قراءة في كتاب : قلق المسرح العربي .
المؤلف : د. سعيد الناجي .
الناشر : دار مابعد الحداثة_ المغرب .
عرض : عفت بركات .
.................................................. .............................
في كتابه عن القلق في المسرح العربي يقول سعيد الناجي أن المسرح العربي -والمغربي خاصة- قد طرح منذ نشوئه عددا كبيرا من الإشكاليات التي استبدت بالتفكير النقدي حوله، وكان ذلك بالخصوص منذ أواسط القرن العشرين حين ترسخت الممارسة المسرحية في البلدان العربية بسبب ما حققته من تراكمات من جهة، وبفضل ارتباطها بحركات تحرر العالم العربي من الاستعمار حيث لعب المسرح دورا هاما في تعبئة الشعوب العربية ودفعها دفعا إلى المطالبة بالاستقلال والتحرر من حملات الاستعمار الغاشم. وفي السياق ذاته، بدأ المسرح العربي يبحث عن آفاق جمالية جديدة لممارسته داخل عملية انفتاح كبرى على المسرح الغربي وعلى اتجاهاته التجريبية الأكثر تمردا وطليعية.
هكذا طرح النقد المسرحي عددا من القضايا من مثل قضية حضور المسرح في الثقافة العربية القديمة، وقضية التجريب في المسرح، وقضية الجمهور المسرحي، بل إن المسرح نفسه لم يبق بعيدا عن هذا التفكير المعلن في الظاهرة المسرحية فظهر نوع من المسرحيات المرتجلة بكثرة، وهو نوع من المسرحيات تفكر في المسرح وفي قضاياه الجمالية والفكرية والمهنية، وقد تميز في هذا النوع المسرحي المغربي المرحوم محمد الكغاط.
كما تناول الناجي الحديث عن قضايا المسرح العربي وعن إشكالياته الأساسية مؤكدا أن المسرح العربي حديث الولادة، لم يتجاوز عمره قرنين من الزمان منذ أن قدم مارون النقاش مسرحية البخيل في بيته ببيروت سنة 1847 وكانت هذه المبادرة كافية لإثارة القلق في المسرح العربي وحتى الآن. كما أن كثير من الدراسات النقدية كانت عبارة عن جواب غير مباشر لهذا القلق الذي هيمن على التفكير في المسرح العربي بدءا من وجود النص المسرحي وحتى تحققه على الخشبة والتواصل مع الجمهور.
• تيارات القلق
ثم أوضح الناجي بعض تيارات القلق قائلا :مازال قلق الانتماء يستبد بشغاف المسرح العربي عبر تداول التفكير في الشكل التعبيري الأمثل الذي يصلح للمجتمع العربي في اللحظات التاريخية.متسائلا هل ينتمي المسرح إلى العرب أم أن العرب ينتمون إلى المسرح؟ هذا السؤال هو الذي قاد أحمد شوقي إلى كتابة قصائد شعرية في قالب مسرحي، بعيدا عن تمثل عمق المسرح الشعري،و قاد توفيق الحكيم أيضا إلى المراهنة على استنبات الكتابة المسرحية في الثقافة العربية، وإلى كتابة المأساة في ثقافة بعيدة أن تكون في مرحلة تراجيدية مثل مسرحيات: (أهل الكهف، وأوديب ملكا، وشهرزاد...) ونفس السؤال حرك تجربة مسرح الهواة بالمغرب التي راهنت على مد الجسر بين النضال السياسي وبين المسرح من أجل تغيير الواقع، كما حرك كاتبا مغربيا مثل أحمد الطيب العلج للمغامرة بكتابة النص المسرحي المنفتح على الثقافة الشعبية وعلى تيارات المسرح الغربي.
