الغـــــــــــــول

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    الغـــــــــــــول

    [align=justify] الغـــــــول

    لم يطل انتظار العربي أمام شباك التأشيرات . كان قد أعد للأمر عدته ، وجمع في صبر و أناة جميع الوثائق ، فبات الآن قاب قوسين أو أدنى من السفر خارج البلد ولقاء نجله الوحيد ، بعد أن تعذر القدوم على هذا الأخير . وعاد ليخرج كما دخل من البوابة الكبرى ، مرفوع الهامة ، هادئ الأعصاب ، رغم ابتسامة السخرية و المرارة التي طفت على شفتيه عقب انتهاء أسئلة الموظف الماراطونية ... خرج وعشرات العيون ترمقه في فضول امتزج فيه الشك بالغبطة ، بل و بالحسد أيضا . إذن لم يبق سوى الانطلاق عبر الفضاء .. إنه يتعجل اللقاء ، ولذا فضل عدم ركوب الحافلة . فساعة زمنية واحدة خير من قضاء يوم كامل عبر طرقات الأندلس الجرداء رغم جودتها ، ومسالك Costa bravaالموحشة . يكفيه ما عاناه من الانتظار المضني الطويل منذ أسابيع عبر ممرات القنصلية الباردة بوجوه موظفيها الجامدة .
    العاشرة صباحا . يبتعد شيئا فشيئا عن الأرض الصماء المترامية الأطراف . الجو صحو جميل رغم برودته . تلوح له زرقة المياه وهي تلامس المدينة الراكدة . يمتد أسفله المضيق الغول ، كما يسميه ، إلى هناك ، حيث مهوى النفوس و محط آمال الوافدين على المنطقة من كل حدب وصوب . حمدا لله أن عين الغول نامت وغفلت عن فلذة كبده . لكم ترجاه أن يلغي فكرة الرحيل عن ذهنه ، دون جدوى . فالسيل جارف لم يستطع الشاب الصمود أمامه وهو يرى الجحافل تتقاطر على المضيق رغم الموت .
    يتأمل المدينة محاولا تحديد بعضا من معالمها و تمييز موقعها في خضم هذا البياض الكاسح . يبدو له الشاطئ كقوس أصفر. لا أثر لأية حركة . "ما أتفه الإنسان !".. قال ذلك وهو يتذكر الموظف ذا الكرش المنتفخ و القامة الفارعة وهو يأمر وينهى، و يرغي ويزبد و يزمجر لأدنى سبب ، فترن حيطان القنصلية لجلجلة صوته الأجش ، وتتطلع إليه عيون المصطفين المتراصين في رهبة وتضرع ووجوم وترقب . يمر الوقت و الأجساد تارة مقتعدة البلاط في سهوم ، وتارة أخرى جالسة القرفصاء ، أو واقفة في إعياء . في العيون أمل و يأس ورجاء وقنوط ونفاذ صبر ، و نذير بالانفجار.
    ينفض عن ذهنه كل ذلك ويركز انتباهه على من حوله . الدفء يسود داخل الطائرة ، والمسافرون يأكلون ويهمهمون ويتكلفون الضحك والابتسام . هناك شيء يعكر الجو و يشحنه . الكل يترقب متوترا . متى سينتهي الكابوس ؟ وكيف غابت عن الأذهان عواقب هذه المغامرة الغير محسوبة حتى انطلقت هذه الرحلة ؟.. بجانبه شخص أرخى قبعته على وجهه ونام . شخيره يعلو شيئا فشيئا . كيف استطاع أن ينام ؟ تمر المضيفة موزعة المرطبات . تنظر إليه قليلا ثم تتابع سيرها . استشف من نظرتها ، رغم قصر مدتها ، توجسا و استغرابا وهي تتفحص طربوشه الأحمر وجلبابه الأنيق . ابتسم وهو يعاود النظر إلى الفضاء البهيج عبر الكوة.." ماذا يدور بخلدها ؟.."
    أحس بجاره يتحرك فالتفت إليه ليجده يتثاءب و قد انفرجت شفتاه عن أسنان معظمها ذهبية . بادره بالتحية هامسا :" السلام عليكم"
    قطع الآخر تثاؤبه فجأة ونظر إليه بدهشة متمتما :
    -.. السلام..
