة ، وساد التفاهم طوال المدة الزمنية التي جمعت بينهما على الرغم من أنّ لزياد أفكارا ورؤىً لا تتفق مع أفكار نبيه ورؤاه ، سواء في السياسة ، أو في العقيدة ، أو في الدين ، أو فيما يتصل بحق المرأة ، أو حتى في الفن والحياة . فزياد يكرر لنبيه مراراً أنه ذو تفكير ماركسي ، اعتنقه عندما انتسب للحزب الشيوعي ، وظل محتفظا بأفكاره تلك حتى بعد أن استقال منه. ففكرُه"ماديّ بحْت ، والبحثُ في أمور الغيب مما لا يعنيه على الإطلاق "(ص43).
وقد ازدادت هذه العلاقة قوة عندما أنشأ زياد فرقة مسرحية ، واقترح على نبيه كتابة نص مسرحي لتقديمه ، فاتجه كلاهما إلى العمل المشترك ، مما أضفى على علاقتهما الخاصة صفة الفريق ، لا سيما بعد أن انضم إليهما الممثلون ، وبقية أفراد الطاقم المسرحي. غير أن سفر زياد المفاجئ إلى السعودية هو الذي وضع حدا لذلك التواصل الروحي بين الاثنين مما دعا نبيه لإرسال الرسائل باستمرار ، منها ما يتضمّن بعض ما يكتبه من نصوصْ جديدة ، ومنها ما يرجوه فيه ألا يطيل المقام هناك ، فما يظنه شحما قد لا يتعدى ضربا من الورم الخبيث . وهذا ما تبين لزياد لاحقا ، فعاد إلى عمان ليجد صديقه الروحي قد فارق الحياة.
شخصيات أخرى
من الشخصيات الأخرى التي لعبت دورا هامشيا في الرواية: عبد الكريم ، وهو معلم مدرسة ، ويجيد العزف على آلة العود ، جاء من الجنوب ليقيم في عمان ، ويعطي دروسا في الموسيقى لزيادة دخله ، ومواجهة متطلبات الأسرة في الكرك. وهو إنسان ودود ، وطيب وكريم ، لا يخلو منزله من الخمور الجيدة ، التي يقبل عليها زياد بشره. يصفه زياد بالمضياف ، الذي لا تنقصه الدعابة ، وخفة الروح. وقد اضطر زياد في مرحلة لاحقة من الرواية للإقامة في منزله المتواضع في جبل الحسين (ص 74 ، وص 83).
وعبد الكريم هو الذي استثار لدى زياد الرغبة في الحديث عن تجربته في بيروت ومقامه في مستشفى في دمشق ، وفي بلغاريا ، وعلاقته بالبلغارية ياكوفا ليلي (ص )87 إلخ.
أما الشخصيات الأخرى مثل أم سامر زوجة نبيه ، فكان دورها في الرواية ثانويا جداً.
وقد حشد الكاتب أسماء كثيرة في الرواية لكتاب وممثلين ومخرجين ومسرحيين وكل ذلك مما يعطي الرواية صفة السرد الواقعي ، ويضفي على العمل طابع التوثيق. وليس أدل على ذلك من كلام السارد في بعض المواقف عن الحراك المسرحي الذي شهده الأردن في أواخر الثمانينات. أو حديثه عن بعض الفرق المسرحية الشبابية مثل فرقة (جدايل) التي أسسها جبريل الشيخ وقدمت مسرحية ناجحة بعنوان ظريف الطول (ص54). وفرقة المسرح الصامت التي أنشأها زياد نفسه ( ص )71 وغيرها من فرق. وكاد العمل يتحول بسبب هذه الإشارات إلى سيرة ، أو كتاب وثائقي ، لولا ما أشرْت إليه في السابق ، وهو لجوء الكاتب للراوي العليم ، فقد وضع كلا من نبيه ، وزياد ، في دائرة التركيز ، أو التبئيرfocalization. أولهما في دائرة التبئير الداخلي ، والثاني في دائرة التبئير الخارجي. في حين ظلت الشخصيات الأخرى غير مبأرة.
