المأساة الإلهية ( قصة روائية )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فتحى حسان محمد
    أديب وكاتب
    • 25-01-2009
    • 527

    المأساة الإلهية ( قصة روائية )

    [align=center]الفصل الأول[/align]
    [align=center]البداية[/align]
    [align=justify]الشمس تنشر أشعتها الحارقة على صفحة النيل الساكنة ، والقارب الصغير بسيفه يشق صفحته ببطء ورفق وحنان ، يحاول أن يكون له مكان بقلبه ، كما صاحبه العجوز يلقى بشباكه فيه مستجديا الرزق العسير من اسماك كثيرة الهروب من شباكه ، تضن عليه بكرمها ولحمها ، وتزيد من صبره المرير وباله الطويل ، فلا يغضب ولا يثور ويظل يلقى ويسحب وينتظر حتى تتكرم عليه ، ولكنه يشعر بتعب وإرهاق تخدر جسده العليل النحيف ، ويشعر بالدوار ولا يكاد يسيطر على نفسه ، حِتى يكاد طرف الشباك يهرب من بين مقبضيه ، فيتهاوى يقعد فى بطن القارب ، ويراه ولده ذو الساعدين المفتولين قوية عضلاتهما البارزتين ، من جراء المجداف الذى يعانقه طوال النهار، ويسند أبيه فى استعجاب وتساؤل :
    - ماذا حل بك يا أبى ؟ أراك قد تعبت على غير عادتك !
    - لا تقلق يا ولدى ، يبدو أن حرارة الشمس اليوم شديدة ، فأصابتني فى رأسي ، وتمكنت منى ، تهزم عنادي وصحتي وقوتي ، كما تمكن منى الزمان وسلب منى العمر ، ويبدو أنه يستدير على مقاومتي ، وأنا الذى لم افعل لكم شيئا تستندون عليه 0
    - لا تقل ذلك يا أبى ، لقد فعلت ما بوسعك ، وها أنت تفعل وتواصل النهار كله فليس مطلوبا منك أكثر من ذلك 0
    - ولكن الحمل ثقيل يا ولدى ، وأنا مشفق عليك أن تتحمله 0
    - لى من الإخوة خمس يا أبى يحملون الحمل معى ، ومن يدرس فى الجامعة بعد هامين سيتخرج منها وينضم على قوتنا 0
    يحاول الضبع أن يقوم ليواصل عمله ، ولكن قواه لا تساعده ، ولكنه يتحامل على نفسه حتى لا يترك ولده يعمل بمفرده من غير مساعدة ، ويحاول أن يشد الشباك ولكنه لا يستطيع ، ويتراجع حتى يكاد يهوى على ظهره 0
    - عنك أنت يا أبى ، لا بد لك أن تستريح ، 0
    - ومن أين لى بالراحة يا ولدى ؟! وحالنا لا يسمح بها 0
    - بل يسمح ، سأركن القارب لتعود إلى البيت ، وأرسل لى واحد من إخوتى اللذان يعملان فى الأرض ليساعدني 0
    - الصواب هو ما تقول ، لأني اشعر بالتعب فعلا ، ولا أستطيع المكابرة 0
    يتوقف بالقارب إلى جوار الشط ويمد السقّالة الخشبية على طين الشاطئ ، وينزل والده يخرج من القارب ، ويتجه صوب طريق بين المزارع نحو بيته القابع بالقرب من النهر هناك فى آخر القرية ، يتحامل على نفسه وهو يمشى بين المزارع نحو اقرب طريق مختصر ويسمع صوت صراخ طفل ، فيحاول أن يتأكد من هذا الصوت الذى بظنه يشبه صوت ولده الصغير ، ويتجه نحو الصوت فى حقول الفاكهة القريب من طريقه ، ويرى أن ولده هو الذى يصرخ من جراء الضرب الذى يتلقاه من صاحب الحقل ، فيذهب إليه مسرعا ، ولكن ما أن يلمحه الرجعاوى حتى يهب فيه شتما وتوبيخا :
    - أنت أيها الصياد الفقير ، لماذا تترك أولادك يسرقون من حقلى إذا كنت لا تقدر على تربيتهم فأنا سأربيهم لك 0
    - عيب يا معلم رجعاوى أن تقول مثلما قلت ، وأرجوك كف عن ضرب الولد 0
    يحاول أن يخلص ولده منه ، ولكن الرجعاوى يقبض بكفه الممتلىء على كتف حماد ، وبالأخرى يلكمه فى وجهه ، ليؤكد الإهانة ويصر على الهوان ، بينما يحاول الضبع أن يصدها بشيء من اللين والاستعطاف ، ويغلفهم الاحترام الذى بدأ يتكسر من جراء الصبر الذى ينفد، ولكن الرجعاوى يصيح فيه :
    - أنه سارق ، مجرم ، ومن حقى أن أؤدبه واعلمه وألقنه درسا لا ينساه ما دمت لم تربهم 0
    - ولدى ليس سارقا ولا مجرما ، وإن جاء يتخذ شيئا من الفاكهة فهو صغير ، والنفس لها شهواتها ومطالبها 0
