[align=justify]توطئة :
الهويـة في أبسط تعريفاتها:«مصدر لجميع القيم الاجتماعية والإنسانية على السَّواء» (1) لأنّها توفّر للإنسان الاجتماعي مناخًا عقلانيًّا يجد فيه معنى لأفعاله وتصرُّفاته ومصنوعاته وأفكاره, وهذا يعني أن من طبيعة هذه المسألة أن تكون مصدرا للقيم العقلانية والأخلاقية والسياسية.فهي انتماء يتمظهر ويتعيّن بوطن أو بدين أو بطبقة أو بقومية أو بعقيدة (2), وهذا المركب كفيل بتحقيق التكامل والإحساس بالاستمرارية الزَّمنية, والتنوع والقيم والاستقلال, والثقة بالنفس, والإحساس بالوجود.
لكن هذا التراكم القيمي الذي بعثه تساؤولنا حول مفهوم الهويّة وحدها كقيمة مجرّدة تتماهى وبواعث نفسية داخلية للفرد, زائد مؤثرات ضيقة لا تتجاوز حدود تواجده, تجعلنا نفكّر مرّة أخرى ونحن نتعامل مع هذا المجرّد الغامض والجليّ, القريب والبعيد, السهل والممتنع في آن معًا, ثمّ نتساءل وقد اكتشفنا أن هذا المفهوم تجاوز ذواتنا وحدودنا الضيقة إلى آفاق ومساحات لا سلطة لنا عليها, بل علينا نحن أن نعيد صياغة ذواتنا ومفاهيمنا وفقها:
- هل يستدعي إشكال الهويّة دائما سؤال الآخر؟ والإجابة لن تكون إلا بسؤال جديد:
- هل يمكن أن نعرف هويتنا إلاّ من خلال هذا الآخر؟(3)
يذهب أغلب المفكرين إلى ربط ظهور أزمة الهوّيات من خلال العلاقة المعقدة التي تنشأ بين الذات والآخر المخالف لها, ويترجم هذا ما ذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي" آلان تورانA.TOURAINE " بقولـه"« لا تتأسَّس الهويّة إلاّ بالاعتماد على العلاقة مع الآخر, كما لا نستطيع رفض المبدأ التحليلي الذي استخلصه علماء الأنثروبولوجيا من اللّسانيات مفاده أن العلاقة مع الذات تخضع إلى العلاقة مع الآخر: الاتصال يحددّ الهويّة»(4).
وليكن هذا منطلقنا في البحث عن ملامح الدفاع عن الهوية المصطدمة ب"الآخر"في "بخلاء" الجاحظ, أين تتجلى جدلية الشعوبية والذات العربية المخترقة.
" بخلاء الجاحظ", النص الدّرع:
يمكننا أن ننطلق من تساؤل طرحه" محمّد الأسعد" في مقال بعنوان: " الهوية كنص ممكن", كالآتي:
- ماذا عن النص الذي تأسسّ وأصبح موروثا؟
- أو بمعنى آخر: ألا يحمل هذا الموروث قوالب تدل إلى منحى في الرؤية هو منحى رؤية الشعب الذي أبدعه؟(5)
• عوّدنا الجاحظ على نفَسه الحجاجي الطّويل ومنهجه الجدلي الذي بوّأه مكانة المدافع الأوّل عن قيم العروبة, والممثل الأوّل لرؤية" الشعب", فتجلت أولى مظاهر تصدّ يه "للشعوبية" على مستوى اللغة ، و تحديدا في : " البيان و التبين " فكان حجاج اللغة في مقـابل الشعوبيـة , و نجد الآن حجاج القيم في مقابل الشعوبية كذلك,حيث يصنف الدكتور "طه الحاجري" هذا السبب ضمن دوافع تأليف هذا الكتاب:« وثانيها : ما مكان يسود الجو حينئذ من نزعة شعوبية راحت تحقر ما عرف عند العرب من صفات كريمة وشمائل عظيمة كالكرم مثلا» (6) وهذا الوفاء لثقافة النشأة أكسبته تلك الرؤية الجدلية التي أخذ بها نفسه في التأليف والمناظرة، لأنه إنما يتحاور مع ألسنة أمم أجنبية في إطار حضاري يمس تاريخ الشعوب ويشمل حضارة الأمم، وما أصعب التعدي على حضارة أمة بأكملها، على العنصر العربي السائد، والمنتصر على كبرياء الأكاسرة والقياصرة، الأمر الذي ولّد الرغبة الدفينة لدى العناصر المغلوبة وأبناء الشعوب المفتوحة لأن ينالوا من العرب.(7)