وعن قلق اللغة أكد الناجي :
أن اللغة من القضايا الشائكة التي تداولها رجال المسرح ومؤلفيه، خاصة منذ بداية القرن العشرين. وكان المد القومي في أواسطه قد أجج النقاش حول أي لغة نختار عند الكتابة .فقلق اللغة إذن لا يعني اختيار الفصحى أو العامية، بل يعني اختيار لغة مسرحية تصل إلى جمهور ما، ولتكن فصحى أو عامية، محكية أو مرئية، معيشة أو مروية، تراثية أو حالية ، ولكن عليها أن تحدث رجة، أن تخلخل كيانا أو تفتح أفقا ما في المتفرج أو في الممثل، ولهذا فإن اختيار اللغة لن ينزع القلق من جسد المسرح العربي: أي لغة شاملة نختار للتخيل؟ وبأية لغة سنملأ فضاءاتنا المسرحية ؟ أو بعبارة أخرى : كيف نفتتح حكي متخيلاتنا المسرحية ؟ لا إجابة بعد !
وعن قلق التجريب
أكد أيضا أنه انتهى زمن التجريب في المسرح الغربي، ودخل الغرب في زمن ما بعد التجريب الذي يوازي ما يطلق عليه الآن زمن ما بعد الحداثة. لقد آلت التجارب الكبرى التي أشتعلت في منتصف القرن العشرين في المسرح الغربي إلى النهاية: انتهى المسرح الملحمي لبرتولد برشت إلى تنويع جميل يسخر من شمولية النظام السياسي الشيوعي، ويلهم المسرح الغربي بتقنيات وجماليات صينية؛ وانتهى مسرح القسوة لأنطونان أرطو إلى نهاية قاسية، وانعزل غروتوفسكي في إحدى قرى بولونيا يغازل فقر مسرحه، وانتهى مسرح الموت لتادوز كانتور إلى الموت... وأما مسرح العبث فلم يعد اتجاها مستقلا بقدر ما أضحى حاضرا في كل النصوص، ثم تناول الناجي مسرحية " بنك القلق عند الحكيم بالتحليل " للتدليل على القلق في المسرح العربي .
تأسيس الفعل النقدي .
ويرى الناجي أن الظاهرة المسرحية في كل لحظاتها، منذ نشوئها نصا ، إلى
إنجازها لعبا، إلى تلقيها عرضا. أى في كل لحظة يستطيع أى ناقد التدخل فيها، بأن يوجه، أو يحرف، أو يثقف. فالفعل النقدي في المسرح إنصات عميق لأنات المبدع، ومصاحبة شجاعة خلال مخاض الإبداع ، وخلال تنقلات العروض.
وقد ابتكر المسرح الحديث وظيفة جميلة في المؤسـسة المسرحية: (الدراماتورج) ذلك الذي يصاحب الفعل المسرحي منذ بدايته، فيحلل النص المسرحي، ويشرحه للممثلين، وينسق البناء الدرامي ويجري تغييرات قد تكون ضرورية في النص. وعند الألمان، الدراماتورج هو المبدع الشامل للفرجة المسرحية يكتب النص أو يعده ثم يخرجه وينظم تكعيباته الفنية، وكان برتولد برشت جهبذا في هذا المضمار. ولعل الدراماتورجيا من المهارات التي ظهرت في المسرح المعاصر إبان موجة التجريب، وأحدثت خللا في الحدود الفاصلة بين الإخراج المسرحي والفعالية النقدية في المسرح. وما زالت هذه المهارة الجديدة لم تتوقف عن إحداث تحولات جذرية في الإبداع المسرحي المعاصر.
أما عن الإخراج المسرحي فقال الناجي حين أقام غريماس السيميوطيقا على علاقة الرغبة القائمة بين الذات والموضوع مستندا إلى اجتهادات فلاديمير بروب vladimir proppوموجها دراسات آن أوبرسفيلد وباتريس بافيس... وغيرهم من نقاد المسرح ، كانت هذه الدراسات الأنثروبولوجية تكشف عن أصول الإنسان ونظام حياته في المراحل البدائية. وقد كشفت تلك الدراسات أن الإنسان كائن راغب، بنى طقوسه وشعائره على رغبة ما أو تجنبا لرغبة ما. ألم تكن الطقوس والاحتفالات ، سلوكيات فرجة باحثة عن تنفيس الرغبة أو تحقيقها؟ لذلك يتيح لنا غياب تعريف جامع مانع للمسرح : إن المسرح هو فن الكتابة بالجسد . ولعل المسرح هو الفن الوحيد الذي يقوم على نقل الجسد إلى نظام مكتوب، و بعيدا عن قصر الاعتماد على الجسد على الفن المسرحي وحده، نستطيع القول إن الجسد يشكل قوامه وأساس تميزه عن باقي الفنون، ولهذا احتل الممثل دوما الاهتمام الكبير من طرف المخرجين والكتاب والمؤلفين، حتى أن تطورات المسرح لم تكن تمر دون أن تؤثر على أداء الممثل وأسلوبه .