    - وأصول التربية لها أسسها ، وإنجاب العيال له مطالبه واستحقاقاته ، فلماذا تنجب كل هؤلاء العيال ؟! وأنت لا تملك شيئا ، سوى هذا القارب والقيراطان الذى يؤجرهما ولداك الآخران 0
    ويسدد لكمة قوية فى وجه حماد الذى يصرخ من الألم ثم لا يتحكم فى رأسه الذى يتمايل فى يد الرجعاوى ، فتغلي الدماء فى عروق الضبع حرقا وغضبا على ولده الذى أغمى عليه ، ويشد يد الرجعاوى يخلصها بقوة من كتف ولده ، وفى نفس الوقت يزيح ولده بعيدا ، يرد ويهاجم بنرفزة عير معهودة عنه:
    - هذا ليس شأنك أن تحاسبني فى شيء لا أستطيع أنا نفسي أن أحاسبها فكل شئ بيد الله ، وهذا رزق من الله ومنه منه 0
    ولكن الرجعاوى لا يحترم ذلك ويحاول أن يمد يده وهو ينحني ليتناول حماد الملقى على الأرض يتشبث بها خوفا من والده ومن ضرب الرجعاوى ، عندها لا يجد الضبع من مخرج سوى أن يشد الرجعاوى بقوة من انحناءته ويدفعه بعيدا ، فيتراجع للخلف وهو يحاول أن يعتدل ويسترد قوته ولكن ساقيه تتخبطان فى الجسر فيهوى على ظهره نحو فأس تشهر سنها إلى أعلى ، فترتطم بها رأسه ، وتأخذ طريقها تشق عظم مؤخرة الرأس تفجر الدم الذى يسقى الأرض ، فيتأوه الرجعاوى من شدة الألم ويقول باتهام:
    - قتلتنى يا ضبع ، قتلتنى يا ضبع ، الحقونى ، الحقونى 0
    الضبع يقف فى ذهول غير مصدق ما يراه ، عندما ينحني ليعرف ما حدث ، فيشد الفأس ويخلصها من راس الرجعاوى ، فيندفع الدم يفترش صدره ، فى الوقت الذى يخفو فيه صوت الرجعاوى ، وهناك من بعيد أولاده يندفعون بسرعة كبيرة ، ويلحق بهم آخرون ، والكل يجرى نحوهما ، فيقوم حماد ويصرخ عندما ينتبه إلى الدم الذى يتفجر من رأس الرجعاوى ، ومن الدم على ملابس والده ، وبعفوية وخوف الطفولة يصرخ فى والده 0
    - قتلت الرجعاوى يا أبى ، سيأتون ليقتلوك ، أهرب يا أبى 0
    - أنت أول من يتهمنى بقتله ؟!
    يجرى حماد يتخفى ويترك والده فى حيرة ، يشق الزراعات عكس الاتجاه الذى يتقدم منه أولاد الرجعاوى وغيرهم ، فى الوقت الذى يحسب الضبع حساباته ، وليس لديه متسع من الوقت ، فإما أن ينتظر حتى يلقى مصيره المحتوم وهو القتل ، وإما أن يتخذ طريقه نحو الهروب ، ويحدث نفسه :
    - صرت قاتلا ، ولا بد لهم أن يأخذوا بثأرهم منى ، ليست من البطولة ولا الرجولة فى شيء أن أنتظر من يقتلني ، لا بد أن اهرب حتى أدبر حالى 0
    ويتخذ طريقه فى المزارع ذات الأشجار الكثيفة يهرب ويتخفى إلى قبلة لا يعرفها بعد ، ويستعين بالله أن ينصره ولا يمكن منه أحدا حتى يستطيع أن يتصرف 0 فى الوقت الذى يصل فيه أولاد الرجعاوى إليه وقد بدا يدخل فى شبه غيبوبة ، ويحاول أولاده إسعافه ، ومحاولة فهم ما حدث ، وبحرقة كبيرة وغضب عارم يسأله ولده حبشى :
    - من الذى فعل بك هذا يا ابى ؟
    - أنه الضبع يا ولدى ، ولكنه لم يكن يقصد قتلى 0
    - كيف ذلك وقد شجت رأسك بقوة 0
    ثم يصرخ فيمن تجمعوا حولهم ، ومنهم أقرباء لهم ، وبعض الذين يعملون فى أرضهم ثم يخص أخيه :
    - اذهبوا وابحثوا عن الضبع ، وأنت أولهم يا خالد ، ولا تعود إلا بعد أن تقتله وتنتقم منه0
    يجرى أخيه يتناول سلاحه ويمتطى صهوة جواده ، وتبعه آخرين ، ينتشرون ويبحثون عن الضبع 0 بينما يفجع الرجعاوى لهذا المقصد وتلك الشهوة ، ويتحامل بما تبقى له من جهد ويشد يد أبنه ، وبشيء من الضيق :
    - إنه قدري يا ولدى ، أنه قدري ، واستحلفكم بالله الا تأخذوا بثأري 0
    ويتدخل ولده الكبير عثمان ويقول :
    - لنحمله إلى المستشفى ، لا وقت للأسئلة الآن0
    - اشعر بدنو أجلى يا عثمان ، ولا فائدة من التطبيب ، ولكن إياك يا عثمان أن تتوافقوا على الأخذ بثأري 0
    - إنه العرف يا أبى ، مع أنى اكرهه ، ولكن ما باليد حيلة ، هكذا يشب الناس هنا ، وعار علينا إن تسامحنا أو تراجعنا 0
