لقد مرت قريتي بهذا يوماً
وقد صغتها بقصة لتظل الذكرى دائماً
- سبتيَ الأسود -
لم يكن هذا الليل كسائر الليالي ، فنعيق الغربان على سقوف البيوت يزيد الليل سواداً وحلكة ، ويبعد النجوم عن التلألؤ في سمائه ، وقطط جائعة أسمع قفزاتها على شرفة النافذة وموائها الغريب يتعالى مع كل قطعة لحم أو عظم حصلت عليها من أكياس سوداء تراصت على أبواب البيوت الحالكة العتيقة ، ليعلو صارخاً كلما حاولت أخرى خطفه منها ، وعيوني الناعسة تحاول جاهدة أن توصل نعاسها ذاك لطفلتي ذات الربيع الأول التي أرقها المرض وأرقني معها .
و أخيراً تسلل لعينيها الدواء وأرقدها غصباً، وشهقات في صدرها الصغير إثر بكائها المتواصل يقطع تنفسها في كل حين.
ألقيت برأسي أخيراً على وسادتي مجهدة وسرعان ما غططت في نوم عميق ، وشخير - عطية - يتناهى لمسامعي وهذه المرة لم يؤرقني لفرط تعبي بل تراخت جفوني بسرعة تستسلم لنوم عميق كعمق نومه الذي لم يوقظه صريخ الصغيرة ...
سويعات قليلة لم أشعر بها وإذا بأصوات صارخة وكأنها تستنجد تضج مضجعي من جديد ، وضعت الوسادة على رأسي محاولة أن أمنع الصوت من التغلغل لأذناي للعودة للنوم من جديد ، إلا أن الصرخات أبت إلا أن أسمعها فأقلقتني ، رفعت الوسادة وأنصت ، وكأن ذاك الليل البهيمي الحالك ينصت معي ، فلم أسمع نعيق غراب أو مواء قطط ، كان صوتها الذي يقترب يزداد نحيباً وحدة ، ونهضت للنافذة الملاصقة برأس سريري وفتحتها وتناهى لمسامعي صوتها القوي الذي رج الحي القديم رجاً :
- يا ناس شيخكم الجمري قد أعتقل ، يا ناس شيخكم ....
وتسارعت دقات قلبي فأغلقت النافذة من جديد وأيقظت - عطية - بهدوء حتى لا تستيقظ - هدى - وهززته بقوة :
- عطية .. عطية ..
وبعينيه النصف مفتوحة تطلع لما حوله بتعجب واستغراب :
- ما بك ؟ ! مازال الليل في أوله !!
واستدار وهو يغطي وجهه إلا أني عاودت هزه بصورة أقوى :
- عطية استيقظ أظن أن الشيخ قد اعتقل فهناك أصوات بالخارج تصرخ وتستغيث .
هزته كلماتي أكثر من هز يدي له ، فهب من نومه سريعاً واتجه نحو الشماعة ليتناول أي شيء يلبسه سريعاً ، هتفت فيه ودقات قلبي مازال تسرع :
- إلى أين ؟!
- ألم تقولي أن الشيخ قد اعتقل ؟!
- نعم !!
- إذن ما الذي يجعلني أقف هنا مكتوف اليدين !!
وتمتم حانقاً :
- لن ننال شيئاً بسكوتنا
وشعرت بخوف عليه فتشبثت به :
- إنهم وحوش لا ترحم
وبعينين حمراء غاضبة أجابني :
- ونحن أسود لا تجبن ..
أبعد يدي المتشبثة به واندفع خارجاً ..
وظللت أتلوي في فراشي أنتظره ، أرتجف وأتدثر بغطائي لعل الدفء يتسلل لعظامي التي نخرها البرد خوفاً .
كان الجو ربيعياً تتهادى نسماته بين الأحياء الخائفة إلا أن الخوف بقسوته يكسر تلك النسمات ويهشمها ويحولها لنسمات باردة قارسة تتسلل للقلوب الوجلة لتجمدها تجميداً ...
