العودة من وردية الليل
- ما كل هذا الهدوء .. ؟ المنشية لا حس فيها و لا خبر .. عهدي بها،لا تنام إلا مع الفجر الجديد ؛ فالناموس يحاصرها داخل حجرات النوم .. مابالها ونحن في عز الصيف .. الجو حار ، والجدران يلهب صدرها قرص الشمس طول النهار .. ما من هبة طرية .. النجوم هي الأخرى تخايلني ضنينة ، تعزف على أغنية " غاب القمر يا بن عمى .. يللا روحني " إنها لم تدق الثانية عشرة بعد .. إحساس مخيف يعشش ، يطبق على صدري !!
انساقت شفتاها بعفوية ، رددت بعض الآيات و الأدعية .. ارتعش بدنها .. تطوحت ، تقنفذت في خوفها الزاعق .. تدافعت خطواتها .. شعرت بالإيناس ؛ وقت سماعها دبيب قدميها .
أقبلت ثلة من الكلاب من عطفة جانبية ، استدارت،أناخت أخطامها ، همهمت ، نبحت ، تعاركت في ضراوة .
يستبد بها قنوط ، تلتصق بجدار ، تتداخل فيه . ينفرط عقد المعركة .. حسم الموقف أفحل الكلاب ، انفلتت مطأطئة رؤوسها !!
- كنت مرتاحة البال ، أرصد ساعة تزف الشمس إلى حضن عريسها . لا يتعبني أي شيء ، أرقب مع أمي و أخوتي عودة أبى في حب و تهلل .. آه يا أبى ، لولاك ماخرجت . معشوقك الذي أفنيت معه عمرك شاخ ، أصبح عاجزا أمام هذا الغزو .. يا ما جلبت لي من عمل يديك : المزوي و الحرير و المقصب و السكروتة . اليوم تدخل البيت عابس الوجه ، محملا بأثقال الدنيا ، مكدودا ، تسترخي بجانبنا على الحصير ، تتوجع ، تزعق من آلام الروماتيزم .. و آلام العجز الذي يطاردونك به .. يرتسم على جبينك أخدود عميق الأسى و الحزن .. سرعان ما أفزع،أخطف الطبلية ، وأحضر كسرات الخبز الجاف التي نديتها بالماء ، وصحن البطاطس المحمرة بالزيت ، وبعضا من حزمات الفجل و الكراث .. لكم تآوهتَ ، تباكيت على ولدك البكري الذي لم تنجبه .. لكم شعرت بالحزن لأجلك ، آلمني كثيرا هذا العجز المفروض على كوني أنثى !!
انعطفت ، اقتربت من حارتها ، اختنقت حد الخوف و الرهبة ، أحست بهسهسة وحركة ، تلفتت ، انبسطت أساريرها ، أمعنت النظر .. لا شيء .. تجمدت ، ذابت في بعضها !
- كان أبي يحرم على الخروج بعد صلاة العشاء .. أصبح الأمر لا يهم الشركة في شيء ، كانت فيما مضى تراعى هذه الأمور ، ما عادت تفرق بين بنات و أولاد ، تحدت العرف ، وفضت بكارته ؛ كأنها تنتقم من تاركيها – من الرجال – في صورنا نحن !!
- كم مرة أسمع أصواتا ، و لا شيء إلا الخوف ، حتى لدرجة ذوبان المفاصل و البلل .
اصطدمت بحجر .. اندفعت مقدمتها بقوة لمسافة كبيرة .. تماسكت .. تهالك جسدها .. أخيرا تهلل وجهها .. هدأت أعصابها المتوترة .. إنها حارتهم .. انعطفت – ظلام كثيف يخيم على كل شيء - ، شعرت بقرف و ضيق !
- لا أحد يهمه أن تكون الشوارع نورا ، لم تعد تهم أحد ، حتى مؤسسة الكهربا ، لا تهتم إلا بالسحب و الخدمة ، لا يهم إن نمنا في العتمة أو... ، سيان أصبح الأمر .. ليتنا كنا نسكن هناك ، في محب و لا السبع بنات ولا القوتلي ، حيث الدنيا ظهر ، و البيوت تعوم كالبدور في السماء ، و الشوارع كأنها عرائس مزدانة بقوس قزح .. كثيرا ما علق أبي لمبة في الشارع ، لكن شياطين الليل كانت له بالمرصاد .. حتى زهق ، ولم يعد يهتم هو الآخر !!