كتاب "البخلاء" بين قيم السرد التراثي (الساخر)، ومراتب الهوية:
أ- هوية العربي في مقابل هوية الشعوبي :
«إنما الجاحظ يتخذ في أغلب الأحيان أسلوب السّرد الذي أتقنه وأحبّه وحمـاه من المزالق»(8)، هكذا يختصر الدكتور "مصطفى ناصف" منهج الجاحظ في عرض القضايا، منهج القص الذي شبهه الدكتور بقطعه لحم ترمى للكلب حتى لا ينبح، لكي نستيقظ للأفكار السابقة التي تشبه الشائعات, اعتمد على الأخبار وأغرانا بأن نترك الأخبـار جانبا(9) .إذا توقفنا عند هذه النقطة أمكننا استعراض المرتبة الأولى للهوية,( قطرية, قومية), ولا بأس هنا أن نجمع الأمرين معا مادامت الواحدة تسلم للأخرى ونختصر الأمر في قصة:«لو خرجت من جلدك لم أعرفك»، بين عراقي( عربي) ومروزي من مرو (فارس):« ومن أعاجيب أهل مرو ما سمعناه من مشيختنا على وجه الدهر, وذلك: أن رجلا من أهل مرو كان لا يزال يحج ويتّجر وينزل على رجل من أهل العراق, فيكرمه ويكفيه مئونته, ثم كان كثيرا ما يقول لذلك العراقي: ليت أني قد رأيتك بمرو حتى أكافئك,لقديم إحسانك, وما تجدد لي من البر في كل قدمة, أما هاهنا, فقد أغناك الله عني.
قال: فعرضت لذلك العراقي بعد دهر طويل حاجة في تلك الناحية، فكان مما هون عليه مكابدة السفر ووحشة الاغتراب أن كان المروزي هنالك, فلما مضى نحوه في ثياب سفره وفي عمامته وقلنسوته وكسائه, ليحط رحله عنده, كما يصنع الرجل بثقته وموضع أنسه, فلما وجده قاعدا في أصحابه, أكب عليه وعانقه, فلم يره أثبته ولا سأل به سؤال من رآه قط, قال العراقي في نفسه: لعل إنكاره إياي لمكان القناع, فرمى بقناعه ، و ابتدأ مساءلته فكان له أنكر. فقال: لعله أن يكون إنما أتي من قبل العمامة, فنزعها ثم انتسب, وجدد مساءلته ، فوجده أشد ما كان إنكارا.قال:فلعله إنما أتي من قبل القلنسوة. وعلم المروزي أنه لم يبق شيء يتعلق به المتغافل والمتجاهل, فقال: لو خرجت من جلدك لم أعرفك(10).
يعرض الجاحظ في النص لخبر أو نادرة, ويقدم عملا قصصيا أو ما يقرب من الأقصوصة وهي شكل من الأشكال السردية,استقاها الجاحظ سماعا وسلسلها في أكثر من مشهد:
1-أن رجلا من مرو من بلاد فارس يأتي العراق في تجارة فينزل ضيفا على رجل عراقي, فيحسن هذا الأخير استقباله والاحتفاء به, ويتكرر اللقاء بين الرجلين.
2-يرد المرزوي على إحسان العراقي إليه بتبيان امتنانه له, ويمنيه بمبادلته المعروف إدا تهيأ له الحضور إلى مرو.
3-تعرض حاجة للعراقي فيسافر إلى مرو ويتذكر فيها وعود صاحبه المروزي فيتوق إلى لقائه ليذهب عنه عناء السفر ووحشة الغربة .
4- يلتقي الصاحبان المروزي والعراقي وتتعمّق العقدة وإذا التجاهل المطبق .
5-يلحُّ العراقي على إنهاء جهل أو تجاهل المروزي له ويصر هذا الأخير على استمراره في جهله أو تنكّره للعراقي.
6- يخرج المروزي أخيرا عن صمته واصطناع جهله للعراقي ويفضي بما يضمره لزائره الضيف قائلاً له: لو خرجت من جلدك لم أعرفك(11) .