لحظات أخرى ودوت أصوات الطلقات يتبعها صريخ وضجيج هنا وهناك ودخان أسود أسود بدأت رائحته تتسلل لي تدريجياً تختلط بها رائحة الغازات المسيلة للدموع ...
تلفّت لهدى لعل تلك الأصوات أو الروائح أزعجتها إلا أن الإنهاك على ما يبدوا قد أخذ منها كل مأخذ .
نهضت من سريري ولففت رأسي بحجاب ثم خرجت من غرفتي بعد أن حملت معي جهاز الطفل لكي أسمع صوتها حال استيقاظها ، وصعدت سلالم البيت لأستكشف ما يجري ، وما أن فتحت الباب المؤدي للطابق العلوي حتى صفعتني الرائحة القوية لمطاط يحترق ودخان كثيف أسود قاتم يتعالى للسماء ليعانق أرواح الشهداء الصاعدة معه تواً ، وأصوات طلقات وصرخات تتعالى ويتعالى معها ارتجاف قلبي الخائف ، واصلت مسيري وقد خنقتني الأجواء نفسياً قبل جسدياً إذ تسلل الدخان لصدري وبدأت أسعل ،ومع ذلك واصلت حتى الأسوار وأطللت من فوقها ......
وهالني هالني ما رأيت ، إطارات محروقة هنا وهناك وحجارة منثورة ومكسرة هنا قبل هناك ، وجنود غاضبون يسدون الطرقات هناك بمدرعاتهم وسياراتهم الخشنة الغاضبة لغضبهم ، يطلقون ببنادقهم في كل حين على أشباح تجري مسرعة لتقذف حجراً صغيراً يتبعه طلقة مدوية ترميه أرضاً أو تسرعه جرياً ، بعضهم كان يجري لأقرب بيت هناك فيتبعونه مسرعين ناحيته ببنادقهم يروعون ساكني البيت بطلقاتهم وبنادقهم التي تدوي في ذاك البيت مع صراخ النسوة والأطفال الهلعون .
ورأيت أحد هؤلاء الشبان يجري مسرعاً خارجاً بلثامه من ذاك البيت لائذاً بالفرار من بطشهم ، واتجه سريعاً ناحية بوابة بيتنا الموصدة ليتسلق أسوارها، فدق قلبي هلعاً حين رأيتهم يلمحونه ويتجهون ناحيته ، إلا أني رأيته أيضاً يتسلق السور الملاصق لبيت الجيرات ويقفز فوقه لائذا بالفرار من الناحية الأخرى .
وابتعدت من مكاني مسرعة حين رأيتهم قادمون ببنادقهم ناحية البيت وكل تفكيري كان ينصب على - هدى - ، وجريت مسرعة أطوي الأدراج وطرقات خشنة تدك البيت وترجه حتى استطاعوا الدخول قسراً بعد أن كسروا البوابة ، فتسمرت في مكاني على السلالم واختبأت فسمعت صرخاتهم الغاضبة وأصوات أحذيتهم القاسية يضرب أرضية البيت بقوة ، وهجموا على البيت داخلين وأصواتهم تتناهى لمسامعي من خلال الجهاز :
- ما في حدا سيدي بالدار
- شو مافي حدا!!
وكأني به يلتفت لسرير - هدى - :
- لكن هون baby راقد !!
وصمت قليلاً بينما أبواب الخزائن وقرعات فتحها تصلني واضحة ، وعاد صوته الجهوري من جديد :
- بركي واحد منهم في الحمام أو ....
وسمعت صوت آخر يتدخل بصوته العربي المكسر :
- ما في حمام ما في شي سيدي .
- بس مش معقول بيتركوا الطفل هون وبيهربوا !!
وسمعت ضحكات بعضهم :
- سيدي بالخوف ما حدا بيعرف حدا بركي تركوها وركظوا .
