العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #16
    (تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
    .............................
    وقصيدة "هوامش المسلم الحزين" تعد من الأصداء المباشرة لأفعال الجنرالات في أية بقعة من العالم، ولقد نَهَجَ الشاعر في كتابة نصه نهجاً فنيا رائعاً، وهو استخدامه أسلوب القص الشعري الجزئي عن طريق تحويل النص إلى مقاطع، وجعله كل مقطع يتصل بالآخر زمناً وفنا، وهو أشبه بمذكّرات الوقائع.
    والطريف أن المقاطع في القصيدة (9 مقاطع)، استغرقت مذكرات مقتضبة لمسلم من البوسنة، أُخرج من بلده "موستار"؛ ويصف الشاعر الذئاب البشرية من الصرب والكروات في مقطع دال، يقول:
    الطفلُ ماتَ في الصَّباحْ
    وأمُّه قضَتْ
    وجفَّ في عروقها الرحيقْ والوجيبْ
    فقد عدا على الدِّيارِ ذيبْ ! (ص46)
    وذئاب العسكر هنا يُنفذون سياسة الجنرالات في التصفية العرقية، وما يُصاحبها من جرائم متوحشة، ويستنفر الشاعر حسين علي محمد أمة الإسلام قائلاً في آخر المقطع الرابع من قصيدته:
    يا مسلمونْ !
    متى ستنهضونْ ؟
    وبالعدوَّ تفتكونْ ؟ (ص47)
    وقوله أيضاً على لسان بوسنوي مسلم:
    هذا هو القرآنُ في العيونْ
    رفيقي الحنونْ
    يضيءُ دربيَ المسكونْ
    بالرُّعبِ والجنونْ !
    متى سنتلو "سورة القتال"
    نكونُ خيرَ أمةٍ قدْ أُخرجتْ للناسْ (ص47)
    والأجمل في نص "هوامش المسلم الحزين" هو التحول من رصْد الجرائم البشعة لطغاة الصرب والكروات وتجاوز تفصيلات المآسي التي حدثت إلى الحديث المتفائل عما يجب أن يقترن بوعي قادة الأمة ورجالها لمجابهة سديدة تحول دون تكرار ذلك، ومنه قول الشاعر الآمل في الله، وفي غد أفضل:
    حبيبتي ( )
    بينَ الرحيلِ والرحيلِ
    والفرارِ والفرارِ
    كانتْ هذه الرؤى،
    وكانت هذهِ الأشعارْ
    فكيف أُخبرُكْ
    بأنني أُحبُّ بيتيَ الصَّغيرْ ؟
    وأنني أُحبُّ ذاك الحيَّ، والجيرانَ، والدروبْ
    والمسجدَ العتيقْ
    وكلَّ نبتةٍ على الطريقْ !
    فهل تُرى أعودُ للدِّيارْ
    إليْكِ يا مُستارْ ؟!

    متى نُضمِّدُ الجراحْ ؟
    ونملؤ الآفاقَ بالغناءِ للصباحْ ؟! (ص48)
    إلى قوله:
    حبيبتي ..
    سأذكرُكْ
    سأذكرُ النسيمَ حانياً يُداعبُ الجفونْ
    سأذكرُ النجومَ حينما تُوشوشُ العيونْ
    سأخبرُكْ
    بدفقةِ المطرْ
    بكلِّ جملةٍ كتبتها ..
    عن الغيابِ، والرحيلِ، والسَّفرْ ! (ص49،50)
    ولعل الشاعر حسين علي محمد قد نجح في المراوحة بين وصف الواقع الآسن في البوسنة من جراء جرائم الصرب والكروات، وبين الأمل في نهضة أو استنفار، يبني ما تهدّم في جزء مسلم من قطعة حيوية من العالم. ومما لاشك فيه أن رؤية الشاعر هنا رؤية إنسانية، وتجربة فنية مهمة تتجاوز الخطاب الأدبي السطحي إلى نص عميق يُقدِّر أبعاد التجربة الإنسانية، ورؤيتها الصافية
    ***
    * وفي قصائد الديوان الباقية يجسد الشاعر في غنائية حزينة، وفي أغلب الأحوال طبيعة العلاقات الاجتماعية مع الناس، وعلى وجه الخصوص دائرة المحيطين به من الأسرة والأصدقاء في دائرة الأدب والصحاقة والعلم، أو البيئة التي شهدت مولده، كما سنرى:
    غنائية راضية في النص الاستهلالي:
    يناجي الشاعر حسين علي محمد حلمه وواقعه السرمدي: زوجته المحلقة في حدائق عمره، وحولها الفراشات تطير وتحط في فرح بهيج وعقول متوازنة، وهي أفرخ الشاعر الصغيرة واليافعة، التي يطل عليها كل حين، أو يُغادرها للغربة والليل الطويل، والفراق القاسي. والألم / الحلم، والزوجة / الفراشة كم تتعب في الحديقة، وكلها أمل أن يعمرها الله بالخضرة والنماء والصلاح والاستواء. يقول المطلع مشيراً إلى تضاعيف الجهد في نوفمبر مع شواغل بدء الدراسة لدى الفراشات / الأبناء:
    "هذا في الليلِ مدارُكِ
    يا أيتها المُتْعبةُ
    تعاليْ في آخرِ نوفمْبرْ
    تطلُعُ منْ خَصرِكِ ـ في ظلِّ الضَّوْءِ ـ
    فراشاتٌ زرْقاءْ !" (ص5)
    والمرأة / النجمة، المرأة / الوعد المشتهاة (ولو بحروف الشعر)، ظاهرها عند الشاعر إطفاء رغبة المغترب، حين يُغادرها، لكن مكنونها في إجابة حلم الشاعر ورغبته تكون دائماً:
    "وبراريكِ الأولى تخْضَرُّ
    بِعُشْبِ الدَّهْشَةِ" (ص5)
    أو قوله عن الجبين:
    "كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
    فتكْشِفُ عنْ ليلِ غوايَتِها الصَّبْوَةُ
    وتُفَكِّكُ في الفجْرِ عناصِرَها
    تتحرَّرُ في الصُّبحِ إشاراتُكِ
    والأصْداءْ !!"(ص8)
    الحلم إذن يتحوّل إلى فعل معيش، والصّدى مردود لأدوار المحبوبة المؤثرة، وأدواتها الضوء والخضرة والعشب والصباح الذي يعقب فجر الأم المتعبة في سبيل أداء رسالتها، ولن تكون هناك محبوبة أخرى يقصدها الشاعر بمثل هذه الحميمية الشعرية والواقعية في آن.
    والنص في النهاية غناء آمل مفعم بالرضا والسكينة والأشواق.
    أغان صغيرة إلى فاطمة:
    فاطمة في العنوان وفي المقاطع الغنائية للنص هي ابنة صديق الشاعر، وكان والدها الناقد حلمي القاعود قد رُزق بها مؤخراً ـ لتكتمل في أسرته نعمة الخالق في البنين والبنات.
    والتهنئة بالمولود أحد أغراض الشعر العربي، تناوله الشعراء بمختلف طبقاتهم، ومثّل ذلك اللون ظاهرة فنية عند روّاد الشعر العربي الحديث في القرنين الأخيرين.
    وقد نظم الشاعر أغنياته إلى فاطمة (ابنة الصديق)، وفاطمة (الأنموذج والمثل المرتجى)، فهي العصفورة، والحلم الذي يتغنّى له الشاعر بالأمهودة تلو الأخرى، وهي حين تشب وتكبر تتحوّل إلى فاطمة الأخرى، تقتدي ببيت النبوة وطريق محمد  ، وقد ألمح الشاعر ببراعة إلى ذلك في المقطع الثالث الذي جعل عنوانه "الجرح الرّاعف" حيث يقول:
    "أطِلِّي على ضِفَّةِ الغَيْمِ
    هاتي ظلالَ النَّخيلِ..
    عطاءَ السَّعَفْ
    وقولي لعمِّكِ:
    ياكمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
    والمَشْيِ في المُنتصَفْ
    تعالَ لِبرْدِ اليقينْ" (ص10)
    وفي الواقع: إن تهنئة الشاعر بالمولودة ـ هنا ـ قد أدّت مهمتها منذ المقطع الأول، وبقيت الرؤى العميقة المنشودة فيها والمأمولة في أجيال الأمة، وبخاصة إن لغة الشاعر تحولت من البساطة إلى العمق. يقول لفاطمة:
    "وَرَوِّ الفؤادَ طيوبَ الحقيقهْ
    وهذا هُوَ الجُرحُ يرعُفُ
    هلاّ عرفتَ طريقَهْ ؟
    وهلاّ شممْتَ رحيقَهْ ؟" (ص10،11)
    إن الشاعر يتحول إلى مرب، وإلى هادٍ إلى طريق الإسلام الفاعل، الذي يُضمِّد جراح المسلمين، ويجعل لهم شأواً بين العالمين، تلك هي الأغنية في باطنها الذي لا يقل أهمية عن الفرحة بمولد فاطمة ابنة صديقه الدكتور حلمي محمد القاعود، وفاطمة / الرمز سيدة نساء بيت النبوة، المغزى والقدوة، وبيت القصيد.
    ***
    ونستقرئ مع الشاعر حسين علي محمد أحب قصائد الديوان إليه فيما أعتقد وهي قصيدة "عرس أمينة"، فما أجمل القطاف، وما أطيب الحصاد الحلال، وفي الحديث الشريف "إنما لأعمال بخواتيمها"( ). وفي قصيدة "عرس أمينة" ينسج الشاعر خيوط فرح عائلي يتمنّاه، ولعله أقرب إليه من حبل الوريد. والعرس هنا تتمة أو تتويج لدور اجتماعي فيه السعي والمكابدة، والرضا والشكر، وهاهم أولاد الشاعر وبناته من الراشدين والراشدات، حصاد عقود ثلاثة من السهر والمكابدة، والثناء والحمد، عقود ولّت بعذاباتها وخيرها، لذا فرسالة الوالديْن (الشاعر وصاحبته) بحاجة إلى توقيع بالزغاريد، وليس هناك أحسن من اجترار الذكريات مع أم الشاعر أمينة (اسماً وصفة) لتكون أمينةً على الفرح الذي لا بد وأن يغسل مكابدات الماضي البعيد. فرح ينتظره الجميع في الأسرة الصغيرة، ويومئ الشاعر إلى فرحة الأسرة بنجاح الابن في بدايات التكوين:
    "فكُلُّنا للفرْحِ في اشتياقْ
    وناظِرونَ للغدِ السَّنِيّْ"
    وفي موضع آخر:
    "العُرسُ حان وقتُهُ
    فأيْنَ ياصِغارْ ..
    الدّفُّ والمزمارْ ؟" (ص)
    وقد أعجبني هذا السطر الشعري العفوي القائل:
    "فالدَّارُ عندنا فسيحَهْ" (ص12).
    وسطر شعري مثل هذا قد يمر على البعض دون تأمل، لكنه يحمل أمل العودة إلى الأم في رحابة صدرها والدار في اتساع قلوب أهلها بالفرحة والاجتماع النادرين، بدلاً عن الأندية والفنادق المعلبة!
    ويخرج الشاعر عن سمته في الصمت المدرك، الموصوف به، إلى صياح طفولي لا بد وأنه من مكنون وعيه الباطن في مقطع من النص يقول:
    "زَغْرِدْنَ يابناتُ لِلْفَرَحْ
    حسيْنُ قدْ نَجَحْ
    كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
    والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !" (ص12)
    أي عفوية وأية بساطة في قدرة فنية أروع من المقطع السابق، حسين الأب وحسين الابن الشاعر يمتزجان .. فالفرح قد جمع الأهل والأصحاب، وفيه تتويج يُذيع على الناس نجاحه في أداء مهمته في الحياة، وقد وُفِّق الشاعر في استعمال شجرة النخيل دون سواها، لأنها شجرة مباركة (لا يسقط ورقها) دون كل الشجر، والورق هنا (أوراق الماضي) أو ثمار نجاح الأبناء مع الآباء، ولتتم الفرحة في حضور الأمينة على الجميع، فرحة وسلام، لا مكان اليوم لأي متحاسد أو متباغض، وأعتقد أن العلاقة بين الشاعر والأم في حياتها ومماتها أشبه بالأنموذج في البر وصلة الأرحام، فالشاعر مع زوجه وأولاده يهدي ثمار الفرح إلى أمينة، يوم أن أحس أنه نجح:
    "وأنتِ في السَّماءِ تبسمينَ في براءهْ
    وتُشرقينَ في وضاءهْ
    : العُرْسُ حانَ وقْتُهُ
    للدُّرَّةِ المكْنونهْ" (ص14)
    ***
    غنائيات الموت الحزينة:
    أودع الشاعر حسين علي محمد ديوانه بضعة قصائد من شعر المراثي، ونصوصه بكائيات غنائية ملتاعة، يسكب فيها الدمع على ثلة افتقدهم من أقرب المحيطين به من زملائه وأصدقائه. لقد فوجئ الشاعر بالموت يخترمهم الواحد تلو الآخر، فكتب ـ عنهم ولهم ـ غنائياته الحزينة، فكانت قصائده:
    ـ صبيحة الغياب.
    ـ رحيل آخر العام 1996.
    ـ الصارخ في البرية.
    ـ ونام في سلام.
    ـ الغائب.
    والنص الأول مُهدى إلى روح الشاعر عبد الله السيد شرف، وهو من أصدقاء الشاعر، والنص الثاني مرثية حارة تمثل جزع الشاعر لرحيل عزيز عليه، لم يكشف عن اسمه، لكنه من المحيطين به، أما "الصارخ في البرية" فعنوان لا يدل على بكائية حزينة، ذلك لأن الميت هنا صديق للأدب والأدباء، والفكر والمفكرين، وهو الأستاذ الشاعر كمال النجمي، وقد عبّرت قصيدة "الغائب" اسماً وصفةً ودلالة عن رثاء ذي مغزى إنساني صافٍ، حيث يقول فيها الشاعر:
    .. وفي الليلِ كانَ يُهدْهِدُ حُزْنَ القمرْ
    ويسمعُ شدْوَ السواقي
    إلى إلفِها المُنتظرْ
    هو الوعْدُ والسُّنبلاتُ / المطَرْ
    هو الماءُ أيتها الأرضُ
    كيفَ إذنْ ..
    يقطِفُ الموتُ وردتهُ في السَّحَرْ
    ويسبِقُ وقْتَ التلاقي بليلٍ ،
    وينْوي السَّفَرْ ؟ (ص58)
    ومن شعر المراثي أيضا قصيدة ".. ونام في سلام" التي يُهديها للمرحوم الدكتور محمد علي داود، ويكشف النص عن زمالة لا تُنسى، وصداقة لا تبلى، والقصيدة زفرة وجد والتياع صادقين، وكيف لا؟ وشاعرنا يودِّع فيها أحد أهم أصدقائه، وقد وُفِّق في اختيار المفردات الهادئة كهدوء شخصية الفقيد، كما وُفق في استعماله الدقيق لكلمة "ونام" بديلاً عن الموت / الفقد / الوفاة، ونظائرها. أما "في سلام" فكأنما وداعة الشخصية التي اخترمها الموت قد نامت في هدوء، وكأن الفقيد كان على موعد مع النوم الهادئ الأبدي عند البارئ الحي الذي لا يموت، يقول الشاعر:
    تعودُ للترابْ
    يا أيُّها المسافرُ الحبيبْ
    تعودُ .. في العينيْنِ أُغنيهْ
    وفي الدروبْ:
    مقاطعُ الغيابْ /
    مدى كيانِكَ الرَّحيبْ /
    ونبْضُ أُمسيَهْ
    .. ملأتَها بالشعرِ والسَّمَرْ
    يا أيُّها الغريبْ ! (ص59)
    ويتوهَم قارئ الديوان أن حسين علي محمد يكرر تجربة المراثي لشخص واحد في نصين (هو صديقه الراحل الدكتور محمد علي داود)، والواقع أن قصيدة "مكان بالقلب" آهة ودمعة، وفاء لذكريات وأماسٍ، وتذكرة لمكان واحد جمع الصداقة بيد اليقين، ولا يعيبنّ كائد أو حاسد نعمة الوفاء النّادر والصداقة المشتركة، والمعيشة المشتركة الجميلة، ذلك أن الشاعر حسين علي محمد كان من أقرب المحيطين بصديقه الراحل الدكتور محمد علي داود في غربة العمل بالمملكة العربية السعودية، وقد بلغ الحزن المفعم بالتوتر مداه عند شاعرنا حينما مرض صديقه، ثم غادر المملكة عائداً إلى مصر؛ فلقد كانت النتائج الطبية المعملية تشير إلى قرب رحيل الصديق الراحل ـ الذي عاد إلى أسرته في مصر ـ إلى الدار الآخرة. وما أقسى أن تتحوّل الحياة إلى موات، في لعبة أرقام تشكِّلها أمراض العصر!
    لقد جمع الإيمانُ والرضا شاعرنا بصديقه، وليس من طريق إلا الرحيل والسفر، والموت المنتظر، وكأنما كانت تصدق على الصديق في حالته تلك "الموت ملاقيكم بعد قليل"!
    اهتزّت المشاعر، وأفاض حسين علي محمد في سكب الدمعة تلو الدمعة، لا تُفارقه اللوعة لفراق اللؤلؤة المملوءة بكنوز الذكريات، لؤلؤة القلب وحبته في الموضع اللائق به، يحتل مكاناً تحت الثرى وفي مستقر فؤاد الشاعر، يقول الشاعر في تجربة عروضية خليلية موقّعة ذات تأثير نفسي فعّال:
    أتهْوي مَعَ الفجْرِ هـذي اللآلْ .:. بشُبَّاكِ صمْتِ الهوى .. في ارتحالْ؟

