الأشباح
أجالت ببصرها في الوجوه التي لفتها ظلمة الجو والمكان ، فتطلع إليها الحاضرون محاولين أن يستشفوا من نظرتها الساهمة شيئا . حاولت كبت التثاؤب ثم انشغلت بفتح درج مكتبها ورص الورق المبعثر هنا وهناك ، في انتظار التئام الجمع . ترنو إلى أحدهم فتبدو لها أول ما يبدو منه صلعته الملساء وجفناه المنتفخان ... السهر ولعب النرد والتدخين . كم يثير شفقتها هذا الكهل المتحمل في صمت لعبء السنين والمجتر لعلقم الإهمال وانتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي . ترد على ابتسامته بالمثل وبحركة لا إرادية من شفتيها المطبقتين دوما. تحس بشيء أليف سينتزع منها عند مغادرته هذا المعترك إلى غير رجعة . كم يثير إعجابها بإصراره على الأمل... أمل أن ينال شيئا قبل أن يطويه النسيان فلا يبقى منه سوى اسم بين الرفوف... لقد صار قطعة من الزمان والمكان بل قطعة منها منذ كان مدرسها ثم رئيسها قبل أن تطيح به الأيادي النهمة وتنتزع منه الادارة لأنه رفع شعار" الحلال بين والحرام بين"... كم أحست بالحرج وهي تأخذ مكانه .
يلقي التحية دون أن ينظرإليها . هو يعلم بمبالغته في تأخراته ، و يطرق الباب ، ويدخل شاب وسيم لكنه هزيل كالخيال .
هي تدرك الأسباب فتتغاضى مرة وتلمح تارة دون اتخاذ أي إجراء زجري لعلمها بعدم جدوى ذلك . وهل تستطيع فعل شيء مع نزيل مرآب في أقصى طرف من هذه المدينة الغول التي ابتلعته كما ابتلعت غيره بمجرد خروجه إلى دنيا العمل ؟... يجلس قرب زميلة له، فتفسح له وعيناها تنضحان بما يخالج قلبها من نهم شبقي . تكاد تلتهمه نظراتها وهو لايبالي أو يتصنع اللا مبالاة ... تثير اشمئزازها بتصابيها مع كل من هب ودب ، مثل زوجها المغفل . لكن ، من يدري ؟ لعله يقترف ما تقترفه هي ، منشغلا عنها بمشاريعه ومضارباته ، تاركا إياها على هواها ... شبحا كماأراد وكما أرادت هي ، غير عابئة بهذا الوصف رغم سمنتها المفرطة... لا تدري لم تذكرها هذه البدانة بفصل الصيف. ربما لأن الحر يسبب العذاب لأمثالها . ولكي لا تلتقي نظراتهما ، عادت لتجيل النظر من جديد في الوجوه الأخرى فتبدو لها متناقضة ولا معنى لها ... هذه نحيفة وأخرى مكتنزة . نظرات بعضها رزينة ،
وأخرى فاجرة . بل ويبدو التناقض صارخا في الشخص الواحد ... إنها تذكر يوم ضبطت أحدهم يقبل مترنحا، وعابت عليه ذلك
ذلك كونه يلقن الدين للأجيال ، فصدمها بقوله :" أنا لم أكن مخيرا في تدريس مادتي ... أنا مسير." أو كالذي استشاطت غضبا
لتهاونه وقضاء الوقت في المزاح مع التلاميذ وسرد الحكايات والنكت ، فلم يتردد في الجواب مترفعا:" أنا مكاني ليس هنا ...أنا
لم أخلق لبيع الحروف والكلمات وأكون حارسا لخمسين نفرا ... طرقت الأبواب فلم أجد إلا هذا . دخلته رغما عني . دفعتني إليه
الحاجة فلم أتردد . ماذا تريدين مني أن أفعل ؟"
في بعض الأحيان تأخذها هستريا من الضحك ، وفي أخرى تستسلم لنوبة من البكاء ، فتنتحب بحرقة لعجزها عن فعل شيء وتردد في عصبية كالهذيان :"وما عساي أن أفعل والتيار جارف ؟"...تفكر في التنازل عن كل شيء والإخلاد للراحة ، ثم سرعان ما تستولي عليها الرغبة في التحدي الذي صار يفقد شيئا فشيئا من عنفوانه.
الجو ممطر ومظلم ، والنفس مليئة بشتى الأحاسيس . لا أحد يضع حدا لهذا الصمت القاتل . الكل مستسلم ، ينتظر...الجمع يكاد يلتئم . ما أثقل هذا الجمود وما أبشع هذا الشعور بالإحباط و الألم ... آه من الألم القاني الذي طالت أيامه أكثر مما ينبغي .
