لم تكن تعرف النوم كما تشتهي ، فصغيرتها التي تعدت عامها الأول بشهور تصر على أن تجبرها على ترك فراشها الدافئ ونومها ـ الذي ما فتئت تغالبه حتى استكانت له مستسلمة ملتذة ـ تجبرها على ترك هذا كله لتقوم على صوتها الحبيب الباكي وهي تقول [ ضاعة ، ضاعة ، ماما ضاعة] فتقوم مغلوبة على أمرها لتعد لها ما طلبت ، وكيف تستطيع النوم ، وصغيرتها تصيح وقد قرصها الجوع وتستغيث بأمها لتسكت قرقرة هذا البطن الصغير الحبيب والذي لا يريد سوى ال [ الضاعة ]؟؟
كثيرا ما نصحنها زميلاتها في العمل على أن تعوّد طفلتها الشرب من الكأس بدلا من الرضاعة لكنها عجزت عن فعل ذلك وطفلتها مصرة لا ترضى الشرب إلا بها ،، حاولت أكثر من مرة تجريب هذه النصائح لكن هذه الصغيرة ترفض بشدة حتى وإن قتلها الجوع تأبى أن تستقبل الحليب إلا ب [ الضاعة ]
كانت تجهز على طاولة صغيرة كل ليلة عدة طفلتها هذه ، الحليب ، الماء الساخن في [ تيرموس ] صغير فإذا ما انطلقت من صغيرتها صافرة الجوع وهمهماتها الباكية ، تركت مرغمة دفء فراشها وقامت لتعد لها المعلوم .
ويوما بعد يوم أحست بأن الموضوع لا بد له من نهاية ، خاصة وأنها سمعت من الأطباء أنها غير صحية لما يعود على الطفل من خراب أسنانه ، كما أنه يجب أن يستمتع بنوم لا يقطعه صحو ، ولنضف إلى ذلك تذمرها هي من انقطاع نومها كل ليلة بما لم يعد عندها أمامه من خيار إلا البحث عن طريقة تستطيع من خلالها بتر هذه العادة وفطام صغيرتها عنها.
وفي لحظة ، لمعت في ذهنها فكرة [ والحاجة أم الاختراع ]
همهمت بينها وبين نفسها ، بأنها لابد فاعلة وأن الأمر لا بد محسوم والنجاح حليفها ، نعم ، هذا هو الحل ولا غيره ؛ علا صراخ طفلتها وهي تبكي طالبة المعلوم ، كان الوقت في هذه المرة عصرا ، حاولت أن تجعلها تشرب الحليب من الكأس ، لكن الطفلة رفضت ، ورفضت بشدة هي لا تريد سو رضاعتها ،ولم تجد بدا من تنفيذ ما فكرت به وانتوته ، حملت الرضاعة وبحثت بعزم عن المطرقة ، وكانت لحظتها تقف على الدرج ، وطفلتها تنظر إليها بعينين امتزج فيهما الرجاء والبكاء والخوف وولداها الآخران يراقبانها ماذا ستفعل ، وصرخت برضيعتها :
بدك الضاعة ، ها ؟؟؟ بدك الضاعة ؟؟؟
طيب ، هي الضاعة !!!!
وهوت على الرضاعة بالمطرقة ,وأخذت تحاول كسرها أمام صغيرتها ، وللحق فإن الرضاعة لم يكن تحطيمها سهل لأنها لم تكن من الزجاج ، بل من البلاستيك الشفاف ، ، وبكت صغيرتها ، بكت كثيرا ، لكن بكاءها هذه المرة كان غريبا ، كان بكاء من استسلم للموت وهو يعلم أن لا جدوى من بكائه ، وكانت هذه المرة الأخيرة التي تطلب فيها الرضيعة هذه ال [ الضاعة ]
وانتهى كابوس الضاعة الليلي بالنسبة للأم ،
ومرت السنوات ، مرت سنوات طوال ، لكنها في كل مرة ،تتذكر فيها هذه الحادثة تسأل نفسها : كيف استطعت أن أمتلك كل هذه القسوة ؟؟؟
كيف سمحت لنفسي أن أعذب ابنتي بهذه ا لصورة شبه الوحشية ، حين قتلت حبيبتها [الضاعة ] وحرمتها ممن تساويني عندها ، إنها في الواقع أمها ، فكيف أقتل أمها أمام بصرها ؟؟؟
كان هذا التساؤل يلمع في ذهنها للحظات ، وتعود لتقنع نفسها بصحة ما قامت به وضرورته ، فلولا ذلك ما تعلمت ابنتها الشرب بالكأس ، ولا فطمت عن الرضاعة أصلا ، فاليأس هو الحل
حادثة ابنتها هذه لم تكن الوحيدة في حياتها التي مارست فيها هذا الحزم في نفس الموقف ، [ الفطام ]
كان هناك موقف مشابه في طريقة التعامل لا تفتأ أيضا تذكره ، خاصة بعد أن ذكرتها به أم الطفلة التي مارست عليها هذا الموقف ،
وإليكم الحكاية :
