قراءة في تحولات الشعر التونسي
بقلم : إبراهيم الزيدي
تمهيد : أعلم بدءا أني على مشارف مغامرة هي من الأهمية بمكان , تأتي أهميتها من جسر الهوة , أو المساهمة في جسر الهوة القائمة بيننا وبين الأدب في بلاد المغرب، وإضاءة الخلفيات التي يستمد منها الخطاب الشعري التونسي رؤاه , ويعتمد عليها في تجسيد رموزه وإيحاءاته ودلالاته , مع يقيني بأن الشعر مادة الحياة , والنزوع إلى الجديد هاجس الإنسان منذ البدء.
- التراث العربي: إن التراث العربي بمعناه الواسع , يشكل بالنسبة للأدب العربي المعاصر امتداداً وحضوراً فاعلاً ، والشعر التونسي المعاصر، هو أحد أبناء ذلك التراث , وقد احتل مكانة مرموقة إلى جانب إخوته المشارقة في المشهد الثقافي العربي منذ نشأته , فمن منّا لا تحتفظ ذاكرته بقصيدة الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بـدّ لليــــل أن ينجلـــي ولا بدّ للقيد أن ينكســـر
ولم يكن الشابي وحده , ثمة شعراء كُثر , منهم منور صمادح , صاحب ديوان ( المغارب ) الذي تغنّى فيه ببلدان المغرب العربي وهي تخوض كفاحها من أجل الحرية والاستقلال:
ذاتي فنـت في ذاتهـــا فأنا بها كلف أهيم بربعها الفتــــــان
فإذا سكتّ فتلك مني سجدة تهدى لها والقدس ملىء جنانــــــــي
وإذا نطقت فلست أذكر غيرها , وإذا شدوت فحبها ألحاني
وأمير الشعر العمودي مصطفى خريف , صاحب ديوان ( شوق وذوق ) الذي يؤكد شعره ذلك الانتماء العروبي المتمكن من النفس , في أروع تجلياته :
عيد العروبة عد , فدتك دمانا, واقبل تحيتنا ومحض هوانا
عد كالمجاهد جاء من ميدانه , ثملاً بخمرة نصره نشوانــا
عد كالشباب الغض يملأ وجهه , ماء الفتوة رائقاً فتانـــــا
والشاعر الساخر حسين الجزري , الذي أصدر صحيفة النديم سنة 1910 , والشاعر نور الدين صمود صاحب قصيدة ( حسناء ) :
وفي صدرها قطرتا نرجس , على كومتين من النور لاحا
فيا سلّة النرجس الفستقي , تراك نسجت الضياء وشاحـا
وعطرته بالشذى الزنبقي , فلاح صباح .. يضم صباحـــا
والشاعر أحمد اللغماني صاحب قصيدة (الحرية ) الشهيرة:
أصفى من لؤلؤة البحرين
أنقى من قطرة طلّ يشطرها الإشعاع إلى شطريـــن
أحلى من همسة حب تعبر في خفر بين الشفتيـــــن
أسمى من رعشة قلب الأم تفيض حنانا في الثدييـن
أعلى من قمة ما لا يدرك حتى فوق ذرى القمريــن
هذا .. بل أكثر من هذا .. يا طيف رؤاي الليليــــــة
يا نسمة صيف بحرية
يا فاتنتي .. يا حريــة
من هذا الإرث الشعري العربي الأصيل , وبناء عليه انطلقت مسيرة الشعر التونسي المعاصر , ولأنني لا أريد اطلاق الأحكام ، وددت أن أكتب عن متن القصيدة التونسية المعاصرة , انطلاقا مما توفر بين يدي من شواهد , باعتبار الشعر المعاصر لم يعد يبحث في أسباب حداثته , أو يواجه أسئلة مراحله , فقد أكّد مشروعيته , وأخذ مكانه ومكانته التي يستحقها , وهذا لا يعني أن نطمئن ،أو أن ندّخر الأسئلة لمرحلة لاحقة , فالتحول حالة كلية (اجتماعية – سياسية – اقتصادية – ثقافية – علمية – الخ ) والشعر جزء من هذا الكل , والتحول المطلوب لم يتم بعد !! لا بل إن أمامه من المعيقات ما يدفع المراقب إلى اليأس ..
لابأس أن يأخذ الشعر المبادرة , ولكنه يجب أن لا يبقى وحيدا , فالوحدة غربة .. إذا هي بداية , بغض النظر عن الاتساع الزمني الذي امتدت عليه التجربة الشعرية الحديثة , ولتتمكن يجب أن يكون الابتداء مستمراً ، فمضار الاستكانة لما أنجز أكثر من فوائدها ..
نستطيع القول إن التراث العربي أعطى للتشكيل اللغوي الجديد بعداً في بنيته الدلالية , ومرجعاً يحيل إلى ذاته .