    صمت ولم يزد شيئا . ألم يتوقع التحية من شخص لا يعرفه ؟ .. أيكون أجنبيا ؟ لكنه رد السلام . ثم إن سحنته العربية لا تخفى على أحد . فلم الدهشة إذن . يطول الصمت فيعاود الالتفات إليه خلسة . يحس بالملل . لقد تأخر موعد الوصول . من له بمحدث ينسيه عناء الانتظار ؟ .. يحاول أن يغفو ، لكنه لا يستطيع . حتى القراءة لم يجد فيها متعته .
    - حضرتك مسافر إلى برشلونة ؟
    - نعم.. و لكن سوف أتابع الرحلة غدا إلى باريس ... وحضرتك ؟
    - أقصد برشلونة ..
    رمقه الآخر بنفس النظرة التي لمحها في عيون المضيفة منذ لحظات . هل يثير طربوشه الانتباه إلى هذا الحد ؟ هاهي الفتاة تعود أدراجها وتبتسم له من جديد . لم يأبه للأمر .. فهذا جزء من وظيفتها . كاد يسأل جاره من جديد لكن صوتا رخيما قطع عليه حبل أفكاره معلنا عن قرب النزول بمطار برشلونة . دبت الحركة في الطائرة ، وتعالى الصياح وكثرت المناداة . ود لو يتفحص الوجوه عساه يأنس برفقة أحد في زحمة المطار رغم توقع انتظار نجله له . و تسنى له النظر إلى الراكبين وهم يتدافعون للخروج من باب الطائرة و النزول مهرولين لا يلوون على شيء ، و كأنهم لم يصدقوا حقيقة وصولهم بسلام . أما هو فلم يندفع و لم يهرول ، بل ثبت في مكانه حتى كادت تخلو الطائرة من جميع راكبيها . عندئذ نهض و هو يصلح شأنه و يعدل طربوشه . و أمام الباب وقفت المضيفة مبتسمة . حياها بإيماءة من رأسه فتمتمت قائلة :
    - أبيت الليلة في برشلونة .." Carretera de Sarria "... اسأل عن " Lola "
    رفع حاجبيه مندهشا فاحمر وجهها وهي تحكم ربطة عنقها الحمراء . ونزل السلم يكاد يتعثر في أذيال جلبابه . ماذا تقصد بقولها ؟ "هل أبدو أنيقا مغريا إلى هذا الحد ؟ .. أين أنت يا أم كلثوم لتري بعينيك أني أضاهيك فتنة وجاذبية ؟
    نزل ليصطف من جديد ، منتظرا .. حركة الجمركيين بطيئة وتفتيشهم دقيق ، وتفحصهم في الوجوه مبالغ فيه . أما أسئلتهم فهي لا تنتهي.. و الويل كل الويل لمن يبدي اعتراضا أو تذمرا . أحس بالإعياء والتفت باحثا عن مقعد فلم يجده . انحنى مسندا ظهره للحائط . الممر يعج بالمسافرين و الصياح يصم الآذان . كان أحدهم يندفع هائجا في مشادة كلامية مع الشرطة . تأمله قليلا ثم أحنى رأسه .
    - منظر مقزز.. أليس كذلك ؟
    التفت ليجد رفيقه في الطائرة منتصبا أمامه . نسي عياءه وشمله سرور خفي ، و أجاب :
    - حقا ... لكن كلمة " Mauro"...
    - منظره يثير الاشمئزاز.. كم هو وسخ .. ماذا لو أصلح شأنه قبل السفر ؟ .. يستحق أكثر من ذلك .
    ابتسم العربي دون أن يرد .
    - محسوبك سيد متولي نبوي .
    - تشرفت... و أنا العربي سلام .. لا شك أنك من مصر .
    - وحضرتك مغربي .. بلدكم جميل .. لكن قل لي.. مالك على هذه الوضعية ؟
    - أكاد يغمى علي من الإعياء .. لم يبالوا بنا كأناس ..انظر هناك..
    كان رجال الشرطة يهدئون من روع الشخص الهائج . يبدو أنهم اقتنعوا أخيرا بحقه في اللحاق بالمجموعة التي رافقته أثناء الرحلة . يكثر اللغط وتبح الحناجر وتتدافع المناكب تحت أنظار الشرطة الساهرة المراقبة لكل شاذة وفذة .
