قِرَاءَةٌ فِي قِصَّةِ ( الرَّاعِي الْكَذَّابْ)
ذَكَّرَتْنِي إِحْدَى صَدِيقَاتِي (وَرُبَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ صَدِيقَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِي) بِقِصَّةِ الرَّاعِي الْكَذَّابِ (وَهِيَ تَعْتَقِدُنِي رَاعِيًا وَكَذَّابًا ههّههّهه)؛ فَخَطَرَ بِبَالِي أَنْ أُسَافِرَ إِلَى هُنَاكَ (إِلَى حَضَارَاتِ الشُّعُوبِ)، وَأَلْتَقِيَ ذَلِكَ الرَّاعِيَ لأَسْأَلَهُ عَنْ فعْلَتِهِ؛ وَهَلْ فِعْلاً فَعَلَهَا، أَمْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ.
اكْتَشَفْتُ فِي الْبِدَايَةِ أَنِّي لا أَعْرِفُ إِلَى أَيِّ شَعْبٍ تَنْتَمِي هَذِهِ الْقِصَّةُ، وَلا إِلَى أَيَّةِ مِنْطَقَةٍ جُغْرَافِيَّةٍ فِي الْعَالَمِ؛ فَأَيْنَ سَأُسَافِرُ؟
الْمُهِمُّ أَنِّي -وَعِنْدَ اسْتِمَاعِي لِلْقِصَّةِ (مِنْ صَدِيقَتِي)- أَدْخَلَتْنِي أَيْضًا بِقِصَّةِ الْقَشَّةِ الَّتِي قَصَمَتْ ظَهْرَ الْبَعِيرِ (وَكَانَتْ قِصَّتُنَا هِيَ ذَاكَ الْبَعِيرُ ههههه).
يَا لَلنِّسَاءِ! يُؤْمِنَّ بِالقَصَصَ الْخُرَافِيَّةِ وَيَقِسْنَ الْقَصَصَ الْحَقِيقِيَّةَ عَلَيْهَا..
نَعُودُ لِلرَّاعِي الْكَذَّابِ: بَدَأْتُ أَبْحَثُ فِي الْكُتُبِ عَنْهُ؛ فَلَمْ أَجِدْهُ. سَأَلْتُ مُخَيِّلَتِي عَنْهُ؛ فَوَجَدْتُهُ سَرِيعًا..
رَأَيْتُهُ قَابِعًا فِيهَا؛ وَكَأَنَّهُ فِي سِجْنٍ لانِهَائِيٍّ كَتِلْكَ السُّجُونِ الَّتِي كَانَتْ مُنْتَشِرَةً فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى؛ وَالَّتِي تَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةُ الصَّدَأ، وَعَلَى أَبْوَابِهَا حُرَّاسٌ بِسَلاسِلَ طَوِيلَةٍ لا يَسْمَحُونَ لأَحَدٍ بِالاقْتِرَابِ مِنْهَا..
أَمَّا أَنَا، فَكُنْتُ أَمِيرَ ذَاكِرَتِي، وَلَمْ يَكُنْ لِيَمْنَعَنِي أَحَدٌ مِنَ الْوُلُوجِ إِلَيْهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ أَشَاءُ..
طَرَقْتُ الْبَابَ كَيْ يَفْتَحَ لِي كَمَا تَفْتَحَ رُومَا أَبْوَابَهَا لِلْمُنْتَصِرِينَ، وَكُنْتِ أُفَكِّرُ بِطَرِيقَةِ السَّلامِ الْمُنَاسِبَةِ؛ كَيْ لا يَنْهَرَنِي، فَهُوَ رَاعٍ كذّاب .. وأنا -وَإِنْ شُبِّهْتُ بِهِ- لَسْتُ بِرَاعٍ وَلا كَذَّابٍ.. فَكَانَ عَلَيَّ أَنْ أَتَحَامَلَ عَلَى نَفْسِي وَأَذْهَبَ إِلَيْهِ بِطَرِيقَتِهِ هُوَ (لا بِطَرِيقَتِي).
أَجَابَنِي صَوْتٌ مِنْ دَاخِلِ رَأْسِي: أَخْرِجْنِي...
أَخْرِجْنِي أَيُّهَا الْمَعْتُوهُ؛ أَنَا مَظْلُومٌ!!
قُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدِ اعْتَادَ كُلُّ مَنْ فِي السِّجْنِ ادِّعَاءَ الْبَرَاءَةِ..
قُلْتُ لَهُ بِهُدُوءٍ: مَرْحَبًا!
أَجَابَ: وَيْحَكَ! أَخْرِجْنِي يَا هَذَا..
كُنْتُ أُفَكِّرُ بِسُرْعَةٍ: كَيْفَ أَرُدُّ عَلَى هَذَا الرَّاعِي، وَأَنَا لَمْ أَعْتَدْ مُقَارَعَةَ الرِّعَاعِ...!
قُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، أَأَنْتَ الرَّاعِي الْكَذَّابُ؟ كُنْتُ أُرِيدُ مِنْهُ تَأْكِيدًا حَتَّى أَدْخُلَ عَلَيْهِ أَوْ أُخْرِجَهُ؛ لأَنَّ رَأْسِي مَلِيءٌ بِالْمَسَاجِينِ، وَلا أُرِيدُ أَنْ أُخْطِئَ الْفِكْرَةَ.
أَجَابَ بِصَوْتٍ لاذِعٍ: افْتَحْ، وَلا تَخَفْ؛ أَنَا هُوَ، نَعَمْ.
افْتَحْ يَا رَجُلُ! هَذَا إِذَا كُنْتَ رَجُلاً.
بَدَأَ الرَّاعِي بِالسُّخْرِيَةِ؛ وَكَأَنَّهُ يَسْتَفِزُّنِي كَيْ أَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ.