التواصل مع الغرب
إذا كان العالم قد تحول إلى قرية صغيرة , فإن التراث الإنساني – كل التراث الإنساني – أصبح مشاعاً, وقد أصبح تأثيره ملحوظاً أيضا ، في جميع الفنون الأدبية , ومنها الشعر ، وفي شعر بلاد المغرب على وجه الخصوص , إذ أن الشعراء المغاربة قد اطلعوا قبل غيرهم من العرب على النظريات الإبداعية الحديثة ، ووصلت إليهم قبل غيرهم منشورات الطليعة الباريسية ، ودعوات النقد الجديد , والآراء الفلسفية الحديثة ، وكان كل ذلك محل عناية النخبة التونسية ، إضافة إلى الإرهاصات السياسية التي نتجت عن نكسة /1967/ وما خلفته تلك الإرهاصات في الشارع العربي عامة , والشارع التونسي خاصة ... مما وفر للنخبة مناخاً لمراجعة ما هم عليه – خاصة – وقد توفرت البدائل الموضوعية لروافد المشرق الثقافية المنتهية بالنكسة !! فتعالت الأصوات التي ترفض الأبوية التقليدية للمشرق ( في مجال الشعر ) وأصبحت ( تفعيلة الحياة هي وزن الشعر الجديد ) , حتى أن بعضهم رأى أن " الهندسة العروضية لا فضل لها إلا في كونها من تراثنا " وفي خضم هذه المراجعات كانت القصيدة التونسية تحفر مسارها بخصائص الشعر الفرنسي والإنكليزي , متوسلة النظريات الإبداعية والنقدية الغربية , وصار الشاعر يعتمد على ثقافته أكثر من اعتماده على تجاربه المباشرة .
- مدخل: بكثير من الاندفاع والشغب ( الشعري والنقدي ) أعلنت القصيدة التونسية الجديدة عن نفسها , عبر عدد من الأنماط , بعضها متشابه , والبعض الآخر متفرق .. ولنفهم طبيعة التحول الذي عاشته القصيدة التونسية , لا بدّ من التأكد من المراح الجديد الذي اكتشفه فرسانها في اللغة , ومتابعة الرغبة في " زحزحة اللغة من مقامها البياني أو البلاغي إلى حالتها التركيبية الجديدة "
- 1- كل هذه الأجنحة
كل هذه الإبر التي تتقافز تحت قدمي
ولا أتعثر في الدرب إليك
كل هذا البكم الذي يملأ فمي
ولا أتلعثم في نطق اسمك الأعظم
كل هذا الظمأ
كل هذا الرمل الذي يسد الحلق
كي أتنصت خرير محبتك
كل هذه الوحدة
لأنجو بقلبي من محض الصدفة
وأقيم حواراً مع الريح
كل هذه الوداعة من حين لآخر
لأتلمس السماء بالنظر
والتراب بجبيني
وإصبعي بشفتي..!!
هذا التناسل في الجملة الشعرية , وإن انحاز للسرد فهو يستدعي التأويل مدخلاً , إن إقامة الشاعر المعاصر في الآخر , ومعرفته التامة به , ووصوله وتواصله مع التراث الإنساني , خلصه من كثير من قيوده الواقعية , ومن قيود مرجعياته أيضاً .. لتقوم لغته على علاقات جديدة وصولا إلى الرؤيا ( المجال الشعري للقصيدة ) , فهذه الاستعارات الباهرة.. المكثفة, تحرر القصيدة من البعد التقريري , وتضعها في مجال لغة الممكن , وتعيد الكلمات إلى ذاكرتها العفوية:
2- هل كان يكفي أن نفض حروفنا
من قشرها العاجي
ننفذها على ورق الزجاج
لكي تباشرنا الحرائق
أو , تعرينا اللغات
هل كنت تدرك أن سينزلق الزجاج بنا
ويربكنا التشبه والحساب؟؟
وأن سنغدو في انكسارات الزوايا
فتنة للظل
خاتل ضوءه
لتوافق الأسماء, والأشكال عند لقائنا
فكأنما / قد كانت الأسماء قبل لقائنا
تشتاق فوضاها
معطلة عن الأفعال أجمعها
وعن قول يبعثرها
ويطرق بابها السريّ
يطلقها / فتينع , تسترد توهج اللغة التي
عميت على غبش الزجاج
إن هذه البنائية المحتشدة بالمعاني والدلالات , هذه البداية المتسائلة , تفتح الأفق واسعاً أمام احتمالات الإجابة التي شكلتها ( القصيدة ) , وأعطت للبنية مجال انبنائها مشهدياً , هذا السعي الحثيث نحو الآخر .. هذا التناوب بين معطيات الذات والموضوع , يجعل أكثر من ظل يشتبك على أرض البياض , وهذا الخروج من سيطرة النماذج , فتح الباب على مصراعيه للعابرين إلى أفق التعبير الموازي للحياة.