    - عجبا.. رث الثياب و اللسان.. أشعث أغبر.. وينال ما يريد دون عناء سوى الصراخ كالحمير .
    - ربما يكون على حق.. أو أن الآخرين جبناء .
    - جبناء ؟... أمام هذا الوسخ .. لا يمكن تصنيفه كآدمي .. فبالأحرى..
    ابتسم العربي و قاطع المصري بهدوء ، متجنبا استفزازه :
    - لا تنس أنه من بلدي...
    - حاشاك أن تقارن نفسك به .. رغم..
    علت الدهشة وجهه وتساءل :
    - رغم ماذا ؟
    تردد المصري قليلا ثم أردف قائلا :
    - اسمع.. لقد احترمتك مذ رأيتك .. أنت رجل كويس .. متخلق و.. كما يبدو .. متحضر . لم تفتني تلك النظرات مع ...- وغمز بعينه – لقد أحسنت بهذا الطربوش الأحمر.. لكن.. كان يمكنك التخلي عن هذا الجلباب ..
    - لا أفهم.. الطربوش الأحمر.. الجلباب.. مالهما .. هل فيهما ما يثير ؟
    ضحك سيد متولي حتى لفت إليه الأنظار ثم قال :
    - يا سيدي.. أنت في أوربا ، وكان عليك التخلي عن جلبابك . فالشاطر من يلبس لكل حال لبوسها . لكن طربوشك يشفع لك . أراك لم تفهم بعد ... أم أنك تتصنع ذلك .. يا لك من ثعلب ! .. حقا .. المغاربة أذكياء .. تقريبا مثلنا نحن المصريون ..
    نظر إليه مستفهما لكن الآخر ابتعد مقهقها . فكر في قوله لكن صوتا صارما رن عبر أرجاء الممر :" لاربي سيام .. لاربي سيام.. يطلب من لاربي سيام التوجه إلى المكتب رقم 11 .." ران الصمت قليلا ونهض العربي متثاقلا يلتفت مع الملتفتين بحثا عمن يكون المنادى عليه .. الجميع يروم الجديد بعد هذا الانتظار الممل . لكنه كان تواقا لمعرفة ما يعنيه المصري بقوله . بحث عنه فلم يجده .
    و أخيرا جاء دوره . قدم جوازه وحقيبته متنفسا الصعداء . ليس لديه ما يمكن تفتيشه . نظر إليه الشرطي متأملا ثم انحنى على أذن زميله هامسا . شمله إحساس بالانقباض . التفت إلى الباب الخارجي فلمح ابنه . نسي في لحظة تعبه وملله بل و انقباضه ، وود لو يخترق الباب الزجاجي ليطوق الشاب ويحتضنه و يشمه .
    - لاربي سيام ؟.. ألم تسمع المناداة عليك ؟
    - سمعت .. أنا إسمي العربي سلام .. و لم أعرف أن..
    - لقد شاهدوك تختبئ في الصف ..
    - أنا لم أختبئ .. انحنيت لأني كنت متعبا أليس لديكم كراسي.. hombre!
    - تتكلم جيدا الاسبانية .. من أية جهة بالمغرب أنت ؟
    - من تطوان .
    - آه... تطوان .. مسقط رأس أبي .. لدي عائلة هناك .. تعرف Pavillones ؟
    - نعم .. ولدي أصدقاء يقطنون هناك..
    هدأت نفسه قليلا بينما استمر الموظف في أسئلته :
    - هل تعرف برشلونة جيدا ؟ .. عند من أنت ذاهب ؟
    - لقد سئلت عن هذا عدة مرات في القنصلية .. هناك .
    - أنت الآن هنا ..
    تأمله قليلا ثم تنهد .. أين منه ذلك الزمن ، حين كان لقب " بورقعة" يطغى على إسم كل ما يمت إلى الاسباني بصلة .. وحين كانت حدود أوربا تنتهي عند البرانس ؟.. ماذا يرى الآن سوى أنه قبالة شاب وسيم أشقر .. يفيض نضارة وعنفوانا . حقا .. إن معاملة الشاب لم تتجاوز حدود الأدب . ثم إنه يعمل ما يمليه عليه واجبه . لكن سؤاله استفزه . لماذا كل هذا التمحيص و التدقيق ، و هو لا يروم سوى رؤية ابنه ومعانقته ، ليعود أدراجه كي يستأنف حياته الرتيبة الهادئة في ورشته الصغيرة ، محتضنا أدواته ومنتوجاته التقليدية ، الأليفة لديه ؟ كراسي .. رفوف .. صناديق مزخرفة ... تلك هي دنياه التي هجر من أجلها الخلان و الصحاب و لغوهم و همزهم و لا مبالاتهم، فأنكروا عليه ذلك .