    و"أنـوارُ" مكـةَ كمْ أيْقظتْ .:. بعُشْبِكَ عهدَ الصبـا والجمـالْ
    وتحضنُهــا في وَدَاعٍ صموتٍ.:. وتهتفُ في الفجْرِ: نحنُ الرِّجالْ (ص70)
    ويسترفد الشاعر من أسرار صديقه عشقه لمكة: الرمز، والوطن، والسكن، ولزوجه: سنوات الصبا والجمال، ها قد غادرنا الصديق ومضى في صمت، بل في خشوع الرجال ورضاهم. إن الشاعر يسترجع أدق التفاصيل قبل رحيل الصديق، فيذكر:
    وتطلبُـهـا في ابتهـاجٍ رؤومٍ .:. وأنتَ تُراقِــبُ مالا يخـالْ ! (ص70)
    والطلب هنا إيماءة للمهاتفة التي كان يحتشد لها الراحل احتشاداً، أي لزوجته وأولاده، ومع ذلك لم ينس الشاعر حسين علي محمد مسامراته مع صديقه محمد علي داود، وتعدد سفرهما إلى مكة معاً لأداء العمرة، والصلاة في بيت الله الحرام. إنها ذكريات لا يُمكن نسيانها فهي محفورة بالقلب، ومكانها دفقات الفؤاد ونبضه، وعن ذلك يقول الشاعر في صدق فني:
    وفي مكــةَ الحـلمُ كمْ ضمّنا .:. خيــالٌ لـهُ في الفيافي جلالْ
    وقُلتَ: أنـا في القـصائدِ نبْضٌ .:. وفي الشعرِ عاطفةٌ لا تُنـــالْ
    كذلكَ أنـتَ صديقي هنــا .:. مكانُكَ بالقلبِ .. أغلى اللآلْ! (ص71)
    لم تكن الرياض (مكان غربتهما) أو دمنهور أو ديرب نجم (مستقر أسرتيهما) هي المكان الذي ذُكِر في النص، ولكنها مكة المكرمة، الرمز الروحي الذي لا يتقدّمه أي رمز، وهنا ـ عند بيت الله الحرام، وفي الله ولله ـ عاشت صداقتهما، مرجعها القلب "أغلى اللآلْ ".
    والنص في ضوء ذلك يُعمِّق البعد الإنساني من خلال الإشارة إلى أواصر العلاقات الاجتماعية بين الفرد والآخر، وقد وفق الشاعر في تصوير خلجات النفس الإنسانية، حيث أعاد في فنية استرجاع مشاهد الرحيل / الأفول، عن طريق اجترار ذكريات لا تبلى ولا تنقضي.
    (يتبع)

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #17
      (تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
      ..............................
      أما عن الصورة المتخيَّلة في رثاء صديق آخر، اخترمه الموت عام 1996 فيقول فيها الشاعر:
      أيا نخلةَ البرْقِ
      كيف رياضُ المحبينَ
      في الهجرِ ؟
      يا موجةَ البحرِ!
      كيفَ غيابُ السَّفينْ .. ؟
      .. متى عودةُ الرَّاحلينْ ؟ (ص36)
      وقد رسم الشاعر حسين علي محمد صورة نفسية دقيقة للفقد والغياب، ودونما غياب، وقد كثَّف الشاعر ذلك في قصيدته "صبيحة الغياب"، حيث يقول:
      وقُرْصُ شمسِهِ البعيدْ
      يغرُبُ في السَّماءْ
      ماعادَ يسْألُ السؤالَ ، أوْ يُعِيدْ
      قدْ سافرَ الأحبابْ
      فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِيابْ ؟!
      لكن الشاعر في نصه الذي يحمل عنوان "فخاخ الصحراء" ألقى على بصائرنا مرثية مطوّلة حول صديق لم يُفصح عنه بصورة تامة إلا بالاسم الأول "أحمد"، والذي لقي حتفه في رحلة عمل مغترباً بالباحة، في جنوبي المملكة العربية السعودية، والبكائية في النص تميل إلى الإطالة التي لا ضرورة لها.
      يقول الشاعر في رثاء صديقه أحمد:
      "الباحةُ" خاتِمةُ الأسفارْ
      وأنت قديماً كنتَ تُشاكِسُ باللفظِ
      وترجِعُ بالغارِ
      فكيفَ خرجْتَ من الدَّارِ
      صباحاً
      ومهما يكن من أمر، فإن الرثاء لا يتحمّل ـ باعتباره فنا شعريا ـ الحوار المطوّل، أو المناجاة المطوّلة، فهو دمعة وفكرة، ومدح لصفات الميت الراحل، وإن هلك.
      والفجيعة بالموت ورثاء من ماتوا عادة مألوفة عند الشعراء، حيث نجدهم في قصائد الرثاء يتتبعون من يرثونهم، فيذكرون ذكرياتهم معا،كما يذكرون مآثرهم، وسجاياهم، ويمدحون صفاتهم وسلوكهم في الحياة الدنيا قبل الرحيل الأبدي للدّار الآخرة.
      وبالإضافة إلى قصائد الرثاء، فقد كتب حسين علي محمد في ديوانه هذا آهاته المحزونة حول فراق الأحبة، وله في فراق صديقه الشاعر أحمد فضل شبلول حينما ترك الرياض وعاد إلى الإسكندرية ـ بعد صداقة امتدت سبعة أعوام ـ قصيدة بعنوان "دموع الحاسوب"، يقول فيها وهو يناجي الحاسوب ـ ومن المؤكد أنه يتذكّر صديقه الذي غادر الرياض، ويتذكّر جولاتهما وسهراتهما الأدبية معاً:
      ياحاسوبي الساهرَ في أحنائي
      والحالِمَ بالضَّوْءِ وبالسَّعْدْ
      سافرَ أحبابي ..
      تركوني في دائرةِ الوجْدْ
      وانفضُّوا منْ حوْلي ..
      تركوني في سِردابَ الفقْدْ
      انفضُّوا .. فرداً .. فرداَ
      وبقِيتُ أُعاني ..
      من وطْأةِ أحزاني
      في مَجْمَرةِ البُعْدْ ! (ص38-39)
      وكأنما الشاعر ينتقل من لوعة الفراق وألم الابتعاد عن الصديق، فينتقل من التجريد إلى المحسوس في قوله:
      لِمَ لَمْ تبصرْ طابعتي ..
      وهْيَ تُنادِمُ نافذتي ..
      بحروفِ الهمسْ ؟
      لِمَ لَمْ تأكلْ طبقَكَ ،
      لمْ تشربْ قهوتَكَ
      ونايكَ مُرْتَهَنٌ للحزنِ
      وفُقْدانِ الأُنسْ .. ؟ (ص38)
      والحاسوب أحد الرموز المادية في النص عنواناً وتشكيلاً ورؤيةً، بينما الألفة والوفاء يعذبان الشاعر، الذي غادره الصديق في سفرة أخيرة لمحل إقامته، وموطنه، وداره، وأهله.
      ولن نغادر هذه النصوص في هذا الموضع، دون أن نتذكّر العنوان الدال "النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة"، وهو العنوان الأساس للمجموعة جميعاً، ففيه الفراق المكرور، وتداعيّات الشوق والبوح حول من غادرهم إلى موطن عمله وغربته.
      أما المحاورة الشعرية الوحيدة في قصائد الديوان، فقد جعلها حسين علي محمد تمتلئ بالتهكم والسخرية ممّن بلغا النضج وحكمة السنين، بينما يطفح من سلوكهما الحمق والادّعاء، والنص مع جودته قطعة فنية محكمة، لا يُمكن أخذ الشاهد منها إلا بنصها كاملاً، يقول الشاعر:
      ـ إني حاربْتُ كثيراً في صفِّكِ
      ـ لكنِّي لمْ أُبصِرْكَ بليغاً ،
      تتحدَّثُ في جمْعِ السُّفهاءْ
      ـ إني مشغولٌ بهمومِ العامَّةِ ، وحقوقِ الضُّعفاءْ !
      ـ هذا ما نرجوهُ على يدكَ البيضاءْ !!
      لكني أسألُ نفسي :
      لِمَ لمْ أسمعْ منك قديماً
      ـ من فيكَ المثقلِ ببلاغتِهِ الشوهاءْ ـ
      شيئاً عنْ فقرِ الفقراءْ
      ـ إنك تُغمطُني حقي يا شيخْ
      فلماذا هذا الظلمْ ؟
      ـ إنكَ وقِحٌ
      ـ بل أنتَ الأبلهُ ، والشعرورُ ، وبيْتُ الدَّاءْ