وعن البداية النقدية للمسرح
يؤكد الناجي أن بداية المسرح العربي كانت بداية نقدية. فقبل تقديم مارون النقاش لمسرحية البخيل التي نعتبرها أول مسرحية عربية . مهد لها بمقدمة خاضت في ظروف اتصاله بالثقافة الغربية ومشاهدته لمسرحيات وتمثيليات أوحت له أن يقدم مسرحية عربية نظرا لما يتوفر عليه المسرح من قدرة على تهذيب الطبائع. ونحن نعتبر مسرحية البخيل للنقاش أول مسرحية عربية دون أن نساير" تماره بوتيتسيفا" حين كشفت عن المسرحيات التي كانت تقدمها بعض الفرق والبعثات الدينية المسيحية في لبنان قبل سنة 1848، والتي ارتبطت كذلك بالجاليات الاستعمارية ، وكيف بدأت تلك الفرق تنتبه إلى تعامل الجمهور العربي مع المسرح، خاصة حين كانت بعض المسرحيات تنفتح على بعض العناصر الجمالية العربية مثل الموسيقى والغناء العربيين. لقد كان هذا في نظرنا عاملا مشجعا للنقاش لدخول مغامرته الفريدة إلا أن وعيه بهذا كان يصاحبه وعي تام بتفاصيل إنتاج الفرجة المسرحية وشروطها، الشيء الذي يضعه في موقع بين الفعالية النقدية والفعالية الإبداعية .
ويرى الناجي أن يوسف إدريس كان أول من افتتح البحث عن هوية المسرح العربي، وهو البحث الذي قاد إلى الانخراط في عملية التجريب تنظيرا وممارسة، وإن كان توفيق الحكيم قد سبقه إلى ممارسة الكتابة التجريبية قبل الستينيات بكثير. فقد كانت مقالات إدريس في أواسط الستينيات التي جمعها تحت عنوان "نحو مسرح عربي" هي التي أطلقت عنان البحث عما يمكن أن يحسب على المسرح في تاريخ الأشكال الثقافية العربية. وستكون مسرحية الفرافير هي التطبيق النصي لما يتوصل إليه الباحث نظريا من حيث ضرورة بلورة شكل مسرح عربي انطلاقا من السامر الذي يعتبر بالنسبة إليه أحد الأشكال المسرحية العربية الأصيلة. ونلاحظ أن هذا التصور الأولي يتعارض مع ما ذهب إليه الحكيم من اعتبار المرحلة التي تجب العودة إليها لاستخراج شكل مسرحي أصيل هي بالضبط تلك التي تسبق السامر، على اعتبار أن هذا الأخير كان شكلا خضع للمؤثرات الخارجية.
*المسرح والهوى
ثم تناول المؤلف مسرح الهواة بالمغرب قائلا بأن الهواة في المسرح المغربي حددوا مساراته وإنجازاته وهم الذين مثلوا المسرح المغربي لمدة تزيد عن الأربعين سنة بعد الاستقلال. فحين كان المسرح في المغرب يخرج عن حدود الهواية كان يسقط في الإسفاف الذي نشاهد نماذجه في المسرحيات التجارية الرائجة في القاعات وفي قنوات الإعلام التلفزية...و لقد كانت الهواية صمام أمان للمسرح المغربي ولرجاله لأن الأقلية التقليدية تشتط حين ينزاح المسرح عن حد الهواية ليمسي حرفة ومهنة وثقافة راسخة .