وتعالى الضحك في المكان ، وسمعت بعدها أحدهم يأمرهم بالخروج إذ لم يجدوا شيئاً ، وكأنه يتوقف سائلاً أحدهم :
- شو هاي اللي في أيدك - سليم - ؟!!
- هاي شوية تذكارات سيدي .
ورأيتهم يخرجون ضاحكين وبأيدي أحدهم صندوق مجوهراتي إلا أنه لم يكن يهمني سوى - هدى - التي كنت مستغربة من عدم استيقاظها رغم الجلبة التي لفت البيت ، وتوقف رئيسهم على ما يبدوا ( إذ تعلوا كتفه نجوم أكثر ) وهتف لأحدهم :
- ماداموا غير مهتمين ببنتهم وشاردين عنها ليش ما نعطيهم هدية .
وتبسم ابتسامة شيطانية ثم استدار وأطلق طلقة من الغاز تعالى على أثرها الدخان كثيفاً تبعه حالاً سعال - هدى - يرج أذني ، فصرخت من مكاني وجريت مسرعة ورأيتهم يصوبون بنادقهم ناحيتي إلا أنهم لم يطلقوا عليّ لدخول - عطية - بزئيره الغاضب منهالاً عليهم لكماً ورفساً ، فتجمعوا عليه يضربونه ببنادقهم القاسية وأرجلهم ذات الأحذية الضخمة يفكون أيديه عنهم بضرباتهم تلك وقد تناثرت دماءه عليهم من فمه وأسنانه ، حتى تجرأ أحدهم وأطلق عليه رصاصة فتقت صدره فجمد في مكانه وهوى أرضاً يتضرج بدمائه ويهتز ، فصرخت مولولة ألطم خدي ورأسي ونزلت جرياً ناحيته إلا أنهم أهالوني برصاصات مطاطية كنت أقاومها جاهدة للوصول إليه وحين وصلت أحسست بضربة قوية من الخلف على رأسي سقطت على إثرها مغشياً عليّ على - عطية - المضرج بدمائه ...
واستيقظت ولا أدري كم مكثت على تلك الحال وقد لف الظلام المكان بقسوة وأصوات طلقات ما زالت تدوي من بعيد وقريب ، ورائحة تسللت لأنفي تخنقني بينما تسللت أخرى لعيناي فآلمتني فلم أستطع فتحهما إلا بصعوبة ، ونهضت مترنحة وقد أحسست بشيئ طري أسفل مني ، تلمسته وإذا به شيئ بارد ، وشيئاً فشيئاً استطاعت عيناي التأقلم مع الظلام المحيط لكي أكتشف أن ذاك الشيئ لم تكن إلا جثة - عطية - المضرجة بدمائه الزكية ، وصدره الحنون الذي ضمني دوماً قد فتقه الرصاص الآثم فتقاً ، ولم يكن أمامي سوى النحيب على صدره إلا أن نحيبي ذاك لم يطول إذ تذكرت فجأة - هدى - فجريت مسرعة نحو طفلتي الصغيرة ووجدتها مبتسمة لكنها زرقاء مخنوقة بالغاز الذي مازالت رائحته تفوح في أرجاء البيت كله ، تقدمت منها ودموعي تبللني ، رفعتها باكية من سريرها الذي رقدت فيه للأبد واحتضنتها صارخة أناديها أهزها لعلها تبتسم لي كعادتها وتناديني بأولى كلماتها التي لم أكد أهنئ بها " ماما " ، قربت شفاهي لشفتيها الزرقاء الباردة كبرود أبيها وأحتضنتها ومشيت بها حتى وضعتها على صدر أبيها وصرخت وصرخت وصرخت ثم جثوت بجانبهما وقد خارت قواي لأنظرهما النظرة الأخيرة وتطوف عيناي بالبيت الذي خلا دوني للأبد ....
