النقد الأدبي بين يدي السنن الإلهية (الجزء الثاني)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    النقد الأدبي بين يدي السنن الإلهية (الجزء الثاني)

    كما تدين تدان:
    ساق لنا الجزء الأول من هذا المقال اختصاصه سبحانه وتعالى بالخلق والأمر ونتابع في هذا الجزء بعض القواعد الأخرى لعلنا نلمس عن كثب تفاعل السنن الإلهية في واقعنا.
    إن عبودية الله : عبودية اختيار، لا عبودية قهر وإجبار، فلو شاء الله لأنزل آية فخرت له الجباه خاضعة؛ لكن اعملوا ما شئتم واعلموا أنه كما تدين تدان وأن الجزاء من جنس العمل { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [147] فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} الصافات148
    وللفيلسوف أن يعبد ما شاء من دونه عز وجل، وله أن يعمل ما يشاء؛ لكنه في رحاب ملكوت الله الذي لا يظلم أحدا مثل ذرة، فهذه بنود الحرية صارخة:
    {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فصلت: 40،
    {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} [الزمر : 15]
    فلئن رأينا بأن جزاء العبودية لله عزة تحرر المرء من كل طوق فالعبودية لغير الله جزاؤها تسلط يلبسه العابد بذل جزاء وفاقا؛ فلا تخيير ولا تسيير يا لفلاسفة ضلوا وأضلوا!!!، ومع ترابط الأعمال والجزاء يترتب على كل فعل جزاء من جنسه، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[الأنعام : 129] وهو ثاني قانون من قوانين الله نتعرف عليه.حيث يقضي بتسليط الظالمين بعضهم على بعض، ومن أعظم الظلم الإشراك بالله وبخاصة الشرك السياسي: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} مريم.
    وبمطابقة الأفعال والجزاء يستشرف الجمال كماله حين تستروح العبودية عدالة الله المتجسدة في تطابق قوانينه القرآنية مع قوانينه الكونية. فالله العلي الكبير جل جلاله جعل جزاء كل فعل من جنسه ؛ كأن جزاءه مرآة تنطبع فيها أفعالنا وينعكس علينا إشعاعها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر وما يظلم ربك أحدا، ولا يضيع أجر من أحسن عملا،:
    {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا }البقرة 10.
    {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} الأنفال70.
    {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}الأنفال 30.
    َ{فلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }[الصف : 5]
    بحبوحة النور تجلت، ومنها نبتة الخير أطلت، لا ولا ينسب شر لمعينها المتلألئ والمخضر، ولا تبدى درن بقدسها الأطهر، ومن معمعة النور المتفجر ترشق صواعق العزيز ذي انتقام الظلم الأكبر بنارها جزاء وفاقا، واستدعاء مستحقا من رحمة الرحيم، للاستحمام بمائها وللاستجمام بمحيط أنوارها بتذوق جلالها واستقرار قرارها،وتنقلب نارها عليه بردا وسلاما دائبين.واصغ لترتيل يزدك ترتيله إيمانا ويرفعك شأنا، ويميزِْك فهما، لا فلسفة عرجاء، ولا حداثة بتراء: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} الروم.
    ما كانت الحسنة لتكتسب لولا دلالة الله عليها، وما كانت السيئة لترتكب لولا ازورار القلب إليها، لا ولا ليس في قانونه محاباة؛ فلا فرق بين عبد مذنب خجول، ولا رباني تائب موصول، ولا نبي مبلغ رسول؛ إذ الله رب الجميع يزن بالقسطاس المستقيم المنيع.{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } النساء 123.
    وللدعاء تأثير بارز في مجرى السنن، إلا أنه لا قوة له على نقضها وخرقها وسواء أصدر عن نبي مبلغ، أو ولي عالي الكعب بالغ، أو عبد في الذنوب ضالع؛ إذ لن تجد لسنة الله تبديلا، ولا تحويلا ولا تغييرا: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} الأحزاب62، ولنا في { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } درس وعبرة،.