هَمَمْتُ أَنْ أَفْتَحَ، وَخِفْتُ أَنْ يَتْبَعَهُ أَحَدٌ؛ فَقُلْتُ لَهُ بِصَوْتٍ هَامِسٍ: اقْتَرِبْ مِنَ الْبَابِ وَحْدَكَ؛ أَنَا أَرِيدُ أَنْ أُخْرِجَكَ أَنْتَ وَحْدَكَ، فَلا تُخْبِرْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ سَأَلُوكَ إِلَى أَيْنَ أَنْتَ ذَاهِبٌ، فَلَكَ أَنْ تَقُولَ لَهُمْ أي كذبةٍ تَشَاءُ ؛ فَأَنْتَ فِي الأَسَاسِ كَذَّابٌ.
أَحْسَسْتُ أَنَّهُ يَسْتَجْمِعُ هُدُوءَهُ لِهَذِهِ الإهَانَةِ، وَقَبِلَهَا عَلَى مَضَضٍ فِي سَبِيلِ الْحُرِّيَّةِ، أَوْ أَوْهَمَنِي بِذَلِكَ، عَكْسَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَخْسَرُونَ حُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ، لَكِنَّهُمْ فِي النِّهَايَةِ يَرْبَحُونَ أَنْفُسَهُمْ.
سَكَتَ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْبَابِ.
فَتَحْتُ الْبَابَ بِهُدُوءٍ، وَمَدَدْتُ يَدِي لأُخْرِجَهُ مِنْ مُخَيِّلَتِي.
وَإِذَا بِأَحَدٍ يُنَادِي: خِيَانَةٌ!! أَغْلِقُوا الأَبْوَابَ!!
تَذَكَّرْتُ هَاملِتْ: إِلَى أَيْنَ أَخَذَهُ تَرَدُّدُهُ وَانْهِزَامِيَّتُهُ، وَالْمَشْهَدَ الأَخِيرَ مِنَ الشَّكِّ وَالْمُعَانَاةِ، إِلا أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ هُنَا كَانَ الأَوَّلَ...
أَسْرَعْتُ بِهِ كَمَا تُسْرِعُ النِّسَاءُ الْهَارِبَاتُ مِنْ ظَلامِ الليْلِ وَبَرْدِ الشِّتَاءِ، وَهُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَحْتَمِينَ بِذِرَاعِ رَجُلٍ يَحْمِلُ مِظَلَّةً تَقِيهِنَّ تحرش الْمَطَرِ. أَسْرَعْتُ بِهِ مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَلْحَقُونَ بِالْقِطَارِ فِي آخِرِ لَحَظَاتِهِ وَلا يَرْكَبُونَ..
وَهُوَ كَانَ يَتَعَثَّرُ مَرَّةً فِي السَّيْرِ، وَيَرْكُضُ مَرَّةً أُخْرَى، إِلَى أَنْ وَصَلْنَا خَارِجَ رَأْسِي.
كُنَّا كَمَنْ خَرَجَ مِنْ كَهْفِ التَّارِيخِ الْمُعْتمِ إِلَى فَضَاءِ الْغَدِ، وَإِلَى الصَّبَاحَاتِ الْمَلِيئَةِ بِالشُّمُوسِ.
أَجْلَسْتُهُ قُرْبِي، وَأَخَذَ يَلْهَثُ قَائِلاً: مُنْذُ زَمَنٍ لَمْ أَرْكُضْ؛ وَلَطَالَمَا كُنْتُ أَرْكُضُ خَلْفَ الْغَنَمِ. أَمَّا الْيَوْمَ (هَـهْ) فَالْغَنَمُ هو الذي يَرْكُضُ خَلْفِي. ضَحِكْتُ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَكُنْتَ تَحْسِبُ أَنَّ مَنْ خَلْفَكَ غَنَمٌ؟
قَالَ: ماذا إِذَنْ؟
قُلْتُ لَهُ: لا يُهِمُّ! لا يُهِمُّ! أَتُرِيدُ مَاءً؟
قَالَ: نَعَمْ.
جَلَسْنَا وَأَنَا أُفَكِّرُ بِمُنَاوَرَةٍ فِي الْكَلامِ؛ لَعَلَّهُ يُخْبِرُنِي بِمَا حَصَلَ مَعَهُ هُنَاكَ، وَهَلْ فِعْلاً أَتَى الذِّئْبُ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَمْ مَاذَا حَصَلَ بِالضَّبْطِ؟
وَهُوَ (مَنْ كُنْتُ أَظُنُّهُ مِنَ الرِّعَاعِ) كَانَ يَقْرَؤُنِي، وَيَنْظُرُ فِي وَجْهِي، وَكَأَنِّي شَاةٌ مِنْ شِيَاهِهِ أَوْ ذِئْبٌ؛ رُبَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُحَمِّلَنَي مَسْؤُولِيَّةَ فعْلَتِهِ.
أَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا، وَأَشْعَرَنِي أَنَّه سَعِيدٌ بِخُرُوجِهِ مِنْ رَأْسِي -بِابْتِسَامَةِ رِضًا رَمَاهَا عَلَيَّ كَمَا نَرْمِي الْوُرُودَ عَلَى النِّسَاءِ اللوَاتِي يُرِدْنَ ذَلِكَ.