    - أنكم ثلاثة ، وأولاد الرجعاوى سبعة ، وإن بدأتم بالثأر معهم سيقضون عليكم الواحد وراء الآخر ، وبذلك انتم أنفسكم ستقطعون شجرة أسمى ، وستتركون نسوة العائلة فى مهب الريح ، لا رجل لهم يحمى ضعفهم ، ويدافع عن عفتهم ، ويصون شرفهم ، عدني يا ولدى البكر ، عدني أرجوك0
    ومن مسافة تدخل زوجته زنوبة تلطم الخدود ، وتشق الجيوب ، وتهيل التراب وتقتل العشب ، وتصرخ فيه :
    - بماذا يعدك يا اعز الرجال ، يا اشرف الشرفاء ، ويا أنبل الوجهاء0
    - نحمله يا أمي للعلاج ، وأنا سأخبرك بوعده0
    زنوبة تحمل رأسه وتدثرها بصدرها ، رغم اللفائف التى تغطى رأسه تمنع الدم الهادر، وهم يحملونه نحو الكارتة بجواده الواقف مستعدا للانطلاق ، محاولا أن يفي بعض دينه لصاحبه الرجعاوى الذى يا طالما أغدق عليه بمليح الطعام والسكر ، ويسندونه فى كنبة العربة ذات الظهر الأسفنجى المغطى بالقطيفة الخضراء ، وقد راح الرجعاوى فى غيبوبة ، ولكن مع سرعة الكارتة التى تقطع الطريق غير الممهد تحفزه على بقاء اليقظة ، فيفتح عيناه بين الحين والآخر ويقول بصوت واهن :
    - زنوبة ، يا أم عثمان ، يا بنت عمى ، إياك والثأر يا زنوبة ، إياك أن تحضيهم عليه ، بل قفى لهم ممانعة أن تهور أحدهم ، ستكون نهايتهم جميعا ، عاهديني على ذلك 0
    لكن زنوبة تصرف عينيها بعيدا تشتهى الثأر تستجيب لنداء الانتقام 0 فيصرف عيناه إلى ولده عثمان الذى يسنده من اليمين ، ويتطلع إليه بضعف وتوسل ، ويشد على يده :
    - عدنى أنت يا عثمان 0
    - أعدك يا أبت ، أعدك 0
    يشعر بثمة اطمئنان ، ويحول ناظريه إلى زوجته ، يستعطفها ، ويحاول أن يخفف من وهج نار الانتقام بسويداء قلبها ، ويلجم نار الشهوة فى عقلها ، يحاول أن ينتصر عن عادات وتقاليد الثأر التى قتلت الرجال ، وفجرت العداء سنين طويلة ، ولم تغنى ولم تشفى ، ولم ترحم ولم تفلح ويقول لها:
    - إياك والثأر يا زنوبة ، لن يجن مرارة غيرك ، ولن يكتوى بناره غيرك ، ارحمى الجميع بإطفاء جذوته وجمره ، وانتصري لحياة أولادك بردمه وهدمه وانشدي التسامح والغفران تكتب لك حياة أحباؤك ، عديني يا زنوبة عدينى 0
    زنوبة تحارب نفسها ، وشيطانها وشهوتها ، أن تقطع على نفسها وعده وهى ترى الحياة من بعده غير آمنة ولا مطمئنة ، بحر من الأحزان والأوجاع وواجب يفرضه العرف يقتضى الوفاء به وإما العار والمذلة وخيبة الأمل والأنتقاص لها ولأولادها ، تحارب وتحارب ولكن شفاهها لا تسعفها ، ولسانها لا يطاوعها لقطع على نفسها وعدا ليس بمقدورها الوفاء به ، وهو لا يزال يتطلع إليها عند كل إفاقة يستغلها يحارب الموت الذى يسلب ساقيه ، ويصعد بسرعة يلتهب الشرايين والأوردة يقضى عليها باتجاه القلب يجهز عليه ويسلب حرارته ، ويقضى على نبضه وحركته 0 وتصرخ زنوبة فى ولدها وفى الجميع :
    - الثأر لأبيك يا عثمان ، الثأر لأبيك يا حبشى ، الثأر لأبيك يا خالد ، ولا عهد فى استحقاق الدم ، لا وعد فى العرف والتقاليد لا حكم سوى المعمول به ، إنه حقنا ، ولن أتنازل عنه ، لن أتنازل عنه مهما كلفنا0
    ويرد حبشى بوحشية وتهور وشهوة وحزن :
    - القول الحق هو ما تقولينه يا أمي ، لابد من الثأر ، ولن نتراجع عنه0
    الفاجعة المهولة ، والزلة العظيمة ، والذنب الكبير ، والثمن الباهظ العويص لاستحقاق الثأر اللعين ، بغير قصد ولا نية ولا إثم مبين ، يصير الضبع مطلوبا للثأر ، فهل يفى عثمان بعهده مع والده ؟! ويستطيع التسامح والغفران! وإن فعل ووفى ، فهل يوفى ويستجيب إخوته ؟ وأمه أيضا التى لم تقطع العهد؟ وهناك خالد ورجاله يبحثون عن الضبع ، ويصل إليهم أصوات الصراخ والنحيب ، مما يؤكد لهم أن الرجعاوى قد مات ، مما يحفز من عقيدة البحث وسرعة الانتقام 0 وتصل الأصوات المزعجة الثقيلة على النفس إلى النهر يتناقلها البحارة ويصل مداها إلى عدوى من خلالهم ما حدث ، فيركن القارب بسرعة يجرى لكى يحمى والده من مصير محتوم ، وهو يخالفهم الطرق حتى لا يكون الانتقام منه قبل أن يصل ويطمئن على والده الذى لا يعرف مصيره غير أنه هرب ، وهذا ما يشعره ببعض الاطمئنان على أن هنالك فرصة أمامه ليلحق به حتى يفكروا فى حل لما يواجهونه وصار مستوجب عليهم جميعا من دين ، لا بد من الوفاء به مهما كلف الأمر ومهما كانت الحلول المرة ، يقطع الزراعات يحاول أن يجمع إخوته الذين يبحثون عن والدهم ، فتوقعهم مثل توقعه ، وخوفه مثل خوفهم ، إنه أبيهم الذى يفعل المستحيل من اجلهم وعلى قدر ما يملك من أدوات لم يتأخر بإحداها فى سبيل توفير لقمة العيش الشحيحة لهم ، وينطلقون إلى السوق الذى تفترش فيه أمه لتبيع السمك ، وإلى جوارها زوجته التى تضع ولده إلى جوارها لتتمكن من تنظيف السمك الذى يباع ، تنشدان الجنيهات القليلة التى يستخرجونها بأعجوبة وصعوبة وتحايل من المشترين القليلين ؛ لأن التنافس قويا والآخرين إلى جوارهم لهم فرشهم من نفس بضاعتهم ذات الإقبال الضعيف ، لاحتراف الكثير من أهل القرية عادة الصيد هربا من ضيق المساحة الزراعية التى لم تعد تكفى الجميع ، نظرا لمحدوديتها وحصارها من النيل من جهة الغرب ، والجبل الشاهق من جهة الشرق ، والتوارث من جيل إلى جيل ، وزيادة النسل غير المضروب بثقافة وعلم ، بل بمورث وعادات وتقاليد تعظم من دور زيادة الولد أملا فى القوة والتحصين والعيش الكريم باتساع الخارجين للعمل ، دون النظر إلى طبيعة المكان المحصور الذى هم فيه ، يتسابقون على ملئه بالبشر ، ولا يتسابقون على توسيع رقعته وهزم جباله وأزاحتها بعيدا لتفك أسرهم ، وتوسع مدخلهم ومخرجهم ، ويجمعون حاجياتهم ويصطحبون والدتهم وزوجته يسرعون بهم إلى بيتهم ، حتى يكونوا فى أمان لحين التفكير السليم الذى لن يكتمل إلا بالعثور والاطمئنان على أبيهم ، ويخرجون يبحثون عنه فى الأماكن التى من الممكن أن يلوذ بها حتى يتيسر له الحل ، والابتعاد قدر الامكان عن موطن بركان الغضب المتصاعد الذى حتما يفور بحممه الهالكة فى هذا التوقيت الحاسم ، وينتشرون فرق فى شوارع وطرق وأمكنة عدة ، ويصل عدوى إلى قهوة عمه الكائنة فى حضن محطة القصار المتهالكة إلى جوار ربوة يلفها الزرع والقصب ، ويدخل إلى ساحتها يتفرس زبائنها ، ولكن بسرعة يقبل إليه ابن عمه يومئ إليه أن يدخل ، فيدخل يقطع الساحة الداخلية نحو حجرة المخزن الملاصقة للباحة ، فيجد أبوه يجلس مع عمه ، ويبادره بحزن وخوف ورعب :
    - صرت قاتلا يا ولدى ، وصرت مطلوبا للثأر الذى تجنبته طوال حياتى ، كما جنبتكم ويلاته ، ولكن الحزر لم يمنع القدر0
    - لا تيأس يا أبى من رحمة الله ، واعلم أننا لن نتركك تذهب إلى مصير يفرضه علينا ارث قديم مذموم ، وسندفع الغالى والنفيس من أجل الخروج من هذه المصيبة الكبرى 0
    - من أين لنا يا ولدى ؟! وماذا نمتلك ؟
    - تمتلك سبعة من الأولاد ، لو اضطررنا أن نبيع لحومنا لن نتأخر0
    ويسمعون هدير حوافر الجياد تقترب من بهو القهوة ، فتبرق عينا عمه أسداوى التى يتطلع بها نحو أخيه يرسل له برسائل التحدي والاطمئنان ، ولكنها لا تفلح من الرعب الذى يغطى جسد الضبع الذى يقول :
    - لا أخاف على نفسي وحياتي ، ولكن خوفي عليكم يا ولدى ، الحمل ثقيل كبير ، وأخاف عليكم من التفرق والجوع الذى يدفع إلى المخاطر، ويولد أسباب الانهزام ، ويجر إلى طرق غير قويمة سهلة0
    ويشعر أخيه بثمة وخزة سرعان ما تظهر بوادرها على ملامح وجهه الذى يتحول إلى الضعف الناتج من جراء وتر بداخله يعد نقيصة وسبت ما ، ثم سرعان ما يدارى تلك الوخزة معاتبا :
    - ماذا تقصد يا ضبع ؟ هل هذا وقت النصح والإرشاد 0
    - خوفى يا أخى يدفعنى لذلك ، ولا أريد أن أحملك أيضا همهم0
    - هم ليسوا صغارا حتى يحملونني همهم ، وقادرين على أن يكونوا قوة ضاربة ، وأنا سأكون سند لهم بما امتلك من أدوات تملهكا يداى 0