- بين الوردة وعطرها
مما لا شك فيه أن القصيدة التونسية قد استوقفتني, وحين راجعت موقفي منها , وجدتني بين الوردة وعطرها .. أعاين شكلها فتأخذني الدهشة , وأشم أريجها فتمتلىء نفسي بأحاسيس جديدة , ومشاعر تتوثب للقول بناء على ما قالت .. تستوقفني حركة عناصرها , مما يؤكد لي أن الكلام تطبيق للنظم الاجتماعية , ويخضع لمؤثرات شخصية , كما يقول عدنان بن ذريل , وهذه المؤثرات واضحة جلية في الشعر التونسي المعاصر , ومما يلفت الانتباه : أن الاستجابة للجديد تبدو أكثر تحققا ووضوحا في القصيدة التونسية المعاصرة , مما يدفعنا إلى القول إن هذا التعبير بشكله ومضمونه , هو استجابة حقيقية للعناصر الحيوية في حركة الزمن ,وإن كانت التسمية التي تشمل كل الاتجاهات في الشعر التونسي المعاصر لم تتحدد بعد !! علماً أن البعض استطاع أن يشق لنفسه طريقا مميزاً , ويؤكد خصوصيته , وتفرده في هذا المجال:
3- في الحكاية بيت , وفي البيت بنت
وفي البنت باء ونون وتاء
وفصل الشتاء
على قاب قوسين , أو لست أدري من الجسم
والجسم يهفو
إلى ما به يصبح الجسم فجراً
وللفجر جسر
وللجسر سحر
يقود المغني إلى غابة
ليرى ما يرى : حفراً وينابيع فادحة وقبابا
وعشبا عظيماً وأشياء أخرى
وبابا
فلا يملك الذئب إلا عواء
على صخرة في خلاء اللغة
في هذا النص التوليدي يأخذنا يوسف رزوقة إلى مقاربات استثنائية , حيث يجمع المعنى الصورَ من آفاق مختلفة , ويوحدها ليصبح هو قوامها , إنه يقول ما هو , كما هو , لاستكمال ما يتكامل , فهو لا يعاني الحدث بل ينشئه , فالواقع – كما يقول أنطون مقدسي – ليس في واقعيته , بل في صورته.
- الشكل والوظيفة :
إن النص الأدبي عامة , يتشكل حسب وظيفته , فالشكل والوظيفة متلازمان , والتحولات التي مرت بها القصيدة التونسية , استقرت على أشكال ذات علاقات عضوية محكمة:
4- أتصفح .. بين سطور الليل , وجوه من رحلوا
وخلف مرايا الضوء, أخبئ وجهي
لكي لا أراني
.. بين الوجوه التي رحلت
إن سطور الليل هي سطور ليل الشاعر وحده , بهذا المعنى نحن أمام ليل جديد , ليل تضمنته قصيدة .. فالقصيدة هنا هي عالم مستقل , والشاعر عّين فيها الحقيقة الفنية التي صنعها , من خلال موقعها في منظومة الشكل البنياني , وليس من خلال الحقائق العينية في الطبيعة .
ثمة تعيينات تلزمنا باستكناه المنطق , كما في قصيدة فاطمة الحمزاوي:
وشوشة نور تعبث بقصاصات صمتي
فتفيض بها أحداق المكان
وتذرفني المسافة ثرثرة
تلملمني تسابيح ثكلى
ليجهش الصدى بصوتي
وأنا : قاب دمعتين وصرخة.
فالشكل هنا ليس المعنى الوعائي المجرد , إنه التعبير الكلي للقصيدة .. منطقها الخاص ( فالنور الذي يوشوش , وقصاصات الصمت , وأحداق المكان ) تعيينات على جغرافية ذات القصيدة , والتكامل البنائي , والصور , والرموز , هو الذي يمنح القصيدة حقيقتها الموضوعية , ويجعلنا نؤمن بمنطقها .. تلك هي رسالة الفن , يمنح الأشياء قيمة , ليس لما تمثله بل لما تعنيه , على حد تعبير ماركيز .
ومن الأمثلة المهمة في هذا الإطار , قصيدة حضرموت للشاعر المنصف الوهايبي:
خطت أجفاني على صورة محبوبي ونمت
غير أن الحلم يأبى , فهي تأتي صورة أخرى
ترى كيف تناهت زهرة البربر حمراء إليه
وأراحت خدها المقرور في رمل يديه
حضرموت
سلم من حجر يفضي إلى البحر.. صعدت
وعي التناقض الوجداني هذا .. التناقض المحرض .. التناقض الديناميكي, يحول القصيدة إلى جسر يعبر عليه الشاعر والقارئ معاً .
في طرف آخر من المشهد التونسي يطالعنا الشاعر صلاح بن عياد بنظام المماثلات الحسية لإثارة تزامنات أبعد وأعمق:
ألبس حذاء " فان كوخ" المفرد
أرحل في الزيتي اللاصق
أجر خيطيه الأسودين إلى خارج اللوحة
حذاء " فان كوخ" يلامس الطريق الآن
الطريق اليابسة والطويلة
على مرأى اللحى الحمراء فوق الأرصفة
أحدق في نظرتين متدحرجتين
من أعلى اللوحة
أجر الخيطين إلى المنتهى.
هكذا يصبح الشعر لحظة علة صورية كما يقول غاستون باشلار.
بيد أن هذه الأنماط لا يمكن عدّها وحصرها , فهي متوالدة ومتتالية ومتعاقبة , وهي بنفس الوقت مثار أسئلة , يقول الحبيب الهمامي في قصيدته ( حكمة ):
الوردة حين نسميها / لا تقطفها
والمرأة حين نناديها تمضي
ونناديها فتصوم عن العودة
لو نصمت
سوف تجيء المرأة في يدها الوردة.