- النهاية -
وقد صغتها بقصة لتظل الذكرى دائماً
- سبتيَ الأسود -
لم يكن هذا الليل كسائر الليالي ، فنعيق الغربان على سقوف البيوت يزيد الليل سواداً وحلكة ، ويبعد النجوم عن التلألؤ في سمائه ، وقطط جائعة أسمع قفزاتها على شرفة النافذة وموائها الغريب يتعالى مع كل قطعة لحم أو عظم حصلت عليها من أكياس سوداء تراصت على أبواب البيوت الحالكة العتيقة ، ليعلو صارخاً كلما حاولت أخرى خطفه منها ، وعيوني الناعسة تحاول جاهدة أن توصل نعاسها ذاك لطفلتي ذات الربيع الأول التي أرقها المرض وأرقني معها .
و أخيراً تسلل لعينيها الدواء وأرقدها غصباً، وشهقات في صدرها الصغير إثر بكائها المتواصل يقطع تنفسها في كل حين.
ألقيت برأسي أخيراً على وسادتي مجهدة وسرعان ما غططت في نوم عميق ، وشخير - عطية - يتناهى لمسامعي وهذه المرة لم يؤرقني لفرط تعبي بل تراخت جفوني بسرعة تستسلم لنوم عميق كعمق نومه الذي لم يوقظه صريخ الصغيرة ...
سويعات قليلة لم أشعر بها وإذا بأصوات صارخة وكأنها تستنجد تضج مضجعي من جديد ، وضعت الوسادة على رأسي محاولة أن أمنع الصوت من التغلغل لأذناي للعودة للنوم من جديد ، إلا أن الصرخات أبت إلا أن أسمعها فأقلقتني ، رفعت الوسادة وأنصت ، وكأن ذاك الليل البهيمي الحالك ينصت معي ، فلم أسمع نعيق غراب أو مواء قطط ، كان صوتها الذي يقترب يزداد نحيباً وحدة ، ونهضت للنافذة الملاصقة برأس سريري وفتحتها وتناهى لمسامعي صوتها القوي الذي رج الحي القديم رجاً :
- يا ناس شيخكم الجمري قد أعتقل ، يا ناس شيخكم ....
وتسارعت دقات قلبي فأغلقت النافذة من جديد وأيقظت - عطية - بهدوء حتى لا تستيقظ - هدى - وهززته بقوة :
- عطية .. عطية ..
وبعينيه النصف مفتوحة تطلع لما حوله بتعجب واستغراب :
- ما بك ؟ ! مازال الليل في أوله !!
واستدار وهو يغطي وجهه إلا أني عاودت هزه بصورة أقوى :
- عطية استيقظ أظن أن الشيخ قد اعتقل فهناك أصوات بالخارج تصرخ وتستغيث .
هزته كلماتي أكثر من هز يدي له ، فهب من نومه سريعاً واتجه نحو الشماعة ليتناول أي شيء يلبسه سريعاً ، هتفت فيه ودقات قلبي مازال تسرع :
- إلى أين ؟!
- ألم تقولي أن الشيخ قد اعتقل ؟!
- نعم !!
- إذن ما الذي يجعلني أقف هنا مكتوف اليدين !!
وتمتم حانقاً :
- لن ننال شيئاً بسكوتنا
وشعرت بخوف عليه فتشبثت به :
- إنهم وحوش لا ترحم
وبعينين حمراء غاضبة أجابني :
- ونحن أسود لا تجبن ..
أبعد يدي المتشبثة به واندفع خارجاً ..
وظللت أتلوي في فراشي أنتظره ، أرتجف وأتدثر بغطائي لعل الدفء يتسلل لعظامي التي نخرها البرد خوفاً .
كان الجو ربيعياً تتهادى نسماته بين الأحياء الخائفة إلا أن الخوف بقسوته يكسر تلك النسمات ويهشمها ويحولها لنسمات باردة قارسة تتسلل للقلوب الوجلة لتجمدها تجميداً ...