    يدخل مسرعا عابد ابن أسداوى عليهم يتناول سلاحه الآلي ، ويخبرهم بما فى يحدث فى الخارج0
    - طارق بن الرجعاوى يحاصر القهوة برجاله الذين يشهرون أسلحتهم متوعدين بتفتيش القهوة بحثا عنك يا عمى 0
    ويقول والده وهو ينهض بقوة يقبض على سلاحه المعلق :
    - يبدو أن هذا الولد المدعو خالد قد نسى أنا من وماذا امثل هنا سنخرج لهم ، هيا بنا 0
    - وأنا أريد سلاحا يا عمى 0
    - افتح هذا الصندوق الخشبي وتناول واحدة لم تستعمل من قبل ، وناول أبوك أخرى ، فلن أبيعهم لأعز منكم ، ولا تخرج يا ضبع ، بل أعده ودافع به عن نفسك إن تمكنوا من الدخول إليك هنا0
    ويتناول عدوى سلاح ويخرجون مسرعين نحو بهو القهوة الواسع المزروع بمختلف البشر ، وما أن يصل أسداوى إلى مكتبه يضرب عليه ببطن يده ثلاثة ضربات ، سرعان ما تستنهض هذه الإشارة بعض الرجال الأقوياء الذين يسرعون نحو مخبأ وراء النصبة ينتزعون أسلحتهم ويعودون مسرعين يتلقون الأوامر من عينى أسداوى وما هى إلا ثواني وينتشرون إلى أماكن ومواقع هم يعرفونها ويتوافقون عليها معدة لهم ، فمنهم من يخرج نحو الخلف ، ومنهم من يصعد نحو السطح ، ومنهم من يذهب نحو اليسار ونحو اليمين ، عندها يتحرك أسداوى نحو الساحة الخارجية للقهوة يحمل سلاحه على كتفه ليس فى وضع الاستعداد ، بينما ولده يحمله على الوضع المناسب وكذلك يفعل عدوى ، ويخرجون إلى الساحة ، فينظر أسداوى فيمن يحملون ويشهرون أسلحتهم حتى يصل إلى خالد يتفرسه بنظرات مؤثرة تخيفه ، وبقوة وجبروت يسأله:
    - ماذا تريد يا ولد ؟
    - أريد أخوك الذى قتل ابى ؟
    - ومن قال لك إنه هنا؟
    - لقد فتشنا القرية فلم نجده ، ومن المؤكد أنه يحتمى هنا ،
    - ليس هنا 0
    - بل أنه هنا ؟
    - وماذا تريد منه ؟
    - آخذ بثأرنا منه 0
    - تفضل إن استطعت ، وهذا على فرض أنه موجودا هنا ، ولكن قبل أن تدخل أنظر حولك وخلفك وفوق السطح وعن يمين ويسار رجالك وبعدها قرر إن كنت تريد أن تفتش عن أخي أم لا ، واعرف أنى استعمل معك أقصى درجات الحلم والصبر ، ملتمسا لك بعض العذر نظرا لما انتم فيه 0
    خالد يقلب ناظريه فى كل الاتجاهات فيرى الاستعداد من أسلحة مشهرة نحوه ورجاله تحاصرهم ، ويوقن أنه لا قبل له بمواجهة كل هؤلاء ، فليس من العقل ولا من الحكمة عدم التريث واختيار التوقيت الصالح ، ويقول لنفسه : إن كان الضبع استطاع أن يجد الملجأ الذى يحميه من ثأرنا ، فمن المؤكد أنه لن يظل باقي عمره يتمتع بتلك الحماية ، ليس أمامنا غير الدهاء والمكر والحيلة ، ولكني لن أتراجع عن قتله ولكن فى الوقت المناسب وفى المكان المناسب الذى أستطيع أن احقق ما أريد وأنا آمن على نفسى ، ويشير إلى رجاله وهو يتطلع إلى عدوى بمكر وتحدى ، وعدوى ينظر إليه بنفس نظراته تلك ، ويعرف أن ما يتخذونه من حزر وحيطة ودفاع عن والده ليس هو التصرف الحصيف ، ولا هو بالحل الجميل الذى يأمله ، فهو يوقن أنهم يواجهون مشكلة بل مصيبة كبرى ، ويريد لها الحل الذى يجعلهم يعودون إلى سابق حياتهم من قبلها ، يتمتعون بالأمان الذى يعينهم على مواجهة حوت الفقر والعوز والحاجة ، وليس بالقوة التى هم فيها بعمه ورجاله وأسلحتهم هو الحل ، فان القوة وحدها لا تحل المشاكل ، ولا تمنع العداء على الدوام ، ولا تحقق الأمان على طول الخط ، لكن لا بد من حل يطفأ لهيب النار المشتعل ، ويعالج الثأر اللعين بعلاج مرض للجميع ، ومن غير ذلك لن ينتهي الصراع ولا العداء وليس بوسع احد أن يطمئن على حياته وأهله وولده وحاله ، ويجد والده يفكر مثلما يفكر ويقول له :
    - ليس هذا هو الحل يا ولدى ، فحياتي وحياتكم صارت مهددة ، وعمك لن يظل الحامي لنا ، وإن اعتمدنا على ذلك ، فسيطلب عمك المقابل0
    - أى مقابل يا أبى ! أنا لا اعتقد ذلك ، مع أنى أتوافق معك أنه ليس الحل الذى انشده !