كانت زائرة مع زوجها لخالته التي تقطن هي وأولادها المتزوجين نفس البيت ، وكلنا يعلم حياة القرى في فلسطين ، بيت العائلة الذي يعطي لكل ابن وزوجته غرفة أو غرفتين في المنزل ولا مانع من وجود أكثر من ابن يقاسمان أبويهما الحياة فيه ، كانت ضيفة وغريبة عن الجميع فقد تزوجت خارج فلسطين ، إذا ، فهي غريبة بكل المقاييس عن هؤلاء الذين دخلت بيتهم ، ولكن مما شد انتباهها وأثار [ قرفها ] واندهاشها حين رأت طفلة يزيد عمرها عن الثلاث سنوات تضع في فمها [ لهاية ] تمصها ، وليس هذا ما أثار كل هذا المشاعر وحده ، بل طريقة وضع الطفلة للهاية في فمها فقد كانت تدخل مع حلمة اللهاية عظمتها الدائرية مما يجعل فم الطفلة مفتوحا بصورة بشعة وهي تمص اللهاية ، تخيلت مصير هذه الطفلة إن كبرت وهي على هذه الحال وكيف سيصبح شكل فمها إن استقر على وضع معين بسبب الاستعمال الخاطئ هذا للهاية ، سألت أم الطفلة عن وضع طفلتها هذا فأجابت الأم إجابة اليائس الذي استراح للأمر ما دام قد كفاها صراخ طفلتها وقنعت بالسلامة منها .بان طفلتها ترفض الاستغناء عن لهايتها ولا تريد أن تمصها إلا بهذه الطريقة...
في هذه اللحظة لم تجد بدا من أن تتصرف هي بنفسها وإن كسبت من الأم حنقها أو مسبة ما تطالها منها بسبب جرأتها وهي الغريبة على فعل ما انتوت ، فاقتربت من الطفلة واستلت من فمها هذه اللهاية المقززة ، ورفعت يدها ورمت بها إلى أبعد نقطة قد تصل إليها.... وكانت لحظتها تقف في ساحة البيت وأمامها مدى واسع من الفضاء ،
والغريب أنها الآن وبد مرور سنوات طوال على الموضوع لا تذكر أن الطفلة بكت لما فعلته بها ، لكنها تذكر أن أم الطفلة قالت لها وبعد مرور عدة سنوات حين قابلتها مرة أخرى أن فعلتها هذه ، كانت السبب في فطام ابنتها عن اللهاية وأنا تشكرها على ما فعلت .
حادثتان ، لا تنساهما ، بل لا تغيبان عن ذاكرتها مع مرور أكثر من ثمانية عشر عاما عليهما ،والآن تنظر في داخلها ، في هذا الضعف الذي يكسوها ويقيد فكرها ، لم أضحت هكذا غير قادرة على فطام روحها ؟ على وضع حد لهذا الانسياق وراء رغبات لا بد من مصادرتها ، تلك الرغبات التي سيطرت عليها حتى أوهمتها أنها لا تستطيع الاستغناء عنها .
كيف استطاعت ذات يوم أن تنهي علاقة ابنتها برضاعتها ؟؟؟ كيف سمحت لنفسها بفطام ابنة قريب لزوجها عن لهايتها ؟؟كيف ؟؟
وهاهي تعجز الآن ، وتقف صغيرة بل قزمة الإرادة أمام هذه الرغبات ، وهذه الأوهام ؟؟؟
سؤال آخر :
كيف نستطيع وبقوة وثقة ومهارة سلب الآخرين أشياءهم الجميلة وحرمانهم مما يعتبرونه حلما أو أملا بحجة أنه لا بد من ذلك استجابة لنداء العقل والحكمة ، وحين يتعلق الأمر بنا ، بأحلامنا ، بهوانا ، بأشيائنا التي نرفض البعد عنها مع علمنا الأكيد بأنها ليست لنا ولسنا لها ، ووجودها قد يضر بنا بصورة أو بأخرى ، ومع ذلك نقف أمامها وقفة ابنة صاحبتنا أما رضاعتها وهي تراها تتحطم تحت مطرقة أمها الجبارة القاسية .
لماذا تأكل الحرقة في قلوبنا وتنزف مشاعرنا حسرة قاتلة كلما فكرنا بفقدان أشيائنا هذه ؟؟؟
ترى ، هل فعلا نحن عاجزون أما ذواتنا وجبارون مع الآخرين وعليهم ؟؟؟
لم نحن في نفس الموقف نكون أحيانا في قمة الشاعرية والرقة إذا تعلق الأمر بما يعنينا ؟؟ بحجة تلميع الذات وتقديم النفس للآخر على أننا [ السوبر ] وفي غاية القسوة والجبروت إذا كان الأمر يخص غيرنا بحجة المنطق والعقل والمفروض والواجب ؟؟
يلح علي تساؤلي حتى يجعلني أعرضه في أكثر من وجه ، وألقي عليه أكثر من ضوء يندس في أرجائه وينير زواريب فكرته إلى هنا توقف قلمي عن البوح وعجز عقلي عن الإجابة
النوار09/02/09 02:42:14 م
الإثنين، 14/صفر/1430هـ