وَفَاجَأَنِي بِالسُّؤَالِ: مَنْ أَنْتَ؟
وَلِمَاذَا حَرَّرْتَنِي مِنْ ذَاكِرَتِكَ، وَأَتَيْتَ بِي إِلَى وَاقِعِكَ هَذَا؟ وَهَلْ سَتُعِيدُنِي بَعْدَ أَنْ أُعْطِيَكَ مَا تَطْلُبُهُ مِنِّي؟
رَدَدْتُ عَلَيْهِ ابْتِسَامَتَهُ بِأُخْرَى لا تَقِلُّ سُخْرِيَةً، وَبَدَأْتُ أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ بِطَرِيقَةٍ مُخَابَرَاتِيَّةٍ؛ وَكَأَنِّي مُحَقِّقٌ فِي شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الْمُخَابَرَاتِ الْمُنْتَشِرَةِ حَوْلَنَا، وَأَحْسَسْتُ بِالزَّهْوِ نَوْعًا مَا وَأَنَا أَهُمُّ بِاسْتِجْوَابِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ وَتَذَكَّرْتُ ذَلِكَ الْمُحَقِّقَ الَّذِي كَانَ يُحَقِّقُ مَعِي فِي الْجَيْشِ عِنْدَمَا اتُّهِمْتُ بِتَزْوِيرِ "إِجَازَةٍ"..
(تَبًّا لِي إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُهَا حَقًّا).. لَكِنِّي الآنَ سَيِّدُ الْمَوْقِفِ، وَكُنْتُ أُلاعِبُهُ بِخُبْثِ الْمُجْرِمِينَ مَعَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ مُجْرِمًا.
أَمَّا هَذَا الرَّاعِي، فَالتُّهْمَةُ لاصِقَةٌ بِهِ؛ لا أَدْرِي مُنْذُ مَتَى؛ رُبَّمَا مُنْذُ حَضَارَاتٍ قَدِيمَةٍ حِينَ لَمْ تَكُنْ تُوجَدُ هَوَاتِفُ (لا ثَابِتةٌ وَلا مُتَحَرِّكَةٌ)؛ فَحَسب الرِّوَايَةِ: إِنَّهُ نَزَلَ إِلَى الْقَرْيَةِ لِيُنَادِيَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَسِيلَةُ اتِّصَالٍ.
إِلا إِذَا كَانَ صَوْتُهُ كَصَوْتِ الرَّعْدِ مَثَلاً، وَنَادَى مِنْ بَعِيدٍ، وَسَمِعُوهُ...ه
سَنَرَى الآنَ إِنْ كُنْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْتَزِعَ الْحَقِيقَةَ مِنْهُ؛ فَالْحَقِيقَةُ لا تَأْتِي هَكَذَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تُبْعِدَ الْغُيُومَ أَوَّلاً حَتَّى تَرَى الشَّمْسَ الَّتِي خَلْفَهَا، وَإِلا.. فَإِنَّكَ لَنْ تَرَى الشَّمْسَ أَبَدًا..
سَأَلْتُهُ وَأَنَا أَحُومُ حَوْلَهُ كَطَائِرٍ يَتَفَحَّصُ فَرِيسَتَهُ الشَّهِيَّةَ قَبْلَ الْتِهَامِهَا، وَكَانَ السُّؤَالُ: "مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى تَكْرَارِ فَعْلَتِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَاسْتِدْعَاءِ أَهَالِي الْقَرْيَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الشَّائِنِ؟".
يَضْحَكُ الرَّاعِي، وَيُجِيبُ بِخُبْثٍ: أَوَّلاً أَنَا شَخْصِيَّةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَغَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ؛ وَإِنَّمَا أَوْجَدُونِي لِيَكُونَ لأَهْلِ الْقَرْيَةِ ذَرِيعَةٌ كَيْ لا يُلَبُّوا النِّدَاءَ حِينَ يُسْتَغَاثُ بِهِمْ، وَلِيَسْتَعْمِلُونِي(كَدَرِيئَةٍ) لإخْفَاءِ جُبْنِهِمْ وَتَخَاذُلِهِمْ..
وْانْظُرْ حَوْلَكَ! هَلْ مِنْ مُغِيثٍ....؟
انْظُرْ حَوْلَكَ! هَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يُلَبِّي النِّدَاءَ؟
أَتَذْكُرُ الْمُعْتَصِمَ؟؟
أَجَبْتُهُ: طَبْعًا، وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ لا يَعْرِفُهُ وَلا يَعْرِفُ قِصَّتَهُ؟
فَرَدَّ عَلَيَّ: إِذَنْ، عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَهُ هُوَ؛ فَهُوَ الْوَحِيدُ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُنِي، وَلا يَرَانِي دَرِيئَةً. هُوَ بِالأَسَاسِ لا يُؤْمِنُ بِوُجُودِي.. الْكُلُّ يُرِيدُ أَنْ يُحَاكِمَ الآخَرَ عَلَى أَسَاسِ أَنَّهُ رَاعٍ وَكَذَّابٌ أَيْضًا..
قَاطَعْتُهُ قَائِلاً: انْتَظِرْ قَلِيلاً! كَيْفَ تَكُونُ شَخْصِيَّةً غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، وَيَعْرِفُكَ الْقَاصِي وَالدَّانِي؟! وَكُلُّ الأُمَمِ تَتَحَدَّثُ بِقِصَّتِكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ لِي أَنْ أَجِدَ الْمُعْتَصِمَ لأَسْأَلَهُ عَنْكَ؟
ضَحِكَ الرَّاعِي ضحْكَةً خَبِيثَةً، وَقَالَ: يَا صَدِيقِي، إِذَا كُنْتُ حَقِيقِيًّا.. فَهَلْ أَكُونُ مَوْجُودًا الآنَ؟!