بينما يطالعنا محمد الغزي بدلالات شعرية , وإشارات بلغت حد الاستغراق فيما هو فيه :
إذا كنت تشهــد أنـــك أنــي فكيـف تفــرق بينــي وبينــي
سأهتف في الناس باسمك حتى تراك يدي وتشمك عيني
هذا التماثل مع المنجز , يتيحه المنهج الصوفي , وإن في منظومة المعاني المتوجة شعراً .
في هذين البيتين تكمن الحقيقة الروحية والمادية لنفس الشاعر , بناء على الكيفية التي تتم بها قراءة القصيدة .
بينما نرى أمثلة أخرى تجاوزت تماثل المنجز الصوفي إلى كشف آخر :
5- قبل أن يقع في نفسي
مرّ بدوني
ليطوف عالما هرما
ويتذوق الألم من خلايا النحل
وحين أجلسته في قصيدتي بطلاً
يمشي فوق ماء يتدفق
وناولته الكأس تلو النشوة
في حضرة سكارى الصحو
أدرك خاصرتي.
- مقاربات :
باعتبار الشعر هو الجامعة التي تخرجت منها كل الأجناس الأدبية الأخرى , فإنني أجد نفسي على مسافات مختلفة – ليس – من كل شاعر , بل من كل قصيدة , من حيث أن القيمة الفنية ليست سابقة , بل موازية للحاجة في الواقع الموضوعي, وبالتالي هي متغيرة ومتبدلة , حتى وإن تعددت وتنوعت القصائد التي تأخذ باعتبارها نفس الحاجة , فهي لا تتحدد في مستوى واحد , إنما تأخذ أشكالاً مختلفة من التعيينات , وفي مستويات متباينة متداخلة , وبالتالي هي غير قابلة للانتهاء.
- اللغة والصورة :
من أجمل التعريفات التي أطلقت على الإنسان , ذلك التعريف الذي ينسب إليه اللغة (الإنسان كائن لغوي ) حتى إنه تم الربط الوثيق بين اللغة والفكر, فمن ليس لديه لغة , ليس لديه فكر, ثمة حقيقة وراء هذه الحقيقة , هي حقيقة الصورة ,إذ أن وراء الكلام صور يمثلها " وحين يأخذ التعبير بالصور نسقاً معيناً فإنه يصبح " أدبا " والتعبير عن الأفكار بالصور التي تكونها في اللغة , تظهر- أوضح ما تظهر- في الشعر " :
6- أنا كل يوم , أعود على قاب قوسين
من نوبة القلب والانفجار
أرى الأرض هاربة من خطاي
ومن حولي الشمس ترصدها المقصلة
وأرى الريح / تابت عن الجمرة الشاعلة
كل يوم أعود بلا رغبة في اجترار الحياة
كما علبتها الكواليس والشائعات
وبعض القوانين والواردات
أنا / كل يوم أحن إلى عالم يستجيب لأحلامنا
ويفوح برائحة الشعراء
تسرح آفاقنا من ضباب الخطب
كل يوم
أعود إلى زوجتي طافحا بالغضب
تستفزّ الإذاعة عقلي
وتكذب تلك الجرائد في زعمها
أن ليلى مضت ..
ومضى عشقها ..
من خيال العرب.
إن حداثة القصيدة ترتبط فيما ترتبط بحداثة صورها , فالصورة في القصيدة الحديثة لم تعد تشبيه شيء بشيء , تلك صورة الشعر الجاهلي , للقصيدة الحديثة صورها الحية , المتواترة , المنسجمة , فنحن لا نتكلم في القصيدة الحديثة عن وحدة البيت , نتكلم عن وحدة البناء , وحدة العلاقات البنائية بين أنماط الاستعمال اللغوي وحركية البنيان التعبيري , كما يقول أحمد يوسف داوود .
7- لتلك التي أبدا لا تطال
ومن قبلها لم يكن في المعاجم اسما لمعنى الشموخ
أنا ما أزال أوجه بوصلة الروح ..
أمتدّ جسراً , وأفتح بوابة للمجاز
أفكك عرجون غيب قديم
وأسأل : هل مرة يرتدينا الجلال ؟
وبعد .. أحاول فك الرموز التي طوقتني
وألقي بأسئلتي على شرفة في مدار الحجاب
أسائل عن نفحة الله في روحها
وأعرف كم في تعاليمهم .. لا يجوز السؤال.
- خاتمة :
أعرف أن قراءة تحولات القصيدة التونسية المعاصرة , والبحث بتحولاتها يستلزم أكثر مما وقع في قراءتي هذه من شواهد , وأعرف أيضا أن قراءة نص – أي – نص هي بشكل أو بآخر إعادة إنتاج لذلك النص .
فهل كنت على مستوى الظن بي ؟؟ هل أعطيت القصيدة التونسية حقها ؟؟ اعتقد أنها بداية , والتعثر من طبيعة البدايات , ربما تتبعها قراءات أخرى إذا كان في العمر بقية.
- هوامش الشوهد :
1- الهادي الدبابي 2- جميلة الماجري 3- يوسف رزوقة 4- صالح سوسي 5- آمال موسى 6- المولدي فروج 7- محمد شكري .