    " طوبى لك يا أم كلثوم .. أنت الوحيدة التي تفهمينني جيدا و تحترمين عزلتي و معاناتي في عالم أحمق مجنون .
    - من فضلك. انتظر هناك قليلا .
    - لماذا..؟
    - Por favor...
    امتدت يد الشرطي تدفعه برفق .
    - غير معقول !.. اشرحوا لي الأمر.. ماذا يحدث ؟
    - سوف تعرف بعد قليل ... اهدأ من فضلك .
    تنهد من جديد ثم انصاع للأمر . التفت إلى الباب الخارجي للمطار . الجو ممطر وكئيب . أين اختفى الولد ؟ هل أحس بأمر ما يدبر قي الخفاء ؟ هل رصدته العيون المتربصة هنا وهناك بكل متسلل دخيل ؟.. ليته يختفي ريثما تسوى وضعيته .
    تهالك على المقعد الوثير ينتظر . هل كتب عليه الانتظار إلى ما لا نهاية ؟ في القنصلية انتظار.. في المطار هناك انتظار .. هنا أيضا انتظار. ماذا يحدث ؟ ليته سأل المصري عن ذلك . أحس بالغربة و بالحنين إلى زقاقه وورشته . تمنى لو يغمض عينيه ويفتحهما ،فيجد نفسه يذرع أزقة مدينته القديمة الدافئة .. الجامع الكبير.. الغرسة الكبيرة .. المصداع...
    - أخ عربي ؟.. ماذا تفعل هنا ؟
    خفق قلبه بعنف و أحس بغربته تتلاشى :
    - بختي كدا.. كما تقولون . لا أدري ماذا يجري هنا . أحس بنفسي رهينة لديهم .
    - رهينة؟.. إزاي ؟.. اسمع.. الأمور هنا غير عادية .. و الحال لا تدعو للاطمئنان .
    - لم.. و العياذ بالله ؟
    - أظنك ملما بأحداث أيلول الماضي ؟..
    أظلمت الدنيا في عينيه.. كابول.. مزار الشريف.. قندهار.. ﮔوانطانامو.. الموساوي .. اللهم الطف .
    - أخ عربي.. أراك ممتقعا.. عشمي ألا تكون متورطا في عمل ما..
    - ماذا تقصد يا أخي ؟ .. عملية...
    - بس... لا تنطق بأي شيء – قال المصري هامسا وهو يلتفت محاذرا حوله – اسمع.. إذا استطعت تغيير هذه الملابس فافعل حتى لا تلفت الأنظار.. احلق ذقنك إن أمكن .
    - هل الأمر خطير إلى هذا الحد ؟
    - و أكثر.. صدقني .. أنصحك لوجه الله ...
    سهم العربي قليلا ثم تمتم :
    - حتى اسمي لم يسلم من التحريف .
    - اسمك؟... هل.. كنت أنت المعني ؟
    هز رأسه إيجابا ثم أطرق وفي حلقه غصة ، وهز كتفيه حائرا ، فلم يملك متولي أن ضرب كفا بكف حدة مرات ثم قال :
    - يا أخي.. وماذا عليك لو أجبت ؟.. لاربي أو العربي... سيام أو سلام... ماذا يضر ؟
    - في الحقيقة .. أنا لم أميز اسمي.. ثم.. ألم يكن يجدر بهم أن ينطقوا به كما يجب ؟.. كما نفعل نحن بأسمائهم ؟
    أطرق المصري هنيهة ثم أردف :
    - بالنسبة إليهم.. هذا لا يهم .
    - لكن يهمني أنا.. فأنا العربي سلام وليس كما نطق ذلك الأعجمي .
