قلادة تعريف
[align=justify]
تحرك من مكمنه بعد أن لبس الليل عباءته السوداء، بحذر صار يقطع الطرقات الملتوية ليصل العاصمة، التي لاحت له أضواء بيوتها من بعيد والتي لم تنقطع عنها الكهرباء بعد.
ثلاثة أيام مضت، يمشي ليلا بين شوارع عرفها جيدا، يختبئ نهارا من المسلحين الذين يقتلون كل رجل يرتدي بزة عسكرية، ويأكل من رغيف خبز أعطته إياه امرأة عجوز، وجدته يختبئ في حضن ساقية جفت مياهها، تغطيها شجرة رمان سقطت بفعل قصف قذيفة وقعت بالقرب منها، حين رأته شهقت وهي تتلفت خلفها، تضرب صدرها الواهن قائلة:
- ويلي بنيّ، سيقتلونك لو رأوك هنا، إنهم يجوبون الشوارع مثل الضباع الجائعة، يقتلون بلا رحمة، لا تتحرك، سآتيك برغيف خبز يسد رمقك.
قضم من رغيف الخبز قضمة صغيرة، ومشى بخطوات كبيرة اعتاد عليها، وأنوار العاصمة صارت أقرب، وشعور بالعطش لازمه مذ دفن أخاه أول أمس بعد أن ضربت صدره شظية من ناقلة جند قصفتها طائرة أباتشي، فتناثرت الناقلة بمن فيها.
كان يختبئ وأخيه بين الأشجار، في مزرعة تبعد عن منطقة اليوسفية بضعة كيلو مترات، يمسك يده بقوة، حين أحس أن قبضة يد أخيه تراخت، وأنة مكتومة تصدر منه، تفحصه مثل المجنون وهو يحثه بصوت مبحوح على النهوض، لكنه ظل ساكنا لم يتحرك.
العتمة شديدة، تحسس صدر أخيه فغرقت يده في فجوة كبيرة أطارت صوابه، وضع كلتا يديه على الفجوة يمنع النزف، فضاعت يداه في الجرح الكبير الذي أحدثته الشظية الطائشة.
لطم وجهه بقهر، وضع رأس أخيه في حضنه وصار يمسح وجهه كأنه نائم، و يمسح شعر رأسه بحنو ورقة.
بزغ الفجر، فبانت ملامح أخيه التي تشبهه تماما، بدا له كأنه يغط في نوم عميق والدماء تغطي جسده، لاحت له قريبا منه فأس ومسحاة، فشرع يحفر في عجالة قبرا لأخيه، يبكيه بحرقة والوجع يعتصر قلبه على والده الشيخ الكبير الذي ينتظر رجوعهما معا، يتمتم محدثا أخاه::
- ماذا سأقول لأبي، قل لي ثامر، كيف سأخبره بأني لم أستطع حمايتك، كيف سأخبرهم.. ويحي لمَ لمْ أكُ أنا؟
دون وعي منه تحسس قلادة التعريف الخاصة بأخيه، بعد أن نزعها من رقبته قبل أن يواري جسده التراب.
بصق لقمة الخبز التي كانت بفمه، لأنه لم يستطع بلعها، وتابع المسير.
دخل أطراف العاصمة بعد منتصف الليل، صار يقطع الشوارع وهو يجري بسرعة وقد بدت شوارع مدينته غريبة عنه، تقطع بين شارع وآخر جذوع أشجار نخيل قطعها الأهالي ، مدوها وجعلوا منها متاريس تفصل بين حي وآخر، خوفا من هجمات الأغراب عليهم!
وهاهو بيته أمام ناظريه، وثلة من شباب المنطقة تقف بالقرب منه، الجميع مدججون بالأسلحة، تراخت ساقاه وأبطأ سيره، اجتاحت كيانه رهبة، أيعقل أن يقتلوه، إنهم رفاق طفولته وصباه، وأخيه!
لمحه أحدهم فصاح مبتهجا:
- لقد عاد ثامر.. أو ثائر؟
أسرع الشبان إليه، تلقفوه بالأحضان والشيخ الكبير الطاعن في السن أسرع خطاه المتعثرة بذيل عباءته، يتوكأ على عصاه ويرتعش جسده الواهن، بلهفة متشحة بالخوف من سؤال لا يريد أن يسمع جوابه، ودمع غزيز ينهمر على وجهه المتغضن يحتضن ولده، وعيناه تنظران خلف كتف ابنه.. تبحث عن الإبن الآخر.
ومن عتبة الدار خرجت شابة تتقدمها بطنها المنتفخة، وقد تهللت عيناها بدموع الفرح، وابتسامة خائفة تغطي ملامح وجهها الحزين، مدت ذراعيها احتضنته، دفعها عنه بيسر، عادت إليه ، احتضنته بقوة هذه المرة وهي تقبله وتبكي، وكلمات التهنئة بالعودة إليها سالما تخرج من فمها متلعثمة، متعجلة غطت على كل الكلام.
فرحتها أفقدتها رشدها، والاستيعاب.
أزاحها عنه بحزم هذه المرة، وتراجع إلى الوراء خطوتين، وهو يبكي، اتسعت عيناها خوفا، وإنكار، وهي تنظر إلى يده الممدودة أمامه، تقبع في وسطها سلسة وميدالية، تحمل رقم تسلسل أخيه، فئة دمه، ورقم وحدته العسكرية.[/align][align=justify]
[/align]
نحن والنصوص القصصية/ وحديث اليوم
[align=justify]
تحرك من مكمنه بعد أن لبس الليل عباءته السوداء، بحذر صار يقطع الطرقات الملتوية ليصل العاصمة، التي لاحت له أضواء بيوتها من بعيد والتي لم تنقطع عنها الكهرباء بعد.