      نصَّان من قصائد النثر:
      ضمّن الشاعر حسين علي محمد ديوانه قصيدة نثرية مطوّلة سمّاها "أحزان صباحية"، سوّدت الصفحات (72-75) من هذا الديوان، والطريف أنها كرصيفتها الأخرى بالديوان ـ والمعنونة "القاهرة 1968" تتخذان من "قصيدة النثر" أداة تعبيرية. والصياغة الفنية في قصيدة النثر لشاعر يكتب القصيدة الخليلية والحرة باقتدار لا تروق لي، لكني أقدّر حرية التعبير لدى المبدع، ولا أُصادر حقا يراه!
      والواقع أن الاستقراء المبدئي للنصّ الأول يجد مفارقة غريبة ـ وإن لم تكن مقصودة ـ وهي أنها إعادة صوغ لتجربة كتبها الشاعر قصّة قصيرة، ومرّ عليها زهاء عقدين من الزمن!
      ولن أتحدّث عن نجاح التجربة في الشكلين فيما يرى البعض. غير أني زعيم هنا بأن قصيدة "أحزان صباحية" كانت الأضعف من توأمتها "مهاتفة صباحية" المنشورة في مجموعة قصصية للشاعر تحمل عنوان "الطريق الطويل أو أحلام البنت الحلوة" .
      إن تضمين الشعر فقرات النثر المتساوقة أو الجمل ذات البنى الإيقاعية لا يعني أنّ هناك قصيدة، بل حصادنا ـ وقتئذ ـ هو النثر في لغة شاعرة!
      فالسرد القصصي راق في سائر معاييره عند شاعرنا على نحو ما ظهر في "القاهرة 1968" و"مهاتفة صباحية"، والسرد في البناء القصصي كان واضحاً متماسكاً في القصة، أما في قصيدة النثر المزعومة فالشاعر مجرّب، ويخرج نصه في تداعيّات أرى عدم مشروعيتها في الشعر ، باعتباره فنا، عماده وحدة الفكر (الموضوع)، ووحدة الإيقاع النغمي العروضي، ووحدة الائتلاف في اللغة وسيلةً ودلالةً.
      إن "قصيدة النثر" المزعومة تخرج من دائرة ضروب الأجناس الأدبية، والأوْلى أن يُجوِّد المبدع في النوع الأدبي الذي يبرز فيه؛ فالمبدع ـ في حقيقته ـ هو الأساس الجوهري في الإبداع الأدبي، وليس هو الوسيط أو الناقل، أو الدراماتولوجي، أو السينماتولوجي كي يُلفِّق بين الأنواع الأدبية فوق مائدة الفنون المجمّعة، والفنون المجمّعة قد تقبل مثل ذلك التجريب بالتحوير والمعالجة والاقتباس والأخذ من أي نوع أدبي، بعد توطئته وترويضه للفنون المجمّعة، بينما فنون الشعور ـ ومنها الأدب، وأهم أنواعه الشعر ـ يجب أن تكون محافظة على تقاليدها الفنية، ومن ثم فإن الشعر يجب أن يظل شعراً كما هو في أدب أية لغة.
      نصوص موازية في التجربتين:
      يقول القاص حسين علي محمد في فصة "مهاتفة صباحية": "الظهيرة تبصقهما بجوار المستشفى الجامعي، يتحسس سحابة الجهامة .. كل المشاوير خاطئة في فم فائزة المحشو بالكراهية والنفور. فكيف تكونين يا رباب ضفة مشتهاة، وأنتِ ثمرة محرمة في يد الهارب البعيد؟!"
      ويقول الشاعر حسين علي محمد في قصيدته "أحزان صباحية":
      "الظهيرة تبصقنا
      بجوار المستشفى الجامعي
      أتحسس سحابة الجهامة
      المشاوير خاطئة
      فكيف تكونين ضفة مشتهاة" (ص74)
      وليس من شك في أن القارئ المتذوّق سيُعجب بالفقرة القصصية في دقة تكوينها وعمق دلالتها، بينما التكرار مع التعديل في بعض المفردات في "قصيدة النثر" لا يُضيف جديداً عمّا أدّته سردية القصة.
      وفي مقطع آخر يقول القاص حسين علي محمد في القصة نفسها:
      "قبل أن أفكِّر في صعود الدرج للطابق الخامس ـ في نفس العمارة التي أسكن في الدور الثاني فيها ـ لمحادثة صديقي "حلمي أحمد"، كي يمنحني فسحة من الوقت ، لتأجيل خيباتي:
      خيبة قديمة .. خيبة جديدة .. خيبة مقبلة. في زمن تضرّج بالسواد والحداد!" (ص88).
      وفي نص مواز يقول الشاعر حسين علي محمد:
      "قبل أن أفكِّر
      في صعود الدرج للطابق الخامس
      لمحادثة صديقنا "أحمد زلط"
      كي يمنحنا فسحة من الوقت
      لنؤجل خيباتنا:
      خيبة جديدة
      خيبة قديمة
      خيبة مقبلة" (ص75)
      فهل اختزال جملة واحدة من النص القصصي، وتعديل اسم الصديق من "حلمي أحمد" إلى "أحمد زلط" هو الذي سينقل النص من أدبيات القص إلى ما يُسمّى (قصيدة النثر)؟
      إن مستوى شاعرية حسين علي محمد يربأ به عن ذلك التجريب الفني المراوغ، وعليه ألا يضمِّن أشعاره بعد ذلك ما يسمّى بـ"قصيدة النثر" ، ومن حسن الحظ أنه لم يكتب خلال ثلث قرن إلا ستة تجارب من هذا الأدب؛ فاللغة الشاعرة التي يمتلكها حسين علي محمد قادرة على الإبداع من خلال هيكل الشعر وميزانه وقوالبه، وهو يمتلك المضامين والرؤى التي تستحيل بين يديه شعرا.
      وإن نصين مثل "القاهرة 1968" و"أحزان صباحية" منحا الشاعر الفرصة ليشير إشارة ذكية إلى التيّار الحداثي، ويكشف لهم أنه قادر على التجريب والتجويد أيضا.
      ونحن نقول: فليجرّب الشعراء والكتاب في الأنواع الأدبية ما يشاؤون شريطة الوقوف فوق قاعدة يستندون عليها، وبعبارة أخرى: عليهم المحافظة على منطلقات كل نوع أدبي وخصائصه، وبالتحديد: من جذوره وأصول نشأته.
      ***
      ظواهر فنية في الديوان:
      أولا: في المحتوى والمضمون:
      تنوّعت مضامين قصائد الديوان إلى مقاصد أو موضوعات متفرقة، مما يدل على قدرة الشاعر على التنقل من تجربة إلى أخرى، وأهم موضوعاته وفقاً لذيوعها في القصائد:
      ـ رثاء الميت صديقا أو زميلا، أو من المحيطين به.
      ـ الحزن لمن فارقهم الشاعر أو فارقوه.
      ـ تشريح طبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة.
      ـ الإحساس بمآسي المسلمين في العالم (مسلمي البوسنة نموذجاً).
      ـ الشعور الأسري والاجتماعي (واقعاً، وفنا، وتخيلا).
      ـ في أدب الحكمة، والسخرية من الحمقى والأدعياء.
      ثانيا: في المستوى اللغوي:
      من مكرور القول التأكيد على امتلاك حسين علي محمد للغة الشاعرة، وعدم وجود مستويات متفاوتة في لغة الديوان، حقا إن لكل تجربة لغتها الخاصة إلا أنها تظل على مستوى معجم الشاعر وثقافته وقاموسه الأدائي التعبيري، ولغة شاعرنا لغة فنية ذات مستوى ثابت: فيها تجويد للفصيح المستعمل، وتنأى عن الغريب المتقعِّر، ونلاحظ أن الديوان يكاد يخلو خلوا تاما من المفردات الأسطورية، أو الإشارية المُلغزة لدرجة التعقيد.
      وقد تنوّع الأداء التعبيري عند الشاعر من قصيدة إلى أخرى، فمرة نرى صوت الشاعر، ومرة ثانية يُقابلنا الحوار الداخلي، ومرة ثالثة يختفي صوت الشاعر ليترك الحوار للآخر (انظر قصيدة حوار سيدين في مطلع الرحيل، ص62).
      ومن الملاحظ على الشاعر أنه لم يقف في سائر قصائد الديوان موقف المختزل للغة، أو يضعها في مخيلته ضمنا، مما يجهد القارئ أو المتلقي إلا في مقطع شعري وحيد في الديوان، حيث يقول في "منولوج" استفهامي:
      أُبْصِرُني كهْفاً مهْجورا
      ما هيْكلهُ الأوَّلُ ؟
      هلْ كانَ الجامِعُ ..
      فِيهِ الصَّلواتُ وفيهِ الذِّكْرْ ؟
      ...
      هلْ كانَ الشِّعْرْ ؟ (ص29)
      ربما كان وعي الشاعر بالتنقلات الاستفهامية في هذا المقطع تُفصح عن شيء لم أستطع استكناه مقصوده، أو تأويله إلى إدراك قريب، مع مقطعه السابق أو اللاحق، ذلك أن مسافة لغوية مكتنزة ومختزلة بدرجة كبيرة، كنا نودّ التقريب لها من لدن شاعرنا المجوِّد.
      في التشكيل الموسيقي والعروضي:
      تفعيلات البحور القصيرة والخفيفة هي الوحيدة دون سواها معزوفة البنى الإيقاعية في الديوان: الرجز، المتدارك، الخبب، وهي بحور ـ سواء أكانت صافية التفعيلة أم مبتورة ـ فهي تميل إلى نسق التكرار، لتنسجم وحدات التفعيلات، في إيقاعها الداخلي المصاحب ـ وبالثبات دوماً ـ في كل قصيدة.
      ولم يلجأ الشاعر إلى التنويع العروضي دالخل النص الواحد ـ في القصائد القصار والطوال ـ وإنما أسعفته مجزوءات البحور الخليلية القصيرة والخفيفة، حتى في أطول قصائد الديوان "فخـاخ الصحراء" وجدناه يُحافظ على النسق الموسيقي الأخّاذ، وهو يسترجع الذكرى مع صديقه الذي قضى نحبه:
      تعالَ إلى حِضْنِ "عصايِدِكَ" الملهوفةِ
      بالشوقِ
      أعدْني طِفلاً ، لأهازيجِ الحقلِ
      ولغوِ السُّمَّارِ
      وقُلْ لي :
      كيفَ تُضِيءُ حقولَ الصمتِ / الثرْثارِ
      وتُسْرِجُ في قفْرِ هزائمِنا
      خيْلَ النار ؟ (57)
      أو قوله في ثبات موسيقي مستجاد:
      أحببْتُكِ .. لكنْ لمْ أتكلَّمْ !
      عانيْتـُكِ .. لكنْ لمْ أتألَّمْ ! (ص30)
      ومنه قول الشاعر:
      لاتسْتاْذِنُ أُفْقي / أفْقَكْ
      كيْ تعْبَثَ فيهْ
      شهقةُ صمتي / صمْتِكَ
      تُنْبِئُ عن موتي / موتِكَ
      ورحيلِ العُمرِ غُباراً في هذا التِّيهْ .. ! (ص23)
      واللافت للنظر ونحن نحتفي بتلك المجموعة الشعرية الجديدة صغيرة الحجم، كبيرة المغزى، أنه كلما لجأ الشاعر ـ في غير تعمد ـ إلى تكثيف التجربة في شكلها المعماري، كلما تحولت إلى آية فنية نغبط الشاعر عليها.
      أما الطول المفرط في بعض القصائد، وإن خدعنا الشعر بحكم خبراته ووعيه بتجديد دماء اللغة، كي يُفوِّت علينا الإطالة، لكنها بالرغم من كل احتراز فقد دوّنت الإطالة في بعض مقاطع القصائد، وأزعم أن لكل تجربة مدداً أو بوحاً قد لا ينتهي بمثل ما نلحظه في تجارب القصائد القصار؛ إلا أنني أميل إلى التكثيف دونما تعتيم، فالضباب يحجب الرؤية واقعاً وفنا. ونحمد الله تعالى أن نسبة القصائد الطويلة في الديوان لا تمثل سوى خمس عشرة بالمائة من مجموع قصائده.
      تحياتي للشاعر في غنائياته ومراثيه، وفي أبعاده الإنسانية التي أومأ إليها، وفي مواقفه من الحياة والأحياء، وفي تهكمه الساخر مما يراه خطأً. وعلى الله قصد السبيل.
      أ.د. أحمد زلط

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #18
        (14 ) «الشجن» ملاحظةً وشرحاً في ديوان
        «النائي ينفجر بوحاً» لحسين علي محمد

        بقلم: بـدر بـــــــــــديـر
        .......................