بقلم : إبراهيم الزيدي
تمهيد : أعلم بدءا أني على مشارف مغامرة هي من الأهمية بمكان , تأتي أهميتها من جسر الهوة , أو المساهمة في جسر الهوة القائمة بيننا وبين الأدب في بلاد المغرب، وإضاءة الخلفيات التي يستمد منها الخطاب الشعري التونسي رؤاه , ويعتمد عليها في تجسيد رموزه وإيحاءاته ودلالاته , مع يقيني بأن الشعر مادة الحياة , والنزوع إلى الجديد هاجس الإنسان منذ البدء.
- التراث العربي: إن التراث العربي بمعناه الواسع , يشكل بالنسبة للأدب العربي المعاصر امتداداً وحضوراً فاعلاً ، والشعر التونسي المعاصر، هو أحد أبناء ذلك التراث , وقد احتل مكانة مرموقة إلى جانب إخوته المشارقة في المشهد الثقافي العربي منذ نشأته , فمن منّا لا تحتفظ ذاكرته بقصيدة الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بـدّ لليــــل أن ينجلـــي ولا بدّ للقيد أن ينكســـر
ولم يكن الشابي وحده , ثمة شعراء كُثر , منهم منور صمادح , صاحب ديوان ( المغارب ) الذي تغنّى فيه ببلدان المغرب العربي وهي تخوض كفاحها من أجل الحرية والاستقلال:
ذاتي فنـت في ذاتهـــا فأنا بها كلف أهيم بربعها الفتــــــان
فإذا سكتّ فتلك مني سجدة تهدى لها والقدس ملىء جنانــــــــي
وإذا نطقت فلست أذكر غيرها , وإذا شدوت فحبها ألحاني
وأمير الشعر العمودي مصطفى خريف , صاحب ديوان ( شوق وذوق ) الذي يؤكد شعره ذلك الانتماء العروبي المتمكن من النفس , في أروع تجلياته :
عيد العروبة عد , فدتك دمانا, واقبل تحيتنا ومحض هوانا
عد كالمجاهد جاء من ميدانه , ثملاً بخمرة نصره نشوانــا
عد كالشباب الغض يملأ وجهه , ماء الفتوة رائقاً فتانـــــا
والشاعر الساخر حسين الجزري , الذي أصدر صحيفة النديم سنة 1910 , والشاعر نور الدين صمود صاحب قصيدة ( حسناء ) :
وفي صدرها قطرتا نرجس , على كومتين من النور لاحا
فيا سلّة النرجس الفستقي , تراك نسجت الضياء وشاحـا
وعطرته بالشذى الزنبقي , فلاح صباح .. يضم صباحـــا
والشاعر أحمد اللغماني صاحب قصيدة (الحرية ) الشهيرة:
أصفى من لؤلؤة البحرين
أنقى من قطرة طلّ يشطرها الإشعاع إلى شطريـــن
أحلى من همسة حب تعبر في خفر بين الشفتيـــــن
أسمى من رعشة قلب الأم تفيض حنانا في الثدييـن
أعلى من قمة ما لا يدرك حتى فوق ذرى القمريــن
هذا .. بل أكثر من هذا .. يا طيف رؤاي الليليــــــة
يا نسمة صيف بحرية
يا فاتنتي .. يا حريــة
من هذا الإرث الشعري العربي الأصيل , وبناء عليه انطلقت مسيرة الشعر التونسي المعاصر , ولأنني لا أريد اطلاق الأحكام ، وددت أن أكتب عن متن القصيدة التونسية المعاصرة , انطلاقا مما توفر بين يدي من شواهد , باعتبار الشعر المعاصر لم يعد يبحث في أسباب حداثته , أو يواجه أسئلة مراحله , فقد أكّد مشروعيته , وأخذ مكانه ومكانته التي يستحقها , وهذا لا يعني أن نطمئن ،أو أن ندّخر الأسئلة لمرحلة لاحقة , فالتحول حالة كلية (اجتماعية – سياسية – اقتصادية – ثقافية – علمية – الخ ) والشعر جزء من هذا الكل , والتحول المطلوب لم يتم بعد !! لا بل إن أمامه من المعيقات ما يدفع المراقب إلى اليأس ..
لابأس أن يأخذ الشعر المبادرة , ولكنه يجب أن لا يبقى وحيدا , فالوحدة غربة .. إذا هي بداية , بغض النظر عن الاتساع الزمني الذي امتدت عليه التجربة الشعرية الحديثة , ولتتمكن يجب أن يكون الابتداء مستمراً ، فمضار الاستكانة لما أنجز أكثر من فوائدها ..
نستطيع القول إن التراث العربي أعطى للتشكيل اللغوي الجديد بعداً في بنيته الدلالية , ومرجعاً يحيل إلى ذاته .