    - عمك له عمله وتجارته التى يخفيها ، وسيكون المقابل الذى يطلبه ، اقلها أن تعملون على مساعدته وقتما يحتاج إلى ذلك0
    - فلنساعده ، حقه علينا 0
    - تساعده ، بأن نهرب من خطر أواجهه وحدي وهو القتل إلى خطر تواجهوه أنتم جميعا ، من القتل أو السجن أو المطاردة 0
    - لمْ كل ذلك ؟! أنا لا أفهمك يا أبى0
    - دعنا لا نسبق الأحداث ، ولننتظر حتى نقف على حقيقة ما نواجهه ، إن توافق أولاد الرجعاوى على دفنه وتقبل العزاء فيه ، فسيكون ذلك بداية الانفراجة والبحث عن حل ، أما إذا لم يدفنوه ، فذلك معناه أنهم يتوافقون على أن يأخذوا بثأره وبعدها يدفنونه ، ولا وقت لنا من إيجاد حل ، اعرف يا ولدى إني لا أريد أن أموت ، لا أريد أن أقتل0
    - لن نسمح بأي يد تمتد إليك بسوء حتى لو دفعت حياتي ثمنا لذلك ، وأسأل الله أن يهدى أولاد الرجعاوى ويجنحون إلى السلم ، وان يدفنوا أبوهم0
    فى الوقت الذى يحتد الخلاف بين زنوبة التى ترفض أن يدفن زوجها وتطالب من أولادها أن يأخذوا بثأره قبل أن يدفن ، ويوافقها ولديها حبشى وخالد وعدد من أقاربها ، بينما يرفض ولدها عثمان الذى يطالبها بأنه يود الوفاء بعهده ووعده مع والده ، وأنه لا يجنح إلى تصعيد العداء ، وأنه ليس باستطاعته أن يخالف العهد ، ولذلك يقف أمام والدته يتوسل إليها :
    - أرجوك يا أمى أريد أن أفي بعدى ، ساعديني فى ذلك ، سندفنه ونأخذ العزاء وبعدها لك ما تريدي0
    - أريد الثأر 0
    - ليكن الثأر ، ولكن بعد الدفن ، إن إكرام الميت دفنه ، أليس كذلك أيها الرجال!
    يرد عليه الجميع بنعم ، ويتوافق معه جمع غير قليل على دفن والده ويقول بعضهم لامه إن الدفن ليس نهاية المطاف لما تريدينه ، وإن العرف لا يحتم إبقاء المقتول لحين القصاص من قاتله ، فليس فى دفنه عيبا ولا نقيصة لكم ، فتدخل زنوبة إلى بيتها ، ويفهم أولادها أن هنالك ثم قبول مجبرة عليه أمهم ، ولذلك يستغل عثمان هذا اللين ويطلب من الجميع تشيع والده إلى مثواه الأخير وهنالك بعض الرجال عيون لعدوى تنقل له فحوى ما يستقر عليه رأى أولاد الرجعاوى 0
    عدوى يشعر ببعض الطمأنينة على والده ، وكذا الضبع وباقى أولاده الذين جاءوا إليه يشدون من أزره ، ويفكرون معه ، فهم يعلمون أن دفن المقتول ليس نهاية المطاف ولا أيزان بإنهاء المصيبة التى هم فيها ، ولكن كل ما حدث هو تمديد لها لا يمنعه الخطر ، ثم يلتفت الضبع لولده حمدون ويقول:
    - ما رأى الدين يا ولدى يا من تدرس بكلية الشريعة فى الأزهر افدنا من علمك ، وافتني فى أمرى 0
    - الدين ينصفك يا ابى ، لأنك لم تقتل ظلما وعدوانا وتجبرا وفسادا ، بل حدث القتل بخطأ ، لم تكن تقصده ، ولم تكن لديك النية الكاملة ، وهنا الشرع يقدم ثلاثة حلول 0
    - ما هى يا ولدى ، إلى بها ، حتى نجد المخرج إن شاء الله 0
    - أن نحرر رقبة ، وهذه لم تعد موجودة فلم يبق بيننا عبيد ، والثانية نقدم الدية لأهله ، والثالثة نطلب العفو 0
    ويرد عدوى بيأس :
    - العفو من مثل هؤلاء الذى جاء أصغرهم برجاله يحمل سلاحه غير ممكن 0
    - يبق الحل الثاني وهو أن نقدم الدية ونسلمها إلى أهله 0
    - ممكن ولكن إن وافقوا ، وهذا الحل هو ما يجب علينا الجري وراءه0
    ويقول الضبع :
    - ومن أين لنا بثمن الدية يا أولادي ، نحن جميعا لا نمتلك فى بيتنا مائة جنيه ، فما بالك إن توافق أولاد الرجعاوى على قبول الدية ، فكم سيطلبون ؟!
    ويرد سعدون الذى يلى عدوى فى الولادة :
    - من المؤكد سيطلبون الكثير الذى مهما يكون فليس بوسعنا المقدرة على دفعه0
    يتدخل عدوى محتدا :
    - سنبيع كل شئ نملكه ، المهم أن يرضى أولاد الرجعاوى بهذا الحل0
    ويدخل عليهم عمهم أسداوى يسدى إليهم النصح :
    - الحل الذى تقوله يا عدوى لا بد أن يؤيده كبار البلد ، وهم الذين يقومون بهذا الدور ، يجب أن نذهب إليهم حتى يتبنوا هذه الدعوة ، ومن أننا موافقون على أى ثمن للدية ، فهل أنتم قادرون عليها0
    - أوافق يا عمى على ما تقول ، ومستعد لكل شئ ، وأن اذهب إلى الكبار والصغار أيضا 0
    - ولكنك ، وأنتم جميعا قادرون على جمع ما يحدد من دية 0
    ويهب الجميع فى نفس واحد :
    - نعم نوافق ، وسنعمل المستحيل من أجل جمعه 0