لحظات أخرى ودوت أصوات الطلقات يتبعها صريخ وضجيج هنا وهناك ودخان أسود أسود بدأت رائحته تتسلل لي تدريجياً تختلط بها رائحة الغازات المسيلة للدموع ...
تلفّت لهدى لعل تلك الأصوات أو الروائح أزعجتها إلا أن الإنهاك على ما يبدوا قد أخذ منها كل مأخذ .
نهضت من سريري ولففت رأسي بحجاب ثم خرجت من غرفتي بعد أن حملت معي جهاز الطفل لكي أسمع صوتها حال استيقاظها ، وصعدت سلالم البيت لأستكشف ما يجري ، وما أن فتحت الباب المؤدي للطابق العلوي حتى صفعتني الرائحة القوية لمطاط يحترق ودخان كثيف أسود قاتم يتعالى للسماء ليعانق أرواح الشهداء الصاعدة معه تواً ، وأصوات طلقات وصرخات تتعالى ويتعالى معها ارتجاف قلبي الخائف ، واصلت مسيري وقد خنقتني الأجواء نفسياً قبل جسدياً إذ تسلل الدخان لصدري وبدأت أسعل ،ومع ذلك واصلت حتى الأسوار وأطللت من فوقها ......
وهالني هالني ما رأيت ، إطارات محروقة هنا وهناك وحجارة منثورة ومكسرة هنا قبل هناك ، وجنود غاضبون يسدون الطرقات هناك بمدرعاتهم وسياراتهم الخشنة الغاضبة لغضبهم ، يطلقون ببنادقهم في كل حين على أشباح تجري مسرعة لتقذف حجراً صغيراً يتبعه طلقة مدوية ترميه أرضاً أو تسرعه جرياً ، بعضهم كان يجري لأقرب بيت هناك فيتبعونه مسرعين ناحيته ببنادقهم يروعون ساكني البيت بطلقاتهم وبنادقهم التي تدوي في ذاك البيت مع صراخ النسوة والأطفال الهلعون .
ورأيت أحد هؤلاء الشبان يجري مسرعاً خارجاً بلثامه من ذاك البيت لائذاً بالفرار من بطشهم ، واتجه سريعاً ناحية بوابة بيتنا الموصدة ليتسلق أسوارها، فدق قلبي هلعاً حين رأيتهم يلمحونه ويتجهون ناحيته ، إلا أني رأيته أيضاً يتسلق السور الملاصق لبيت الجيرات ويقفز فوقه لائذا بالفرار من الناحية الأخرى .
وابتعدت من مكاني مسرعة حين رأيتهم قادمون ببنادقهم ناحية البيت وكل تفكيري كان ينصب على - هدى - ، وجريت مسرعة أطوي الأدراج وطرقات خشنة تدك البيت وترجه حتى استطاعوا الدخول قسراً بعد أن كسروا البوابة ، فتسمرت في مكاني على السلالم واختبأت فسمعت صرخاتهم الغاضبة وأصوات أحذيتهم القاسية يضرب أرضية البيت بقوة ، وهجموا على البيت داخلين وأصواتهم تتناهى لمسامعي من خلال الجهاز :
- ما في حدا سيدي بالدار
- شو مافي حدا!!
وكأني به يلتفت لسرير - هدى - :
- لكن هون baby راقد !!
وصمت قليلاً بينما أبواب الخزائن وقرعات فتحها تصلني واضحة ، وعاد صوته الجهوري من جديد :
- بركي واحد منهم في الحمام أو ....
وسمعت صوت آخر يتدخل بصوته العربي المكسر :
- ما في حمام ما في شي سيدي .
- بس مش معقول بيتركوا الطفل هون وبيهربوا !!
وسمعت ضحكات بعضهم :
- سيدي بالخوف ما حدا بيعرف حدا بركي تركوها وركظوا .
