و أنا أقلب في بعض الكتب و الأوراق القديمة وقعت يدي على كراسة صغيرة، لونها أصفر مع بعض النجمات الزرقاء الصغيرة المتناثرة على الغلاف بكامله. حملتها برفق ، قلبتها بين يدي بشغف و حنين . لونها أصبح باهتا ، و تلك الخربشات الصغيرة على الغلاف بدأت تمحي . خطفني الحنين إلى أزيد من 15 سنة إلى الوراء . فتحت الكراسة التي كنت منذ زمن بعيد أدون فيها بعض الملاحظات و مقاطع من قصائد تعجبني و قولات لبعض الكتاب و المفكرين ، و في الجهة الثانية كنت أكتب كلمات بعض أغاني مارسيل خليفة ، و فرقة العاشقين و احمد قعبور ، و فرقة الطريق ، و فيروز... .
تذكرت كيف كان أخي ، الذي يكبرني ببضع سنوات ، يحضر شرائط صغيرة تحمل لنا أحلاما كبيرة . كان يرجع ليلا من اجتماعات الجمعية الثقافية ( التي كان محظورا علي الذهاب إليها لأنني فتاة) حاملا معه شريطا صغيرا و يقول بشغف : " أحضرت شريطا لأحمد قعبور" ، فألحقه أنا مسرعة إلى الغرفة لنسمع الشريط سويا ، و نحاول معا ترديد الأغاني كي نحفظها.
كم كان العالم صغيرا في أعيننا في ذلك الوقت ، و كم كانت فلسطين قريبة جدا منا ، و كم كان النصر يبدو لنا قريبا و نحن نردد :
فليمسي وطني حرا
فليرحل محتلي فليرحل.
كم كانت أغاني العاشقين تجعلنا نتمنى لو كنا بين الفلسطينيين نحمل الحجارة في وجه العدو ببسالة .
مازالت الصور واضحة في الذاكرة ، أنا و أخي نجلس في تلك الغرفة الصغيرة ، نردد بحماس أغنية " غيفارا مات " للشيخ إمام عيسى ، أنا أردد الكلمات التي أحفظها عن ظهر قلب و أخي يحاول، بفشل ، ضبط الإيقاع بأصابعه النحيلة على الطاولة. كم كانت مثل هذه اللحظات تحملنا إلى جبال أمريكا اللاتينية ، و نتخيل نفسينا نحمل السلاح في وجه كل عدو للإنسانية . و كم تمنيت أنا لو كنت بجانب غيفارا في يوم إعدامه أسند رأسه و أسعفه ، فتتحرك الدموع في عيني و أنا اردد:
يمكن صرخ من الألم
من لسعة النار في الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم
أو ارتعش أو انتشا
كم حملتنا أغاني الشيخ إمام إلى حواري مصر و شوارعها نشارك المصريين صراعهم ضد الاستبداد ، و كفاحهم من أجل الحق في العيش الكريم .
كم كنا مراهقين صغيرين جميلين ، نحمل في قلبينا أسمى مبادئ العالمية ، و أقصى معاني الكونية و نحن نردد :
لا تسألني عن عنوان
لي كل العالم عنوان
أنا في ساحات أمريكا
زنجي يحمل قيثارة
أنا في الهند الصينية
فلاح يحمل غضاره
......
أما أغاني فيروز فقد جعلتنا نعشق لبنان صخرة صخرة ، و شجرة شجرة ، و جبلا جبلا ، و ضيعة ضيعة. كان صوتها الملائكي ينقش في صدرينا جمال طبيعة لبنان و طيبة أهله و شموخ جباله.
بحبك يا لبنان
يا وطني بحبك
بشمالك بجنوبك
بسهلك بحبك
حين اندلعت الحرب في العراق في بداية التسعينيات ، كان أخي تلميذا في الباكلوريا ، و أنا كنت في الأولى ثانوي . كان تلاميذ صف الباكالوريا هم من نظم إضرابا عن الدراسة تضامنا مع الشعب العراقي ، ثم انضم إليهم تلاميذ الصفوف الأخرى . وقفنا في ساحة الثانوية نصرخ ملء حناجرنا ضد العدوان الأمريكي على العراق ، رددنا شعارات كثيرة و أحرقنا العلم الإسرائيلي و العلم الأمريكي . كم كان أخي جميلا بين زملائه و هو يردد شعارات هي في الأصل مقاطع من أغاني حفظناها سويا، أنا و هو . كم اغرورقت عيناي بالدموع و أنا أرى ذلك المشهد الجميل أمامي و أردد :
هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
.....
ثم اختنق صوتي و نزلت الدموع بغزارة . لا أعرف الآن إن كانت دموع فرح ، أم دموع حب لهذا العالم الذي كان قريبا جدا من قلبي.
كنا نحب هذا العالم كثيرا أنا و أخي، كانت خارطته مرتسمة على قلبينا الصغيرين دون حدود أو فواصل . كان العالم قرية صغيرة داخل صدرينا ، نحب جميع من يقطنها لأنهم أهلنا .
لم نتخيل انه سيأتي يوم نسمع فيه الجميع يردد كذبة خانقة اسمها " العالم أصبح قرية صغيرة" ، سرقوا منا حق براءة الاختراع ، دون أن يعطونا أدنى تعويض عن سرقة حقوق التأليف . على أي شيء يستندون من اجل تلفيق مثل هذه الكذبات . هل يقولون إن العالم قرية صغيرة لمجرد أن الإعلام تطور بشكل كبير و أصبحت الأخبار تصلنا طازجة . هل يقولون هذا لمجرد أن إخطبوطا كبيرا اسمه الانترنيت أصبح يوفر لنا حرية الاتصال عبر العالم بسهولة.
هذا لا يكفي ، صحيح أن أهل القرية الصغيرة يتصلون ببعضهم بسهولة و بسرعة ، و تصلهم أخبار بعضهم أيضا بسهولة و بسرعة ، و لكن الأهم من هذا هو أن أهل القرية الصغيرة لا يتركون شخصا منهم ينام جائعا . أهل القرية الصغيرة لا يتركون شخصا منهم عاريا يواجه برد الشتاءات بجلده المتجمد من البرد. أهل القرية الصغيرة لا يشنون الحروب على بعضهم ، أهل القرية الصغيرة يركضون لنجدة المظلوم و إسعاف المجروح و مساعدة المحروم . أهل القرية الصغيرة يصونون أعراض بعضهم البعض . أهل القرية الصغيرة يستقبلون اللاجئ بكل حب و كرم . أين هو العالم اليوم من كل هذا؟
إن ذينك المراهقين الصغيرين الذين كناهما يقفان الآن بكل ثبات و إصرار ليصرخا ملء حنجرتيهما البريئتين : " هذا العالم ليس قرية صغيرة."
تعليق