ولهذا ، كان هواة المسرح ، بعد مدة من الممارسة، وبعد أن يشتعل الرأس شيبا، يحسون بالغربة وبضياع الهوية: لا هم شباب هواة... ولا هم شيوخ محترفون... فكانوا يلوذون بالصمت... إلا أنه يوضح أنه بين إسفاف المسرح التجاري ونزقية مسرح الهواة المأساوية ارتسم مآل تراجيدي للفعل المسرحي ولصاحبه. لهذا كان على بعض جهابذة المسرح أن يتحايلوا قليلا لاقتراح صيغ مسرحية تحفظ ماء وجه الشيخوخة بدون احتراف، وبهاء الشباب وحقيقة الهواية في سن متأخرة.والنتيجة كانت بروز فرق مسرحية تضع رجلا في الهواية وأخرى في التجارة حتى لا نقول الاحتراف. فمسرح الطيب الصديقي وعبد الحق الزروالي و"مسرح اليوم" و"مسرح الشمس" و"مسرح وليلي" و"مسرح السبعة" و"مسرح الضفة الأخرى" و"مسرح نون" و"مسرح الغد" وغيرها، كلها مسارح وفرق تمارس المسرح هواية وتحلم به احترافا. ولهذا، لم يستقم لأي منها عيش من تذاكر المسرح، فعاشت الفقر أو اعتمدت على الدولة، جماعات ومجموعات حضرية وقروية ومؤسسات صناعية ومقاولات لتكسب دعما ماديا...كلها مسارح ركبت حصانا خشبيا وانطلقت لتبقى في مكانها أو ليسقط البعض ويبقى البعض الآخر.
قلق التنظير في المسرح المغربي
واختتم سعيد الناجي كتابه بالحديث عن قلق التنظير في المسرح المغربي موضحا أنه إذا كان المسرح المغربي ظاهرة تاريخية حديثة مرتبطة بانفتاح الثقافة المغربية على الثقافات الحديثة وما واكب ذلك من مثاقفة وتبادل، فإنه من المنطقي أنه مسرح حقق تراكما معينا منذ مطلع القرن العشرين على الأقل لحظة ظهوره. وقد تم إغناء ذلك التراكم برهن الممارسة المسرحية بالمغرب بجملة من الشروط الثقافية والتراثية جعلت من المنتوج المسرحي المغربي على حداثته منتوجا منتميا إلى الثقافة المغربية، ضاربا بجذوره في مكوناتها وعناصرها مما يسمح لنا باعتباره تراكما ثقافيا كيفيا عمق التراكم الكمي وأغناه.وأننا حين نعود إلى وثائق المسرح المغربي لنطلع على مواصفات الممارسة المسرحية بالمغرب خلال عهد الاستعمار سنجد أنها كانت ممارسة تعتمد مواصفات مهنية دقيقة، تحترم توزيع المهن والمهارات داخل الفرقة المسرحية. وهكذا فإن المسرح المغربي قد اكتسب مشروعية مهنية باحترام مواصفات المهنية الفنية. لقد كان العمل ينطلق اقتباسا أو تأليفا، ثم يتم تفريغه في العرض المسرحي بكل أنظمته من إخراج وتشخيص وملابس وماكياج وإدارة تتكلف بتوفير ظروف العرض المسرحي وشروط توزيعه على الجمهور. كان من الطبيعي أن يترتب عن هذا التهريب المسرحي وضع متوتر تميز بانتعاش الفكر التقليدي في المسرح بدأ يكتسح مناطق كانت إلى مطلع الاستقلال مرهونة بفكر متحرر وتقدمي. وبعد حوالي عشرين دورة لمهرجان الهواة بدأ الفكر التقليدي الذي نفى المسرح المغربي في الهواية يجد تعبيراته المسرحية التي ضمنت الحفاظ على وضعية الشتات ومنعت من انطلاق أي مطلب مهني. وقد كان التعبير المسرحي الأمثل عن الفكر التقليدي يتجلى في بروز الاحتفالية التي أصدرت بيانها الأول في نهاية السبعينات.