إنَ الجاحظ عندما سخر من البخلاء وعرَىَ نفوسهم ،إنَما كان يصدرعن نزعته العربية وعن دأبه في التصدَي للشعوبية،ونجد في هذه الأقصوصة قوميتان:
- عربَية ترتبط دائمًا بالكرم والعطاء .
- وفارسية مرتبطة بالبخل والإنكار كما صورها الجاحظ .
ونجد تمييزا قطريًا، أو هويتان قطريتان:
- قطرية عراقية عربية.
- وقطرية مروزيّة فارسية؛ مع أن مرو خرسان من الأقطار الأعجمية التي دخلت حوزة العرب واعتنقت الإسلام .
والبخل في أصله ظاهرة إنسانية شائعة لدى كل المجتمعات على تفاوت فيها، لكننا نجد أن أغلب الذين عمد الجاحظ إلى تصويرهم كانوا من الفرس، وهذا يؤكد الوحدة الشعورية
والفكرية التي كان يصدر عنها لدى إبرازها في هذا الشكل.
ب- هوية من نوع آخر: هوية الكلمة بين البداوة و المدنية: ذهب الدكتور:" مصطفى ناصف" إلى أن "الجاحظ" :« اعتمد على الأخبار وأغرانا بأن نترك الأخبار جانبا»(12)، لأنه وجد أن الجاحظ أرادنا أن نحولها إلى أفكار، يريدنا أن نعيد قراءة واقع الألفاظ والقيم في ظل متغيرات جديدة، يريدنا أن نقرأ لفظتي البخل والبخلاء بعيدا عن قيم البداوة، أن نقرأها تحت ظلال المدينة، في مجتمع حضاري تغيرت أعرافه، وتداخلت فيه المستجدات بالموروثات:« إذا قرأنا البخلاء قراءة درس أدركنا أننا بُدَاة إذا أكثرنا من استعمال كلمتي البخل والبخلاء...ربما تأثرنا بالتلقين والوراثة، وربما ارتاب الجاحظ في الأمر كله، ومن خلال وقائع مادية كثيرة يبعد الجاحظ شيئا فشيئا أو يرتاب أو يصور ما اعترى الكلمة من تطور لا نذكره.
إذا تأملنا قصص الجاحظ وجدنا كلمة البخلاء تطلق على شيء لا علاقة له بالعرف البدوي القديم، كلمة البخل في كتاب الجاحظ ربما تعني قواعد التعامل في المدينة ومفارقاتها ، كان الجاحظ يدرك أن الشعراء يستعملون كلمات الكرم والشجاعة في معان لم تخطر للبداة. كان الكريم في المدينة ينفق من مال غيره أو يضع الإنفاق في موضع الدعاية والسلطة، أو يحب أن يقال عنه إنه بدوي أصيل. كانت عبارة الكرم أو الشجاعة قد فقدت بعض ارتباطها بالنجدة والإغاثة والتضحية، ومع ذلك فقد خيل لنا أن كلمات كثيرة بقيت على حالها ، وقد حدثنا الجاحظ أن الناس يختلفون في مدلولات الكلمات. وأن« البخلاء » سموا البخل إصلاحا، والشح اقتصادا.وحاموا على المنع وسموه الحزم. هذه عبارات ترسل على طريقة الجاحظ. ونحن نقرؤها في عجلة فلا نكاد نفترض أن حياة الكلمات الأساسية أوسع وأعقد مما نتصور. يتحدث الجاحظ عن سيكولوجية ما نسميه البخل ، وما يحيط به من خوف ورغبة مستمرة في الكسب، وفي هذا السياق توشك كلمة البخلاء أن تلتبس بالأغنياء، ثم يقول الجاحظ فقد أجمعت الأمة على ذم البخل. وواضح أن الجاحظ ينبه هنا إلى استعمال الكلمة في التقاعس عن الخير العام والنهوض بالحقوق والواجبات التي هي أكبر من بعض استعمالات كلمتي الكرم والبخل على السواء»(13) .
خاتمة :
كتاب "البخلاء"،ردٌ حضاري تقييمي، لا يتوقف فيه"الجاحظ" عند الدفاع عن قيم العروبة الأصيلة فيها (الكرم)، بل يدعونا إلى إعادة النظر في مفاهيم هذه القيم في ظل متغيرات حضارية جديدة تسمى:" المدنيَّة " بكل ما تنضح به من مظاهر أصيلة ودخيلة، عربية وأجنبية(شعوبية).