    صمت الآخر وهو يحدق فيه .. يود قول شيء .. ما الذي يمنعه .. وبعد تردد قال :
    - وهل تدري من نكون ..أنت .. و أنا ؟
    فتح العربي عينيه دهشة و أجاب بحماس :
    - طبعا.. أنا العربي سلام ، و أنت سيد متولي نبوي !
    - هذا لا يكفي.. أنا مثلا لا زلت أبحث عن هويتي و أصلي .. فرعوني ؟.. تركي ؟.. أم خليط ...
    - يا للعجب !.. أتريدني أن أتيه أنا أيضا في متاهة البحث في الماضي السحيق عن قرابتي بكسيلة أو بجوبا الثاني ؟ كنت أظن أن هذا حسمنا فيه نهائيا ... اسمح لي .. أنا أعتز بهويتي ولا أعاني أية عقدة من ذلك .
    - إيه... هذا موضوع شائك لا يمكن الحسم فيه هكذا بسرعة ... لكن اعذرني.. يجب أن أتركك .. عندي مواعيد كثيرة .. خسارة .. لا يمكننا الالتقاء مرة ثانية ... وداعا .. ولا تنس ما قلته لك .. كن حذرا ولا تستفزهم ..
    شد على يديه بحرارة . من جديد يحس العربي بنفسه غريبا و هو يراه يبتعد مهرولا . حاول أن يستعيد حوارهما ، لكن ذهنه كان مشتتا و أفكاره مضطربة ، فأغمض عينيه و حاول الاسترخاء كعادته كلما توترت أعصابه . ثم تنفس بعمق وركز ذهنه على ما يجب عمله في كل الأحوال ... " لاربي سيام ؟ "
    فتح عينيه ليجد الشرطي ذا الشاربين المفتولين يشير إليه بالنهوض .
    - ماذا ؟.. هل عثرتم على الجديد ؟
    قاده الشرطي إلى أحد المكاتب الأنيقة الدافئة ، فوجد هناك ضابطا يبحث في أكوام من الورق . جلس متطلعا إلى جدران الحجرة الساطع نورها . تفحص باهتمام وجه الضابط . يبدو طيبا بلحيته التي بدأ يغزوها الشيب . أيكون متدينا ؟.. تلك هي فرصته . ماذا لو أثار معه موضوعا دينيا ؟ حقا هي محاولة جبان .. لكنه في ورطة.. و الورطة حرب.. و الحرب خدعة . فليستعمل كافة الأسلحة كي ينجو من هذه الكماشة التي يحس بها تطبق عليه كما أطبقت على آخرين منذ الخريف الماضي ، و ليتوار عن أنظار الغول ريثما يهدأ هيجانه . فهو غول لا عهد له به ، و لا يضاهي ذلك الذي كانت جدته تروي عنه الحكايات الممتعة.. كان غولا أليفا رغم أكله للصبيان . كان غولا أزليا قديما . تعرفه الجدات و الصبيان حق المعرفة . أما هذا فلا أحد كان يعرفه حتى الأمس القريب .
    أنعشه ما وصل إليه من قرار ، و استعد للمواجهة . رفع الضابط رأسه و بدأ سيل آخر من الأسئلة . سيل عارم من كيف ولماذا و أين ومن ومتى ، وهو يجيب بهدوء ، متحينا الفرصة ليصوب أول سهامه التي أعدها بإحكام . وسكت الضابط أخيرا وهو يقارن صورا بأخرى .
    - سيدي.. هل لي بسؤال ؟
    - طبعا... قل .
    - أنا أعرف أن قانونكم يعتبر المتهم بريئا حتى تثبت إدانته..
    ابتسم الرجل وهو يعتدل في جلسته وقال والإرهاق باد على محياه :
    - هذا صحيح .. لكن الظروف استثنائية .
    - كما في الحرب .
    - بالضبط.. اسمع.. أنت ذكي ومثقف ويمكنك مساعدتنا ..
    ( هل الفرصة مواتية ؟ )
    - يسعدني ذلك ، لكنني لا أدري كيف .. فأنا مجرد سائح يزور بعض الأهل و الأصدقاء .
    - ها أنت تعود للمراوغة والخداع !
    ( خذ السهم الأول )
    - وهل في Catalunya أحد يعرف الخداع ؟
    ساد الصمت.. هل أصاب السهم الهدف ؟
    - ماذا تعرف عن Catalunya .. أنت ؟
    ( ليأخذ سهما آخر من كنانته )
    - أعرف أنها بلد San Jordi .. وكفى !