الراوي العليم
فلجوء الكاتب للراوي العليم استبعد الصلة بين المؤلف والراوي ، مثلما استبعد الصلة بين المؤلف وزياد ، وفي ذلك ما يقصي عن الرواية شبح التماثل مع السَّير. من ناحية أخرى ساعد الراوي العليمُ المؤلفَ على هتك الأسرار ، والكشف عن المخبوء ، والوقوف بنا على لغز الأنا في شخصية نبيه ، دون أنْ يبدو ذلك ضربا من الاعتراف . وينسحبُ الأمر ذاته على شخصية زياد الذي تحول في بعض فصول الرواية إلى مُحلل نفسي ، وفي بعضها إلى خبير بالنماذج الإنسانية التي تعاني من التفكك ، ودليله في ذلك كتب الطب النفسي ، والفلسفة ، والأرواح .
أساليب السرد
إلى ذلك استخدم المؤلف أساليب في السرد أنقذت الرواية من الطابع التوثيقي على الرغم مما هي غارقة فيه من توثيق. ومن هذه الأساليب اعتماد المونولوج تارة ، والديالوج تارة أخرى ، في تحليل الشخصية ، ممّا يقرب المسافة بين الشخص والقارئ. واللجوء المتكرر إلى الحوار ، وقد أسرف في ذلك إسرافا يؤدي في كثير من الأحيان للضجر. وتلاعب بمفردات الزمن الروائي ، فهو تارة يتبع السرد اللاحق مثلما هي الحال في سرده لما جرى لنبيه بعيد عملية استئصال الدوالي (ص139) فالطبيعي أن يروي لنا هذا الخبر قبل ذلك لأن كل ما بني من تصورات عن مرض نبيه يترتب على تلك العملية. ومن ذلك أيضا ما رواه السارد عن إقامة نبيه في مشفى الأمراض العقلية في الفحيص (ص )148 فهو خبر متصل بالعملية الجراحية لكن الراوي لم يذكره إلا بعد زمن غير قصير. ومنه أيضا ما رواه السارد عن العشبة التي أكل منها زياد وهو صغير (ص170) فهي جزءّ قديم من الحكاية لكنه رواه قرابة النهاية خلافا لما هو طبيعي. ومن ذلك أيضا حكاية نبيه مع نبوية ، وهي شعوره بأنه تحول إلى امرأة مصرية اسمها نبوية ، فارتدى ثياب زوجته أم سامر ، واكتحل ، ووضع أحمر الشفاه ، وتوجه إلى عمله مما أثار ضحك الكثيرين ، وإشفاقهم ، وقناعتهم - في الوقت نفسه - بأن الرجل مجنونّ ولا شك (ص173). وهذه الحوادث رُويتْ في غير الموقع الذي يجب أنْ تروى فيه إذا توخينا التسلسل الطبيعي للزمن.
علاوة على ما سبق ، اعتمد المؤلف على الفجوة والتلخيص ، وهي طريقة تسمح للسارد بحذف الكثير من التفاصيل التي لا وظيفة لها في الحكاية. فبعد أن اقترح زياد على صديقه نبيه كتابة عمل مسرحي جديد لإخراجه نجد الراوي يخبرنا في الفقرة التالية للحوار بتوجّه زياد إلى الدائرة المختصة بإجازة النصوص "بعد عدة أيام كان زياد يتوجه وبيده نصوص ، وأوراق ، باتجاه مديرية المسرح في وزارة الثقافة." (ص )179 وهذه الفجوة تختصر المدة الفاصلة بين طلب الاقتراح والتنفيذ ، وهي مدة قد تكون طويلة. ولا ريب في أن هذا النوع من المفارقات السردية يجنّب الكاتبَ شرَك الوقوع في التوثيق.