        هذا الديوان الجديد للشاعر حسين علي محمد نافذة واسعة نطل منها على عالم هذا الشاعر المتعدد السمات والاتجاهات، كما لاحظ ذلك النقاد الذين تناولوا دواوينه السابقة بالنظر والتحليل، والذين تناولوا هذا الديوان الجديد بالدراسة السريعة، ومنهم الدكتور أحمد زلط الذي ألحقت دراسته بآخر هذا الديوان، وضَمّنها حديثه عن الشاعر مؤسس سلسلة "أصوات معاصرة"، مع بعض أصدقائه المعاصرين، كما ضمّنها نظرته التحليلية لقصائد هذا الديوان، وجعل عنوانها "أبعاد التجربة الإنسانية في ديوان النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة".
        ولقد كان لقرب الناقد الدكتور أحمد زلط من الشاعر أثر واضح في فهمه لصاحبه، وفك بعض رموزه، والوقوف على أسراره التعبيرية ومذهبه الفني. وهذا أسلوب معروف في النقد الأدبي منذ القدم؛ فكلما كان الناقد على صلة بظروف المبدع الحياتية، وأطوار نموه اجتماعيا وثقافيا كان هذا الناقد أقدر على تقديم التحليل النقدي الأنسب لإبداع الشاعر.
        ورغم أني قريب أيضاً إلى الشاعر موطناً وصداقة وصحبة إلا أني سأعتمد في رصدي لسمة وجدانية وحيدة تبدو واضحة في هذا الديوان على التعبير الشعري المجرد فقط، وهي سمة التعبير الشجني في قصائد هذا الديوان.
        ومنذ البداية يبدو الشجن عنصراً شعوريا أساسيا في أكثر القصائد، وحتى في العنوان، فكلمات العنوان الثلاث تشع بشدة هذا الإحساس بالشجن، فالنائي الذي يُفارق أسرته زوجةً وأولاداً وأحباباً وأصحاباً، ماذا تتوقّع أن يكون لون الشعور الذي تفيض به نفسه؟؟
        هذا النائي الذي تفصله عن رؤية أهله الشهور الطويلة الثقيلة كل عام. ورغم أنه في نهاية القرن العشرين يستطيع النائي أن يحدث أحبابه مهاتفة، ليرش بعض الندى على القلب المتحرق شوقاً، إلا أن برد الضمة إلى الصدر وروعة نظرة العين إلى العين، وبلاغة البسمة المعبرة عن الحب، وسكر اليد النائمة في أحضان اليد الأخرى .. كل ذلك شيء آخر غير مجرد سماع الصوت من خلل الهاتف.
        وتأتي الكلمة الثانية "ينفجر لتُشير إلى الكم الهائل من المشاعر التي ضاق بها هذا القلب، وهل ينفجر القلب بمشاعره إلا إن كانت هذه المشاعر ساخنة متجددة؟
        والبوح إفضاء وتعبير، لكن هذا الإفضاء والتعبير يأتي نتيجة انفجار شعوري. وهكذا يأتي عنوان الديوان معبراً ومبشراً بكم كبير من العواطف السيالة، والشجن الذي عرف طريقه إلى خارج النفس بعد مدة، يبدو أنها طالت من الحبس الإرادي لهذا الشجن.
        ويظن كاتب هذه السطور أن حبس هذه المشاعر الممتزجة من الحزن والحنين لدى شاعرنا إنما كان بسبب الحياء الذي يرثه الرجل الشرقي من تراثه وتربيته، إلى الحد الذي يجعلنا لا نرى شيئاً يُذكر من الغزل بالزوجة، والتعبير عن حب صاحبها إيّاها، والحنين إلى لقياها، والتلميح إلى ملامح جمالها النفسي والجسدي، ورقة عشرتها، وحدبها، وحنانها. أقول: إن الحياء الذي لا يجعل الرجل الشرقي يعبر عن ذلك، حرمنا من ممارسة هذا اللون الغزلي من الشعر مبدعين ومتلقين على امتداد تاريخ الأدب العربي.
        فلقد تغزل الشاعر العربي القديم بالمعشوقة، بل وصَرَّح بما لا يجوز التصريح به ـ كما نجد عند امرئ القيس ـ ولكن أن يبوح الشاعر بعاطفته تجاه زوجته وصاحبته وشريكته، فهذا الذي لم يحدث إلا حديثاً، عند القليلين الذين منهم كاتب هذه السطور.
        ومن هنا كان هذا الحبس عند شاعرنا الذي أدّى إلى الانفجار بوحاً، ولكنه ـ وهذه ملاحظة هامة ـ لم يكن انفجاراً مدمراً، أو حتى انفجاراً حقيقيا يحمل سمات الثورة على الموروث، وإنما جاء "انفجاراً" فقط ـ من وجهة نظر صاحبه، الذي مازال مرتبطاً ومشدوداً إلى تراثه الحضاري الذي لا يُعطي للرجل حرية الحديث عن أسرته وشريكته، كما يتحدث الرجل الغربي. لكنه على كل حال محاولة للبوح في حدود العرف والقيم الشرقية، بنسبة محددة.
        وتبدو صورة شاعرنا شَجِناً حتى في لحظات العطاء الدافئة، لنقرأ المقطع الثاني من قصيدة "فراشات زرقاء":
        في صُبْحٍ آخَرْ
        ـ وصهيلي في الآفاقِ يُردِّدُ أُغنيةَ البدْءِ
        أراني قُدَّامَكِ
        تتفتَّحُ أزْهارُكِ
        ويُمازِجُني عِطْرُكِ
        وتُفاجِئُني أطيارُكِ إذْ تخْرُجُ
        في كَفَّيَّ لآلئَ خضْراءْ
        تنفَتِحُ على القلْبِ
        أماكِنَ
        ومجالاتٍ
        ورُؤى
        تتجدَّدُ ، أوْتُخْصِبُ باللذَّةِ
        (هذا النَّصُّ يُغايِرُ
        ما ألِفتْهُ العيْنُ قديما
        في آفاقِ الشُّعراءْ !)
        ...
        فلماذا يقْبَعُ حسْنُكِ
        في الطَّلَلِ الباكي
        إيقاعاً
        خاصًّا
        يتَنَزَّى في شريانِ القلْبِ
        صباحاً
        ومساءْ!
        فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ
        فوقَ النَّهْدِ
        وتحتَ الخَصْرِ
        وحوْلَ العيْنيْنِ
        وفَوْقَ جبينٍ
        كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
        فتكْشِفُ عنْ ليلِ غوايَتِها الصَّبْوَةُ
        وتُفَكِّكُ في الفجْرِ عناصِرَها
        تتحرَّرُ في الصُّبحِ إشاراتُكِ
        والأصْداءْ !!
        في قمة صورة السعادة "يقْبَعُ حسْنُكِ في الطلل الباكي" يصرح الشاعر بين قوسين أنه يأتي في هذه القصيدة بما لم يتعوده الشعراء قديماً من البوح، فهو يكسر القاعدة، ويبوح في جرأة ـ من وجهة نظره ـ بما لم يتعود القارئ أن يجده في قصائد القدماء.
        ومع ذلك فاللفظ عفيف رغم روعة الصورة "فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ، فوقَ النَّهْدِ، وتحتَ الخَصْرِ".
        حتى عندما يُخاطب الوليدة فاطمة ابنة صديقه العظيم حلمي القاعود بهدف تهنئته، فإنه ـ أي شاعرنا ـ لا يُضيع الفرصة، فيعبر شجناً، ذاكراً همومه:
        فهلْ يَسْعَدُ القلبُ حيناً
        بإشراقةِ الموْجِ .. وهوَ رهينُ القَلَقْ؟

        وقولي لعمِّكِ: يا كمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
        .. والمَشْيِ في المُنتصَفْ
        وفي قصيدة "عرس أمينة" نراه في لحظات السعادة التي تعلن فيها أمينة (وأظنها الأم) عن فرحتها، وتطلب من البنات أن يزغردن لأن حسيناً قد نجح، حتى في هذه اللحظات السعيدة يختار حسين علي محمد أن يلتقط الصورة النقيضة، فعلي (وأظنه الوالد) تلمع عيناه بالدموع، وتصرخ النساء معلنات عن موت أمينة!:
        زنابِقُ الربيعِ تحتضرْ
        والسيِّدُ الكبيرُ ..
        أُبصرُ الدُّموعَ في عينيْهِ تنْفَجِرْ
        .. وتصرُخُ النِّساءُ :
        يا أمينَهْ !
        يا دُرَّةً مكنونَهْ
        إلى آخر الصورة التي يتذكرها الشاعر الذي آثر أن يضع الفرحة والسعادة، والبكاء والحزن لقطتين متجاورتين متضادتين، تبرز كل منهما الأخرى في موكب الحياة العجيب.
        *
        هذا هو الشجن حزناً ممتزجاً بالحنين في أكثر قصائد هذا الديوان، فما بالنا بالرثاء الذي لا يحتاج القارئ إلى جهد يذكر في اكتشافه أيضاً، إلى جوار اللقطات السعيدة؛ فبضدها تتميّز الأشياء.
        فعبد الله السيد شرف الذي كان يقف مفجراً شعره الجميل الأخضر، وحوله الأصحاب يحلمون .. قد غاب إلى الأبد، صورة سردية خبرية بسيطة، ومن بساطتها جاءت عبقريتها:
        ما عادَ عبدُ اللهِ غاضِبا
        من الغزالةِ الشقراءِ فوقَ العُشْبْ
        وقُرْصُ شمسِهِ البعيدْ
        يغرُبُ في السَّماءْ
        ما عادَ يسْألُ السؤالَ ، أوْ يُعِيدْ
        قدْ سافرَ الأحبابْ
        فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِيابْ ؟!
        هكذا ينتهي الشاعر حسين علي محمد من قصيدته التي اعتمدت على الجملة الخبرية البسيطة في أغلب تشكيلاتها، راثياً صديقه عبد الله السيد شرف.
        هكذا ينتهي بهذه الجملة الخبرية، كآخر خبر في السياق "قدْ سافرَ الأحباب" ثم يأتي فجأة بالسؤال: "فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِياب ؟!".
        وفي قصيدة "انكسار" يبدو الشجن غالباً، فالصور والألفاظ كلها نتاج طبيعي لهذا الشجن؛ فالمدن تنكسر بقلبه، وأقلامه جفّت، وحتى تعبيراته تكسّرت خطوطها على الورق، ونراه يبصر نفسه كهفاً مهجوراً، يذكر موت الأم (وهو صغير في العاشرة) لدرجة أن صاحبته التي يتحدث إليها، تطلب إليه أن يمتنع عن الحديث عن الأموات:
        أَكْرهُ قِصصَ الأمواتِ ،
        فحدِّثني عنْ نفسي الآنْ !
        ...
        ...
        ألْقَتْ فوقَ الرملِ النَّعْشَ
        نظَرْتُ إليْها ..
        كانتْ تمشي كالبحْرِ ..
        وساقاها يصطفِقانْ !
        وهكذا لو أمعنا النظر إلى أغلب القصائد لطالعنا هذا الشجن والحنين، لكن ذلك لا يعفينا من إمعان النظر إلى تلك القصيدة الفريدة الخريدة "دموع الحاسوب"، والتي صبّت في الحاسوب نوعاً فذا من الحياة التي جعلت الحاسوب نفسه حزيناً، ولم يكتف بحزن الحاسوب، وإنما في هذا الحوار الذي دار بينه وبين حاسوبه الحزين نرى الحاسوب يوجه للشاعر الأسئلة، التي يبوح فيها الأول بشجنه، ويلحظ شجن صاحبه:
        هذا الحاسوبُ يُحدِّقُ فيَّ ..
        يُحادِثُني صبحاً ومساءْ
        لمَ لمْ تُبصرْ
        دمعي المتخثِّرَ .. والأنْواءْ ؟
        في أوراقِ الأمسْ ؟
        لِمَ لَمْ تبصرْ طابعتي ..
        وهْيَ تُنادِمُ نافذتي ..
        بحروفِ الهمسْ ؟
        لِمَ لَمْ تأكلْ طبقَكَ ،
        لمْ تشربْ قهوتَكَ
        ونايكَ مُرْتَهَنٌ للحزنِ
        وفُقْدانِ الأُنسْ .. ؟
        *
        يا حاسوبي الساهرَ في أحنائي
        والحالِمَ بالضَّوْءِ وبالسَّعْدْ
        سافرَ أحبابي ..
        تركوني في دائرةِ الوجْدْ
        وانفضُّوا منْ حوْلي ..
        تركوني في سِردابَ الفقْدْ
        انفضُّوا .. فرداً .. فرداَ
        وبقِيتُ أُعاني ..
        من وطْأةِ أحزاني
        في مَجْمَرةِ البُعْدْ !
        *
        هذا شايٌ باردْ
        لنْ التفِتَ إليْهْ
        لنْ أُبعِدَهُ عنْ طاوِلَتي
        في هذا الصُّبْحْ
        فالحاسوبُ يُراقِبُ بادِرتي
        هلْ يُمليني شيئا من حكْمتِهِ
        ويُداوي الجُرْحْ ؟
        وهكذا نرى الشجن بوضوح، كما نلمح بعض أسبابه في معظم قصائد الديوان. وإذا كانت هذه الدراسة تنصب على ملمح فني ونفسي واحد من ملامح كثيرة لتجربة حسين علي محمد فإني أكتفي بهذه الأمثلة التي قدمتها من ديوانه الجديد "النائي ينفجر بوحاً".
        ولعلي بذلك أكون قد قدّمت ملمحاً أصيلاً في قصائد هذا الديوان، وهو الشجن أو الحزن الممزوج بالحنين، مشيراً إلى أسبابه الاجتماعية والنفسية، حيث الغربة عن الوطن الأصلي مصر، والصاحبة النقية التقية والذرية، والغربة عن مراتع الصبا والشباب، والحنين إلى الأصدقاء الراحلين عن عالمنا أو الذين لم يزالوا يقيمون، ولكن بعيداً عن العين.:
        وما وطنُ الإنسان إلا الذي له به سَـــكَنٌ يشتاقُهُ وحبيبُ
        أدعو الله سبحانه أن يُذهب عن شاعرنا الحساس كل حَزن، وأن يملأ حياته سروراً ونشوةً، والله المستعان، وعليه قصد السبيل.
        بدر بديــر

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #19
          (15 ) الآخر في شعر حسين علي محمد

          بقلم: مصطفى النجار
          .....................