- و لا كلمة ..!!
ألم يكاد يثقب ظهرها ، ويد حديدية تعتصر ذراعها الضعيفة !
- لو رفعت صوتك هاجيب كرشك .
هبط قلبها ، متهالكا تخلى عنها ، في قدميها كان .. عجز لسانها عن مجردآهة .. احتوتها رعشة ، ذابت معها كل مقدرتها على الرؤية و الاتساق .
- يا ربي .. البيت في آخر الحارة !!
حاولت خطف نظرة من صاحب الصوت الغليظ .. ضغط على ذراعها حتى كاد ينكسر .. تآوهت ، تلوت متداخلة في بعضها ، ناخت بركبتيها على الأرض .. استفزها، جذبها بقوة ، التصق بها .. المطواة تنفذ في عمودها الفقري !
تشعر بالدماء تغادرها .. لحق بهما آخرون .
- إنها عصابة .. ياويلى ، ياسواد ليلى . رفعت ثقب عينها ، التقطت جانبا من ملامحه .
- أكاد أعرف هذه الملامح ، ليست غريبة على .. أيكون هو ؟!!
- طيب بس قولوا لي ..إن كنتم عايزين الشنطة خدوها ، بها خمسون قرشا.
صفعها صفعة دامية ، أخلت بتوازنها .
- اخرسي يا حيلة أمك ، وامشي من سكات .
- نعم هو .. أي مصيبة حطت علىّ .. من أسبوع خطف البنت رجاء بنت جارتنا نبوية .. أمي كثيرا ما حذرتني من هذه السحنة .. أخذ رجاء ، ساقها إلى الغيطان .. وهناك فرط رمان صدرها ، وقلبها .. و أشربها الذل .. ما ترك مكانا إلالوثه ، ولم يكن وحده .. أربعة بغال نالوا نصيبهم .. ضبطهم الفلاحون هناك ، وطاردوهم .. ولكن متى .. ؟ يا لمصيبتى .. هل جاء دوري ..؟!!
التووا بها بين العطف ميممين صوب الخلاء .. فقدت القدرة على تمالك نفسها .. بهت كل شيء .. همدت أنفاسها .. و نقمة ترتفع حدتها تجاه الحي كله .
- رجاء .. تهجم عليها أحد الفلاحين ، و الغيظ يأكله ، لطمها كثيرا .. راحت في نوبة بكاء .. انهار غيظ الرجال ؛ وقت كشف لهم القمر الملابس التي غاصت في دمائها ، والممزقة من دبر ومن قبل ، وعدم قدرتها على الحركة .
- قالت : نفس الفلاح الذي ضربني ، كان يرتق لي الثوب ، وهو يبكى ، و يصرف بأسنانه .. وساقوها إلى قسم الشرطة ؛ بعد أن خيروها بين الستر و الفضيحة .. كان هناك بلاغ بغيابها ، و أكف غلاظ ، و أرجل تعشق الركل. لو صرخت فلن يتورع هؤلاء الشياطين عن قتلي ، و الناس في عمق البئر يغطون .. من سيسمعني ؟ أسحب هكذا ، و على بعد خطوتين آدميون نائمون .. ملعونة هذه اللقمة ، ملعون كل شيء .. وماذا بعد ؟ يضيع كل شيء بين الأنياب ، و لا شاهد إلا خيال شجرة ، انطمست معالمها في غبشة الليل .
جن جنونها .. أحجمت عن الحركة ، حاولت أن تصرخ .. لطمها أحدهم ، تكالبوا علي جرها قسرا .. فزعت من قعدتها بركلة ، شعرت أنها فصلت عجيزتها عن بقية جسدها .. يدفعها ثانية .. تجحظ عيناها .. تشهق !
- يا ربي .. غير معقول أن تكتب على أن أكون بنتا عديمة الشرف .. أتُكتب فضيحة يا ربى ؟!!