    شل الجواب حركة الضابط الذي رفع حاجبيه و لمعت عيناه ببريق غريب .
    - ثم ماذا ؟
    صوته غير عادي ، ونبرته أقل صرامة رغم الجهد الذي بذله ليبدو طبيعيا .
    ( هاك سهما آخر )
    - لو عاشت Monserrat لما قبلت أن يهان غريب بريء على أرض Catalunya .
    السهم يصيب سويداء القلب ، فيحمر الوجه المكتنز وتدمع العينان الجاحظتان ..
    - من أنت بالضبط ؟
    - كما قلت منذ البداية .. و أكرر دائما.. أنا مغربي عادي و بسيط جدا .. ينشد الراحة مع أهله في هذه الأرض الطيبة .. كنت أظن أنPujol قد نجح في تهدئة الأمور وتمتين الأواصر .. لكن يبدو أن السمك أهم من الإنسان ، كما هي العقلية في العاصمة ..
    - دعك من هذا – قال الضابط وهو يغالب الابتسام – وقل لي .. لم اختفيت في الزحام عند سماعك لاسمك ؟ و لم تأخرت عن النزول من الطائرة ؟ .. هل كنت على موعد مع أحد ؟
    - أولا.. أنا تأخرت عن النزول بسبب الزحام .. أما عن المناداة .. فأنا لم أدر أني كنت معنيا بها .. وقد قلت مرارا أني انحنيت بسبب التعب .. ثانيا.. حتى ولو عرفت أني معني بالنداء ، فلم أكن لأجيب .
    - و.. لماذا ؟
    - سأجيبك .. لكن ، دعني أسألك سؤالا بسيطا .. لماذا لا تقبلون هنا في Catalunya أن تنطق Girona جيما بدل الخاء ؟.. وهل تجد فيBarcelona أو Tarrasa أو Badalona أحدا يقبل بأن تحرف Lleida إلى Lerida ؟ مع أنكم إسبان ؟
    ظل الآخر فاغرا فاه ..( إذن عليه بسهم آخر ) :
    - لماذا تسمون هنا Robert وJosep بدل Roberto و José ؟.. وهل تقبل أن يحمل ابنك اسم Alberto أوCarlos بدل Albert أو Carles ؟.. أبدا.. و سأقول لك لماذا.. لأنكم كاطالونيون معتزون بشخصيتكم رغم إسبانيتكم .. وهذا من حقكم .. فكيف تريد مني أن أقبل بتحريف إسمي ؟ .. وهل هو ذنبي أن تنطقوا اللامين ياء في أبجديتكم ؟
    ساد الصمت ، لكنه قطعه سريعا بصوت هادئ :
    - حتى الملعب الذي أعشق فريقه يحمل إسما غير إسباني...
    ثم سكت قليلا ريثما يجفف العرق المتصبب من جبينه قبل أن يضيف :
    - هل تريدني بعد كل هذا أن ألبي النداء وقد مسخ إسمي ؟
    - هل أنت من أنصار Barcelona ؟
    - الفريق الأول .. Barça وليس الآخر.. الولد العاق الذي يحمل حرف Y بدل من ň ، كما تصرون على ذلك .
    فجأة.. انفجر الضابط مقهقها ، فرنت الحجرة لضحكه ، وقال :
    - لو لم تكن مرتديا هذا اللباس لحسبتك واحدا منا ... يا للعجب ! .. قل لي.. هل أنت محتفل معنا اليوم ؟
    احتفال ؟.. عصر ذاكرته كي لا يبدو جاهلا .. عيد الفصح ؟.. لكنه لم يحن بعد ..
    - لا تقل لي إنك لم تفهم ما أعنيه .. مع أنك حامل لهذا الطربوش الأحمر..
    ماله هذا الطربوش.. ؟.. حاول الاستفهام لكن الهاتف رن .
    -Oiga..!.. si..si...Claro.. el mismo... asi §… muy bien… de acuerdo…. Oh de nada seňorita...adios !
