(1)
عندما تأتي ابنتي الكبرى لزيارتي ... لا تجلس إلا بين أقدامي ... ثم تتقرب شيئا فشيئا إليّ ... وتضع رأسها على فخذي ... ينظر لها زوجها ، وقد جلس إلى يميني ... ويتبادلان ابتساما ماكرا ... ثم لا ألبث أن أمرر أصابعي بين خصلات شعرها ... وأفرك جمجمتها في رفق ولين ... بينما أتحاور مع صهري في كل مواضيع الكون ... السياسة ... الإقتصاد ... العمل والإرهاق ... وإذا توقفت أصابعي عن دغدغة الجمجمة ... فإني سرعان ما أسمع غمغمة تستحثني على مواصلة عملي ...
هذه الليلة ، اختلفت البنت على عادتها ... لم تهدأ على ركبتي ...كانت تتكئ ، ثم تقوم ... ثم تتكئ ، ثم تقوم ... على غير هوادة... لعلها أكلت شيئا أقلقها ... أو لعلها تفكر في أمر حيرها ... أو ...
تبادلت إيمان مع أمها نظرات تساؤل واستغراب ... ثم استأذن الصهر ليعود إلى العاصمة حيث مقر عمله ، من غير زوجته ... فقد اتفقا على انتظار المولود الجديد في مصحة مدينتنا ... بجوار أهلها وذويها ... بالميدة ...
- ما رأيك ياعزيزتي في أن نذهب الآن إلى المصحة ؟... أراك تتستّرين على ألم الوضع ...
- لا ، لآ ... ليس عندي من ألم ... الحمد لله ...
أديت فرائضي ، وتوجهت إلى فراشي بشيء من التأخر عن المعتاد ... لم أنتظر زوجتي على السرير ... فمن الطبيعي أن تكون إلى جوار ابنتنا ... في حالة فاجأها ألم الوضع ...
اتّكأت على وسادتي ... وسبحت مع أفكاري ... وانطلقت إلى نومي الهانئ ... وأنا أتفكر في أمر الحفيد الجديد ... الذي سيجعلني جدّا ... وسيجعل زوجتي نجيبة جدة ...
- جدي يدعوك يا جدتي ...
- لماذا ؟ ... ماذا يريد مني ؟...
- سيتول لت سيئا(سيقول لك شيئا) ... سيسفي لت سلاّ ( سيفشي لك سرا) ... سيطلب منت امْلا (سيطلب منك أمرا) ... ســ ... لا أدلي يازدتي ( لا أدري يا جدتي) ....ازهبي إليه وستعلفين( اذهبي اليه وستعرفين) ...
ما أروع لثغة الأحفاد ...
أما أنا فسأتذوق طبيخ الجدات ... وسأكتشف وقارهن الخادع ... إنه طور جديد ... وطعم جديد ، وزاوية نظر جديدة للحياة ...
ارتسمت على شفتي بسمة خفيفة حملتني إلى عالم الأحلام ...
ولكن نومي الخفيف جعلني أستيقظ على صوت باب دولاب يُفتح في نفس غرفتي ...
- أقوم يا جدتي ...؟... آخذكما إلى المصحة ...؟...
- لا ياجدي ... لم أتهيأ بعد للنزول ...
- ولكنك تعلمين أني إذا استيقظت ، يتملكني الأرق ، ولا يعاودني النوم إلا بعد فترة طويلة ...
اتكأت على الوسادة من جديد ... وأخذت كتابا إلى جوار رأسي ... أطالع منه ما تسمح به أفكاري المضطربة في هذا الهزيع الأخير من الليل ....
الجدة لا تريد ازعاجي ... وإلا فما الذي جعل إيمان تستحم في مثل هذا الوقت ؟ ... إنها خبرة الجدة ... فهي تعلم أن الماء الساخن مفيد في حالة الوضع ... وأنا أذكر الآن أن والدتها –رحمها الله – فعلت معها نفس الذي تفعله الآن مع ابنتي التي كانت جنينها آنذاك ...سبحان الله ... ما الذي جعلني أتذكر ولادة إيمان منذ أكثر من خمسة وعشين عاما ...
أتكون ...؟...
فُتح باب الغرفة بعنف هذه المرة ... وأطل منه وجه زوجتي ... وقد ارتسمت عليه علامات الجدّ ...
- الآن نذهب إلى المصحة .... فورا ...
قمت ألبس ثيابي وأحاول أن أمثل دور الهادئ الساكن ... فاستحثتني حبيبتي فقلت : - ألهذه الدرجة؟ ... قالت : - نعم ...
خرجت من الغرفة أستطلع الأمر ... نظرت إلى صغيرتي ... وقد تكور بطنها ... وأخذ شكلا جديدا غير الشكل الذي تعودت عليه ...