          «الرحيل على جواد النار» عمل شعري جديد يهل به علينا الشاعر حسين علي محمد من مصر الشقيقة، مُضيفاً إلى أعماله الشعرية والنثرية العديدة خطوةً على طريقٍ قطع منه شوطاً بعيداً، وملمحاً في شخصية تكتمل وتنضج، وآثر الشاعر ألا يتخلى عن أدواته الفنية التي عُرف بها، وأن يحتفظ بسمات شعره من غنائية وبساطة ونثرية محببة، وحوار داخلي (مونولوج) ومونتاج سينمائي، مُضيفاً إليها بشكل أوسع (الدراما).
          فالشاعر مازال على تماس مُباشر مع فنون الأدب والقول في مسرح وصحافة وتعليم، فرسالته للماجستير كانت في المسرح الشعري عند عدنان مردم بك، ورسالة الدكتوراه كانت بعنوان «البطل في المسرحية الشعرية المعاصرة»، ولا بد أن تنعكس هذه الأنشطة بأي شكل من الأشكال على أدبه وشعره، سواء ما تم إنجازه وما سوف يتماثل إلى النور، فالشاعر ابن بيئته وعصره الذي يعيش فيه، مهما زعم بعضهم باستبعاد البيئة بناسها وحيواتها المختلفة، واستبعاد شخصية المبدع عن نصه المُنجَز.
          والشاعر حسين علي محمد يُعلن في شعره عن تواصله الحميم مع البيئة ومع الآخر، وهذا الآخر إما أن يكون من شخصيات مُعاصرة ـ وغالباً ما تكون من الشعراء والأدباء ـ وإما أن يكون من الشخصيات التاريخية التي يُلقي عليها بعض ظلال العصر الراهن.
          ومن يتصفَّح مجموعاته الشعرية يجد مصداقية هذا الرأي؛ فهناك إهداءات يُتوِّج بها قصائده، مستوحاةً من أدباء وشعراء، ومهداةً إليهم في آن. وقد سار على هذه السنة الكريمة في «الرحيل على جواد النار» فأهداه إلى صديقه الدكتور صابر عبد الدايم من منطلق الشعر والمُعاناة الواحدة، كما أهدى قصيدة «دمعتان» إلى الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور، وهي قصيدة مدوّرة، تحفل بمؤثرات هذا الشاعر المجدد الرائد، وهناك قصيدة بعنوان «الأسوار» مُهداة لإلى صديقه الروائي محمد جبريل، كما أهدى قصيدة «الصوت الأخضر في غابات القيظ» إلى صديقه الناقد الدكتور علي عشري زايد، حيثُ يقول:
          صوتُكَ يأُسرُني
          يأخذني منْ عبَقِ الموتِ،
          ويُبعدُني عن لحظةِ كدَرٍ
          تمتدُّ بعرضِ الساعاتِ / الأيامِ / الأشهُرِ
          قل لي أينَ ذهبتَ
          لماذا غابتْ كلماتُكَ ـ نهرُ الحبِّ الدّافقِ عنِّي ؟
          إني أغرقُ في اللحظاتِ السودِ
          ولا أجدُ القشَّةَ
          هلْ تُعطيني لحظةَ ضوءٍ مُشبعَةٍ بالودِّ الأخضرِ ؟
          ومثلما يتعامل مع شخصيات مُعاصرة فهو يُدير حواراً مع شخصيات تاريخية ويتفاعل معها، يستبطن الأعماق، ويتخذ منها أقنعة أو ما يُشبه (المُعادل الموضوعي) لحشد أفكاره، وجيشان عواطفه، ويتجلى ذلك في قصيدته «الرحيل على جواد النار» وهي من مكابدات عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ ، ومتفرعة إلى عناوين صغيرة:
          1-خطوة أولى.
          2-لحظة كشف.
          3-يشتعل الجسد الفارع.
          وقصيدة «أغنية خضراء إلى حلب» هي من يوميات الشاعر الفارس أبي فراس الحمداني، وهي قصيدة مدورة تتلاءم مع الشخصية القلقة السجينة، ذات الأنفاس المُتلاحقة واللاهثة، كما أشارت إلى ذلك التوافق بين مضامين الشعر المُعاصر المتوترة اللاهثة وبين هذا النمط وبذوره وشيوعه بين شعراء هذا العصر الصاخب (الشاعرة نازك الملائكة في دراسة لها). وفعلاً وجدتُ أن نفسية أبي فراس المضطربة تلاءمت مع الشكل الذي أدار الشاعر عليه يومياته:
          أرسفُ في قيْدي في مدنِ الثلجِ،
          وقلبي عصفورٌ غَرِدٌ
          يحلمُ بربيعِ الأرضِ،
          ولا يعبأُ بالطرقِ الضيقة الوعْرةِ
          في جَبَلِ الأصداءْ
          *
          أرسفُ في قيدي، والحرْبةُ تُغمدُ في الصَّدرِ،
          ولكني أركبُ فرسي،
          أخرجُ منْ أسْرِ الذاكرةِ الصلبةِ،
          أُبصرُني أبني فوقَ الأنقاضِ بلاداً
          تفتحُ حضنيْها للشمسِ،
          ويحيا فيها الأطفالُ جميعاً سعداءْ
          *
          يصحو الطَّمْيُ،
          وينتفضُ سياجُ النيلِ عفيا وسخيًّا،
          هذا الوعدُ قديمٌ يا حلبُ الشهباءُ،
          وإني أرسمُكِ الليلةَ قوْساً قُزحيًّا في ذاكرتي،
          وشْماً ناريًّا في جسدي ..
          ويُحاصِرُني حبُّكِ
          أسقُطُ في حَلَقاتِ الوجْدِ،
          وأعشقُ رنَّةَ صوتِكِ
          نبضةَ قلبِكِ،
          كيفَ أُحوِّلُ هذا الحبَّ الكاسِحَ جمرةَ نارٍ،
          فتفُكَّ القيْدَ ..
          فلا ينتفضُ الأطفالُ من الرُّعبِ
          ولا تتعقَّبُ خطوَهمُ الأخضرَ أصداءٌ الأشلاءْ؟
          *
          منْ فوقِ السورِ أُنادي:
          يا حلبُ الشهباءُ، تعاليْ
          فالأرضُ الحُبْلى بالأحزانِ مُضمّخةٌ
          بالقولِ الفجِّ،
          وحاناتِ القردةِ
          والأطفالُ على الطرقاتِ يريدونَ الفجرَ الأخضرَ،
          يقتسمونَ رغيفاً ملحيًّا
          يرسمُ كلٌّ منهم في كراستهِ النوريةِ
          وشماً أخضرَ منتطقاً بالسيْفِ،
          تعاليْ،
          صدري مفتوحٌ للحربةِ كيْ تُغمَدَ فيهِ،
          وإني عاشقُكِ الصَّامدُ في زمنِ الرِّدَّةِ
          عاشقُكِ الحالمُ بورودٍ بيضاءَ،
          وشارةِ حبٍّ خضراءَ
          تُطرِّزُ أوجهنا بالظلِّ الطيبِ
          في ساعاتِ القيْظِ وطُرُقِ الأنواءْ
          والشاعر في هذه القصائد المطولة مثل قصيدة أبي فراس الحمداني يختلف إيقاعه عن القصائد القصيرة، التي تعتمد على السطر الشعري أو الدفقة الشعرية القصيرة، حيث نراه يقول في قصيدة «العودة إلى مكة»:
          وصَلَتْ كلُّ خيولي
          عيناي معلقتانِ على فمك الفيروزيّْ
          يمكنني الآنْ
          أن أحلمَ بالفاكهةِ الصيفيةِ في نيسانْ
          وحيث يقول في «مقطع من دفتر قديم» من قصيدة «صهيل الجواد الخشبي»:
          لو أملكُ يا ملكةَ أحلامي كلَّ كنوزِ الدنيا
          لجعلتُ النهرَ المخصِبَ ملكَ يمينكِ
          تغتسلينَ ..
          وتمتشقينَ السيفَ
          وتنتفضينَ
          وأركضُ بينَ يديْكْ
          يا أجملَ وجهٍ في عالمنا
          وهناك في شعر حسين علي محمد، ومن زاوية التواصل الحميم مع الآخر نوع من الشخصيات التي يُطلق عليها تسميات، مثل: الرجل الأجوف، وجه ميت .. تتعمّق ملامحُها بوساطة الحوار، وأسلوب الحكاية والقص المشوق، وبصيغ التساؤل:
          تنادوْا لقتلي
          وكانتْ معي زوجتي …
          فخافتْ وقالتْ:
          أما قلتَ من زمنٍ موغلٍ في العذابْ
          بأنَّ السحابْ
          سيومضُ برقاً وأنت بعيدْ
          وحين تجيءْ
          ستُغلَقُ صفحةُ هذا الكتابْ؟
          ويبقى هناك نوع يُشير إلى ذاك الآخر القابع في أعماق الشاعر، وهذا الآخر مبثوث هنا وهناك في معظم قصائده: الآخر الداخلي ما هو إلا انعكاس شخصيات خارجية؛ ففي قصيدة «ملامح وجه ميت» تشكيل لافتٌ للنظر، يتألف من مقطعات ذات عناوين: توطئة، ثرثرة مقتضبة، مما قاله، والمقطع الأخير: صفحات من مذكراته خلال عشرين سنة، تتضمن سطوراً تتسلسل تاريخيا (1956، 1961، 1967، 1970م)، وفي كل هذا كما يبدو نمط تسجيلي واقعي، ولكني لاحظتُ أن هذا التشكيل لا يتنافى من داخله، والعلاقة بين الجزئيات غير معمارية، لكنها خاضعة للحدث الداخلي. وهذا لا ينفي مدى ما يتركه هذا التشكيل من إدهاش!!
          كما أن اعتياد الشاعر على التبسط في الإفضاء والمُشافهة مع القارئ في معظم قصائده، هذا الاعتياد ـ وهو سمة بارزة ليست في هذا الديوان فحسب، وإن كانت إيجابيةً فيه ـ فتراه في القصائد القصيرة المعتمدة على الومضات واللقطات المكثفة، يؤثر تأثيراً يُخلخل من بنية اللفظة، وإلا ما معنى ما ورد في المقطع الأول:
          كنا نجلسُ في واجهةِ المقهى
          نتطلّعُ ..
          نتحدَّثُ ..
          يتفحّصُ كلٌّ منا ذاتَه
          وأخيراً
          صافحني وجهُهْ
          أخجلني
          فلقد فارقني من عشرينَ سنهْ
          أرسلَ لي أكثرَ من مرَهْ
          لكني
          كنتُ أُغلِّفُ نفسي في شرنقةٍ
          كيْ أُبعِدُها عن ثرثرةِ الخلاّنْ !
          إن الروح المسرحي مسيطر على جو الديوان؛ فالحدث، والحوار، والمباشرة، والشخصيات .. مفردات هذا المناخ الذي يصبغ شعره بنكهة ديناميكية، وتنتقل بالقصيدة المُعاصرة من الغنائية إلى الدرامية، وفي هذا كسب جديد للشعر العربي المُعاصر، وإضافة تُذكر إلى ديوان الشعر العربي القديم.
          ويبقى الشاعر حسين علي محمد يكن كل الود إلى قرائه، وما «الآخر» إلا وجه من وجوه هذا الود الحميم، تبدّى بالتعبير عنه صدقُ الفنِّ والقولِ معاً.
          مصطفى النجار

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #20
            ( 16 ) إشكالية البوح والكتمان في «حدائق الصوت»
            للشاعر حسين علي محمد

            بقلم: حسني سيد لبيب
            ......................