وأخيرا يدخل ... فتنظر إليه مبتسمة ، متحاشية أن يستشف منها لوما أو حتى استفسارا . فهي ذاقت الأمرين من سلاطة لسانه ورده الجارح على أية ملاحظة ، ولا تزال تحس بكلماته تلسعها بل وتحطمها . تشعر به يستثقل ظلها .
-" ألا يطيق أن يكون مرؤوسي ؟ ألا يشفع له تغاضي عن هفواته التي لا تعد ولا تحصى ؟ متى يدرك أني لا أروم الحط من قدره وأني لست مع من يسعى لتدجينه وترويضه ، بل و... تأنيثه ؟"
وبحركة لا إرادية ، تنظر صوب المرأة الشبح . تكاد تحرقها بنظراتها الملتهبة ..." هذه من أسباب تعاستي ... لم يكفها اغتصاب ما لا حق لها فيه حتى طال شرها كياني وأحلامي ... من قال لك إني محتاجة لمن يدافع عني ؟ ومن أخبرك أني أكن الحقد لأحد أوأني أشعر بالدونية أمامه حتى تنصبي نفسك محامية ، مسببة لي عداوة مع من لا يستحق ذلك ؟"
تتصنع التثاؤب حتى لا يلحظ أحد دمعها ، ثم تنطلق في شرح مضامين آخر المذكرات التي يعج يها مكتبها ، غير عابئة بنظرات الاستنكار والتهكم "...أنا أيضا غير مقتنعة بكل هذا لكن ، ماذا عساي أن أفعل ؟"
وينفض الجمع ... وعلى غير عادته يقبل نحوها ملتمسا رخصة للراحة . هل بدأ يتعب بدوره ؟ هل صار يدرك الحقيقة ؟ يعلم الله كم تحز في نفسها معاناته ...تشير إليه بالايجاب فتعلو الدهشة وجهه ، لكن سرعان ما يخفيها بابتسامة .
في هذا الليل السرمدي ، تخلو بنفسها لتسترجع كل ما مر بها خلال اليوم والأمس وأول أمس ، ومنذ الأمد البعيد ... كل الأشياء تتراءى لها أشباحا تغدو و تروح . ما أحوجها لرفيقة تفضي إليها بمكنونات قلبها ... بآلامها وآمالها ، وتعترف لها بكل عيوبها و خفاياها ، وتبوح لها بما فعلته بها تلك الابتسامة التي أنستها كل الهفوات والنزوات والكلمات الجارحة المهينة ، و تسر إليها كيف أنها تستدني الغد بإشراقاته لأنها ، بكل بساطة ... تحبه .
أجالت ببصرها في الوجوه التي لفتها ظلمة الجو والمكان ، فتطلع إليها الحاضرون محاولين أن يستشفوا من نظرتها الساهمة شيئا . حاولت كبت التثاؤب ثم انشغلت بفتح درج مكتبها ورص الورق المبعثر هنا وهناك ، في انتظار التئام الجمع . ترنو إلى أحدهم فتبدو لها أول ما يبدو منه صلعته الملساء وجفناه المنتفخان ... السهر ولعب النرد والتدخين . كم يثير شفقتها هذا الكهل المتحمل في صمت لعبء السنين والمجتر لعلقم الإهمال وانتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي . ترد على ابتسامته بالمثل وبحركة لا إرادية من شفتيها المطبقتين دوما. تحس بشيء أليف سينتزع منها عند مغادرته هذا المعترك إلى غير رجعة . كم يثير إعجابها بإصراره على الأمل... أمل أن ينال شيئا قبل أن يطويه النسيان فلا يبقى منه سوى اسم بين الرفوف... لقد صار قطعة من الزمان والمكان بل قطعة منها منذ كان مدرسها ثم رئيسها قبل أن تطيح به الأيادي النهمة وتنتزع منه الادارة لأنه رفع شعار" الحلال بين والحرام بين"... كم أحست بالحرج وهي تأخذ مكانه .
يلقي التحية دون أن ينظرإليها . هو يعلم بمبالغته في تأخراته ، و يطرق الباب ، ويدخل شاب وسيم لكنه هزيل كالخيال .