لَمْ أَفْهَمْ مَا قَالَ. قَرَأَ عَلامَاتِ التَّعَجُّبِ عَلَى وَجْهِي، وَتَابَعَ: اسْمَعْ؛ لَوْ كَانَتْ الْقِصَّةُ حَقِيقِيَّةً وَأَتَى الذِّئْبُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ حَسبَ مَا تَشْتَهُونَ، ألَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَنِي مَعَ الْغَنَمِ؟!.. وَمَنْ سَيْرْوِي حِكَايَتِي بَعْدَ مَوْتِي؟؟! سَتَقُولُ: "أَهْلُ الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنْ رَأَوُا الْبَقَايَا"؛ أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
حَسَنًا، مَا أَدْرَاهُمْ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَنِي أَنَا وَالْغَنَمَ؟ رُبَّمَا سَرَقْتُ الْغَنَمَ، وَذَهَبْتُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ؟
وَتَرَكْتُ بَقَايَا لِبَاسِي مَعَ دَمٍ كَذِبٍ كَمَا فَعَلَ (إِخْوَةُ يُوسُفَ..)؟
كَيْفَ سَيَتَحَقَّقُونَ مِنْ ذَلِكَ؟! لا تَأْكِيدَ لِذَلِكَ..
(قُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا الرَّاعِي ثَعْلَبٌ؛ كَيْفَ سَمَحْتُ لَهُ أَنْ يَقْلِبَ الأَسْئِلَةَ عَلَيَّ هَكَذَا! وَرُبَّمَا فِعْلاً مَا يَقُولُهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ ,,,,).
قَاطَعَ تَفْكِيرِي، وَتَابَعَ: وَإِذَا كُنْتُ أَنَا الرَّاوِي لأَهَالِي الْقَرْيَةِ، وَنَجَوْتُ مِنْ بَرَاثِنِ الثَّعْلَبِ، فَكَيْفَ صَدَّقُونِي وَأَنَا الْكَذَّابُ ثَلاثًا؟ رُبَّمَا بِعْتُ بَعْضَ الْغَنَمِ وَاتَّهَمْتُ الذِّئْبَ؟ أَيْضًا لا تَأْكِيدَ لِذَلِكَ.
أَحَسَّ هَذَا الثَّعْلَبُ بِارْتِبَاكِي، وَتَمَهَّلَ قَلِيلاً فِي السَّرْدِ الَّذِي كَانَ وَاثِقًا بِأَنِّي عُدْتُ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُجَمِّعَ أَفْكَارِي مَعَهُ.
كُنْتُ كَمَنْ وَقَعَ فِي مِصْيَدَةٍ مُرْبِكَةٍ حَقًّا، وَكَانَ عَلَيَّ أَنْ أُنَاقِشَهُ فِيمَا سَرَدَ، وَإلا فَسَأكُونُ مَهْزُومًا -فِي نَظَرِهِ- مِنْ قَبْلَ أَنْ أَبْدَأَ.
"أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَهُ بِرَوِيَّةٍ" هَكَذَا أَجَبْتُهُ بِهُدُوءٍ كَاذِبٍ.
قَهْقَهَ الْمَكَّارُ بِقُوَّةٍ، وَلَمْ يُجِبْنِي، بَلْ تَابَعَ يَقُولُ:
فَكِّرْ بِمَا قُلْتُهُ لَكَ؛ وَسَتَعْرِفُ: إِذَا كُنْتُ صَادِقًا أَمْ كَاذِبًا.
أَأَقُولُ لَكَ شَيْئًا؟...........
فَاجَأَنِي وَأَنَا أُفَكِّرُ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيَّ سِلْسِلَةَ أَفْكَارِي مُتَعَمِّدًا..
قَالَ لِي: أَنَا نَسْجٌ مِنْ خَيَالِ الْجَدَّاتِ اللوَاتِي يَكْذِبْنَ عَلَى الأَطْفَالِ ؛ كَيْ يَنَامُوا فَيَسْتَرِحْنَ مِنْهُمْ..
لَكِنْ هَلِ الْغَايَةُ تُبَرِّرُ الْوَسِيلَةَ كَمَا قَالَ (مَاكيافييلي)؟
رُبَّمَا تَكُونُ غَايَتُهُمْ حَسَنَةً؛ فَجَعَلُونِي كَدَرْسٍ إِرْشَادِيٍّ لَهُمْ، وَرُبَّمَا اسْتِخْفَافًا بِعُقُولِ الأَطْفَالِ الَّذِينَ لا يُحَلِّلُونَ شَيْئًا، وَيَأْخُذُونَ الأُمُورَ كَمَا هِيَ؛ لِذَلِكَ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ وَالأَسَاطِيرُ، فَالْبَشَرُ -يَا صَدِيقِي- يُصَدِّقُونَ التَّارِيخَ رَغْمَ مَا فِيهِ مِنْ كَذِبٍ لِسَبَبَيْنِ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَارِيخًا يَتَكَلَّمُونَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَغْمَ كَذِبِ التَّارِيخِ إِلا أَنَّهُ يَظَلُّ فِيهِ أَشْيَاءُ جَمِيلَةٌ أَكْثَرَ مِنَ الْوَاقِعِ الْمُعَاشِ... وَيُمْكِنُكَ التَّلاعُبُ بِهِ أَيْضًا، وَالتَّلاعُبُ بِصِيَاغَتِهِ كَيْفَ تَشَاءُ. أَعِدْنِي إِلَى رَأْسِكِ يَا صَدِيقَي، وَلا تَشْغَلْ بَالَكَ بِالْقَصَصِ الْخُرَافِيَّةِ.. إِلا إِذَا أَرَدْتَ أَنْ أَقُصَّ عَلَيْكَ قِصَّةَ "لَيْلَى وَالذِّئْب"، أَوْ كَمَا يُسَمُّونَهَا "ذَاتُ الرِّدَاءِ الأَحْمَرِ"... لَنْ أَرْوِيَهَا لَكَ؛ لأَنِّي لا أُرِيدُ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْكَ؛ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ -أَيْضًا- كَذِبٌ فِي كَذِبٍ. اذْهَبْ وَنَمْ يَا صَاحِبِي! وَلا تَنْسَ أَنْ تَشْرَبَ حَلِيبًا............... قَبْلَ أَنْ تَنَامَ...
أَنَا لَسْتُ كَذَّابًا.