    كان الضابط يتكلم وهو ينظر إليه ضاحكا . هل يعنيه الحوار ؟ .. انتهت المكالمة ، ونهض المسؤول وهو يتمطط . ثم اقترب منه وربت على كتفه هامسا في إعياء :
    - لم لم تقل لي كل شيء منذ البداية ؟
    - أقول لك ماذا ؟
    - يالك من داهية !.. هيا.. هناك من ينتظرك هذه الليلة .. سيقودك كيوبيد إلى Carretera de Sarria .
    - ولكن ...
    - لا تضع الوقت.. هاك جواز سفرك.. وكل 14 فبراير و أنت بخير .
    ماذا يعني بقوله ؟
    - إذن ... يمكنني الانصراف ؟
    - طبعا.. ونعتذر عن إضاعة وقتك .. يا Roméo .. هذا عمل روتيني .
    نظر العربي إلى ساعته .. كيف ؟... أربع ساعات فقط مرت منذ وصوله ؟... أربع ساعات حسبها دهرا . أطرق قليلا ثم قال :
    - سيدي .. هل لي في طلب ؟.. أرجو ألا يثقل عليك .
    - طبعا.. فنحن في عيد .. ولك ما تريد .
    - أرجوك.. احجز لي تذكرة الرجوع غدا... الآن إن أمكن ..
    رمشت عينا الرجل ، وحدق فيه غير مصدق ما سمعه ، وقال مستغربا :
    - كيف ؟.. و أهلك ؟ .. و Lola ؟ .. و San Valentino ؟
    - لقد وعدتني أن تحقق لي ما أريد .. أهلي ؟ .. أنا مطمئن عليهم في ضيافتكم .. Lola ؟.. أوصيك بها خيرا.. أما San Valentino فسوف أحتفل به على طريقتي هناك مع أم كلثوم .. احتراماتي لـ San Jordi و Monserrat .. ومتمنياتي لـ Barça بمزيد من التألق..
    §§§§§§§§§§§§§§§§§
    الطائرة تحلق من جديد فوق المضيق الغول .. شبح الغول في كل مكان من هذا العالم القرية . تبدو المدينة العروس مبتسمة رغم ذلك . يتناهى صوت المضيفة معلنا في غنج : " يرجى من المسافرين القاصدين مطار "طانجي بو كالف" الاستعداد للنزول .. سنتوقف لمدة قبل الاقلاع إلى مطار " رابا سالي ".. رحلة ممتعة ! "
    - لماذا لا يعرج بهم عبر " فيس" و " مكنيس " ؟
    قال العربي ذلك و أطلق العنان لضحك مجلجل ، غير مبال بنظرات الاستنكار من حوله . فقد كان ينتشي بالوصول سالما ، أو ربما بانتهاء الكابوس . [/align]
    التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 17-01-2009, 17:49.
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    الزميل الرائع
    رشيد الميموني
    القصة بالرغم من إنها طويلة إلا أني قرأتها حتى النهاية وكنت فعلا أحس وكأني كنت هناك في نفس المأزق الذي نعيشه نحن العرب دوما بكل البلدان حتى العربية منها؟!!!
    كان الأجدر أن تكتب الكثير من المصطلحات وشرح المعاني لأن ليس الجميع سيعرف ماكنت تقصد.
    تحياتي لك
    أنقذ بطلك طربوشه.. وفالانتين.. لكن من سينقذ الباقين؟
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • رشيد الميموني
      مشرف في ملتقى القصة
      • 14-09-2008
      • 1533

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
      الزميل الرائع
      رشيد الميموني
      القصة بالرغم من إنها طويلة إلا أني قرأتها حتى النهاية وكنت فعلا أحس وكأني كنت هناك في نفس المأزق الذي نعيشه نحن العرب دوما بكل البلدان حتى العربية منها؟!!!
      كان الأجدر أن تكتب الكثير من المصطلحات وشرح المعاني لأن ليس الجميع سيعرف ماكنت تقصد.
      تحياتي لك
      أنقذ بطلك طربوشه.. وفالانتين.. لكن من سينقذ الباقين؟
      الأخت الكريمة عائدة ..
      عودتني على المرور هنا على متصفحي فصرت أترقب ذلك كلما كتبت نصا ..
      عندك حق .. الكلمات يجب شرحها .. وهي بالإسبانية ..
      دمت بكل المودة و التقدير
      التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 20-01-2009, 10:52.

      تعليق

      يعمل...
      X