شمس كانون حارقة / رواية / الفصلان الثالث والرابع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عمر حمّش
    عضو الملتقى
    • 11-12-2008
    • 87

    شمس كانون حارقة / رواية / الفصلان الثالث والرابع

    شمس كانون حارقة

    رواية


    الفصل الثالث

    المخيم يصحو قبيل الصُّبحِ، قبل آذان الصبح، قبل أن ينادي الآذانُ،الصَّلاةُ خيرٌ من النومِ، قبيل هروب الكلاب الضالة، والجرذان تناطح بقايا الخبزِ في أكوام الزبالة، يصحو أول من يصحو العمال، يرشق غلاب أبو النور بالماء وجهه، يحمل حاجته ويمضي، شبحا يتثاءب في بقايا الليل، والنسوة يقمن قبيل الفجر، قبيل هروب القمر، لحظة أن يبدو متقهقرا، أو منتحرا، أو لحظة أن يمطَّه من يمطُّه، فيبدو جمجمةً حمراء تصرخ محترقة!
    ترقب حنان القمر، وفي السلة تطوي أكياسَ الخيش، تأتي خيوط النور الأولى، تتسلل إلى بطن العتمة، وتصيح الديكة، يصحو من لم يصح، يصحو موظفو وكالة الغوث، يشغلون بئر المياه، ليجعجع:
    طق، طق، طق.
    يفتح الموظفون مركز التغذية الإضافية (الطعمة) ويصحو الأولادُ، تضجُّ الحارات بهم وهم يتسابقون للطعمة، تأتي السيارة الكبيرة الزرقاء من بعيد، تحمل الحليب، والخبز، والبيض المسلوق، يصرخ الأولاد، يغنّون، فترّن أصواتهم في جنبات الحارة:
    البقرة الحلابة، البقرة الحلابة
    يتزاحمون في الدَّور حفاةً، يشهرون بطاقاتٍ بيضاءَ مقسمةً خاناتٍ بعدد أيام الشهر، ويفتح الموظفون مركز التموين.
    يهرولُ عواجا خلف حمارته الهزيلة، تخونه قدمه العرجاء، ينحني دوما إلى جانب ليقفز دوما، يقصفُها بعصاه، وصوته:
    - حاء، حاء، ملعون أبوك
    يسابق اشتيوا وحماره، فيجد اشتيوا بانتظاره في مركز التموين، يتزاحم الناس، ينحشرون، يهللون، والموظفُ ينادي:
    - هدوء يا عالم، كيف ستسمعون الأسماء؟
    يزعق الموظف اسما اسما، تدخل امرأة، يدخل رجل، تدخل سلات الأكياس، يموج الناس، وحنان تصرخ على الزعبي:
    - ابق جانبي
    تخرج أكياس مملوءة، تُجرُّ ثقيلةً، يندلقُ الطحين، يسيل زيت الطبخ، يدقُّ عواجا حمارته، يدفعها بين الأجساد، ينادي:
    - حارة البركة، المقبرة، الفخورة.
    يرمح اشتيوا القوي، يسبق إلى الأكياس، يغادر بها على حماره المكان، وعواجا يدقُّ حمارته، يشتم:
    - ملعون أبوك يا شتيوا
    تنهق الحمارة، ينهق الحمار، يضيع صوت الموظف فلا تُسمع في الحشد الأسماء، تحفظ حنان توازنها، تتقدم، تنادي:
    - يا زعبي ابق جانبي
    يقفز الزعبي بين السيقان إلى آخر حبة فول واقعة من الأكياس، يلقطها، يصرخ الموظف منهكا:
    - ما لزوم التزاحم يا عرب وأنا أنادي الأسماء!
    ينادي عواجا من بعيد:
    - ملعون أبوه إلي وظفك
    يضحك الموظف، ويزعق
    - وظفتني الأمم المتحدة
    - ملعون أبوها الأمم المتحدة
    يقهقه الموظف، يمسح عرقه بكم ثوبه، ينادي:
    - حنان سعيد نوار اللوز
    دخل بين ساقيها الزعبي، طق الموظف البطاقة، امتلأ الكيس طحينا، حرسه الزعبي، هرولت ببقية الأكياس، غرفوا لها بالكيلة فولا، غرفوا عدسا، وفي القمع صَبوا زيتا داخل الإناء، عدت حنان الكيلات، كيلة للعجوز، كيلة لام سعيد، كيلة لها، وكيلة للزعبي، دفعا كيس الطحين، حملا ظرفي الفول والعدس، وإناء الزيت، وجاء عواجا مائلا، هتف:
    - حارة البركة
    انثنى لكيس الطحين، انثنى حتى كاد ينام، قام، مال على ساقه القصيرة، ومشى بالكيس، رماه على ظهر حمارته، فاهتزت، أوثقها بالحبل، دسَّ في الخرج الظرفين، والإناء، شد رسنها، وصرخ:
    - حاء
    ضربها بعصاه، وعاد ليصرخ
    - ولِك حاء
    طلعوا من مركز التموين، انفلتوا، ابتعدوا، وابتعد الضجيج، صار طنينا، ثم تلاشى
    خلف الموكب كان الزعبي يسير، يضرب بذراعيه الهواء، وبأصابع قدميه يقاتل التراب، ويده في جيبه تندس، ليخرج فولا يقرشه، أما عواجا فملأ الشارع صراخا، وحنان مشت حنان:
    - الحق يا زعبي!