فطرح الهوية في هذا الكتاب أعمق وأكبر من أن نحصره في دفاع ساذج عن قيمة موجودة بهجوم سلبي أو معاكس، إنه طرح سبق به "الجاحظ" عصره، أعطانا رؤية أخرى للهوية التي لا تنحصر في قيم الذات في مواجهة الآخر، بل هي قيم الذات الواحدة في مواجهة قيمها نفسها ولكن تحت مظلَّة جديدة تتجدد معها بلا رقابة على معجمها الداخلي لغويا كان أو قيميًّا.
المراجـع :1
- أدونيس العكره، البحث عن الهوية والعنف، الفكر العربي المعاصر، مجلة العلوم الإنسانية والحضارية،ع17 ،كانون الأول 1981، كانون الثاني 1982، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص:93.
2- نفسه، ص: 93.
3- بشير مفتي، الهوية المجروحة، أسئلة الذات المتناحرة، مجلة الاختلاف، دورية تصدر عن رابطة الاختلاف، ع 2، سبتمبر 2002 م، ص: 52.
4- عمار لخوص، الهوية والوهم، الهوية الإسلامية والهوية العربية من منظور أنثروبولوجي، المرجع نفسه، ص: 56.
5- محمد الأسعد، الهوية كنص ممكن، الفكر العربي المعاصر، ع 17، ص: 98.
6- فتحي محمد معوض أبو عيسى، الفكاهة في الأدب العربي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1970، ص: 240.
7- عبد الله التطاوي، مستويات الحوار في فنون النثر العباسي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، جامعة القاهرة، مصر، 1995 م، ص: 73.
8- مصطفى ناصف، محاورات مع النثر العربي، عالم المعرفة، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 218، فبراير/شباط 1997م ص: 76.
9- نفسه، ص ص 106، 107.
10- الجاحظ، البخلاء، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، د ط، د ت ، ص: 37.
11- كاظم حطيط، أعلام وروّاد في الأدب العربي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، لبنان، د ط، 1987 م، ص ص: 61، 62.
12- مصطفى ناصف، نفسه، ص: 107.
13- نفسه، ص ص: 107، 108.[/align]
الهويـة في أبسط تعريفاتها:«مصدر لجميع القيم الاجتماعية والإنسانية على السَّواء» (1) لأنّها توفّر للإنسان الاجتماعي مناخًا عقلانيًّا يجد فيه معنى لأفعاله وتصرُّفاته ومصنوعاته وأفكاره, وهذا يعني أن من طبيعة هذه المسألة أن تكون مصدرا للقيم العقلانية والأخلاقية والسياسية.فهي انتماء يتمظهر ويتعيّن بوطن أو بدين أو بطبقة أو بقومية أو بعقيدة (2), وهذا المركب كفيل بتحقيق التكامل والإحساس بالاستمرارية الزَّمنية, والتنوع والقيم والاستقلال, والثقة بالنفس, والإحساس بالوجود.
لكن هذا التراكم القيمي الذي بعثه تساؤولنا حول مفهوم الهويّة وحدها كقيمة مجرّدة تتماهى وبواعث نفسية داخلية للفرد, زائد مؤثرات ضيقة لا تتجاوز حدود تواجده, تجعلنا نفكّر مرّة أخرى ونحن نتعامل مع هذا المجرّد الغامض والجليّ, القريب والبعيد, السهل والممتنع في آن معًا, ثمّ نتساءل وقد اكتشفنا أن هذا المفهوم تجاوز ذواتنا وحدودنا الضيقة إلى آفاق ومساحات لا سلطة لنا عليها, بل علينا نحن أن نعيد صياغة ذواتنا ومفاهيمنا وفقها:
- هل يستدعي إشكال الهويّة دائما سؤال الآخر؟ والإجابة لن تكون إلا بسؤال جديد:
- هل يمكن أن نعرف هويتنا إلاّ من خلال هذا الآخر؟(3)
يذهب أغلب المفكرين إلى ربط ظهور أزمة الهوّيات من خلال العلاقة المعقدة التي تنشأ بين الذات والآخر المخالف لها, ويترجم هذا ما ذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي" آلان تورانA.TOURAINE " بقولـه"« لا تتأسَّس الهويّة إلاّ بالاعتماد على العلاقة مع الآخر, كما لا نستطيع رفض المبدأ التحليلي الذي استخلصه علماء الأنثروبولوجيا من اللّسانيات مفاده أن العلاقة مع الذات تخضع إلى العلاقة مع الآخر: الاتصال يحددّ الهويّة»(4).