**********
المؤلف : د. سعيد الناجي .
الناشر : دار مابعد الحداثة_ المغرب .
عرض : عفت بركات .
.................................................. .............................
في كتابه عن القلق في المسرح العربي يقول سعيد الناجي أن المسرح العربي -والمغربي خاصة- قد طرح منذ نشوئه عددا كبيرا من الإشكاليات التي استبدت بالتفكير النقدي حوله، وكان ذلك بالخصوص منذ أواسط القرن العشرين حين ترسخت الممارسة المسرحية في البلدان العربية بسبب ما حققته من تراكمات من جهة، وبفضل ارتباطها بحركات تحرر العالم العربي من الاستعمار حيث لعب المسرح دورا هاما في تعبئة الشعوب العربية ودفعها دفعا إلى المطالبة بالاستقلال والتحرر من حملات الاستعمار الغاشم. وفي السياق ذاته، بدأ المسرح العربي يبحث عن آفاق جمالية جديدة لممارسته داخل عملية انفتاح كبرى على المسرح الغربي وعلى اتجاهاته التجريبية الأكثر تمردا وطليعية.
هكذا طرح النقد المسرحي عددا من القضايا من مثل قضية حضور المسرح في الثقافة العربية القديمة، وقضية التجريب في المسرح، وقضية الجمهور المسرحي، بل إن المسرح نفسه لم يبق بعيدا عن هذا التفكير المعلن في الظاهرة المسرحية فظهر نوع من المسرحيات المرتجلة بكثرة، وهو نوع من المسرحيات تفكر في المسرح وفي قضاياه الجمالية والفكرية والمهنية، وقد تميز في هذا النوع المسرحي المغربي المرحوم محمد الكغاط.
كما تناول الناجي الحديث عن قضايا المسرح العربي وعن إشكالياته الأساسية مؤكدا أن المسرح العربي حديث الولادة، لم يتجاوز عمره قرنين من الزمان منذ أن قدم مارون النقاش مسرحية البخيل في بيته ببيروت سنة 1847 وكانت هذه المبادرة كافية لإثارة القلق في المسرح العربي وحتى الآن. كما أن كثير من الدراسات النقدية كانت عبارة عن جواب غير مباشر لهذا القلق الذي هيمن على التفكير في المسرح العربي بدءا من وجود النص المسرحي وحتى تحققه على الخشبة والتواصل مع الجمهور.
• تيارات القلق
ثم أوضح الناجي بعض تيارات القلق قائلا :مازال قلق الانتماء يستبد بشغاف المسرح العربي عبر تداول التفكير في الشكل التعبيري الأمثل الذي يصلح للمجتمع العربي في اللحظات التاريخية.متسائلا هل ينتمي المسرح إلى العرب أم أن العرب ينتمون إلى المسرح؟ هذا السؤال هو الذي قاد أحمد شوقي إلى كتابة قصائد شعرية في قالب مسرحي، بعيدا عن تمثل عمق المسرح الشعري،و قاد توفيق الحكيم أيضا إلى المراهنة على استنبات الكتابة المسرحية في الثقافة العربية، وإلى كتابة المأساة في ثقافة بعيدة أن تكون في مرحلة تراجيدية مثل مسرحيات: (أهل الكهف، وأوديب ملكا، وشهرزاد...) ونفس السؤال حرك تجربة مسرح الهواة بالمغرب التي راهنت على مد الجسر بين النضال السياسي وبين المسرح من أجل تغيير الواقع، كما حرك كاتبا مغربيا مثل أحمد الطيب العلج للمغامرة بكتابة النص المسرحي المنفتح على الثقافة الشعبية وعلى تيارات المسرح الغربي.