            يحرص الشاعر حسين علي محمد على التعبير عن إرهاصات ذاته الموزعة، والأمل الأخضر، والزهو بماض يرى فيه الطريق الذي ينطلق منه إلى غد مشرق، وأبرز ملمح لقصائد ديوانه "حدائق الصوت"(1) هو تميز صوت الشاعر الذي ينتظر خلاص الذات بالإيمان. ولتسمية الديوان (2) إشكالية من حيث كونها شعاع ضوء كاشف عن هوية الشاعر. أما كان الأجدر به أن يسميه "حدائق الصمت"؟ فلماذا آثر "الصوت" على "الصمت"؟ إنه صوت الشاعر المغنِّي، يأتي من حدائق غنّاء تُبشِّر بالأمل الأخضر، بعيداً عن صخب الأباطيل، والصوت تأكيد للهويّة، وإن كان مُقطّع الأنفاس، إلا أنه مفعم بالإيمان والرؤى الواعدة، وفي الصوت إيجابية تطرح سلبية الصمت.
            ولا مشاحة في أن هموم الوطن هي الهاجس المؤرِّق للشاعر، ومن تواريخ القصائد نجد معظمها كتب في صنعاء حيث كان يعمل (1984-1989م) لكن آفاق الوطن تمتد وتتسع، فتتكاثر الهموم تاريخاً ونضالاً، وفي قصيدة "فواصل من سورة الموت" تتفتّح أمام الشاعر صورة حزينة للوطن الذي يخرج من سكرته فيضرب في وهدة حيرته، وتتسع رقعة الوطن باتساع الهموم، فإذا به "وطن يخرجُ من تيهٍ / كيْ يضربَ في تيهْ". والشاعر تُضنيه أوجاع الوطن، لكنه لا يبين ولا يفصح، مكتفيا برسم رقعة الوطن، وفي رسمه إيماء ورمز، دون أن يُصرِّح أو يصف أو يُشخِّص.
            وهنا يُطرح سؤال عن وظيفة الشعر ورسالة الشاعر، فبعد أن كان الشاعر صريحاً في قوله، فيّاض الشعور، مسترسل الكلام عن قضيته وآلامه وآماله .. إذا بالشعر الحديث ينفض يديه عن كل كلام صريح، متدثراً بالصورة الفنية التي ترسم اللوحة التشكيلية، ويرتد الشاعر إلى إيماءات وومضات، تارة يستعيرها من التاريخ القديم، وأخرى بتقطيع القصيدة إلى مقاطع معنونة.
            وقد أُغرم الشاعر بتقطيع قصائده على هذا النحو، مستهدفاً أن يرسم بها صوره الفنية وأخيلته، من منطلق أن القصيدة في النهاية ما هي إلا لوحة جمالية لا تكتمل بمقطع واحد، وإنما بمجموع المقاطع .. وتعمل هذه المقاطع على تسليط الأشعة الضوئية الكاشفة للصورة من زوايا مختلفة، بغية تجسيدها أو تعميقها او شحذ الخيال، مثل المجسّم في الفراغ، تتحدّد أبعاده الهندسية بالطول والعرض والارتفاع، فيتكوّن المنظور الحقيقي للشكل بالأبعاد الثلاثة، لعل المقاطع تفيد في مثل هذا الاتجاه .. لكنها لا تكون مقاطع مبعثرة، تنتفي منها الغاية، وإنما هي تخدم الصورة الشعرية والموضوع، وترقى بالخيال وصولاً إلى تشكيل جمالي.
            وتتكوّن قصيدة "القمر" من ثلاثة أصوات، والتقسيم من عندنا، فالصوت الأول وصفي: قرص النبيذ ـ قبضة الدماء ـ وردة الحنّاء ـ قطة تموء ـ موجة تفيض .. وهو في وصفه للأشياء يرسم صورة بالكلمات مثلما يرسم الرسام صورته بالألوان والظلال. هذا عن الجانب الوصفي. أما الصوت الثاني فيبوح به في صيغة الخطاب / السؤال (الاستفهامي) في محاولة للكشف عن شخصية سيده في مدن النيون والظلام .. وتركه هذه المدن وغيابه. أما الصوت الثالث فرد فعل الغريب، الذي يُعطي الجواب بأنه يُحب ويعطي، وضمن ما يُعطيه موائد الأحلام، لكن الضمير المتكلم يظلُّ يُحاوره، فيرد على جوابه بأنه يُعطي القصائد الأوهام، ويمضي الغريب في سلام.
            ماذا يريد الشاعر أن يقول؟ أهي محاولة لتصوير غربته في دنيا الضجيج والزحام؟ أم أن صوت الشاعر في دنيانا ضعيف إزاء إغراء الماديات الطاغية الضاغطة؟ وماذا عن عنوان القصيدة "القمر"؟ هل يقصد به ظهور القمر مرة كل شهر، وأنه يبدأ هلالا ثم يكبر حتى يكتمل ثم يضمحل ويختفي؟ هنا نقف على مغزى العنوان، وارتباطه القويّ الدلالة بالمعنى، فالقمر هنا بُعد رابع مكمل للوحة التشكيلية المسماة "قصيدة" رغم عدم ذكر "القمر" لفظاً في سطورها، مكتفياً به عنواناً رمزيا، هنا تبرز حساسية الشاعر في تلوين القصيدة، ويبرز تميزه في تعدُّد الأصوات، وتغيير الصياغة من مقطع إلى آخر، بحيث تكون الصياغة دالة على المعنى رامزة له.
            وفي قسيدة "فواصل من سورة الموت" .. يتحدّث عن الوطن، فيقطع القصيدة بعناوين: "الخروج ـ التيه ـ فاصلة الجرح المناوب ـالموجة". فالحروج من السَّكرة يجعله يضرب في حيرته، وهو يرسم خريطة للصمت فيخرج من تيه كي يضرب في تيه، إلى أن يصل إلى نقطة اللاعودة. وهي حالة إحباط موئسة .. ويشير إلى الغزاة الذين يأكلون البقرات السمان .. لكنه لا يبين ولا يُفصح، وإنما يرتد إلى جنات عدن، محلقا في مملكة الله، وماذا بعد التيه؟ يقف الشاعر عند محطة انتظار، هي المقطع الثالث "فاصلة للجرح المناوب" طارحاً أسئلته بثلاثة أبيات من الشعر العمودي، وكان يُسطِّر في المقاطع الثلاثة الأخرى كتابته الشعرية متحلِّلاً من الشكل العمودي وإن لم يتحلل من الوزن الشعري، في إشارة واضحة إلى أهمية عودة الشاعر إلى الجذور، واكتشاف الهوية، لكنه لا يُضمِّن شعره مثل هذا المعنى، وإنما استخلصنا المضمون من حرصه على الشكل العمودي في طرح أسئلة تبينُ عن لحظة تنوير، كما أنه يتحلل من الكتابة الشعرية الرمزية، والإيماءات، ويصل إلى السؤال المباشر، أو البوح بعد طول كتمان، يقول:
            ما الذي يقطعُ الصمْـتَ غيرُ ندا ئكَ: أقبلْ إليَّ ، وكنْ لي الغناءْ ؟
            ما الذي يقْهرُ الرُّوحَ غيرُ فحيـ حِ الغـرائزِ، غيرُ جميلِ النداءْ ؟
            ما الـذي ظلَّ يقبرُ فينا صلا ةَ النبيينَ غيرُ هوى الشعـراءْ ؟
            والأسئلة الثلاثة ـ بوضوحها ونصاعة بيانها ـ تقف بنا عند لحظة تطهير وتنوير .. فالشاعر في غربته، وقد استشرف الرقعة الواسعة للوطن مترامي الأطراف، وأبان عن الإحباط والتيه، وحذّر من الغزاة، نجده يطرح الأسئلة التي في إجابتها الخلاص والطهر والصّفاء. وفي المقطع الرابع "الموجة" يتوق الشاعر إلى العودة بحراً إلى وطنه مصر .. لتوقظُ أعراسَ الحُلْمِ / مواسمَ فجْرِ القلْبِ" ويصف وطنه الذي يتدحرجُ في صبْوتِهِ، ألقأً يتوهّجُ في غُربتِهِ ..وتنتهي القصيدة رباعية المقاطع بصرخة منفلتة:
            أيتها الموجةُ
            هُبِّي برحيقِ الموْتِ
            تعاليْ بدبيبِ الوحشةِ
            ولْيُغرقني موْجُكِ
            ولْيعصِفْ بضلوعٍ هشَّهْ
            فالبرزخُ فيهِ متَّسعٌ لوميضِ الدَّهشهْ !
            ويتزيّا الشاعر بزي الجنرال، ويخطب قصيدته القصيرة المركزة المكثفة في ثلاثة مقاطع، وإن كان الشاعر/ الجنرال لا يبين عن شخصيات من يتوجّه إليهم بخطبته .. ولعله يخاطب الإنسان أيا كان منبته ومشربه، وهذا أرجح وأوقع، لاسيّما أنه ضمْن دعوته رغبة في الرقص والعزف والغناء، وإن تكتَّم تباريح الفؤاد، وما يُغنِّيه أغنيات يُقلق بها الثوابت، ويفاجئنا في ختام القصيدة أن نصره تقاسمه الصمت والأدعياء‍ هنا تتكشّف مأساة الشاعر الذي تزيا بزي الجنرال، أو الجنرال الذي تزيا بزي الشاعر. وتعد القصيدة وعنوانها "خطبة قصيرة للجنرال" ـ بصياغتها وإيقاعها السريع ـ نفثة شاعر مصدوم، يُعاني من الأدعياء وسارقي نصر الآخرين!
            وثمة قصيدة طويلة بعنوان طويل أيضاً: "من إشراقات عمرو بن العاص أو التحديق في وجه الشمس" وتنقسم إلى عشرة مقاطع، وقد أفسح التقسيم المقطعي المجال إلى للانتقال من حالة شعورية إلى أخرى، لكننا نبحث عن الترابط العضوي بين المقاطع العشرة. وقد أتاح طول القصيدة المجال للركض عبر صفحات التاريخ الإسلامي العربي، فيلتقط رموزاً تُثري المعنى، وتُضفي عليه نوعاً من التاريخ غير مقروء، او أن دائرة الضوء لا تقترب منه كثيراً.
            وأذكر كتاباً أصدره الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي بعنوان "من تراث مصر الإسلامية"(3) .. كان تأريخاً لفتح مصر، وبناء مدينة الفسطاط، وجامعة الفسطاط الإسلامية، وكانت فترة ازدهار للعلم والآداب والفنون، ويكتب الشاعر حسين علي محمد قصيدته هذه من وحي إرهاصات تلك الفترة .. جوّالاً في أماكن تاريخية، ذاكراً أعلاماً يستضيء بسيرهم التاريخ، ووقائع مجيدة. لكن الشاعر لا يسترسل في بيان الرمز أو التدليل على مغزاه، وإنما يُسلِّط أشعته الملونة، يستبطن بها الحالة النفسية المراد التعبير عنها.
            فلنحاول قراءة مقاطع القصيدة العشرة، ليس الهدف منها تفسيرها أو شرحها، وإنما لبيان الانطباع الأوّلي / التلقائي الذي يستشفه المتلقِّي الذواقة للشعر، بغير خوض في تنظيرات نرى أنها قد تؤدّي إلى تلغيز النص.
            المقطع الأول:"منازلة الغيث":
            والمنازلة مفتتح لصراع واقتتال وتحد، والغيث وجه الحياة الخصيب. الصراع أحد أوجه الحياة .. والراوي الشاعر يعمد إلى تكثيف صور الإحباط، منذ امتطاء صهوة جواد مخاتل، وركضه في صحراء العيون بحثاً عن إخوة الصَّيْد. ونقف عند تساؤله الذي يشي بالمرارة: "فكيف نصيدُ الصقورَ ونحنُ نُصادْ؟". والراوي يعتريه خوفٌ، ويُطرح أرضاً. فالإحباط والخوف يؤديان إلى الهزيمة أمام خيول الشراسة، وثمة صورة أخرى للانكسار والهزيمة في قوله:
            على أضلُعي جبلٌ
            والعنادلُ ترثي فتاها
            خرجتُ وحيداً إلى الغيْثِ
            نازلْتُهُ
            فسقطْتُ
            وكالشَّبحِ الشَّفقيِّ نهضْتُ
            تحرَّكْتُ
            أبصرْتُ سرْبَ عنادلَ في الظُّلُماتِ
            يقولُ: تقدَّمْ
            رأيْتُ الجبالَ تكرُّ ،
            شهِدتُ الرجالَ تفِرُّ،
            النقاطَ تُغادرُ أحرُفَها ..
            تتسرّبُ كالماءِ منْ راحةِ اليَدِ
            كانَ جوادُ "سُراقةَ" في الرَملِ يهوي
            ويغرقُ
            واللوحُ فيهِ أساورُ كسْرى
            وخلْفي جيوشُ أبابيلَ
            تُمطرُني بالصَواعقِ
            ترصُدُ خطْوي
            ورغم الصورة المأزومة للبطل / الراوي .. إلا أنه مازال يبوح بأنات قلبه المعذب، ومازال يحمل سيفاً، ولا يستسلم. وينطلق صوت الإصرار والتحدِّي قائلاً: حملتك مكةَ في أضلعي" و"إني رأيتُكِ ـ مكة ـ في الليلِ تمتشقينَ الحسام".
            المقطع الثاني: "تهليلة إلى رايات مكة":
            والإرهاصة التي أنهى بها المقطع الأول، تفتح الطريق إلى المقطع الثاني، حيث يتجه إلى مكة بالتهليل والدعاء والمل والرجاء.
            المقطع الثالث: "بيت في الريح":
            والبيت الذي في مهب الريح مهدّد بالانهيار، فيعود للشاعر أنينه المكتوم، تهفو نفسه إلى يثرب وإلى الرسول الكريم  ، ورعشة حلم تتألّق في العيون، وقلب متفائل يُسافر في غيمة!
            المقطع الرابع: "أشعل النار":
            والعنوان ينتقل بالمتلقي من دائرة الحلم إلى دائرة الفعل. وفي سطور المقطع مزج بين الحلم والفعل (أو الواقع) كقوله "أعزفُ لحناً" يعقبه قوله: "أحلمُ بالظلِّ" .. و:
            أفتحُ شُبَّاكَ قلبي ،
            أُفتِّشُ فيهِ عن الحُبِّ
            أُبصِرُ فيه بقايا من الأمسِ
            ويرى مكة شاهقة كالسماء، ناحلة كالنخيل، ويبشر بمشرق الشمس منها.
            المقطع الخامس: "أهازيج مكة":
            حيث يتوجه بالخطاب إلى مكة:
            ووجْهي الكسيرُ يُناجيكِ:
            مكةُ ..
            هذي أغانيكِ
            تهزِجُ
            هذا زمانُ الولادهْ!
            المقطع السادس: "اللآلئ تضيء بكفَّيك":
            وفيه لحظة توهُّج وصدق رؤية .. ذلك أنه مزج بين التسلسل النامي للمقاطع وذاته المغتربة. ونجد النفس الشعري يُطاوعه بطلاقة، إلا أننا نقف عند السطر الشعري:
            فأعينُك العشرةُ الآنَ تسرُدُ حلماً شهيًّا
            محاولين تفسير ما يرمي إليه بقوله "الأعين العشرة" .. يقودنا ظن بأنه يعني بها المقاطع العشرة للقصيدة. وإذا صدق ما ذهبنا إليه، فإنه يوجز في هذه المقولة المراد بقصيدته على أنها "تسرد حلماً شهيا"، رؤياه مكة التي يتطلّع إليها، فهو يُناجيها ويُخاطبها، فهي القبلة والكعبة ، وهي الرمز المواتي لصنع غد مشرق بالإيمان، فالأعين العشرة هي التي تسرد حلماً شهيا، وهي التي:
            تصوغُ الأمانيَّ
            ترسمُ في الأُفْقِ قوْساً من الماءِ
            تطلبُ منِّي الرحيلَ لأصعدَ هذا النخيلَ المُشاكسَ
            المقطع السابع: "رياحين للذكرى":
            وفيه يرسم صورة متناقضة بين اندفاع الرجال نحو غرائزهم، فكيف تضحك مكة؟ ومكة رمز جاهز حاضر في مخيِّلة الشاعر، يضعه للإيمان المنشود إزاء تفكّك أواصر الصلة التي تربطنا بتاريخنا ورجاله، ويجرف الشاعر حنين إلى الليل والماء والنيل، وإلى "ليلى"، وإن كانتْ "ليلاه" ظهرت بصورة مفاجئة، ولا نعلم هل يقصد بها حبيبة تركها بأرض الوطن، أم هي إيماءة لأي "ليلى" حبيبة؟!
            المقطع الثامن: "محاورة صوت مشاكس":
            وتتحدّد ملامح الصوت المشاكس بصوت طفولي يقبر بوحه، ذي قناع يحاور سفراً تحنَّط، وفي محاولة لرسم وجهه الآسر، وقد أعياه القول والكر والفر، يقول:
            هلْ نتكاشفُ
            ندخلُ أرضَ البراءةِ
            يأتي علينا زمانُ اقتحامِ الورودِ؟
            والصوت المشاكس ماهو إلا ذات الشاعر المتقلبة الحائرة، ويدخل في محاورة داخلية عن بيت النبوة، وسيوف أمية والخوف منها، وسبع بقرات عجاف تُحاصر الشاعر في كل آن.
            المقطع التاسع: "محاورة ثانية":
            وهي محاورة مع وردة النهر، وينتقل في البلاد منقباً عن وجهها، يدفعه حنين وتوق للبوح، لكن الأحزان تطغى.
            المقطع العاشر / الأخير "العصافير والسنابل":
            حيث يرسم نهاية لإشراقات عمرو بن العاص، وينادي مصر بعاصمتها الإسلامية القديمة "وفسطاطنا"، وبداخله غضب شديد، يراقب النهر والشمس والسنبلة، ويرى مصر تخرج "فجرا من البرد المتوهج / سبع سنابلَ / تضحك". ويتساءل في النهاية:
            هلْ تمتطي صهوةَ الريحِ ثانيةً
            هلْ سنحْلُمُ
            نخرجُ منْ أسْرِ أحلامِنا المُثْقَلهْ ؟
            والقصيدة في مضمونها إرهاصات مغترب عن وطنه، يتطلّع إلى وجه الوطن وإلى مكة ويثرب وكل المدائن الإسلامية، ويتحسّر على مواجع عصره، بما فيها من كبت وكتمان، ووجه مغترب، سواء أكان الاغتراب لشخص أو مدينة. ويسترجع التاريخ، فيجد في الماضي بطش فرعون، وسيوف أمية. ويتوق إلى زمن البراءة والطهارة، يتوق إلى إشراقة الوجه الذي تتفتّح فيه الزهور، ويعود المغترب إلى بلده وإلى ذاته.
            ويستظهر صورة يثرب، رياض المدائن كما يسميها، وتاريخها المجيد الناصع(4)، وذاك سعد بن معاذ ـ  ـ يقول للرسول الكريم  : "لو خضت البحر خضناه معك"، وفي قصيدته "من أوراق سعد بن معاذ" مزج بين سيرة سعد وفروسيته وحسن بلائه، وتاريخ يثرب .. وحققت المزاوجة بين سعد بن معاذ ويثرب جمالا فنيا يُغري بالتذوُّق ومعايشة تجربة الشاعر معايشة حميمة.
            (يتبع)
            .............................................
            (1) د. حسين علي محمد: حدائق الصوت، ط1، مايو 1993، دار الأرقم للطباعة والنشر بالزقازيق،384 صفحة، ويضم الديوان أربع مجموعات شعرية، هي: «حدائق الصوت»، «زهور بلاستيكية»، و «من دفاتر العشق»، و«تجليات الواقف في العراء».
            (2) تقتصر الدراسة على المجموعة الأولى: «حدائق الصوت».
            (3) د. محمد عبد المنعم خفاجي: من تراث مصر الإسلامية، رابطة الأدب الحديث، عام 1996م.
            (4) قصيدة «من أوراق سعد بن معاذ» رضي الله عنه.