التواصل مع الغرب
إذا كان العالم قد تحول إلى قرية صغيرة , فإن التراث الإنساني – كل التراث الإنساني – أصبح مشاعاً, وقد أصبح تأثيره ملحوظاً أيضا ، في جميع الفنون الأدبية , ومنها الشعر ، وفي شعر بلاد المغرب على وجه الخصوص , إذ أن الشعراء المغاربة قد اطلعوا قبل غيرهم من العرب على النظريات الإبداعية الحديثة ، ووصلت إليهم قبل غيرهم منشورات الطليعة الباريسية ، ودعوات النقد الجديد , والآراء الفلسفية الحديثة ، وكان كل ذلك محل عناية النخبة التونسية ، إضافة إلى الإرهاصات السياسية التي نتجت عن نكسة /1967/ وما خلفته تلك الإرهاصات في الشارع العربي عامة , والشارع التونسي خاصة ... مما وفر للنخبة مناخاً لمراجعة ما هم عليه – خاصة – وقد توفرت البدائل الموضوعية لروافد المشرق الثقافية المنتهية بالنكسة !! فتعالت الأصوات التي ترفض الأبوية التقليدية للمشرق ( في مجال الشعر ) وأصبحت ( تفعيلة الحياة هي وزن الشعر الجديد ) , حتى أن بعضهم رأى أن " الهندسة العروضية لا فضل لها إلا في كونها من تراثنا " وفي خضم هذه المراجعات كانت القصيدة التونسية تحفر مسارها بخصائص الشعر الفرنسي والإنكليزي , متوسلة النظريات الإبداعية والنقدية الغربية , وصار الشاعر يعتمد على ثقافته أكثر من اعتماده على تجاربه المباشرة .
- مدخل: بكثير من الاندفاع والشغب ( الشعري والنقدي ) أعلنت القصيدة التونسية الجديدة عن نفسها , عبر عدد من الأنماط , بعضها متشابه , والبعض الآخر متفرق .. ولنفهم طبيعة التحول الذي عاشته القصيدة التونسية , لا بدّ من التأكد من المراح الجديد الذي اكتشفه فرسانها في اللغة , ومتابعة الرغبة في " زحزحة اللغة من مقامها البياني أو البلاغي إلى حالتها التركيبية الجديدة "
- 1- كل هذه الأجنحة
كل هذه الإبر التي تتقافز تحت قدمي
ولا أتعثر في الدرب إليك
كل هذا البكم الذي يملأ فمي
ولا أتلعثم في نطق اسمك الأعظم
كل هذا الظمأ
كل هذا الرمل الذي يسد الحلق
كي أتنصت خرير محبتك
كل هذه الوحدة
لأنجو بقلبي من محض الصدفة
وأقيم حواراً مع الريح
كل هذه الوداعة من حين لآخر
لأتلمس السماء بالنظر
والتراب بجبيني
وإصبعي بشفتي..!!
هذا التناسل في الجملة الشعرية , وإن انحاز للسرد فهو يستدعي التأويل مدخلاً , إن إقامة الشاعر المعاصر في الآخر , ومعرفته التامة به , ووصوله وتواصله مع التراث الإنساني , خلصه من كثير من قيوده الواقعية , ومن قيود مرجعياته أيضاً .. لتقوم لغته على علاقات جديدة وصولا إلى الرؤيا ( المجال الشعري للقصيدة ) , فهذه الاستعارات الباهرة.. المكثفة, تحرر القصيدة من البعد التقريري , وتضعها في مجال لغة الممكن , وتعيد الكلمات إلى ذاكرتها العفوية:
2- هل كان يكفي أن نفض حروفنا
من قشرها العاجي
ننفذها على ورق الزجاج
لكي تباشرنا الحرائق
أو , تعرينا اللغات
هل كنت تدرك أن سينزلق الزجاج بنا
ويربكنا التشبه والحساب؟؟
وأن سنغدو في انكسارات الزوايا
فتنة للظل
خاتل ضوءه
لتوافق الأسماء, والأشكال عند لقائنا
فكأنما / قد كانت الأسماء قبل لقائنا
تشتاق فوضاها
معطلة عن الأفعال أجمعها
وعن قول يبعثرها
ويطرق بابها السريّ
يطلقها / فتينع , تسترد توهج اللغة التي
عميت على غبش الزجاج
إن هذه البنائية المحتشدة بالمعاني والدلالات , هذه البداية المتسائلة , تفتح الأفق واسعاً أمام احتمالات الإجابة التي شكلتها ( القصيدة ) , وأعطت للبنية مجال انبنائها مشهدياً , هذا السعي الحثيث نحو الآخر .. هذا التناوب بين معطيات الذات والموضوع , يجعل أكثر من ظل يشتبك على أرض البياض , وهذا الخروج من سيطرة النماذج , فتح الباب على مصراعيه للعابرين إلى أفق التعبير الموازي للحياة.