وعن قلق اللغة أكد الناجي :
أن اللغة من القضايا الشائكة التي تداولها رجال المسرح ومؤلفيه، خاصة منذ بداية القرن العشرين. وكان المد القومي في أواسطه قد أجج النقاش حول أي لغة نختار عند الكتابة .فقلق اللغة إذن لا يعني اختيار الفصحى أو العامية، بل يعني اختيار لغة مسرحية تصل إلى جمهور ما، ولتكن فصحى أو عامية، محكية أو مرئية، معيشة أو مروية، تراثية أو حالية ، ولكن عليها أن تحدث رجة، أن تخلخل كيانا أو تفتح أفقا ما في المتفرج أو في الممثل، ولهذا فإن اختيار اللغة لن ينزع القلق من جسد المسرح العربي: أي لغة شاملة نختار للتخيل؟ وبأية لغة سنملأ فضاءاتنا المسرحية ؟ أو بعبارة أخرى : كيف نفتتح حكي متخيلاتنا المسرحية ؟ لا إجابة بعد !
وعن قلق التجريب
أكد أيضا أنه انتهى زمن التجريب في المسرح الغربي، ودخل الغرب في زمن ما بعد التجريب الذي يوازي ما يطلق عليه الآن زمن ما بعد الحداثة. لقد آلت التجارب الكبرى التي أشتعلت في منتصف القرن العشرين في المسرح الغربي إلى النهاية: انتهى المسرح الملحمي لبرتولد برشت إلى تنويع جميل يسخر من شمولية النظام السياسي الشيوعي، ويلهم المسرح الغربي بتقنيات وجماليات صينية؛ وانتهى مسرح القسوة لأنطونان أرطو إلى نهاية قاسية، وانعزل غروتوفسكي في إحدى قرى بولونيا يغازل فقر مسرحه، وانتهى مسرح الموت لتادوز كانتور إلى الموت... وأما مسرح العبث فلم يعد اتجاها مستقلا بقدر ما أضحى حاضرا في كل النصوص، ثم تناول الناجي مسرحية " بنك القلق عند الحكيم بالتحليل " للتدليل على القلق في المسرح العربي .
تأسيس الفعل النقدي .
ويرى الناجي أن الظاهرة المسرحية في كل لحظاتها، منذ نشوئها نصا ، إلى
إنجازها لعبا، إلى تلقيها عرضا. أى في كل لحظة يستطيع أى ناقد التدخل فيها، بأن يوجه، أو يحرف، أو يثقف. فالفعل النقدي في المسرح إنصات عميق لأنات المبدع، ومصاحبة شجاعة خلال مخاض الإبداع ، وخلال تنقلات العروض.
وقد ابتكر المسرح الحديث وظيفة جميلة في المؤسـسة المسرحية: (الدراماتورج) ذلك الذي يصاحب الفعل المسرحي منذ بدايته، فيحلل النص المسرحي، ويشرحه للممثلين، وينسق البناء الدرامي ويجري تغييرات قد تكون ضرورية في النص. وعند الألمان، الدراماتورج هو المبدع الشامل للفرجة المسرحية يكتب النص أو يعده ثم يخرجه وينظم تكعيباته الفنية، وكان برتولد برشت جهبذا في هذا المضمار. ولعل الدراماتورجيا من المهارات التي ظهرت في المسرح المعاصر إبان موجة التجريب، وأحدثت خللا في الحدود الفاصلة بين الإخراج المسرحي والفعالية النقدية في المسرح. وما زالت هذه المهارة الجديدة لم تتوقف عن إحداث تحولات جذرية في الإبداع المسرحي المعاصر.
أما عن الإخراج المسرحي فقال الناجي حين أقام غريماس السيميوطيقا على علاقة الرغبة القائمة بين الذات والموضوع مستندا إلى اجتهادات فلاديمير بروب vladimir proppوموجها دراسات آن أوبرسفيلد وباتريس بافيس... وغيرهم من نقاد المسرح ، كانت هذه الدراسات الأنثروبولوجية تكشف عن أصول الإنسان ونظام حياته في المراحل البدائية. وقد كشفت تلك الدراسات أن الإنسان كائن راغب، بنى طقوسه وشعائره على رغبة ما أو تجنبا لرغبة ما. ألم تكن الطقوس والاحتفالات ، سلوكيات فرجة باحثة عن تنفيس الرغبة أو تحقيقها؟ لذلك يتيح لنا غياب تعريف جامع مانع للمسرح : إن المسرح هو فن الكتابة بالجسد . ولعل المسرح هو الفن الوحيد الذي يقوم على نقل الجسد إلى نظام مكتوب، و بعيدا عن قصر الاعتماد على الجسد على الفن المسرحي وحده، نستطيع القول إن الجسد يشكل قوامه وأساس تميزه عن باقي الفنون، ولهذا احتل الممثل دوما الاهتمام الكبير من طرف المخرجين والكتاب والمؤلفين، حتى أن تطورات المسرح لم تكن تمر دون أن تؤثر على أداء الممثل وأسلوبه .