ما أسأت إلى أحد ، ما قلت لأبي مرة يا " خي " ، ما رفعت صوتي في وجه أمي ، وما رددت سائلا وقف ببابنا ،حتى الأولاد في الحارة يستغلون طيبتي ، ويستغفلونى .. أنا البنت الساذجة ، ما ضربت واحدة من أخواتي ، لم أسرق ، ما كذبت إلا مرة واحدة .. يا ربي .. غير معقول أن يكون ما أنا فيه مكتوبا ، أترضى أن يعريني هؤلاء .. أترضى ..؟!! أنا لا أرضى ، والموت أحب إلىّ ، المطواة أرحم لي .، أطوح بجسدي على حدها المغروس في ظهري ، و ليفعلوا مايحلوا لهم ، أما و في نفس يتردد .
تغمض حدقتيها ، تحاول التلفت .. يستحثها هاجس . صوت شخير يعلو من خلف البنايات ، تتكتل الأصوات .. نباح كلب يعلو مزلزلا كيانها المصادر .
- أكثر .. أكثر يا نباح النذير ، أكثر ، افزع النيا م .. الموتى !!
يطنطن في الآذان أزيز بعيد ، يتضخم الأزيز .. لا ترى شيئا على مدد الرؤية .. الصوت يدنو .. يدنو .. يتهافت صدرها ، قلبها .. تلوى رقبتها ، تتابع الصوت .. تنامت قشعريرة .. ارتج جسدها ..طفحت دموع غزيرة معانقة دماءها المتفجرة من أنفها الدقيق .. سكن الأزيز ، تهاوت أربطة القوة ، تساقطت نزيفا خرق الحجاب ، اختنقت سبل الاستشعار ، هيمنت جمادية هيكلها الضعيف .
أتاها الصوت مجسما .. أمعنت ، تلبدت مكانها .. علا الصوت .. برزت عربة منطلقة في سرعة عالية .. أحاط الأولاد بها ، أصبحت شيئا محصورا لا تناله عين .. دنت العربة .. أحجم الأولاد ، تحركوا بأمر من كبيرهم .. توقفت العربة ، تتفادى بركة في الطريق .. صعق الشياطين ، تماسكوا .. الموتور يعمل ، العربة تتأرجح ؛ كأنها تعانى مغصا مأساويا ، تتحرك .
- أيكون عم زكريا ، أم محسن ابن خالتي زكية .. يا ربى .. ماله لا يتوقف ،قد يكون وحده ، وهؤلاء كثرة .. الكل يبحث عن السلامة .. قال أبي : ما عاد خير في الدنيا .ما أعلمني .. قد يكون مترددا ، تعبث في داخله المبررات
: و أنت مالك .. هل اشتكت ؟ ، هل طلبت منك الخلاص .. افرض إني ساذجة ، أو بنت من إياهم .. ألا تمنع مصيبة ، أهذا يحتاج تصريحا منى أو إذنا، أترتضى بنت في الدنيا هذا العار مختارة ؛ إلا في عرف الكلاب .. ؟!!
استجمعت قواها السائبة .. تجمعت حروف الكلمة ، ما بقى إلا أن تعبر متاهة الحنك ، خرجت شائهة ..قتلتها يد غليظة ،حطت على حروفها . العربة تبتعد ببطء .. تبتعد .. رجاء تنتصب عارية : ازعقي .. ازعقي ياخائبة .. ازعقي يابنت .. !!
انثنى جذعها تحت رشقة المطواة .. ازعقي يا خائبة .. قضمت الكف في سعار . تألم .. ارتخت قبضته ، حطت ثانية بقسوة ، و لكن بعد أن تجاوزت حروف النداءحدود البئر . سلط السائق أنواره ، ارتد بقوة أكثر ، داهم الأولاد .
يتطايرون كل في اتجاه ، متداخلين في بعضهم مطأطئى الرؤوس ، يسترون ملامحهم . و السائق خلفهم : حلق يا جدع . يجاهد للنيل من أحدهم . وهى بهستيريا ترتعش ، كائن ينزف فرحا حتى الموت ، تهالكت في إعياء .. بان وجهها قانيا مشربا بالصفرة .. استكان ذراعها ..تتدفق الدماء من ظهرها ، إلا أنها كانت تهمهم في ضحكات واهنة ؛ بينما النوافذ و الشبابيك ترفع أستارها متحفزة !!
نشرت في مجلة إبداع 1992
و في مجموعة " حلم كائن بسيط " 1993
تعليق