    يتبسم أسداوى ابتسامة الماكر المتصيد ، الذى يقترب من قنص فريسة غالية ثمينة ، يبدوا أن بداخله ثمة أزمة هو الآخر يريد لها حلا وأن الحل يقترب من حاجة أولاد أخيه إلى المال ، فهل يريدهم فى تجارته المريبة ، أم أعماله المخبوءة ، أم يريدهم يعالجون له زلة فى شرفه وشوكة فى كرامته ؟! لا احد يستطيع أن يحدد فهو رجل كتوم قليل الكلام غريب الأطوار وثعلب مكار ، ورغم ما فيه من قوة إلا أنه موجوع من شيء ما ، ربما القادر على فهمه والوصول إلى تفكيره هو أخيه الضبع نفسه بحكم إخوته له وقربه من أولاده ، ويتجه إليه أسداوى ويجلس إلى جواره يتطلع إليه بشيء من الانكسار ، فيبادله بنفس النظرات ربما المعاتبة ، وربما المتعاطفة ، وربما التى تلومه على استغلال المصيبة التى هو فيها ليخرج هو من شوكة فى قلبه قد جناها بفعل ارعن من آخرين اردياء ، حتى يقطع الشيخ حمدون هذه الحسابات التى تدور فى أزهانهما ويقول :
    - لأول مرة أرى هذه الألفة بينكما ، وارى شواهد الإخوة ، وتوثيق عرى القربى مثلما أراها الآن 0
    ويرد عليه عمه يحاول أن يستعيد قوته :
    - المصائب والأزمات والأهوال توحد وتقرب 0
    - ولكنك تعيش فيها وتتدثر بها يا عمى ، وكم دعوتك عن الإقلاع عما فيه المحرمات والمخاطر ، ولكنك لم تستجيب 0
    - لا تنس أنك تكلم عمك ، فتعلم كيف تتكلم 0
    - ولكن يا عمى 000
    يقاطعه أخيه عدوى :
    - لا وقت يا حمدون تمارس المشيخة والعظات الآن ، لا نريد فرقة ، نريد الخروج من المأزق ، أريدك أن تخرج معنا ندعوا كبار البلد فيما اتفقنا عليه ونأمله 0
    - سأدعوهم بعد صلاة العشاء وسأقوم فيهم خطيبا حتى يساندوننا ، وكبارها يحملون الحل يعرضونه على أولاد الرجعاوى 0
    ويذهب عدوى وأبيه وإخوته جميعا إلى مسجد القرية ليصلوا العشاء ويلتقون مع كبار القرية ، ليعرفوا رأيهم فيما هم فيه وما توافقوا عليه وأجلى لهم سعدون حقيقة الموقف ورأى الشرع فيه ، ويعده الكبار بأنهم سيذهبون ليوأدوا واجب العزاء ، ويعرضون على أولاد الرجعاوى الدية ، ومعرفة هل سيوافقون ، وإن وافقوا كم سيحددون مبلغ الدية التى من الممكن أن يتوافقوا عليها ويرضونها 0 ويذهب كبار القرية إلى أولاد الرجعاوى يحدثونهم فيما عهد إليهم من أمر الدية التى ستقدم لهم من أجل حقن الدماء ، ووأد نار الثأر ، وكان هنالك نفر يسمع تلك المجادلة ، ومنهم عبد الملك حما حبشى الذى يرفض عرضهم ، ولكن عثمان يتحدث معه جانبا ، ويحاول أن يقنعه أن هذا الحل يتمشى مع ما وعد به أبوه وقطع عليه العهد أمامه ، وأنه لا يرى حلا أفضل من قبول الدية ، وأن يقدم أبو عدوى كفنه على يديه حسب ما يقضى العرف وهو يحمل مبلغ الدية الذى سنتوافق عليه على الكفن فيهز عبد الملك رأسه وهو يفكر فى أمر ما يعقد العزم عليه ، ويعودان إلى حيث الجمع من كبار القرية ، ويعلن عثمان موافقته على قبول الدية والتي يقدرها بمبلغ خمسين ألف جنيه ، ولكن أخى حبشى يعترض ويقول :
    - إنه مبلغ زهيد ثمنا لوالدنا ، إنى اطلب مبلغ مائة ألف جنيه 0
    ويتدخل خالد معترضا ثائرا ويقول :
    - رغم أنى اعترض على المصالحة وقبول الدية ، ولكنى احتراما لأخي الأكبر ولحماى عبد الملك إلا أنى اطلب مبلغ مائة وخمسون ألف جنيه 0
    ويرد كبار القرية :
    - ولكنه مبلغ كبير لم نحكم به من قبل فى مثل هذه الحالة من الدية ، وإننا نشفق على أبو عدوى ، أنكم كما تعرفون رجل فقير وصاحب أولاد كثيرين ، فمن أين له بهذا المبلغ ، نرجوا منك يا خالد أن تقلل منه 0
    - هذا ما عندنا ، ولهم الحرية أن يقبلوا أو يرفضوا 0
    ويرد عدوى بحزن وقهر وحيرة :
    - أوافق على ما يطلبون ، ولكن أعطوني فرصة من الوقت حتى نستطيع أن نجمع هذا المبلغ الكبير الذى لم نحلم به فى يوم من الأيام ولكن جاء الوقت الذى لم يصبح فيه هذا المبلغ حلما أن نتحصل عليه فى يوم من الأيام ، بل صار حقيقة ، ولكنه مطلوب منا 0
    ويرد عثمان :
    - سنمهلكم شهرين 0
    فيقاطعه خالد ويقول :
    - بل شهر واحد إن استطاعوا 0
    ويرد عدوى :
    - نقبل ، وسنستطيع بأذن الله 0
    ويعود عدوى وإخوته يجتمعون ويتباحثون فيما بينهم ، ويقول أبوهم :
    - من أين لنا بهذا المبلغ الكبير الذى لا اعرف كيف أعده؟