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #21
              (تابع / دراسة حسني سيد لبيب)
              ويهتدي الإنسان بهدى الإيمان الذي يقوده إلى بر الأمان، فتسمو الروح بقراءة القرآن، وتصفو النفس وتشف، ويتحلّى الإنسان بالشجاعة والجسارة، إلا انه ينهي القصيدة بتساؤل مرير:
              .. قدْ أَشرقتِ الشمسُ
              صباحاً
              منْ مكَّهْ
              فلماذا يرْحلُ هذا العُصفورُ
              إلى شُرفةَ قيْصَرْ
              ومنازلِ كسْرى
              يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
              في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
              ومن تتشبّع روحه بنور الإيمان، ومن تشرق شمس الحق من دياره، عار عليه أن يلجأ إلى ديار الغريب، ويقع في شبكة الصياد، والرمز قويُ الدلالة شديد الإبانة .. الرمز هنا عصفور يرتحل إلى شرفة قيصر ومنازل كسرى .. لاحظ رحلة العصفور إلى ديار قيصر وكسرى، والدلالة التاريخية لغربة "العصفور" والمغترب هنا، أو المعادل الموضوعي للعصفور / الرمز، هو الإنسان العربي الذي أشرقت الديانات من أرضه، فلماذا يغترب في أرض غير أرضه؟ والنتيجة المتوقّعة لهذا الاغتراب:
              يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
              في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
              .. وهي مأساة تجسّدت كابوساً جاثماص على الصدر، يدفع إلى التوتر والضيق وقد يؤدِّي إلى الانتحار!
              وفي قصيدة "الأضلاع الناقصة دائماً" محاورة قصيرة بين الشاعر وصاحبه ذي الجبهة (النورية) .. يقول عنه صاحبه إنه عاش كالأنبياء .. وإن أخلّ تكرار الوصف بالسياق .. كما انضغط الحوار فقصر قِصَراً أخلّ بالقصيدة. فهناك قصائد تتطلّب أقلّ عدد من الكلمات، وأخرى تتطلّب عكس ذلك.
              وفي قصيدة "أبي" يخوض تجربة موت أبيه، فيوجز التعبير إيجازاً شديداً، سائراً على نهج السياب(5) ومحمد أحمد العزب(6)، ولكن من غير أسباب أو إيغال في شعاب النفس:
              هُوَ الآنَ يطرُقُ باباُ من النَّقْعِ
              يصْرُخُ كيْفَ يشاءْ
              يصُفُّ الأرائكَ للرِّيحِ
              يُشعِلُ حجرتَهُ
              ويُحاوِرُ نجْمَ الدِّماءْ
              وفي الليْلِ يومضُ برْقٌ
              فيجفُلُ
              هلْ يُبصِرُ الآنَ وعْدَ السماءْ ؟
              وهلْ يسمعُ الشيخُ صوْتَ الرياحِ
              بوادي الفناءْ
              أيا فرسَ الموتِ ،
              أقبِلْ ، وطِرْ بي
              ودعْهُ هنا نائماً
              مُستريحاً
              وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ
              والملاحظ أن لهذه القصيدة صوتين: الأول للحدث والوصف لحالة الموت، مستغلا اللحظة الآنية. لاحظ قوله: هو الآن ..هل يُبصر الآن ..؟ أما الصوت الثاني: فيتمثل في كونه صدًى للصوت الأول، أو هو النتيجة وخلاصة التجربة، ونجد هنا تبدل صيغة الخطاب إلى نداء "فرس الموت":
              أيا فرسَ الموتِ ،
              أقبِلْ ، وطِرْ بي
              ودعْهُ هنا نائماً
              مُستريحاً
              وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ
              وللقصيدة صوتان آخران، او هما الصوت وصداه، يُعبِّر الصوت عن النزعة الإيمانية وروحانية الشرق، والصدى هو الأسلوب الاستفهامي عن رحيل عصفور الشرق إلى أرض غير أرضه، أي أن القصيدة مؤطّرة محدّدة المعالم قبل أن يكتب الشاعر حرفاً واحداً.
              وفي قصيدة "القيامة" يوجز رحلة الإنسان في سيره إلى أفقه المنشود، متجهاً إلى النهاية المحتومة "الموت"، مآل كل شيء حي، ويلجأ إلى تكرار بعض السطور لتأكيد المعنى، لكنه يفتقد هنا المغامرة الأسلوبية، ويعوزه عمق التجربة، أو قل حرارة التجربة التي تُعطي قوة الدلالة. لكن القصيدة في ضوء أي مقياس قد أدّت الغرض منها كفكرة حرص الشاعر على تضمينها من أول القصيدة إلى آخرها.
              ومما سبق يتضح أن مفردات اللغة الشعرية عند الدكتور حسين علي محمد مفردات يُغذِّيها الحلم، أو قل إن انطلاقته تبدأ من دائرة الحلم، وفي الحلم استرجاع للتاريخ الإسلامي وأمجاده بصياغة شعرية تبعد عن الشكل التقليدي في كتابة الشعر، مستعيناً بالتقطيع والتفعيل، والموتيفات الفنية للشعر الحديث، مسترجعاً أسماء شخصيات وأمكنة وأحداثاً تنسج في إطارها معالم التاريخ الإسلامي، وتشكل في حد ذاتها رموزاً ودلالات لهذا التاريخ العظيم.
              وصورة الحلم قد تتبعثر جزئياتها في واقع يتباعد كثيراً عن الصورة / الحلم التي تزدهي في مخيلة الشاعر، لكنه لا يحفل بجزئيات الواقع أو تفاصيله، ولا يستدني صورته. ونستشف في قصيده بما يشبه صرخة روح جريحة ذبيحة، وما إرهاصاته عن "زينب" المستوحاة من رواية الدكتور محمد حسين هيكل إلا تعبير عن انكسارات الروح، وهذه مواجيد المتنبي يُدبِّج منها قصيدةً أكثر وضوحاً وتأطيراً، إذ امتثل لنداء قوي يصخب في جنبات نفسه بأن الشعر ليس ارتزاقاً، وإنما هو رسالة سامية تُعلي من قيمة الإنسان.
              إلا أن مفردات الشاعر لا تنطلق في آفاقها الرحبة، وأشعر أن شيئاً ما يحدُّ من انطلاقها، أو أن الشاعر آثر إيجاز ما يريد أن يقول في أقل عدد من الكلمات بغية التركيز، وإن كان هذا المنحى يجني على التأثير في النفس. ولعله يستشعر ذلك بينه وبين نفسه، فيعبِّر عن ذاته المأزومة، ويتضرّر من "عدم البوح"!
              ولو فجّر الشاعر ينابيع إبداعه دون نظر أو التفات إلى محاذير، وأطلق عروس الشعر من عقالها، لكان أفضل. لكنها النفس المأزومة. وقد يكون تكرار الشكوى من عدم البوح وكتمان المشاعر بمثابة شهادة إدانة لعصر ولّى أوعصر نعيشه، أو إدانة لحياة في مكان كالصقيع لبعده عن الوطن، إلا أن الحنين إلى الوطن غير ظاهر فيما يقول، ولعلها موتيفة "عدم البوح" وسحرها في نفسه، فلا يبين شكايته ولا يبث مواجعه. وهو يؤكّد صوته وذاتيته في قوله: "أنا الذي سهرْتُ في حدائقِ الكلامْ". وعندما يجتذبه الصوت الناعم يكتفي بالقول:
              قلبي مأخوذٌ
              والصوتُ المحْتبسُ بحلقي جمْرٌ
              ويقول:
              أُكابِدُ حقلَ الشَّوْكِ
              وصدري مملوءٌ بالأسرارِ الحارقةِ
              أبوحُ ،
              وما بين الصوت المحتبس والبوح مسافة طويلة يقضيها صاحبنا في معاناة الكتمان، مسترسلاً في التعبير عن تجربته مع المرأة التي أخرجته من دائرة الصمت .. وعن الاخرين وردود أفعالهم:
              قالوا ـ في الليلِ الفائتِ ـ :
              جُنَّ ، فباحَ
              فمقتولٌ في الصبحِ الآتي
              بسكاكينِ النسوةِ ..
              أوْ يُلقى في الويْلْ !
              فهل البوح مرادف للجنون؟ ألهذا يؤثر الكتمان عن الإفاضة؟
              وأكتُمُ بيْنَ الحنايا
              .. تباريحَ قلبٍ
              تولَّهَ في حُبِّهِ .. كيفَ شاءْ !
              نحس في نبراته مرارة من مؤامرة الصمت ومن الجاحدين .. ويؤكد على مثالب الصمت، ويرى في البوح تعبيراً عن ذاتية الإنسان وأحاسيسه، وكلما واصلنا قراءة أشعاره انكشف لنا عُمقَ معاناته من الكتمان، وعجزه عن البوح!
              لكنه حين يُخاطب مكة يستمد بوحه وشجاعة القول من ذلك الصوت الآتي من رُباها وجبالها، فمكة هي كعبة الإيمان، حيث يرافقه صوت الرسول الكريم  ، حتى في البلاد القصية. لكننا نقف حيارى أمام قوله يُخاطب ليلاه: "وأرسم في البوْح نهرك"، فالبوح قاصر على رسم صورة الحبيبة في مُخيِّلته. فهذا الرسم هو منتهى الأرب وأبلغ من كل كلمات تُقال. ويُحاور نفسه واصفاً الصوت المشاكس الغارق في الجب: "النار في جبهتي تتصاعدُ / تقبرُ بوحَكَ"، والنار هنا سببها الخشية من سيوف الاستبداد في كل زمان ومكان، يُخاطب الصوت المشاكس في محاولة لتشخيص المأساة: "أجهدَكَ القولُ / والكرُّ والفعلُ / والقولُ" .. دالا على كثرة الكلام التي تُميتُ القلب، وفي ظل هذه المأساة:
              ضاعَ تحتَ الرّمادِ
              حنينُ الشراعِ
              وبوْحُ الغَرِدْ !
              وتأمل قوله: "تسكنُ الأصواتُ حنجرةَ الفراغِ" .. يعقبه قوله: "تخثَّرتْ لغةُ النشيجِ" ، .. إننا ننقِّب ونُفتِّش عن إشكالية البوح والكتمان، لأنها تشكِّل ظاهرة لافتة للنظر في أشعار حسين علي محمد، ونضع يدنا على شغله الشاغل وقضيته الأكثر إلحاجاً، فقد يكون الصمت أقوى دلالة وأبلغ من الكلام، وقد يكون القول لغواً وهراءً، والصمت حكمة وبلاغة. ورب صورة للحبيب ترسم وشماً في القلب. يقول الشاعر: "دنوْتُ .. فأوقفَني / وصمدْتُ .. فأنطَقَني" .. أليس من الأفضل أن يقول: "وصمتُّ فأنطقني" ولنتجاوز هذه لنواصل اقتفاء أثر إشكالية البوح والكتمان، ومازلنا نقف عند الكثير من الدلالات يضمنها بعض مقاطعه الشعرية، يقول في مقطع منها:
              كان العسكرُ يرتقبونَ الصَّيْحهْ
              لكنَّ جحيمَكَ لمْ تُخرجْهُ الشفتانْ
              امتدّتْ أسوارٌ منْ صخْرِ الأُلْفهْ
              والخوفِ من الإفصاحِ
              فجحيم المستبد يُفضي إلى الخوف من الإفصاح، بدلا من أن يُشعل ثورة، وهي مأساة يركّز عليها في قصائد كثيرة، وهي قضيته الملحة وشغله الشاغل، وهو القائل: "رجفة في اللقاءِ البعيدِ تُحاصرُ صوتَكَ" و"استضاءاتُ وجهِكَ في الماءِ / بوْحُ العصافيرِ" .. فالبوح لغة لكل معنى نبيل وشكل جميل، والقول لغة اللغو والثرثرة، وبين البوح والقول مسافة يفطن إليها الشاعر ويُجيد التعبير عنها، وهي من جماليات نصه الشعري، فالبوح مرادف لكل إحساس جميل ونبيل، والقول مرادف للسيطرة والهيمنة.
              يُخاطب يثرب فيقول: "نبضك في القلب يُشعلُ بوحَ القناديلِ" .. ويخاطب زينب في قصيدة "حدائق الصوت": "في صوتك أتنشقُ عطْرَ الفجرِ" .. ويقول: "إني لاأعرفُ أنغامَ الملقِ، وإني أركضُ في دربٍ يتمدّدُ في آخرهِ سيفُ الصَّمْت" .. وحين تموت زينب، يتساءل في حسرة وأمل ممض:
              “فكيفَ تجمَّدَ هذا المشهدُ في العيْنِ الفسفوريَّةِ
              كيفَ يجفُّ على الشفتيْنِ الحرْفْ ؟"
              .. ويخاطب الرسول الكريم  قائلاً:
              أتيْتَ إلى الأرضِ ..
              فانْتشتِ الأرضُ بالصادقينْ
              رأتْكَ تُفَجِّرُ بركانَ بوحِكْ
              وأنهارَ عِشْقِكْ
              فغنَّتْ بصوتِكْ
              معَ الثائرينْ !
              وإن كان تكرار كلمة (الأرض) مخلا، حيث لا يُضفي على الصورة البلاغية بُعداً جديداً. لنتجاوز هذه ، ونقرأ قوله:
              وفي عينكِ البوحُ
              في لفظكِ الجرحُ
              .. فالعين تبوح بسرها، بينما اللفظ / الكلمة ينطقها اللسانُ فتحدث جرحاً، أو قل إن اللسان قد يعجز عن ترجمة بوح العيون.
              نكتفي في هذا المقال بما عرضناه من مقومات ومفردات اللغة الشعرية، وبيان إشكالية البوح والكتمان عند حسين علي محمد، من خلال ديوانه "حدائق الصوت"، وقد وقفنا عند تأزم الذات مرهفة الحس، مشتعلة الوجدان أمام الكلام المبتذل وسيله الجارف، وأمام استهلاك مفردات اللغة في التزييف ورفع الشعارات الجوفاء … ويتحسس الشاعر طريقه إلى مكة ويثرب، يستضيء بنورهما، وإن كان الصوت مخنوق العبرات، فالذات المأزومة تجاهد كي تكون صوتاً يرسم دائرة الوجد في حدائق الصوت الغنّاء.
              فهل رسمنا مع الشاعر شيئاً، أم حاولنا أن نرسم؟
              حسني سيد لبيب
              ..................................
              (5) حسني سيد لبيب: مقال «أضواء على قصيدة "نداء الموت" لبدر شاكر السياب»، مجلة «الخفجي» السعودية، فبراير 1989م، ص32 ، 33.
              (6) حسني سيد لبيب: مقال «قراءة في أبجدية الموت»، مجلة «الفيصل» (السعودية)، أغسطس ـ سبتمبر 1996م، ص60،61.