هي تدرك الأسباب فتتغاضى مرة وتلمح تارة دون اتخاذ أي إجراء زجري لعلمها بعدم جدوى ذلك . وهل تستطيع فعل شيء مع نزيل مرآب في أقصى طرف من هذه المدينة الغول التي ابتلعته كما ابتلعت غيره بمجرد خروجه إلى دنيا العمل ؟... يجلس قرب زميلة له، فتفسح له وعيناها تنضحان بما يخالج قلبها من نهم شبقي . تكاد تلتهمه نظراتها وهو لايبالي أو يتصنع اللا مبالاة ... تثير اشمئزازها بتصابيها مع كل من هب ودب ، مثل زوجها المغفل . لكن ، من يدري ؟ لعله يقترف ما تقترفه هي ، منشغلا عنها بمشاريعه ومضارباته ، تاركا إياها على هواها ... شبحا كماأراد وكما أرادت هي ، غير عابئة بهذا الوصف رغم سمنتها المفرطة... لا تدري لم تذكرها هذه البدانة بفصل الصيف. ربما لأن الحر يسبب العذاب لأمثالها . ولكي لا تلتقي نظراتهما ، عادت لتجيل النظر من جديد في الوجوه الأخرى فتبدو لها متناقضة ولا معنى لها ... هذه نحيفة وأخرى مكتنزة . نظرات بعضها رزينة ،
وأخرى فاجرة . بل ويبدو التناقض صارخا في الشخص الواحد ... إنها تذكر يوم ضبطت أحدهم يقبل مترنحا، وعابت عليه ذلك
ذلك كونه يلقن الدين للأجيال ، فصدمها بقوله :" أنا لم أكن مخيرا في تدريس مادتي ... أنا مسير." أو كالذي استشاطت غضبا
لتهاونه وقضاء الوقت في المزاح مع التلاميذ وسرد الحكايات والنكت ، فلم يتردد في الجواب مترفعا:" أنا مكاني ليس هنا ...أنا
لم أخلق لبيع الحروف والكلمات وأكون حارسا لخمسين نفرا ... طرقت الأبواب فلم أجد إلا هذا . دخلته رغما عني . دفعتني إليه
الحاجة فلم أتردد . ماذا تريدين مني أن أفعل ؟"
في بعض الأحيان تأخذها هستريا من الضحك ، وفي أخرى تستسلم لنوبة من البكاء ، فتنتحب بحرقة لعجزها عن فعل شيء وتردد في عصبية كالهذيان :"وما عساي أن أفعل والتيار جارف ؟"...تفكر في التنازل عن كل شيء والإخلاد للراحة ، ثم سرعان ما تستولي عليها الرغبة في التحدي الذي صار يفقد شيئا فشيئا من عنفوانه.
الجو ممطر ومظلم ، والنفس مليئة بشتى الأحاسيس . لا أحد يضع حدا لهذا الصمت القاتل . الكل مستسلم ، ينتظر...الجمع يكاد يلتئم . ما أثقل هذا الجمود وما أبشع هذا الشعور بالإحباط و الألم ... آه من الألم القاني الذي طالت أيامه أكثر مما ينبغي .
وأخيرا يدخل ... فتنظر إليه مبتسمة ، متحاشية أن يستشف منها لوما أو حتى استفسارا . فهي ذاقت الأمرين من سلاطة لسانه ورده الجارح على أية ملاحظة ، ولا تزال تحس بكلماته تلسعها بل وتحطمها . تشعر به يستثقل ظلها .
-" ألا يطيق أن يكون مرؤوسي ؟ ألا يشفع له تغاضي عن هفواته التي لا تعد ولا تحصى ؟ متى يدرك أني لا أروم الحط من قدره وأني لست مع من يسعى لتدجينه وترويضه ، بل و... تأنيثه ؟"
وبحركة لا إرادية ، تنظر صوب المرأة الشبح . تكاد تحرقها بنظراتها الملتهبة ..." هذه من أسباب تعاستي ... لم يكفها اغتصاب ما لا حق لها فيه حتى طال شرها كياني وأحلامي ... من قال لك إني محتاجة لمن يدافع عني ؟ ومن أخبرك أني أكن الحقد لأحد أوأني أشعر بالدونية أمامه حتى تنصبي نفسك محامية ، مسببة لي عداوة مع من لا يستحق ذلك ؟"
تتصنع التثاؤب حتى لا يلحظ أحد دمعها ، ثم تنطلق في شرح مضامين آخر المذكرات التي يعج يها مكتبها ، غير عابئة بنظرات الاستنكار والتهكم "...أنا أيضا غير مقتنعة بكل هذا لكن ، ماذا عساي أن أفعل ؟"
وينفض الجمع ... وعلى غير عادته يقبل نحوها ملتمسا رخصة للراحة . هل بدأ يتعب بدوره ؟ هل صار يدرك الحقيقة ؟ يعلم الله كم تحز في نفسها معاناته ...تشير إليه بالايجاب فتعلو الدهشة وجهه ، لكن سرعان ما يخفيها بابتسامة .
في هذا الليل السرمدي ، تخلو بنفسها لتسترجع كل ما مر بها خلال اليوم والأمس وأول أمس ، ومنذ الأمد البعيد ... كل الأشياء تتراءى لها أشباحا تغدو و تروح . ما أحوجها لرفيقة تفضي إليها بمكنونات قلبها ... بآلامها وآمالها ، وتعترف لها بكل عيوبها و خفاياها ، وتبوح لها بما فعلته بها تلك الابتسامة التي أنستها كل الهفوات والنزوات والكلمات الجارحة المهينة ، و تسر إليها كيف أنها تستدني الغد بإشراقاته لأنها ، بكل بساطة ... تحبه .
تعليق