قام بالتصحيح أستاذنا رعد يكن برسالة خاصة !!
ذَكَّرَتْنِي إِحْدَى صَدِيقَاتِي (وَرُبَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ صَدِيقَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِي) بِقِصَّةِ الرَّاعِي الْكَذَّابِ (وَهِيَ تَعْتَقِدُنِي رَاعِيًا وَكَذَّابًا ههّههّهه)؛ فَخَطَرَ بِبَالِي أَنْ أُسَافِرَ إِلَى هُنَاكَ (إِلَى حَضَارَاتِ الشُّعُوبِ)، وَأَلْتَقِيَ ذَلِكَ الرَّاعِيَ لأَسْأَلَهُ عَنْ فعْلَتِهِ؛ وَهَلْ فِعْلاً فَعَلَهَا، أَمْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ.
اكْتَشَفْتُ فِي الْبِدَايَةِ أَنِّي لا أَعْرِفُ إِلَى أَيِّ شَعْبٍ تَنْتَمِي هَذِهِ الْقِصَّةُ، وَلا إِلَى أَيَّةِ مِنْطَقَةٍ جُغْرَافِيَّةٍ فِي الْعَالَمِ؛ فَأَيْنَ سَأُسَافِرُ؟
الْمُهِمُّ أَنِّي -وَعِنْدَ اسْتِمَاعِي لِلْقِصَّةِ (مِنْ صَدِيقَتِي)- أَدْخَلَتْنِي أَيْضًا بِقِصَّةِ الْقَشَّةِ الَّتِي قَصَمَتْ ظَهْرَ الْبَعِيرِ (وَكَانَتْ قِصَّتُنَا هِيَ ذَاكَ الْبَعِيرُ ههههه).
يَا لَلنِّسَاءِ! يُؤْمِنَّ بِالقَصَصَ الْخُرَافِيَّةِ وَيَقِسْنَ الْقَصَصَ الْحَقِيقِيَّةَ عَلَيْهَا..
نَعُودُ لِلرَّاعِي الْكَذَّابِ: بَدَأْتُ أَبْحَثُ فِي الْكُتُبِ عَنْهُ؛ فَلَمْ أَجِدْهُ. سَأَلْتُ مُخَيِّلَتِي عَنْهُ؛ فَوَجَدْتُهُ سَرِيعًا..
رَأَيْتُهُ قَابِعًا فِيهَا؛ وَكَأَنَّهُ فِي سِجْنٍ لانِهَائِيٍّ كَتِلْكَ السُّجُونِ الَّتِي كَانَتْ مُنْتَشِرَةً فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى؛ وَالَّتِي تَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةُ الصَّدَأ، وَعَلَى أَبْوَابِهَا حُرَّاسٌ بِسَلاسِلَ طَوِيلَةٍ لا يَسْمَحُونَ لأَحَدٍ بِالاقْتِرَابِ مِنْهَا..
أَمَّا أَنَا، فَكُنْتُ أَمِيرَ ذَاكِرَتِي، وَلَمْ يَكُنْ لِيَمْنَعَنِي أَحَدٌ مِنَ الْوُلُوجِ إِلَيْهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ أَشَاءُ..
طَرَقْتُ الْبَابَ كَيْ يَفْتَحَ لِي كَمَا تَفْتَحَ رُومَا أَبْوَابَهَا لِلْمُنْتَصِرِينَ، وَكُنْتِ أُفَكِّرُ بِطَرِيقَةِ السَّلامِ الْمُنَاسِبَةِ؛ كَيْ لا يَنْهَرَنِي، فَهُوَ رَاعٍ كذّاب .. وأنا -وَإِنْ شُبِّهْتُ بِهِ- لَسْتُ بِرَاعٍ وَلا كَذَّابٍ.. فَكَانَ عَلَيَّ أَنْ أَتَحَامَلَ عَلَى نَفْسِي وَأَذْهَبَ إِلَيْهِ بِطَرِيقَتِهِ هُوَ (لا بِطَرِيقَتِي).
أَجَابَنِي صَوْتٌ مِنْ دَاخِلِ رَأْسِي: أَخْرِجْنِي...
أَخْرِجْنِي أَيُّهَا الْمَعْتُوهُ؛ أَنَا مَظْلُومٌ!!
قُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدِ اعْتَادَ كُلُّ مَنْ فِي السِّجْنِ ادِّعَاءَ الْبَرَاءَةِ..
قُلْتُ لَهُ بِهُدُوءٍ: مَرْحَبًا!
أَجَابَ: وَيْحَكَ! أَخْرِجْنِي يَا هَذَا..
كُنْتُ أُفَكِّرُ بِسُرْعَةٍ: كَيْفَ أَرُدُّ عَلَى هَذَا الرَّاعِي، وَأَنَا لَمْ أَعْتَدْ مُقَارَعَةَ الرِّعَاعِ...!
قُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، أَأَنْتَ الرَّاعِي الْكَذَّابُ؟ كُنْتُ أُرِيدُ مِنْهُ تَأْكِيدًا حَتَّى أَدْخُلَ عَلَيْهِ أَوْ أُخْرِجَهُ؛ لأَنَّ رَأْسِي مَلِيءٌ بِالْمَسَاجِينِ، وَلا أُرِيدُ أَنْ أُخْطِئَ الْفِكْرَةَ.
أَجَابَ بِصَوْتٍ لاذِعٍ: افْتَحْ، وَلا تَخَفْ؛ أَنَا هُوَ، نَعَمْ.
افْتَحْ يَا رَجُلُ! هَذَا إِذَا كُنْتَ رَجُلاً.
بَدَأَ الرَّاعِي بِالسُّخْرِيَةِ؛ وَكَأَنَّهُ يَسْتَفِزُّنِي كَيْ أَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ.