    ومن لهفوة الخليل أعماه حبه للجليل فطلب حكر رزق ربه إلا على مؤمن ذليل؟ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ (126)} البقرة.وربه برزق كل دابة تعهد؛{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا }هود6. إذ بعدل الله انضبط العهد، وما كان شأن لجلال مقام العبد، {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}البقرة. 126؛ لكن رفعة المكانة الإبراهيمية بها حفظت مكة من الكفار تزكية، وأبقت للمؤمنين عهدا محميا، بدءا من العهد المحمدي.
    حصانة الكاتب:
    والشاعر رجل الذوق والنباهة ورجل المواقف والكلمة الحرة التي لا تخشى في الله لوم لائم أو لئيم، فليست الرجولة شجاعة متهور يلقي بنفسه في معمعة الصراع من غير سلاح، إنما الشجاعة وقفات لعبد حصّل الأمان من رب العزة فخرج على قومه من المحراب في عزة وتحد لا مثيل لهما؛ إذ الأمر كله لله وقد آمنه ربه فحقت له جرأة القول وإسماع الظالمين ما يصلح واقعهم، باعتماد فطرة الله التي فطر الناس عليها. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}الزمر36.
    إنها أمانة التبليغ أداها ناصعة لا شية فيها، فجزاه ربه بإتمام نعمه عليه :{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} البقرة.
    ويحصل الآمان للعبد وفق قانون السنن الإلهية :
    {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} الأنعام
    والظلم هنا بمعنييه الشرك والعدوان{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} الأحقاف، والاستقامة طلب القيام في حدود الله، والتحصن من الأعداء به جل علاه: وهذا موسى الكلم خالط شر طاغية، ومن شره سلم : { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر : 27]، ومن كانت له معقبات يحفظونه من أمر الله فبالأحرى من أمر غيره لا يخشى لومة لائم ولا يأبه بظالم ولا مجرم.
    وفضلا عن مراعاة سنة الأمن الرباني فلا بد للعبد من التمسك بالدعاء والضراعة لله للحفظ من كيد الكائدين ومكر الماكرين ؛ وأن لا تكون وقفتنا وصرختنا حظا نفسيا أو غيره دون أن يكون انتصارا لدين الله.
    فشتان بين من توكل على ربه، وقام لله شاهدا على النفس أو الوالدين والأقربين وغيرهم، مقرعا أسماع الظالمين بما يرضي الله وإن غضب الغاضبون، وزمجر المزمجرون، وقد حصّل الأمن من ربه، حتى ولو قام العالم جميعه في وجهه، وبين من قام غاضبا ولو لله دون أن يأتي البيوت من أبوابها، فكيف بمن قام لنفسه؟ أو من يتشدق بعلمه في مناصرة الظالمين؟ !!!