- بين الوردة وعطرها
مما لا شك فيه أن القصيدة التونسية قد استوقفتني, وحين راجعت موقفي منها , وجدتني بين الوردة وعطرها .. أعاين شكلها فتأخذني الدهشة , وأشم أريجها فتمتلىء نفسي بأحاسيس جديدة , ومشاعر تتوثب للقول بناء على ما قالت .. تستوقفني حركة عناصرها , مما يؤكد لي أن الكلام تطبيق للنظم الاجتماعية , ويخضع لمؤثرات شخصية , كما يقول عدنان بن ذريل , وهذه المؤثرات واضحة جلية في الشعر التونسي المعاصر , ومما يلفت الانتباه : أن الاستجابة للجديد تبدو أكثر تحققا ووضوحا في القصيدة التونسية المعاصرة , مما يدفعنا إلى القول إن هذا التعبير بشكله ومضمونه , هو استجابة حقيقية للعناصر الحيوية في حركة الزمن ,وإن كانت التسمية التي تشمل كل الاتجاهات في الشعر التونسي المعاصر لم تتحدد بعد !! علماً أن البعض استطاع أن يشق لنفسه طريقا مميزاً , ويؤكد خصوصيته , وتفرده في هذا المجال:
3- في الحكاية بيت , وفي البيت بنت
وفي البنت باء ونون وتاء
وفصل الشتاء
على قاب قوسين , أو لست أدري من الجسم
والجسم يهفو
إلى ما به يصبح الجسم فجراً
وللفجر جسر
وللجسر سحر
يقود المغني إلى غابة
ليرى ما يرى : حفراً وينابيع فادحة وقبابا
وعشبا عظيماً وأشياء أخرى
وبابا
فلا يملك الذئب إلا عواء
على صخرة في خلاء اللغة
في هذا النص التوليدي يأخذنا يوسف رزوقة إلى مقاربات استثنائية , حيث يجمع المعنى الصورَ من آفاق مختلفة , ويوحدها ليصبح هو قوامها , إنه يقول ما هو , كما هو , لاستكمال ما يتكامل , فهو لا يعاني الحدث بل ينشئه , فالواقع – كما يقول أنطون مقدسي – ليس في واقعيته , بل في صورته.
- الشكل والوظيفة :
إن النص الأدبي عامة , يتشكل حسب وظيفته , فالشكل والوظيفة متلازمان , والتحولات التي مرت بها القصيدة التونسية , استقرت على أشكال ذات علاقات عضوية محكمة:
4- أتصفح .. بين سطور الليل , وجوه من رحلوا
وخلف مرايا الضوء, أخبئ وجهي
لكي لا أراني
.. بين الوجوه التي رحلت
إن سطور الليل هي سطور ليل الشاعر وحده , بهذا المعنى نحن أمام ليل جديد , ليل تضمنته قصيدة .. فالقصيدة هنا هي عالم مستقل , والشاعر عّين فيها الحقيقة الفنية التي صنعها , من خلال موقعها في منظومة الشكل البنياني , وليس من خلال الحقائق العينية في الطبيعة .
ثمة تعيينات تلزمنا باستكناه المنطق , كما في قصيدة فاطمة الحمزاوي:
وشوشة نور تعبث بقصاصات صمتي
فتفيض بها أحداق المكان
وتذرفني المسافة ثرثرة
تلملمني تسابيح ثكلى
ليجهش الصدى بصوتي
وأنا : قاب دمعتين وصرخة.
فالشكل هنا ليس المعنى الوعائي المجرد , إنه التعبير الكلي للقصيدة .. منطقها الخاص ( فالنور الذي يوشوش , وقصاصات الصمت , وأحداق المكان ) تعيينات على جغرافية ذات القصيدة , والتكامل البنائي , والصور , والرموز , هو الذي يمنح القصيدة حقيقتها الموضوعية , ويجعلنا نؤمن بمنطقها .. تلك هي رسالة الفن , يمنح الأشياء قيمة , ليس لما تمثله بل لما تعنيه , على حد تعبير ماركيز .
ومن الأمثلة المهمة في هذا الإطار , قصيدة حضرموت للشاعر المنصف الوهايبي:
خطت أجفاني على صورة محبوبي ونمت
غير أن الحلم يأبى , فهي تأتي صورة أخرى
ترى كيف تناهت زهرة البربر حمراء إليه
وأراحت خدها المقرور في رمل يديه
حضرموت
سلم من حجر يفضي إلى البحر.. صعدت
وعي التناقض الوجداني هذا .. التناقض المحرض .. التناقض الديناميكي, يحول القصيدة إلى جسر يعبر عليه الشاعر والقارئ معاً .
في طرف آخر من المشهد التونسي يطالعنا الشاعر صلاح بن عياد بنظام المماثلات الحسية لإثارة تزامنات أبعد وأعمق:
ألبس حذاء " فان كوخ" المفرد
أرحل في الزيتي اللاصق
أجر خيطيه الأسودين إلى خارج اللوحة
حذاء " فان كوخ" يلامس الطريق الآن
الطريق اليابسة والطويلة
على مرأى اللحى الحمراء فوق الأرصفة
أحدق في نظرتين متدحرجتين
من أعلى اللوحة
أجر الخيطين إلى المنتهى.
هكذا يصبح الشعر لحظة علة صورية كما يقول غاستون باشلار.
بيد أن هذه الأنماط لا يمكن عدّها وحصرها , فهي متوالدة ومتتالية ومتعاقبة , وهي بنفس الوقت مثار أسئلة , يقول الحبيب الهمامي في قصيدته ( حكمة ):
الوردة حين نسميها / لا تقطفها
والمرأة حين نناديها تمضي
ونناديها فتصوم عن العودة
لو نصمت
سوف تجيء المرأة في يدها الوردة.