هَمَمْتُ أَنْ أَفْتَحَ، وَخِفْتُ أَنْ يَتْبَعَهُ أَحَدٌ؛ فَقُلْتُ لَهُ بِصَوْتٍ هَامِسٍ: اقْتَرِبْ مِنَ الْبَابِ وَحْدَكَ؛ أَنَا أَرِيدُ أَنْ أُخْرِجَكَ أَنْتَ وَحْدَكَ، فَلا تُخْبِرْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ سَأَلُوكَ إِلَى أَيْنَ أَنْتَ ذَاهِبٌ، فَلَكَ أَنْ تَقُولَ لَهُمْ أي كذبةٍ تَشَاءُ ؛ فَأَنْتَ فِي الأَسَاسِ كَذَّابٌ.
أَحْسَسْتُ أَنَّهُ يَسْتَجْمِعُ هُدُوءَهُ لِهَذِهِ الإهَانَةِ، وَقَبِلَهَا عَلَى مَضَضٍ فِي سَبِيلِ الْحُرِّيَّةِ، أَوْ أَوْهَمَنِي بِذَلِكَ، عَكْسَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَخْسَرُونَ حُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ، لَكِنَّهُمْ فِي النِّهَايَةِ يَرْبَحُونَ أَنْفُسَهُمْ.
سَكَتَ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْبَابِ.
فَتَحْتُ الْبَابَ بِهُدُوءٍ، وَمَدَدْتُ يَدِي لأُخْرِجَهُ مِنْ مُخَيِّلَتِي.
وَإِذَا بِأَحَدٍ يُنَادِي: خِيَانَةٌ!! أَغْلِقُوا الأَبْوَابَ!!
تَذَكَّرْتُ هَاملِتْ: إِلَى أَيْنَ أَخَذَهُ تَرَدُّدُهُ وَانْهِزَامِيَّتُهُ، وَالْمَشْهَدَ الأَخِيرَ مِنَ الشَّكِّ وَالْمُعَانَاةِ، إِلا أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ هُنَا كَانَ الأَوَّلَ...
أَسْرَعْتُ بِهِ كَمَا تُسْرِعُ النِّسَاءُ الْهَارِبَاتُ مِنْ ظَلامِ الليْلِ وَبَرْدِ الشِّتَاءِ، وَهُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَحْتَمِينَ بِذِرَاعِ رَجُلٍ يَحْمِلُ مِظَلَّةً تَقِيهِنَّ تحرش الْمَطَرِ. أَسْرَعْتُ بِهِ مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَلْحَقُونَ بِالْقِطَارِ فِي آخِرِ لَحَظَاتِهِ وَلا يَرْكَبُونَ..
وَهُوَ كَانَ يَتَعَثَّرُ مَرَّةً فِي السَّيْرِ، وَيَرْكُضُ مَرَّةً أُخْرَى، إِلَى أَنْ وَصَلْنَا خَارِجَ رَأْسِي.
كُنَّا كَمَنْ خَرَجَ مِنْ كَهْفِ التَّارِيخِ الْمُعْتمِ إِلَى فَضَاءِ الْغَدِ، وَإِلَى الصَّبَاحَاتِ الْمَلِيئَةِ بِالشُّمُوسِ.
أَجْلَسْتُهُ قُرْبِي، وَأَخَذَ يَلْهَثُ قَائِلاً: مُنْذُ زَمَنٍ لَمْ أَرْكُضْ؛ وَلَطَالَمَا كُنْتُ أَرْكُضُ خَلْفَ الْغَنَمِ. أَمَّا الْيَوْمَ (هَـهْ) فَالْغَنَمُ هو الذي يَرْكُضُ خَلْفِي. ضَحِكْتُ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَكُنْتَ تَحْسِبُ أَنَّ مَنْ خَلْفَكَ غَنَمٌ؟
قَالَ: ماذا إِذَنْ؟
قُلْتُ لَهُ: لا يُهِمُّ! لا يُهِمُّ! أَتُرِيدُ مَاءً؟
قَالَ: نَعَمْ.
جَلَسْنَا وَأَنَا أُفَكِّرُ بِمُنَاوَرَةٍ فِي الْكَلامِ؛ لَعَلَّهُ يُخْبِرُنِي بِمَا حَصَلَ مَعَهُ هُنَاكَ، وَهَلْ فِعْلاً أَتَى الذِّئْبُ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَمْ مَاذَا حَصَلَ بِالضَّبْطِ؟
وَهُوَ (مَنْ كُنْتُ أَظُنُّهُ مِنَ الرِّعَاعِ) كَانَ يَقْرَؤُنِي، وَيَنْظُرُ فِي وَجْهِي، وَكَأَنِّي شَاةٌ مِنْ شِيَاهِهِ أَوْ ذِئْبٌ؛ رُبَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُحَمِّلَنَي مَسْؤُولِيَّةَ فعْلَتِهِ.
أَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا، وَأَشْعَرَنِي أَنَّه سَعِيدٌ بِخُرُوجِهِ مِنْ رَأْسِي -بِابْتِسَامَةِ رِضًا رَمَاهَا عَلَيَّ كَمَا نَرْمِي الْوُرُودَ عَلَى النِّسَاءِ اللوَاتِي يُرِدْنَ ذَلِكَ.