وليكن هذا منطلقنا في البحث عن ملامح الدفاع عن الهوية المصطدمة ب"الآخر"في "بخلاء" الجاحظ, أين تتجلى جدلية الشعوبية والذات العربية المخترقة.
" بخلاء الجاحظ", النص الدّرع:
يمكننا أن ننطلق من تساؤل طرحه" محمّد الأسعد" في مقال بعنوان: " الهوية كنص ممكن", كالآتي:
- ماذا عن النص الذي تأسسّ وأصبح موروثا؟
- أو بمعنى آخر: ألا يحمل هذا الموروث قوالب تدل إلى منحى في الرؤية هو منحى رؤية الشعب الذي أبدعه؟(5)
• عوّدنا الجاحظ على نفَسه الحجاجي الطّويل ومنهجه الجدلي الذي بوّأه مكانة المدافع الأوّل عن قيم العروبة, والممثل الأوّل لرؤية" الشعب", فتجلت أولى مظاهر تصدّ يه "للشعوبية" على مستوى اللغة ، و تحديدا في : " البيان و التبين " فكان حجاج اللغة في مقـابل الشعوبيـة , و نجد الآن حجاج القيم في مقابل الشعوبية كذلك,حيث يصنف الدكتور "طه الحاجري" هذا السبب ضمن دوافع تأليف هذا الكتاب:« وثانيها : ما مكان يسود الجو حينئذ من نزعة شعوبية راحت تحقر ما عرف عند العرب من صفات كريمة وشمائل عظيمة كالكرم مثلا» (6) وهذا الوفاء لثقافة النشأة أكسبته تلك الرؤية الجدلية التي أخذ بها نفسه في التأليف والمناظرة، لأنه إنما يتحاور مع ألسنة أمم أجنبية في إطار حضاري يمس تاريخ الشعوب ويشمل حضارة الأمم، وما أصعب التعدي على حضارة أمة بأكملها، على العنصر العربي السائد، والمنتصر على كبرياء الأكاسرة والقياصرة، الأمر الذي ولّد الرغبة الدفينة لدى العناصر المغلوبة وأبناء الشعوب المفتوحة لأن ينالوا من العرب.(7)
كتاب "البخلاء" بين قيم السرد التراثي (الساخر)، ومراتب الهوية:
أ- هوية العربي في مقابل هوية الشعوبي :
«إنما الجاحظ يتخذ في أغلب الأحيان أسلوب السّرد الذي أتقنه وأحبّه وحمـاه من المزالق»(8)، هكذا يختصر الدكتور "مصطفى ناصف" منهج الجاحظ في عرض القضايا، منهج القص الذي شبهه الدكتور بقطعه لحم ترمى للكلب حتى لا ينبح، لكي نستيقظ للأفكار السابقة التي تشبه الشائعات, اعتمد على الأخبار وأغرانا بأن نترك الأخبـار جانبا(9) .إذا توقفنا عند هذه النقطة أمكننا استعراض المرتبة الأولى للهوية,( قطرية, قومية), ولا بأس هنا أن نجمع الأمرين معا مادامت الواحدة تسلم للأخرى ونختصر الأمر في قصة:«لو خرجت من جلدك لم أعرفك»، بين عراقي( عربي) ومروزي من مرو (فارس):« ومن أعاجيب أهل مرو ما سمعناه من مشيختنا على وجه الدهر, وذلك: أن رجلا من أهل مرو كان لا يزال يحج ويتّجر وينزل على رجل من أهل العراق, فيكرمه ويكفيه مئونته, ثم كان كثيرا ما يقول لذلك العراقي: ليت أني قد رأيتك بمرو حتى أكافئك,لقديم إحسانك, وما تجدد لي من البر في كل قدمة, أما هاهنا, فقد أغناك الله عني.