بينما يطالعنا محمد الغزي بدلالات شعرية , وإشارات بلغت حد الاستغراق فيما هو فيه :
إذا كنت تشهــد أنـــك أنــي فكيـف تفــرق بينــي وبينــي
سأهتف في الناس باسمك حتى تراك يدي وتشمك عيني
هذا التماثل مع المنجز , يتيحه المنهج الصوفي , وإن في منظومة المعاني المتوجة شعراً .
في هذين البيتين تكمن الحقيقة الروحية والمادية لنفس الشاعر , بناء على الكيفية التي تتم بها قراءة القصيدة .
بينما نرى أمثلة أخرى تجاوزت تماثل المنجز الصوفي إلى كشف آخر :
5- قبل أن يقع في نفسي
مرّ بدوني
ليطوف عالما هرما
ويتذوق الألم من خلايا النحل
وحين أجلسته في قصيدتي بطلاً
يمشي فوق ماء يتدفق
وناولته الكأس تلو النشوة
في حضرة سكارى الصحو
أدرك خاصرتي.
- مقاربات :
باعتبار الشعر هو الجامعة التي تخرجت منها كل الأجناس الأدبية الأخرى , فإنني أجد نفسي على مسافات مختلفة – ليس – من كل شاعر , بل من كل قصيدة , من حيث أن القيمة الفنية ليست سابقة , بل موازية للحاجة في الواقع الموضوعي, وبالتالي هي متغيرة ومتبدلة , حتى وإن تعددت وتنوعت القصائد التي تأخذ باعتبارها نفس الحاجة , فهي لا تتحدد في مستوى واحد , إنما تأخذ أشكالاً مختلفة من التعيينات , وفي مستويات متباينة متداخلة , وبالتالي هي غير قابلة للانتهاء.
- اللغة والصورة :
من أجمل التعريفات التي أطلقت على الإنسان , ذلك التعريف الذي ينسب إليه اللغة (الإنسان كائن لغوي ) حتى إنه تم الربط الوثيق بين اللغة والفكر, فمن ليس لديه لغة , ليس لديه فكر, ثمة حقيقة وراء هذه الحقيقة , هي حقيقة الصورة ,إذ أن وراء الكلام صور يمثلها " وحين يأخذ التعبير بالصور نسقاً معيناً فإنه يصبح " أدبا " والتعبير عن الأفكار بالصور التي تكونها في اللغة , تظهر- أوضح ما تظهر- في الشعر " :
6- أنا كل يوم , أعود على قاب قوسين
من نوبة القلب والانفجار
أرى الأرض هاربة من خطاي
ومن حولي الشمس ترصدها المقصلة
وأرى الريح / تابت عن الجمرة الشاعلة
كل يوم أعود بلا رغبة في اجترار الحياة
كما علبتها الكواليس والشائعات
وبعض القوانين والواردات
أنا / كل يوم أحن إلى عالم يستجيب لأحلامنا
ويفوح برائحة الشعراء
تسرح آفاقنا من ضباب الخطب
كل يوم
أعود إلى زوجتي طافحا بالغضب
تستفزّ الإذاعة عقلي
وتكذب تلك الجرائد في زعمها
أن ليلى مضت ..
ومضى عشقها ..
من خيال العرب.
إن حداثة القصيدة ترتبط فيما ترتبط بحداثة صورها , فالصورة في القصيدة الحديثة لم تعد تشبيه شيء بشيء , تلك صورة الشعر الجاهلي , للقصيدة الحديثة صورها الحية , المتواترة , المنسجمة , فنحن لا نتكلم في القصيدة الحديثة عن وحدة البيت , نتكلم عن وحدة البناء , وحدة العلاقات البنائية بين أنماط الاستعمال اللغوي وحركية البنيان التعبيري , كما يقول أحمد يوسف داوود .
7- لتلك التي أبدا لا تطال
ومن قبلها لم يكن في المعاجم اسما لمعنى الشموخ
أنا ما أزال أوجه بوصلة الروح ..
أمتدّ جسراً , وأفتح بوابة للمجاز
أفكك عرجون غيب قديم
وأسأل : هل مرة يرتدينا الجلال ؟
وبعد .. أحاول فك الرموز التي طوقتني
وألقي بأسئلتي على شرفة في مدار الحجاب
أسائل عن نفحة الله في روحها
وأعرف كم في تعاليمهم .. لا يجوز السؤال.
- خاتمة :
أعرف أن قراءة تحولات القصيدة التونسية المعاصرة , والبحث بتحولاتها يستلزم أكثر مما وقع في قراءتي هذه من شواهد , وأعرف أيضا أن قراءة نص – أي – نص هي بشكل أو بآخر إعادة إنتاج لذلك النص .
فهل كنت على مستوى الظن بي ؟؟ هل أعطيت القصيدة التونسية حقها ؟؟ اعتقد أنها بداية , والتعثر من طبيعة البدايات , ربما تتبعها قراءات أخرى إذا كان في العمر بقية.
- هوامش الشوهد :
1- الهادي الدبابي 2- جميلة الماجري 3- يوسف رزوقة 4- صالح سوسي 5- آمال موسى 6- المولدي فروج 7- محمد شكري .