وتعالى الضحك في المكان ، وسمعت بعدها أحدهم يأمرهم بالخروج إذ لم يجدوا شيئاً ، وكأنه يتوقف سائلاً أحدهم :
- شو هاي اللي في أيدك - سليم - ؟!!
- هاي شوية تذكارات سيدي .
ورأيتهم يخرجون ضاحكين وبأيدي أحدهم صندوق مجوهراتي إلا أنه لم يكن يهمني سوى - هدى - التي كنت مستغربة من عدم استيقاظها رغم الجلبة التي لفت البيت ، وتوقف رئيسهم على ما يبدوا ( إذ تعلوا كتفه نجوم أكثر ) وهتف لأحدهم :
- ماداموا غير مهتمين ببنتهم وشاردين عنها ليش ما نعطيهم هدية .
وتبسم ابتسامة شيطانية ثم استدار وأطلق طلقة من الغاز تعالى على أثرها الدخان كثيفاً تبعه حالاً سعال - هدى - يرج أذني ، فصرخت من مكاني وجريت مسرعة ورأيتهم يصوبون بنادقهم ناحيتي إلا أنهم لم يطلقوا عليّ لدخول - عطية - بزئيره الغاضب منهالاً عليهم لكماً ورفساً ، فتجمعوا عليه يضربونه ببنادقهم القاسية وأرجلهم ذات الأحذية الضخمة يفكون أيديه عنهم بضرباتهم تلك وقد تناثرت دماءه عليهم من فمه وأسنانه ، حتى تجرأ أحدهم وأطلق عليه رصاصة فتقت صدره فجمد في مكانه وهوى أرضاً يتضرج بدمائه ويهتز ، فصرخت مولولة ألطم خدي ورأسي ونزلت جرياً ناحيته إلا أنهم أهالوني برصاصات مطاطية كنت أقاومها جاهدة للوصول إليه وحين وصلت أحسست بضربة قوية من الخلف على رأسي سقطت على إثرها مغشياً عليّ على - عطية - المضرج بدمائه ...
واستيقظت ولا أدري كم مكثت على تلك الحال وقد لف الظلام المكان بقسوة وأصوات طلقات ما زالت تدوي من بعيد وقريب ، ورائحة تسللت لأنفي تخنقني بينما تسللت أخرى لعيناي فآلمتني فلم أستطع فتحهما إلا بصعوبة ، ونهضت مترنحة وقد أحسست بشيئ طري أسفل مني ، تلمسته وإذا به شيئ بارد ، وشيئاً فشيئاً استطاعت عيناي التأقلم مع الظلام المحيط لكي أكتشف أن ذاك الشيئ لم تكن إلا جثة - عطية - المضرجة بدمائه الزكية ، وصدره الحنون الذي ضمني دوماً قد فتقه الرصاص الآثم فتقاً ، ولم يكن أمامي سوى النحيب على صدره إلا أن نحيبي ذاك لم يطول إذ تذكرت فجأة - هدى - فجريت مسرعة نحو طفلتي الصغيرة ووجدتها مبتسمة لكنها زرقاء مخنوقة بالغاز الذي مازالت رائحته تفوح في أرجاء البيت كله ، تقدمت منها ودموعي تبللني ، رفعتها باكية من سريرها الذي رقدت فيه للأبد واحتضنتها صارخة أناديها أهزها لعلها تبتسم لي كعادتها وتناديني بأولى كلماتها التي لم أكد أهنئ بها " ماما " ، قربت شفاهي لشفتيها الزرقاء الباردة كبرود أبيها وأحتضنتها ومشيت بها حتى وضعتها على صدر أبيها وصرخت وصرخت وصرخت ثم جثوت بجانبهما وقد خارت قواي لأنظرهما النظرة الأخيرة وتطوف عيناي بالبيت الذي خلا دوني للأبد ....
- النهاية -
تعليق