الحمد لله أن سيارة أختي عفاف كانت أمام البيت ... الحمد لله أنها نسيت المفاتيح فوق الطاولة ...- وقد عرفت بعد ذلك أنها فعلت ذلك عمدا ... لأنها فهمت بفراستها أن ابنتي ستضع في تلك الليلة ...
- استعدا ... في انتظار أن أذهب إلى أختي كلثوم الممرضة ... لتساعدكما ...
خرجت ....... شغّلت ........ انطلقت ........ وأنا أحاول التخفيف من سرعة السيارة والتحكم في توجيهها حتى لا تخلط الرصيف بالجدار ...
عجبا ... لم تستطع البنت الوقوف ...كان علينا أن نتعاون على حملها ... أنا وعمتها وأمها وأختها ...
أوقفت السيارة أمام باب المصحّة ...
انزلي حبيبتي ... بهدوء ... هات رجلك اليسرى ... اليمنى ... اتّكئي علي ...قفي بلطف ... اصعدي على الرصيف ... هيا ...
ما كانت ابنتي تستطيع الصعود على اسفلت الرصيف ...
الممر الذي يفصل باب السياج عن المصحة فيه انحناءة بسيطة إلى الأعلى ... ما كانت ابنتي تستطيع صعود انحناءة الممر البسيطة ...
شجعتها بكلمات مطمئنة : لا تخافي عزيزتي ...ليست مشكلة ... لا تصرخي ... توثقي في الله ... أنت الآن تعيشين أحلى فترات العمر ... لا تنسيْ ذلك ...
ما أطول هذا الممر ... هل أحضر سرير العجلات ؟ ها إننا اقتربنا ... وصلنا ... تفضلي ...
طلبت مني الجدة المنتظرة أن أعود إلى البيت بسرعة لإحضار حقيبة ملابس المولود الجديد ... رن جرس الهاتف المحمول ... لا أردّ أثناء السياقة عادة ... لكن هذه المرة ، لا بأس ... إنه محمد ... صهري ...
- نعم ... نعم يا محمد ... فعلا ... لقد أوصلتها للمصحة ... لا ، لا تنزعج ...
كل شيء على ما يرام ...
من أخبرك ؟...
ما كنت أريد إزعاجك ...
تفضل ...
تفضل ...
بانتظارك ...
كان عليّ أن أبادر بمكالمته ... ليكون حاضرا في لحظة استقبال ابنه ...
أتيت بالحقيبة ... وبالمهد الصغير ... وبالأغطية ... ووصلت المصحة ، فوجدت خولة وسفيان – أم محمد وأخاه – في البهو ...
- أهلا أهلا ... ما هي الأخبار ؟...
أشار الجميع إلى باب غرفة الولادة ...
ارتفع صوت آذان الفجر ... كبّرت وهللت ...
قطعت رواق المصحة جيئة وذهابا ... لا أذكر عدد المرات ... ولكني أذكر أني كنت أتماسك بصعوبة على فتح باب الغرفة ... كنت أريد أن أمسك بيد ابنتي وهي تضع مولودها الأول ... فلا شك أن ذلك سيسهل عليها الشأن ... لكن ... كيف ...؟... سامحك الله ياجدي ... ستخجل البنت ... ستصرخ ... وكل الحاضرات سيثرن على هذا التهور من شيخ قارب درجة الجنون ...
ماذا أصابك ؟ ...
أقترب من باب غرفة الولادة ... أسمع أصواتا بعيدة ... أسمع أنين ابنتي ...وسرعان ما يتحول الأنين إلى صراخ ... ثم إلى صمت ...
ماذا لو أدخل ...؟... أفتح الباب وآمرها بأن لا تتألم ... وآمرها بأن تضع مولودها بسرعة ... وبأن تتحلى بالصبر ...
صبر ؟... أي صبر ؟... وهل تحليت به أنت أيها المجنون ؟... وأمشي لأقطع الأمتار المحددة في الرواق ... ثم أعود لأقف أمام الباب ... أخرج إلى البهو ... ثم أقطع فضاء الرواق ... ثم أخرج إلى الممر الذي يفصل المصحة عن السياج الخارجي في الحديقة ...حيث أشتم هواء الفجر النديّ البارد ...
فجر؟... ولماذا لم أصلّ الفجر إلى الآن ؟... فأطلب عون إلاهي وتوفيقه ؟...
إنني توضأت قبل الخروج من البيت استعدادا للصلاة ...
أدّيت ركعتي الفجر ... ثم لبست الحذاء من جديد ... لأذرع الرواق جيئة وذهابا ... ولأعيد الإستماع إلى نفس الأصوات ...
خرجت من المصحة ... وحاذيت جدار غرفة الولادة ...واقتربت من المكان الذي توجد فيه طاولة الولادة ... لأسمع كل شيء وكأنني داخل الغرفة .... لم يكن يفصلني عن الغرفة غير زجاج التعتيم المثبت في النافذة ...