وعن البداية النقدية للمسرح
يؤكد الناجي أن بداية المسرح العربي كانت بداية نقدية. فقبل تقديم مارون النقاش لمسرحية البخيل التي نعتبرها أول مسرحية عربية . مهد لها بمقدمة خاضت في ظروف اتصاله بالثقافة الغربية ومشاهدته لمسرحيات وتمثيليات أوحت له أن يقدم مسرحية عربية نظرا لما يتوفر عليه المسرح من قدرة على تهذيب الطبائع. ونحن نعتبر مسرحية البخيل للنقاش أول مسرحية عربية دون أن نساير" تماره بوتيتسيفا" حين كشفت عن المسرحيات التي كانت تقدمها بعض الفرق والبعثات الدينية المسيحية في لبنان قبل سنة 1848، والتي ارتبطت كذلك بالجاليات الاستعمارية ، وكيف بدأت تلك الفرق تنتبه إلى تعامل الجمهور العربي مع المسرح، خاصة حين كانت بعض المسرحيات تنفتح على بعض العناصر الجمالية العربية مثل الموسيقى والغناء العربيين. لقد كان هذا في نظرنا عاملا مشجعا للنقاش لدخول مغامرته الفريدة إلا أن وعيه بهذا كان يصاحبه وعي تام بتفاصيل إنتاج الفرجة المسرحية وشروطها، الشيء الذي يضعه في موقع بين الفعالية النقدية والفعالية الإبداعية .
ويرى الناجي أن يوسف إدريس كان أول من افتتح البحث عن هوية المسرح العربي، وهو البحث الذي قاد إلى الانخراط في عملية التجريب تنظيرا وممارسة، وإن كان توفيق الحكيم قد سبقه إلى ممارسة الكتابة التجريبية قبل الستينيات بكثير. فقد كانت مقالات إدريس في أواسط الستينيات التي جمعها تحت عنوان "نحو مسرح عربي" هي التي أطلقت عنان البحث عما يمكن أن يحسب على المسرح في تاريخ الأشكال الثقافية العربية. وستكون مسرحية الفرافير هي التطبيق النصي لما يتوصل إليه الباحث نظريا من حيث ضرورة بلورة شكل مسرح عربي انطلاقا من السامر الذي يعتبر بالنسبة إليه أحد الأشكال المسرحية العربية الأصيلة. ونلاحظ أن هذا التصور الأولي يتعارض مع ما ذهب إليه الحكيم من اعتبار المرحلة التي تجب العودة إليها لاستخراج شكل مسرحي أصيل هي بالضبط تلك التي تسبق السامر، على اعتبار أن هذا الأخير كان شكلا خضع للمؤثرات الخارجية.
*المسرح والهوى
ثم تناول المؤلف مسرح الهواة بالمغرب قائلا بأن الهواة في المسرح المغربي حددوا مساراته وإنجازاته وهم الذين مثلوا المسرح المغربي لمدة تزيد عن الأربعين سنة بعد الاستقلال. فحين كان المسرح في المغرب يخرج عن حدود الهواية كان يسقط في الإسفاف الذي نشاهد نماذجه في المسرحيات التجارية الرائجة في القاعات وفي قنوات الإعلام التلفزية...و لقد كانت الهواية صمام أمان للمسرح المغربي ولرجاله لأن الأقلية التقليدية تشتط حين ينزاح المسرح عن حد الهواية ليمسي حرفة ومهنة وثقافة راسخة .