ثلاثة أيام مضت، يمشي ليلا بين شوارع عرفها جيدا، يختبئ نهارا من المسلحين الذين يقتلون كل رجل يرتدي بزة عسكرية، ويأكل من رغيف خبز أعطته إياه امرأة عجوز، وجدته يختبئ في حضن ساقية جفت مياهها، تغطيها شجرة رمان سقطت بفعل قصف قذيفة وقعت بالقرب منها، حين رأته شهقت وهي تتلفت خلفها، تضرب صدرها الواهن قائلة:
- ويلي بنيّ، سيقتلونك لو رأوك هنا، إنهم يجوبون الشوارع مثل الضباع الجائعة، يقتلون بلا رحمة، لا تتحرك، سآتيك برغيف خبز يسد رمقك.
قضم من رغيف الخبز قضمة صغيرة، ومشى بخطوات كبيرة اعتاد عليها، وأنوار العاصمة صارت أقرب، وشعور بالعطش لازمه مذ دفن أخاه أول أمس بعد أن ضربت صدره شظية من ناقلة جند قصفتها طائرة أباتشي، فتناثرت الناقلة بمن فيها.
كان يختبئ وأخيه بين الأشجار، في مزرعة تبعد عن منطقة اليوسفية بضعة كيلو مترات، يمسك يده بقوة، حين أحس أن قبضة يد أخيه تراخت، وأنة مكتومة تصدر منه، تفحصه مثل المجنون وهو يحثه بصوت مبحوح على النهوض، لكنه ظل ساكنا لم يتحرك.
العتمة شديدة، تحسس صدر أخيه فغرقت يده في فجوة كبيرة أطارت صوابه، وضع كلتا يديه على الفجوة يمنع النزف، فضاعت يداه في الجرح الكبير الذي أحدثته الشظية الطائشة.
لطم وجهه بقهر، وضع رأس أخيه في حضنه وصار يمسح وجهه كأنه نائم، و يمسح شعر رأسه بحنو ورقة.
بزغ الفجر، فبانت ملامح أخيه التي تشبهه تماما، بدا له كأنه يغط في نوم عميق والدماء تغطي جسده، لاحت له قريبا منه فأس ومسحاة، فشرع يحفر في عجالة قبرا لأخيه، يبكيه بحرقة والوجع يعتصر قلبه على والده الشيخ الكبير الذي ينتظر رجوعهما معا، يتمتم محدثا أخاه::
- ماذا سأقول لأبي، قل لي ثامر، كيف سأخبره بأني لم أستطع حمايتك، كيف سأخبرهم.. ويحي لمَ لمْ أكُ أنا؟
دون وعي منه تحسس قلادة التعريف الخاصة بأخيه، بعد أن نزعها من رقبته قبل أن يواري جسده التراب.
بصق لقمة الخبز التي كانت بفمه، لأنه لم يستطع بلعها، وتابع المسير.
دخل أطراف العاصمة بعد منتصف الليل، صار يقطع الشوارع وهو يجري بسرعة وقد بدت شوارع مدينته غريبة عنه، تقطع بين شارع وآخر جذوع أشجار نخيل قطعها الأهالي ، مدوها وجعلوا منها متاريس تفصل بين حي وآخر، خوفا من هجمات الأغراب عليهم!
وهاهو بيته أمام ناظريه، وثلة من شباب المنطقة تقف بالقرب منه، الجميع مدججون بالأسلحة، تراخت ساقاه وأبطأ سيره، اجتاحت كيانه رهبة، أيعقل أن يقتلوه، إنهم رفاق طفولته وصباه، وأخيه!
لمحه أحدهم فصاح مبتهجا:
- لقد عاد ثامر.. أو ثائر؟
أسرع الشبان إليه، تلقفوه بالأحضان والشيخ الكبير الطاعن في السن أسرع خطاه المتعثرة بذيل عباءته، يتوكأ على عصاه ويرتعش جسده الواهن، بلهفة متشحة بالخوف من سؤال لا يريد أن يسمع جوابه، ودمع غزيز ينهمر على وجهه المتغضن يحتضن ولده، وعيناه تنظران خلف كتف ابنه.. تبحث عن الإبن الآخر.
ومن عتبة الدار خرجت شابة تتقدمها بطنها المنتفخة، وقد تهللت عيناها بدموع الفرح، وابتسامة خائفة تغطي ملامح وجهها الحزين، مدت ذراعيها احتضنته، دفعها عنه بيسر، عادت إليه ، احتضنته بقوة هذه المرة وهي تقبله وتبكي، وكلمات التهنئة بالعودة إليها سالما تخرج من فمها متلعثمة، متعجلة غطت على كل الكلام.
فرحتها أفقدتها رشدها، والاستيعاب.
أزاحها عنه بحزم هذه المرة، وتراجع إلى الوراء خطوتين، وهو يبكي، اتسعت عيناها خوفا، وإنكار، وهي تنظر إلى يده الممدودة أمامه، تقبع في وسطها سلسة وميدالية، تحمل رقم تسلسل أخيه، فئة دمه، ورقم وحدته العسكرية.[/align][align=justify]
[/align]
نحن والنصوص القصصية/ وحديث اليوم
تعليق