- إيمان ... لا تصرخي ... إيمان ، أنت عاقلة صبورة ... ساعدينا ... ادفعي معنا ... تنفّسي بعمق ... ثم ادفعي معنا ... اِدفعي ... لقد أخذ الجنين مجراه ...إنه يخرج ... ادفعي ... أحسنت ...
لا تصرخي ، فالصراخ يشنجك ... ونحن نريدك أن تسترخي ... ليخرج الصغير بصورة طبيعية ... أه ...
عاد الطفل ... انتهى عارض الوجع ... سيحاول الخروج من جديد ... استعدّي ...
كانت هذه كلمات القابلة المناوبة في تلك الليلة ... الآنسة حنان السويسي ...
أسمعها وكأنها بجواري ...ولقد أعجبتني نصائحها وطريقة عملها ...
حتى أنني كنت خارج الغرفة أنا أيضا أستجيب ... وأتنفس ... وأضغط ... وأسترخي ... وأدفع ...وأشارك بكل أعضائي في إنجاب الحفيد الجديد الذي سيجعلني جدا ... وسيجعل زوجتي جدة ...
كدت أهتف بابنتي من وراء الشباك : تذكري نصائحي ... استجيبي لأقوال القابلة ... استعدي ...
ثم تماسكت وقلت : لم لا أعود للصلاة ؟... لم أكمل ركعتي الصبح ...
وتوجهت إلى نفس الغرفة التي صليت فيها قبلا ...
كبرت وبدأت في تلاوتي فانهالت دموع عيني وأنا أقرأفاتحة الكتاب ... ما أحوجني إلى عنايتك أيها الرحمان الرحيم ... وتواصل سيل الدموع الغزير ... وتواصلت تلاواتي وتضرعاتي ... ودعواتي ...
ما أعظم معجزة الولادة ... ما أعظم معجزة الولادة ... ما أعظم معجزة الولادة ...
عدت إلى نفس المكان بعد التسليم ... وراء الزجاج المعتم ...
فلم أعتبر ذلك ذنبا أو تصنتا غير مشروع ...
لم أتردد ولم أفكر في الأمر أصلا ...
عاودت القابلة نفس النصائح ... التحقت بعارض الوجع في الوقت المناسب ... سمعت زفرات إيمان وهي تحاول الدفع ... وتصبر على الألم ... وتتحمل وتتحمل ... فعاودتني الدموع ...
ما أعظم هذا الموقف ... لقد كنت في أقسى حالات التأثر والخوف والرجاء ... لا أذكر أنني مررت بهذه الحالة إلا عند وفاة والدي ووالدتي ...
ما أشبه لحظة الولادة بلحظة الموت ...
أيقظتني الغمغمات والأنات من خواطري ...فعدت إلى التصنت من جديد ...
إيمان ... اسمعي جيدا ...سيكون هذا العارض الأخير ... تماسكي واصبري ...واضغطي جيدا ... احذري الصراخ ... تنفسي بعمق ... ثم اضغطي بقوة ... ها إن الجنين تحرك ... ها إنه يُطل ...
الخفقان يشتد على قلبي ...
العبوس والتجهم يكتنفان تقاسيم وجهي ...
الإنتظار والترقب ...
ما أعظم هذه اللحظات ، وما أغباني وما أجهلني إذ لم أخاطب صهري منذ البداية ليعيشها لحظة بلحظة ... فيتمتع بها ... ويعتبر منها ...
الحمد لله ... خرج ... نزل ... وصل ... الضغطة الأخيرة ...
بطلة أنت يا إيمان ... قليلة المثيلات في بنات جنسك ...
أحسننننننننننننت ... أحسنننننننننننت ...
وتعالت صرخة المولود الجديد ... فخفق معها الفؤاد راحة وطربا وسعادة ...
وتحير نزيف الدموع من جديد ... وخنقتني عبرات الفرح ... وسمعت رنين الزغاريد في المصحة ... تختلط بصراخ الجنين الذي أصبح رضيعا ...
الآن يأخذ حفيدي أنفاسه الأولى من الدنيا ... ويصرخ محتجا لأنه أصبح مجبرا على التنفس ليعيش ...
وقد كانت ابنتي تتنفس عنه قبل نزوله ... سبحان الله ...
دخلت إلى المصحة ... طرقت باب غرفة الولادة ... أريد تهنئة ابنتي على شجاعتها ، ورسم القبلة الأولى على جبين الحفيد ، واسماعه تكبيرة الأذان ...
- لا ، لآ ، مازال الوضع لا يسمح لك بالدخول ...
- عفوا ... طيب ، طيب ... شكرا على دماثة الأخلاق ... شكرا على جهودك ... شكرا على حسن أدائك لعملك ... لا تكفيك عبارات الكون من لغات الدنيا ما تستحقينه من شكر ...
تبادل أفراد العائلتين التهاني والقبلات ...
ووصل الصهر أب الحفيد ...
- مبروك يا أبا منصف ...
- مبروك يا جد منصف ...
تعليق