وَفَاجَأَنِي بِالسُّؤَالِ: مَنْ أَنْتَ؟
وَلِمَاذَا حَرَّرْتَنِي مِنْ ذَاكِرَتِكَ، وَأَتَيْتَ بِي إِلَى وَاقِعِكَ هَذَا؟ وَهَلْ سَتُعِيدُنِي بَعْدَ أَنْ أُعْطِيَكَ مَا تَطْلُبُهُ مِنِّي؟
رَدَدْتُ عَلَيْهِ ابْتِسَامَتَهُ بِأُخْرَى لا تَقِلُّ سُخْرِيَةً، وَبَدَأْتُ أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ بِطَرِيقَةٍ مُخَابَرَاتِيَّةٍ؛ وَكَأَنِّي مُحَقِّقٌ فِي شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الْمُخَابَرَاتِ الْمُنْتَشِرَةِ حَوْلَنَا، وَأَحْسَسْتُ بِالزَّهْوِ نَوْعًا مَا وَأَنَا أَهُمُّ بِاسْتِجْوَابِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ وَتَذَكَّرْتُ ذَلِكَ الْمُحَقِّقَ الَّذِي كَانَ يُحَقِّقُ مَعِي فِي الْجَيْشِ عِنْدَمَا اتُّهِمْتُ بِتَزْوِيرِ "إِجَازَةٍ"..
(تَبًّا لِي إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُهَا حَقًّا).. لَكِنِّي الآنَ سَيِّدُ الْمَوْقِفِ، وَكُنْتُ أُلاعِبُهُ بِخُبْثِ الْمُجْرِمِينَ مَعَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ مُجْرِمًا.
أَمَّا هَذَا الرَّاعِي، فَالتُّهْمَةُ لاصِقَةٌ بِهِ؛ لا أَدْرِي مُنْذُ مَتَى؛ رُبَّمَا مُنْذُ حَضَارَاتٍ قَدِيمَةٍ حِينَ لَمْ تَكُنْ تُوجَدُ هَوَاتِفُ (لا ثَابِتةٌ وَلا مُتَحَرِّكَةٌ)؛ فَحَسب الرِّوَايَةِ: إِنَّهُ نَزَلَ إِلَى الْقَرْيَةِ لِيُنَادِيَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَسِيلَةُ اتِّصَالٍ.
إِلا إِذَا كَانَ صَوْتُهُ كَصَوْتِ الرَّعْدِ مَثَلاً، وَنَادَى مِنْ بَعِيدٍ، وَسَمِعُوهُ...ه
سَنَرَى الآنَ إِنْ كُنْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْتَزِعَ الْحَقِيقَةَ مِنْهُ؛ فَالْحَقِيقَةُ لا تَأْتِي هَكَذَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تُبْعِدَ الْغُيُومَ أَوَّلاً حَتَّى تَرَى الشَّمْسَ الَّتِي خَلْفَهَا، وَإِلا.. فَإِنَّكَ لَنْ تَرَى الشَّمْسَ أَبَدًا..
سَأَلْتُهُ وَأَنَا أَحُومُ حَوْلَهُ كَطَائِرٍ يَتَفَحَّصُ فَرِيسَتَهُ الشَّهِيَّةَ قَبْلَ الْتِهَامِهَا، وَكَانَ السُّؤَالُ: "مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى تَكْرَارِ فَعْلَتِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَاسْتِدْعَاءِ أَهَالِي الْقَرْيَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الشَّائِنِ؟".
يَضْحَكُ الرَّاعِي، وَيُجِيبُ بِخُبْثٍ: أَوَّلاً أَنَا شَخْصِيَّةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَغَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ؛ وَإِنَّمَا أَوْجَدُونِي لِيَكُونَ لأَهْلِ الْقَرْيَةِ ذَرِيعَةٌ كَيْ لا يُلَبُّوا النِّدَاءَ حِينَ يُسْتَغَاثُ بِهِمْ، وَلِيَسْتَعْمِلُونِي(كَدَرِيئَةٍ) لإخْفَاءِ جُبْنِهِمْ وَتَخَاذُلِهِمْ..
وْانْظُرْ حَوْلَكَ! هَلْ مِنْ مُغِيثٍ....؟
انْظُرْ حَوْلَكَ! هَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يُلَبِّي النِّدَاءَ؟
أَتَذْكُرُ الْمُعْتَصِمَ؟؟
أَجَبْتُهُ: طَبْعًا، وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ لا يَعْرِفُهُ وَلا يَعْرِفُ قِصَّتَهُ؟
فَرَدَّ عَلَيَّ: إِذَنْ، عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَهُ هُوَ؛ فَهُوَ الْوَحِيدُ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُنِي، وَلا يَرَانِي دَرِيئَةً. هُوَ بِالأَسَاسِ لا يُؤْمِنُ بِوُجُودِي.. الْكُلُّ يُرِيدُ أَنْ يُحَاكِمَ الآخَرَ عَلَى أَسَاسِ أَنَّهُ رَاعٍ وَكَذَّابٌ أَيْضًا..
قَاطَعْتُهُ قَائِلاً: انْتَظِرْ قَلِيلاً! كَيْفَ تَكُونُ شَخْصِيَّةً غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، وَيَعْرِفُكَ الْقَاصِي وَالدَّانِي؟! وَكُلُّ الأُمَمِ تَتَحَدَّثُ بِقِصَّتِكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ لِي أَنْ أَجِدَ الْمُعْتَصِمَ لأَسْأَلَهُ عَنْكَ؟
ضَحِكَ الرَّاعِي ضحْكَةً خَبِيثَةً، وَقَالَ: يَا صَدِيقِي، إِذَا كُنْتُ حَقِيقِيًّا.. فَهَلْ أَكُونُ مَوْجُودًا الآنَ؟!
لَمْ أَفْهَمْ مَا قَالَ. قَرَأَ عَلامَاتِ التَّعَجُّبِ عَلَى وَجْهِي، وَتَابَعَ: اسْمَعْ؛ لَوْ كَانَتْ الْقِصَّةُ حَقِيقِيَّةً وَأَتَى الذِّئْبُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ حَسبَ مَا تَشْتَهُونَ، ألَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَنِي مَعَ الْغَنَمِ؟!.. وَمَنْ سَيْرْوِي حِكَايَتِي بَعْدَ مَوْتِي؟؟! سَتَقُولُ: "أَهْلُ الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنْ رَأَوُا الْبَقَايَا"؛ أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
حَسَنًا، مَا أَدْرَاهُمْ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَنِي أَنَا وَالْغَنَمَ؟ رُبَّمَا سَرَقْتُ الْغَنَمَ، وَذَهَبْتُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ؟
وَتَرَكْتُ بَقَايَا لِبَاسِي مَعَ دَمٍ كَذِبٍ كَمَا فَعَلَ (إِخْوَةُ يُوسُفَ..)؟
كَيْفَ سَيَتَحَقَّقُونَ مِنْ ذَلِكَ؟! لا تَأْكِيدَ لِذَلِكَ..
(قُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا الرَّاعِي ثَعْلَبٌ؛ كَيْفَ سَمَحْتُ لَهُ أَنْ يَقْلِبَ الأَسْئِلَةَ عَلَيَّ هَكَذَا! وَرُبَّمَا فِعْلاً مَا يَقُولُهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ ,,,,).
قَاطَعَ تَفْكِيرِي، وَتَابَعَ: وَإِذَا كُنْتُ أَنَا الرَّاوِي لأَهَالِي الْقَرْيَةِ، وَنَجَوْتُ مِنْ بَرَاثِنِ الثَّعْلَبِ، فَكَيْفَ صَدَّقُونِي وَأَنَا الْكَذَّابُ ثَلاثًا؟ رُبَّمَا بِعْتُ بَعْضَ الْغَنَمِ وَاتَّهَمْتُ الذِّئْبَ؟ أَيْضًا لا تَأْكِيدَ لِذَلِكَ.
أَحَسَّ هَذَا الثَّعْلَبُ بِارْتِبَاكِي، وَتَمَهَّلَ قَلِيلاً فِي السَّرْدِ الَّذِي كَانَ وَاثِقًا بِأَنِّي عُدْتُ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُجَمِّعَ أَفْكَارِي مَعَهُ.
كُنْتُ كَمَنْ وَقَعَ فِي مِصْيَدَةٍ مُرْبِكَةٍ حَقًّا، وَكَانَ عَلَيَّ أَنْ أُنَاقِشَهُ فِيمَا سَرَدَ، وَإلا فَسَأكُونُ مَهْزُومًا -فِي نَظَرِهِ- مِنْ قَبْلَ أَنْ أَبْدَأَ.
"أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَهُ بِرَوِيَّةٍ" هَكَذَا أَجَبْتُهُ بِهُدُوءٍ كَاذِبٍ.
قَهْقَهَ الْمَكَّارُ بِقُوَّةٍ، وَلَمْ يُجِبْنِي، بَلْ تَابَعَ يَقُولُ:
فَكِّرْ بِمَا قُلْتُهُ لَكَ؛ وَسَتَعْرِفُ: إِذَا كُنْتُ صَادِقًا أَمْ كَاذِبًا.
أَأَقُولُ لَكَ شَيْئًا؟...........
فَاجَأَنِي وَأَنَا أُفَكِّرُ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيَّ سِلْسِلَةَ أَفْكَارِي مُتَعَمِّدًا..
قَالَ لِي: أَنَا نَسْجٌ مِنْ خَيَالِ الْجَدَّاتِ اللوَاتِي يَكْذِبْنَ عَلَى الأَطْفَالِ ؛ كَيْ يَنَامُوا فَيَسْتَرِحْنَ مِنْهُمْ..
لَكِنْ هَلِ الْغَايَةُ تُبَرِّرُ الْوَسِيلَةَ كَمَا قَالَ (مَاكيافييلي)؟
رُبَّمَا تَكُونُ غَايَتُهُمْ حَسَنَةً؛ فَجَعَلُونِي كَدَرْسٍ إِرْشَادِيٍّ لَهُمْ، وَرُبَّمَا اسْتِخْفَافًا بِعُقُولِ الأَطْفَالِ الَّذِينَ لا يُحَلِّلُونَ شَيْئًا، وَيَأْخُذُونَ الأُمُورَ كَمَا هِيَ؛ لِذَلِكَ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ وَالأَسَاطِيرُ، فَالْبَشَرُ -يَا صَدِيقِي- يُصَدِّقُونَ التَّارِيخَ رَغْمَ مَا فِيهِ مِنْ كَذِبٍ لِسَبَبَيْنِ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَارِيخًا يَتَكَلَّمُونَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَغْمَ كَذِبِ التَّارِيخِ إِلا أَنَّهُ يَظَلُّ فِيهِ أَشْيَاءُ جَمِيلَةٌ أَكْثَرَ مِنَ الْوَاقِعِ الْمُعَاشِ... وَيُمْكِنُكَ التَّلاعُبُ بِهِ أَيْضًا، وَالتَّلاعُبُ بِصِيَاغَتِهِ كَيْفَ تَشَاءُ. أَعِدْنِي إِلَى رَأْسِكِ يَا صَدِيقَي، وَلا تَشْغَلْ بَالَكَ بِالْقَصَصِ الْخُرَافِيَّةِ.. إِلا إِذَا أَرَدْتَ أَنْ أَقُصَّ عَلَيْكَ قِصَّةَ "لَيْلَى وَالذِّئْب"، أَوْ كَمَا يُسَمُّونَهَا "ذَاتُ الرِّدَاءِ الأَحْمَرِ"... لَنْ أَرْوِيَهَا لَكَ؛ لأَنِّي لا أُرِيدُ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْكَ؛ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ -أَيْضًا- كَذِبٌ فِي كَذِبٍ. اذْهَبْ وَنَمْ يَا صَاحِبِي! وَلا تَنْسَ أَنْ تَشْرَبَ حَلِيبًا............... قَبْلَ أَنْ تَنَامَ...
أَنَا لَسْتُ كَذَّابًا.
قام بالتصحيح أستاذنا رعد يكن برسالة خاصة !!
تعليق