    فإن غشيتنا الطمأنينة ولبسنا اليقين على دين الله فبه ونعمت، وإن تمرد الشك وتحركت زعانفه فيبقى أمامنا باب عظيم هو الضراعة لله ليخرجنا مما نحن فيه من ظلمات معنوية إلى أرض اليقين وفقا لوعده جل علاه : {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ؟)قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}(الأنعام:63/64)
    فإذا تعلق مدلول الآية بالظلمات الحسية فكيف بالظلمات المعنوية أليست أيسر حالا؟ إقبال على الله ينقلك من حال الشك والريبة والاضطرابات النفسية إلى سكون وسكينة وطمأنينة حال. إقبال على الله بوجهك ووجهتك يفتح له باب السماء، لا لتضحي نجما يجاور الثريا، بل لترقى لمجالسة رب العزة سبحانه وأي المقامين أعلى وأغلى أمقام الربانية حيث تنسب إلى الله فتذكر بذكره، ويذكر بذكرك أم مجاورة الثريا فلا هي منك ولا أنت منها؟ ما يرمي إليه الدين من العيش الكريم في سكون وطمأنينة بال حتى ولو خاض المرء الصراعات المريرة مع قومه وأبناء جلدته، وحتى لو انخرط المرء في فتن كقطع الليل المظلم، فإن للحروب النفسية دواء يجلب السكينة للمرء ومعها التروي في الأمور كلها، وإظهارا لما في هذه البحبوحة اليقينية من مزايا- إن حملتك السكينة والطمأنينة على جناح الإقبال على الله – وبين غيرها من المذاهب
    وفاقد السكينة مضطرب الحال مجزأ الأوصال مشغول البال، فأي فكر يستقيم أو مع حاله ينسجم ؟ تدعوه دواعي الحزبية، والفئوية، والقومية، والوطنية، وقد تتناقض كل هذه الدعاوى مع دينه؟ فأين يضع موطئ قدمه؟ أيغضب الرؤساء، ويغضب الدول الصديقة والشقيقة، وينبذه الأقارب والأباعد لمجرد تمسكه بالله الواحد؟ ولا يقوى على ذلك إلا من سلك السبيل مستعينا بحول الله وقوته، منغضا رأسه لكل سبل الضلال، فَيُسَخَّر الكل في خدمته، بعد ابتلاء وامتحان يظهر فيه الصديق عدوا سامشا يطعن بوخزه الجرح الثخين، ويكشف عورات عن غيره سترت، ويبدي لسانه الحقد الدفين. حتى إذا ما تغيرت موازين القوة ألبس شفرة لسانه الحادة قفازا من حرير، وجاء ملتمسا المودة والصداقة القديمة، والعهد الجديد، وطي صفحة الماضي...
    وبين السجود لقبلة البيت الحرام والركوع لطغاة الآثمين وظَلَمة الأيتام بون أنصار الحق وأنصار الباطل، يكون فيها للباطل جولة وللحق صولة، تغري جولة باطل جندها، حتى إذا اشتد بنيانها، وظن أهلها أنهم قادرون عليها اجتثهم سيل الحق من أصلهم وولوا دبرهم، ملتمسين سبيلا من سبل الاستكانة للتعايش مع هيمنة الحق وتحت سطوته: نفاق وغدر وخديعة يتمعر الوجه عندها بذل يلبسه الكبر بينما تغرز النظرات إلى الأسفل كأن بقية باقية من الإيمان الضمير تؤنبه.
    واسأل التاريخ عن موجات أيامه وعن ضحكه بمن استهويتهم الرذيلة، ورضوا بالدون، وقبعوا في الذل والمهانة، والنفس حين تأسن وتتعفن تأنف العيش الكريم وتتمرد على مواقف الرجولة، وتستلذ العيش في الظلام.
    تلك إذا، إشارات وإيماءات وإيحاءات عما هي السنن الإلهية، فهل يستهويك المجال، وتجتذبك البلاغة والسحر الحلال، وتستدعيك أسرار اللغة على الإقبال بل والهيام في هذه الدرر والصدف الغاليات؟! من للآلئ وجواهر وألماس منحوتة منعوتة تكاد تجتذبك أنوارها قبل أن تلمس إشعاعاتها وكريم معدنها؟! ألغير الأديب تتزين؟! أم لغيره تتبرج زينتها وتعرض بناتها وقد رصعن بأعلى التيجان وأغلى حلي الزمان؟! وحق لهن فوق ذلك، لكون كلمات الله هي العليا، وكلمات غبره السفلى.
    وبعد هذا العرض بين يدي السنن الإلهية فما هي السنن الإلهية؟ وكيف نفصل النقد الأدبي على وفقها؟ ذلك ما سنراه لاحقا بإذن الله.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد جابري; الساعة 04-03-2009, 08:59.
    http://www.mhammed-jabri.net/
يعمل...
X