    الفصل الرابع


    الطعمة والصف الطويل، وعصا البواب تلاحق الأولاد، تُدخلهم الصَّف، تحشر فيه الخارجين، تعدل الصف هنا، لينبعج هناك، فيجري البواب على طول الصف، تفرقع عصاه، فتتناثر على الأرض بطاقات الأولاد، يرتفع الصراخ، ويعلو العويل، تفوح رائحة البيض المسلوق، يزحف الصف إلى الباب، تتغذى مؤخرته بالقادمين، يأتي الزعبي، يجري شاهرا بطاقته من بعيد، قصيرا مثل قزم، داكن السحنة كالليل، يأتي الزعبي ليصرخ بمعدة خاوية، فرخ نسر على الأرض كان يطير، يقلب جسده على التراب، يتكور كعفريت، يهبُّ على ساقيه طائرة تطير، يفرد ذراعيه ويئز، يأتي الزعبي يجري، يغرز قدميه في الطريق، ويثني جسده، يمد ذراعيه، ويصوب نحو الطعمة، يطلق بفمه قذائف، يطلق كالمدفع:
    بف، بف.
    يأتي الزعبي يجري، يشهر بين أصابعه بطاقته، يراها سكينا لها شفار، وحدا كحد السيف، يراها حربة كحربة البنادق، فيثبت قدميه العاريتين في التراب، يخطو خطوة، يحني ظهره، يقفز، ويطعن، يطعن بالحربة الهواء، ها، هوب، يرى الهواء جنديا يصرخ، يئن، يراه يموت، ويقع الزعبي مثل جندي واقع مقتول، ينهض، ويجري، يشمُّ البيض المسلوق، يشم الخبز، يدخل، يخرج، يدخل، يصل الباب، يغامز بعينيه، يدلي لسانه خلف البواب.
    يعبر الزعبي غرفة الطعام، يدخل إلى موظف التوزيع، يأخذ خبزة وبيضة، يخرج إلى الرمل، يتربع، يضرب البيضة بجبينه، يقشرها كإصبع موز، يأكلها مع الخبزة مثل قرد، يقفز الزعبي بمعدة جوعى، يعود إلى الصف، يزاحم، ويشهر البطاقة من جديد، يغافل البواب والموظفين، يعبر ليخرج ببيضة وخبزة، يتحسس البيضة، يتشممها، يعيدها بعيدا إلى جيبه، يطير بها، يحلق خفيفا فوق الطريق، ويئز، يعلو، وينخفض، يصوب: بف، بف،
    يزمجر وينفجر، يطعن الجندي، ويتركه يهوي على التراب، يصل جده العجوز الجالس على المصطبة عند الباب
    - جئتك ببيضة وخبزة يا جدي
    تدمع العينان الهرمتان، تقطران قطرتين
    - كلهما أنت يا زعبي
    يضعهما في حجر العجوز، تمتد اليدان الضعيفتان، ترتجفان، تهتزان كأوراق الخريف، يأخذ الزعبي البيضة، يضربها بجبينه، ويضحك، تتشقق، يداعبها، وقشرها يتفسخ بيده.
    يبتسم العجوز:
    - يا عفريت يا زعبي
    - ستحدثني الليلة حكاية يا جدي
    - يا عفريت يا زعبي
    ترك جده، وانطلق، غاص في الأزقة، جمع الأولاد، جاء إليه الطويل والقصير، العريض والرفيع، وجاء صاحبه الشولي زعيم حارة الفاخورة، قال الزعبي:
    - خذ مجموعة يا شولي
    أخذ الشولي مجموعته، واخذ الزعبي مجموعته، تباعد الفريقان، تناثر الأولاد على أطراف البركة، تسلحوا بأنصاف حبات الليمون الفارغة، تسلحوا بحبات البطاطا المعطوبة، صرخ الزعبي:
    - عليهم
    وصرخ الشولي:
    - عليهم
    بدا القذف، صار قتالا، القذفة تتبعها صيحة، تقارب الفريقان، ثمَّ تباعدا، تطايرت حبات الليمون والبطاطا في الفراغ، هوَّت على الأجساد، لطمت الوجوه، نفخت العيون، استمر التراشق، احتدم الضرب، وازداد الزعيق، تقدم الزعبي فريقه، راوغ قذائف الآخرين، قفز كشيطان هنا وهناك، صوب نحو الشولي، وأطلق البطاطا، أطلقها كرصاص، أصابه في ظهره، في رأسه، صرخ الشولي، وجرى، لاحقه الزعبي يتبعه فريقه، احتلوا الساحة، سيطروا على الميدان، طاردوا الفريق الآخر إلى الأزقة، لاحقوهم بين البيوت، تطاير الحمام على السطوح، وقوَقَ الدجاج في الأحواش، وخرج بعض الناس يشتمون الأولاد.
    ظل الزعبي يجري، لاحق الشولي، قبض عليه مختبئا تحت بطن حمارة عواجا الواقفة في الزقاق، جرَّه على ظهره من تحتها، قفز الزعبي بلا وعي، قفز، ثمَّ هبط في بطن الشولي، امتدت أصابع قبضتيه، ضغطت على العنق، ضغطت، اتسعت حدقتا الشولي، ازرقت شفتاه، بدا الزبد ينساب، ارتجفت ساقاه وذراعاه، وفجأة وقع الزعبي، وواجه الأستاذ بشار أبو السعد، حملق الأستاذ في الزعبي، هتف:
    - ماذا تفعل يا زعبي؟
    - نحن نلعب يهود وعرب يا أستاذ
    انحنى الأستاذ بشار أبو السعد على الشولي، داس صدره بكفيه، التقط الشولي الهواء، زفر، عاد شهق، وزفر، أجلسه الأستاذ بشار أبو السعد، اسند ظهره إلى الحائط، ثم نظر إلى الزعبي:
    - كنت ستقتله يا مجنون
    وقف الزعبي، أحنى رأسه، اقترب من الشولي، مال عليه، حضنه، وقال:
    - سامحني يا شولي، كنت أراك يهوديا..!


    Omar-mustafa@hotmail.com
    مضنيةٌ الحياةٌ... بل قُل على الظهرِ جبل!
يعمل...
X