قال: فعرضت لذلك العراقي بعد دهر طويل حاجة في تلك الناحية، فكان مما هون عليه مكابدة السفر ووحشة الاغتراب أن كان المروزي هنالك, فلما مضى نحوه في ثياب سفره وفي عمامته وقلنسوته وكسائه, ليحط رحله عنده, كما يصنع الرجل بثقته وموضع أنسه, فلما وجده قاعدا في أصحابه, أكب عليه وعانقه, فلم يره أثبته ولا سأل به سؤال من رآه قط, قال العراقي في نفسه: لعل إنكاره إياي لمكان القناع, فرمى بقناعه ، و ابتدأ مساءلته فكان له أنكر. فقال: لعله أن يكون إنما أتي من قبل العمامة, فنزعها ثم انتسب, وجدد مساءلته ، فوجده أشد ما كان إنكارا.قال:فلعله إنما أتي من قبل القلنسوة. وعلم المروزي أنه لم يبق شيء يتعلق به المتغافل والمتجاهل, فقال: لو خرجت من جلدك لم أعرفك(10).
يعرض الجاحظ في النص لخبر أو نادرة, ويقدم عملا قصصيا أو ما يقرب من الأقصوصة وهي شكل من الأشكال السردية,استقاها الجاحظ سماعا وسلسلها في أكثر من مشهد:
1-أن رجلا من مرو من بلاد فارس يأتي العراق في تجارة فينزل ضيفا على رجل عراقي, فيحسن هذا الأخير استقباله والاحتفاء به, ويتكرر اللقاء بين الرجلين.
2-يرد المرزوي على إحسان العراقي إليه بتبيان امتنانه له, ويمنيه بمبادلته المعروف إدا تهيأ له الحضور إلى مرو.
3-تعرض حاجة للعراقي فيسافر إلى مرو ويتذكر فيها وعود صاحبه المروزي فيتوق إلى لقائه ليذهب عنه عناء السفر ووحشة الغربة .
4- يلتقي الصاحبان المروزي والعراقي وتتعمّق العقدة وإذا التجاهل المطبق .
5-يلحُّ العراقي على إنهاء جهل أو تجاهل المروزي له ويصر هذا الأخير على استمراره في جهله أو تنكّره للعراقي.
6- يخرج المروزي أخيرا عن صمته واصطناع جهله للعراقي ويفضي بما يضمره لزائره الضيف قائلاً له: لو خرجت من جلدك لم أعرفك(11) .
إنَ الجاحظ عندما سخر من البخلاء وعرَىَ نفوسهم ،إنَما كان يصدرعن نزعته العربية وعن دأبه في التصدَي للشعوبية،ونجد في هذه الأقصوصة قوميتان:
- عربَية ترتبط دائمًا بالكرم والعطاء .
- وفارسية مرتبطة بالبخل والإنكار كما صورها الجاحظ .
ونجد تمييزا قطريًا، أو هويتان قطريتان:
- قطرية عراقية عربية.
- وقطرية مروزيّة فارسية؛ مع أن مرو خرسان من الأقطار الأعجمية التي دخلت حوزة العرب واعتنقت الإسلام .
والبخل في أصله ظاهرة إنسانية شائعة لدى كل المجتمعات على تفاوت فيها، لكننا نجد أن أغلب الذين عمد الجاحظ إلى تصويرهم كانوا من الفرس، وهذا يؤكد الوحدة الشعورية
والفكرية التي كان يصدر عنها لدى إبرازها في هذا الشكل.
ب- هوية من نوع آخر: هوية الكلمة بين البداوة و المدنية: ذهب الدكتور:" مصطفى ناصف" إلى أن "الجاحظ" :« اعتمد على الأخبار وأغرانا بأن نترك الأخبار جانبا»(12)، لأنه وجد أن الجاحظ أرادنا أن نحولها إلى أفكار، يريدنا أن نعيد قراءة واقع الألفاظ والقيم في ظل متغيرات جديدة، يريدنا أن نقرأ لفظتي البخل والبخلاء بعيدا عن قيم البداوة، أن نقرأها تحت ظلال المدينة، في مجتمع حضاري تغيرت أعرافه، وتداخلت فيه المستجدات بالموروثات:« إذا قرأنا البخلاء قراءة درس أدركنا أننا بُدَاة إذا أكثرنا من استعمال كلمتي البخل والبخلاء...ربما تأثرنا بالتلقين والوراثة، وربما ارتاب الجاحظ في الأمر كله، ومن خلال وقائع مادية كثيرة يبعد الجاحظ شيئا فشيئا أو يرتاب أو يصور ما اعترى الكلمة من تطور لا نذكره.