ولهذا ، كان هواة المسرح ، بعد مدة من الممارسة، وبعد أن يشتعل الرأس شيبا، يحسون بالغربة وبضياع الهوية: لا هم شباب هواة... ولا هم شيوخ محترفون... فكانوا يلوذون بالصمت... إلا أنه يوضح أنه بين إسفاف المسرح التجاري ونزقية مسرح الهواة المأساوية ارتسم مآل تراجيدي للفعل المسرحي ولصاحبه. لهذا كان على بعض جهابذة المسرح أن يتحايلوا قليلا لاقتراح صيغ مسرحية تحفظ ماء وجه الشيخوخة بدون احتراف، وبهاء الشباب وحقيقة الهواية في سن متأخرة.والنتيجة كانت بروز فرق مسرحية تضع رجلا في الهواية وأخرى في التجارة حتى لا نقول الاحتراف. فمسرح الطيب الصديقي وعبد الحق الزروالي و"مسرح اليوم" و"مسرح الشمس" و"مسرح وليلي" و"مسرح السبعة" و"مسرح الضفة الأخرى" و"مسرح نون" و"مسرح الغد" وغيرها، كلها مسارح وفرق تمارس المسرح هواية وتحلم به احترافا. ولهذا، لم يستقم لأي منها عيش من تذاكر المسرح، فعاشت الفقر أو اعتمدت على الدولة، جماعات ومجموعات حضرية وقروية ومؤسسات صناعية ومقاولات لتكسب دعما ماديا...كلها مسارح ركبت حصانا خشبيا وانطلقت لتبقى في مكانها أو ليسقط البعض ويبقى البعض الآخر.
قلق التنظير في المسرح المغربي
واختتم سعيد الناجي كتابه بالحديث عن قلق التنظير في المسرح المغربي موضحا أنه إذا كان المسرح المغربي ظاهرة تاريخية حديثة مرتبطة بانفتاح الثقافة المغربية على الثقافات الحديثة وما واكب ذلك من مثاقفة وتبادل، فإنه من المنطقي أنه مسرح حقق تراكما معينا منذ مطلع القرن العشرين على الأقل لحظة ظهوره. وقد تم إغناء ذلك التراكم برهن الممارسة المسرحية بالمغرب بجملة من الشروط الثقافية والتراثية جعلت من المنتوج المسرحي المغربي على حداثته منتوجا منتميا إلى الثقافة المغربية، ضاربا بجذوره في مكوناتها وعناصرها مما يسمح لنا باعتباره تراكما ثقافيا كيفيا عمق التراكم الكمي وأغناه.وأننا حين نعود إلى وثائق المسرح المغربي لنطلع على مواصفات الممارسة المسرحية بالمغرب خلال عهد الاستعمار سنجد أنها كانت ممارسة تعتمد مواصفات مهنية دقيقة، تحترم توزيع المهن والمهارات داخل الفرقة المسرحية. وهكذا فإن المسرح المغربي قد اكتسب مشروعية مهنية باحترام مواصفات المهنية الفنية. لقد كان العمل ينطلق اقتباسا أو تأليفا، ثم يتم تفريغه في العرض المسرحي بكل أنظمته من إخراج وتشخيص وملابس وماكياج وإدارة تتكلف بتوفير ظروف العرض المسرحي وشروط توزيعه على الجمهور. كان من الطبيعي أن يترتب عن هذا التهريب المسرحي وضع متوتر تميز بانتعاش الفكر التقليدي في المسرح بدأ يكتسح مناطق كانت إلى مطلع الاستقلال مرهونة بفكر متحرر وتقدمي. وبعد حوالي عشرين دورة لمهرجان الهواة بدأ الفكر التقليدي الذي نفى المسرح المغربي في الهواية يجد تعبيراته المسرحية التي ضمنت الحفاظ على وضعية الشتات ومنعت من انطلاق أي مطلب مهني. وقد كان التعبير المسرحي الأمثل عن الفكر التقليدي يتجلى في بروز الاحتفالية التي أصدرت بيانها الأول في نهاية السبعينات.
**********
تعليق