أما المواضع التي برز فيها التواترُ وهو سرد الحدث الواحد غيْر مرة ، فكثيرة. منها على سبيل التمثيل وليس الحصر سرده لخبر زواج رندة:"علم من البقال أن رندة تزوجت منذ سبعة أشهر." (ص )133 وكان قد روى هذا الخبر في موضع سابق. (ص83) ومن التواتر أيضا ذكره لخبر العملية الجراحية التي أجريت لنبيه لاستئصال الدوالي. (ص139 ، وص )154 : بعد أنْ صحوت من البنج أصبحت شخصا آخر ، له صورتي وملامحي وصوتي لكنه ليس أنا.. لقد تحرَّرْت من ذاتي. وعندما نظرتُ في المرآة رأيت شخصا يشبهني لكنه ليس أنا". ومن التواتر المهمّ ، اللافت ، تكرار رواية الخبر الخاص بعلاقته بأمه ومنعه من مخالطة الناس. والحق أنّ من يتأمل تلك الأخبار التي جرى عليها التواتر ، يلاحظ كم هي مهمة بالنسبة لشخصية نبيه ، وكم يستطيع الكاتب الضمني - اعتمادا عليها - أن يفسر لنا الكثير من غموض عالم نبيه الداخلي. فالعملية الجراحية ، والمركب الأوديبي ، من المفاصل الرئيسة في شخصية هذا الرجل الذي يقف على حافة الجنون ، فيما يراه الناس على حافة وادي عبقر.
زمكان الرواية
تقع حوادث هذه الرواية في المدة بين 1981 1995و وفي هذه الحقبة من الزمن وقعت حوادث تاريخية أشار لها الكاتب من غير تفصيل ، بيد أنها تمثل خلفية للرواية. وهي تقع في إطار مكاني هو عمَّانُ تلكَ الأعوام ، وقد رأينا السارد مشدودا لذكر بعض التفاصيل التي تعيد القارئ لتلك الأجواء التاريخية. ولم يكنْ إلحاحه على ذكر أمكنة معينة من المدينة بالإلحاح العبثي الذي لا خير فيه ، ولا جدوى.بل كانت وظيفة هذا الإلحاح وضع المتلقي في جو الفترة زمانا ومكانا ، وإلا لماذا يكثر من الحديث عن الأدراج ، وعن مطعم هاشم مثلا ، وعن شارع كذا وحي كذا.. وعن جبل اللويبدة تارة وجبل الحسين تارة أخرى؟ ولمَ لمْ يفتْه أن يذكر بعض التغيير الذي وقع في هذا الشارع أو ذاك؟ وهو إلى ذلك يتخذ من المطر وأجواء العاصفة المطرية والثلجية خلفية تشبه الموسيقى التصويرية التي ترافق مشاهد الفيلم السينمائي والمؤثرات الموسيقية التي ترافق فصول أو مشاهد العمل الدرامي:"الرياح قوية وباردة .. لمع برق في السماء وأضاء مساحة كبيرة جداً. . ثم دوى رعد بقوة جعلته يجفل من شدة الصوت. وانهمر المطر بغزارة." (ص )131
مثل هذا المشهد يتكرر في الرواية كثيرا ، في شيء من الاختلاف الكبير ، أو اليسير.
صفوة القول أنَّ رواية يحيى الحباشنة (هاوية الجنون) رواية أحكم فيها الكاتب التزامه بقواعد اللعبة ، غير أن الإسراف في الحوار - لا سيما الحوار الفلسفي - أضعف عنصر التشويق ، وغيب عنها وحدة الحدث المركزي المتنامي ، وهما عنصران ضروريان يلتمسهما القارئ العادي ، الذي يبدو أنه في منأى عن اهتمام المؤلف. فما يشغله في المقام الأول هو أن يخاطب أولئك القراء الذين كانوا على معرفة بنبيه عقل ، قبل أن يصبح نبيها: (نابيلا) تارة ، ونبيل عطية تارة أخرى.
? ناقد وباحث أردني
date : 10-10-2008
التاريخ : 10/10/2008
تعليق