إذا تأملنا قصص الجاحظ وجدنا كلمة البخلاء تطلق على شيء لا علاقة له بالعرف البدوي القديم، كلمة البخل في كتاب الجاحظ ربما تعني قواعد التعامل في المدينة ومفارقاتها ، كان الجاحظ يدرك أن الشعراء يستعملون كلمات الكرم والشجاعة في معان لم تخطر للبداة. كان الكريم في المدينة ينفق من مال غيره أو يضع الإنفاق في موضع الدعاية والسلطة، أو يحب أن يقال عنه إنه بدوي أصيل. كانت عبارة الكرم أو الشجاعة قد فقدت بعض ارتباطها بالنجدة والإغاثة والتضحية، ومع ذلك فقد خيل لنا أن كلمات كثيرة بقيت على حالها ، وقد حدثنا الجاحظ أن الناس يختلفون في مدلولات الكلمات. وأن« البخلاء » سموا البخل إصلاحا، والشح اقتصادا.وحاموا على المنع وسموه الحزم. هذه عبارات ترسل على طريقة الجاحظ. ونحن نقرؤها في عجلة فلا نكاد نفترض أن حياة الكلمات الأساسية أوسع وأعقد مما نتصور. يتحدث الجاحظ عن سيكولوجية ما نسميه البخل ، وما يحيط به من خوف ورغبة مستمرة في الكسب، وفي هذا السياق توشك كلمة البخلاء أن تلتبس بالأغنياء، ثم يقول الجاحظ فقد أجمعت الأمة على ذم البخل. وواضح أن الجاحظ ينبه هنا إلى استعمال الكلمة في التقاعس عن الخير العام والنهوض بالحقوق والواجبات التي هي أكبر من بعض استعمالات كلمتي الكرم والبخل على السواء»(13) .
خاتمة :
كتاب "البخلاء"،ردٌ حضاري تقييمي، لا يتوقف فيه"الجاحظ" عند الدفاع عن قيم العروبة الأصيلة فيها (الكرم)، بل يدعونا إلى إعادة النظر في مفاهيم هذه القيم في ظل متغيرات حضارية جديدة تسمى:" المدنيَّة " بكل ما تنضح به من مظاهر أصيلة ودخيلة، عربية وأجنبية(شعوبية).
فطرح الهوية في هذا الكتاب أعمق وأكبر من أن نحصره في دفاع ساذج عن قيمة موجودة بهجوم سلبي أو معاكس، إنه طرح سبق به "الجاحظ" عصره، أعطانا رؤية أخرى للهوية التي لا تنحصر في قيم الذات في مواجهة الآخر، بل هي قيم الذات الواحدة في مواجهة قيمها نفسها ولكن تحت مظلَّة جديدة تتجدد معها بلا رقابة على معجمها الداخلي لغويا كان أو قيميًّا.
المراجـع :1
- أدونيس العكره، البحث عن الهوية والعنف، الفكر العربي المعاصر، مجلة العلوم الإنسانية والحضارية،ع17 ،كانون الأول 1981، كانون الثاني 1982، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص:93.
2- نفسه، ص: 93.
3- بشير مفتي، الهوية المجروحة، أسئلة الذات المتناحرة، مجلة الاختلاف، دورية تصدر عن رابطة الاختلاف، ع 2، سبتمبر 2002 م، ص: 52.
4- عمار لخوص، الهوية والوهم، الهوية الإسلامية والهوية العربية من منظور أنثروبولوجي، المرجع نفسه، ص: 56.
5- محمد الأسعد، الهوية كنص ممكن، الفكر العربي المعاصر، ع 17، ص: 98.
6- فتحي محمد معوض أبو عيسى، الفكاهة في الأدب العربي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1970، ص: 240.
7- عبد الله التطاوي، مستويات الحوار في فنون النثر العباسي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، جامعة القاهرة، مصر، 1995 م، ص: 73.
8- مصطفى ناصف، محاورات مع النثر العربي، عالم المعرفة، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 218، فبراير/شباط 1997م ص: 76.
9- نفسه، ص ص 106، 107.
10- الجاحظ، البخلاء، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، د ط، د ت ، ص: 37.
11- كاظم حطيط، أعلام وروّاد في الأدب العربي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، لبنان، د ط، 1987 م، ص ص: 61، 62.
12- مصطفى ناصف، نفسه، ص: 107.
13- نفسه، ص ص: 107، 108.[/align]
تعليق