    هذا السؤال يصيبهم جميعا بالخرس الشديد ، فهم لا يملكون سوى القارب والبيت الذى يعيشون فيه ، والقارب مصدر عيشهم والبيت من يأويهم ، فمن أين لهم بكل هذا المبلغ ، ولم يفكروا فى القارب لأنه لا يساوى خمسة آلاف على أعلى فرضية وأمام كبر المبلغ المطلوب كان التفكير فى بيعه مجرد لهو وتضيع للوقت ، وينتحى سعدون وعبدون جانبا يتهامسان ، يبدو أنه اقتراح لحل المشكلة ولكنهما يتخافتان فى مناقشته ، حتى ينهرهم عدوى الذى يجلس فى حيرة وقلق يتطلع إلى والده بإشفاق وحب وخوف على مصيره الذى يتهدد ويقول لهما ك
    - هل هذا هو الوقت المناسب للتحاورا سويا دوننا ، ونحن فى موقف لابد أن نتكاتف جميعا ونفكر سويا بصوت مسموع لتخرج بحل لابد من إيجاده بكل السبل 0
    ينظر سعدون لحمدون ويتبسمان إثر سماعهما بكل الطرق ويقومان يجلسان إلى جوار عدوى بود وحب ومكر ويقول له سعدون:
    - إذا كنت تبحث سبل ، فلا سبيل أمامنا غير أن نزرع القيراطين بالحشيش والأفيون ، فهما يأتيان اكلهما بسرعة ولا يستمران فى الأرض أكثر من شهر 0
    ولم يستطع أبوهما صبرا حتى يطبق الخناق عليهما وينهال ضربا وسبا ، ويحاول عدوى وحمدون وحماد أن يخلصهما من بين يديه ، ولكنه يقول :
    - يريدان أن يشتريا حياتي بالمخدرات ، بالفلوس الحرام ، كما انى الوم عليك يا عدوى لأنك انتظرت حتى يكمل ، وكان من المفروض عليك أن تقاطعهما قبلى ، فقد انتظرت منك هذه المبادرة ولكنك لم تفعل ، وأخاف أن تروق لك فكرتهم ؟
    - لا يا ابى لم ترق لى ، ولكنى كنت انتظر حتى اعرف كل ما يفكران فيه ، حتى أقف على حقيقته ، وأريد أن اعرف منك يا سعدون على فرض انك زرعت المخدرات كيف ستبيعها بسرعة 0
    - وكأنك يا عدوى لا تعرف أسرار عمك أسداوى وعلاقاته المتشعبة ، وعلاقاته مع شخوص من مصر ، وعلاقاته المريبة مع مطاريد الجبل ، الذين يهاجمون القرية ويسطون على خيراتها ولا يقتربون البتة من كل ما يخص عمك ، أليس هذا شيء مريب ، أن الطريق إلى بيع المخدرات هو عمك نفسه ، أليس كذلك يا ابى ؟!
    - لا ، ليس كذلك ، إن أخي أسداوى لا يتاجر فى المخدرات ، بل ربما له تجارة أخرى لا اعرف حقيقتها ، ولكني أرجح أن تكون السلاح ، لقد أخرجتنا يا عدوى من شكلتنا وفتحت لهم بابا آخر غير الذى نريد وكأنك توافقهم على فكرتهم 0
    - لا يا ابى ، إنني ارفض فكرتهم تماما ، وكما قلت لا نريد أن نهرب من خطر إلى خطر أكبر 0
    ويتدخل الشيخ حماد بعد أن سمع لهم قولهم الذى لم يعجبه ويقول :
    - ارفض كل ما تفكرون فيه ، وإن كنت تريد الحل يا عدوى ، فقد قرأت فى الصحف أن هنالك تجارة تسمى تجارة الأعضاء، تجارة رابحة جدا ، من المحتاجين من يبيعون كلاهم وفصوص من أكبادهم بثمن كبير ، وإني أرى مثل هذا الفعل هو الحل السريع لما نحن فيه وأنا أولكم مستعد أن نسافر إلى القاهرة ونبحث عن المستشفيات التى من الممكن أن تشترى منا 0
    ويقول عدوى :
    - إنه حل جميل وأنى أوافق عليه ، وسأكون أولكم 0
    ولكن أبوهم يجلي وقد بلغ به الجهد والغضب مبلغا ويقول :
    - من أجلى تبيعون لحومكم ، أنا لا أوافق على أن تضحوا من اجل هذه التضحية الكبيرة ، وأنا مستعد أن أواجه مصيري المحتوم الذى لم يكن لى فيه ناقة ولا جمل ، بل فرضه القدر على ، وعلى أن أؤمن بهذا القدر وأرضى به ، وليفعل أولاد الرجعاوى مما يريدون بى ، لا أريد أن أضحى بكم جميعا من أجلى ، بل سأضحي أنا من أجلى نفسي ومن أجلكم 0
    ويرد عدوى :
    - مستحيل يا ابى أن نتركك فريسة للثأر الذى لم تسع إليه فى يوم من الأيام ، جاء الوقت لنقوم بدورنا تجاهك ، ولو وصل الأمر أن نضحي بأرواحنا جميعا من اجلل لن نتردد ، ولن يكون غير ذلك ، وسأخرج أسأل عمن يعرف عن تجارة الأعضاء الذى قالها حمدون ، وأرجو منك يا أبى الا تراجعنا لأننا لن نتراجع ، أليس كذلك :
    ويجيب الجميع :
    - نعم ، من أجل أبونا سنفعل المستحيل 0
    إلى اللقاء فى الفصل الثانى [ الابتلاء ]
    التعديل الأخير تم بواسطة فتحى حسان محمد; الساعة 17-02-2009, 21:31.
    أسس القصة
    البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية
  • فاطمة رشاد ناشر
    عاشقة الورق
    • 21-05-2007
    • 222

    #2
    لي عودة لهذا النص الجميل

    تعليق

    يعمل...
    X