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #22
                ( 17 ) وجوه الحرية الخضراء
                قراءة في ملحمة عنترة بن شداد المصري

                بقلم: د. إبراهيم بن محمد الشتوي
                ................................

                (الحلم والأسوار) مجموعة شعرية للشاعر الدكتور حسين علي محمد، تأتي هذه المجموعة بعد عدد من المجموعات، وهو ما يعني أن الشاعر قد استفاد في هذه التجربة من تجارب سابقة، وأن آلامه، وآماله التي كانت توقد مرجل الشعر لديه بعيدة الغور في نفسه شديدة الأثر فيه، ومن هنا فالداء قد استحكم ولا أمل في الشفاء منه وإنما التوصيف والمداواة بالشعر، فهو له وجاء.
                استعار الشاعر عنوان المجموعة من قصيدة أخرى ليست موضوع القراءة، والشاعر حين انتخب هذا العنوان كان يدرك أنه يمثل نبضاً يشيع في أوردة المجموعة كلها، فيبعث الحياة في الجسد، ويحرك الدم في العروق، ولذا فهو يتصل بالقصيدة اتصالا كبيراً.
                القصيدة موضوع القراءة (تضاريس الفقد) وبالرغم من أن هذا العنوان دقيق ودال فإن الشاعر قد اتخذ عنواناً بديلا، أو مصاحباً (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة)، وهو هنا يحيل مباشرة إلى الملحمة المشهورة التي امتزج فيها الحب بالفروسية، مع السعي للحرية. إنها قضية واحدة متشابكة: الحب قرار، وإرادة واختيار ولا يكون إلا للحر، وهو أيضاً من صفات الفارس النبيل، ومن هنا فإن هذه القصيدة هي مقاطع من الملحمة التي تتشابك بها هذه المكونات الثلاثة، وتتداخل بشكل جدلي، لا ندري أين نقطة البداية فيها وأين النهاية، فهي تصلح لأن تكون البداية وتصلح أن تكون النهاية. وقد ظلت هذه الملحمة تشتمل على الألم اللانهائي المنبعث من السؤال المفتوح كجرح ينز بالصديد لا يكاد يندمل حتى يعي مرة أخرى: هل نال عنترة حريته وأدرك مراده، أم ظل الحلم يغيب كلما حاول أن يقترب منه، ويبتعد كلما أراد أن يدنو منه. المقولة: (كر يا عنتر وأنت حر) مشهورة، لكن المؤرخين لا يتفقون على مسألة زواج عنترة من حبيبته عبلة، وهو ما يعني في الوقت نفسه أن الحرية لم تنفعه، ولم تحقق ما كان يريدها من أجله (فهي حرية مع وقف التنفيذ)، ومن هنا فمأساة العبد لم تنته، والحرية لم تكتمل، فما هو إلا مدافع عن القبيلة، وحرماتها في وقت الشدة، وعبد يرعى البهم. هو في العبيد وعليه ما على الأحرار، وهنا ظلت صرخة عنترة تدوي في عقبه من الشعراء.
                في هذا النص لا تختلف القضية ولا المأساة عن تلك المأساة، ومن هنا جاء التخفي وراء دال له فضاءاته التي يحيل إليها، الأمر الذي يكشف مقدار الأسى والحزن الذي تحمله القصيدة، وتسعى للإفصاح عنه في مقاطعها الخمسة. هذه المقاطع تأخذ في ترتيبها نوعاً من الترتيب الزمني المماثل لعمر الإنسان: الطفولة، الشباب، الكهولة، مما ألقى بظلاله على المعاني المطروحة والمتناولة في القصيدة، وعلى موقف الشاعر / عنترة.
                هنا تواشج كبير بين مكونات النص، وثراء كبير فيما يريد أن يقوله، تواشج بين المقاطع بعضها ببعض، وتواشج بين هذه الملحمة، والملحمة الأصل، وتواشج بين اللغة الموظفة، والصور المستخدمة والهم الذي يطبخ في كبد الناص، وأخيراً تواشج بين القصيدة وما آلت إليه وعنوان المجموعة.
                المقطع الأول عنترة مع محبوبته / عبلة يشغلهم ما يشغل الأطفال: اللعب ليس غير، والمفردات التي تعبر في النص عن هذا اللعب لا تكشف أية نظرة حب أو إعجاب أو بدايتهما لدى عبلة تجاه هذا العبد الأفطس، وكل ما نجده قضاء وقت جميل في العبث، واكتشاف هذا المخلوق الغريب الذي يختلف عن شباب القبيلة (تحلم أن تغلبني...تقرص أطرافي) الذي لا يلبث أن ينتهي بانتهاء وقته، وهذا بخلاف ما يجده عنترة حيث يمتد هذا الوقت إلى ما بعد الفراق ليتحول أفكاراً تصيبه بالسهد تبعثها ذكريات أحاديثها الجميلة، وصورة أصابعها الرخصة التي لا تشبه أصابعه التي قرحها شد الحبل وجر الدلاء.
                يبدأ المقطع الثاني وقد استحكم الحب من قلب العبد الأفطس أو الذباب الأزرق كما سماه سيده، وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ الوطن / القبيلة والعلاقة بينهما، طبول الحرب تدق من حولهما، هي في نومتها الرعناء لا تبالي به، وهو يطارح السوداء ذات العينين الخضراوين الحب، السوداء هي المقدور عليها، وعينا حبيبته المشتهاة ويقتات الحلم بدحر العدو ونيل الجائزة الكبرى.
                أصبح العبد الأفطس فارس القبيلة في المقطع الثالث، دحر العدو، ونافح عن شرف القبيلة، وهللت أمه بابنها الفحل، وبدأت رحلة البحث عن المرأة التي تليق به، لم تصبح المحبوبة بعيدة المنال، لكن القضية لم تنته، فأمه تحول بينه وبين ما يشتهي، فهي لا تليق بالفارس، هي غانية تعبث..تبحث عن الشهرة، والمال، تريد أن تحصد كفاح الآخرين، لا تستحقه، ولا تستحق حبه، وكفاحه لتحقيق مراده ، فهي التي لم تأبه به زمن الطفولة، ولا زمن الحرب والطعان حين كانت في نومتها الرعناء تكشف عن ساقيها غير مبالية في أن يتعورها عبد الحلاب والصر.
                في المقطع الرابع يصبح العبد الأفطس حلم الفتيات، يطمحن في الاقتران به، وما كان يحلم به تحقق، ولن يعود ليراوده آناء الليل وأطراف النهار، فعبلة تتشبث بفارسها، تلح عليه للزواج بها، وتسوق الحجج، ولكنه لم يعد الحالم الأول، ولا الفقير الكسير الذي يحلم بمعاشرة بنات الأشراف الساكنات في العمق, أصبح عنترة الفوارس المنافح عن القبيلة. والعزة والكرامة هي قضيته، والوطن ليس وطن العسكر، فما عاد حلم الحرية يراوده لأجل أن يحصل على عبلة، أصبحت الحرية هدفا مستقلا، معنى قائما بذاته تبذل لأجلها الروح ويُهجَر الحبيب، فما بقي من الأول شيء كبير، ولا عادت عبلة تلهب أشواقه، ولا رماحها في صدره أشد من رماح الأعداء.
                لكنه برغم ذلك كله لم ينسها، وصورتها تراوده في المقطع الخامس قصيدة حب بيضاء، أو تفاحة تقطر عطراً، فرغم بعده، وصده لا يزال يتذكر صورتها الجميلة الأولى، يتذكر موقفها في زمن الذل، فلم تكن تسقيه الملح, أو تستأسد عليه، ولا يزال يحسها في الأشياء من حوله، يشعر بألمها ويأسى لها، ومن هنا فهو لم يتحرر منها، ومن الحلم بها، ما زال في أسرها، والمعاني التي انحفرت في داخله التي كانت تدل عليها فلم يقض عليها في داخله، ويتغلب عليها حتى ولو قتل الفرسان ومثل بالأجساد، فهو مقيد أسير فيها وفي المعاني التي تحيل إليها: السيادة، وزمن العبودية الأولى، فهاهو يقع في العبودية من جديد ومن هنا فحريته مؤجلة، وتحرره ناقص خديج.
                ومن هنا فإن الشاعر / العبد / عنترة يبحث عن طرق أخرى يحصل فيها على حريته، أو يتحرر عن طريقها، ويخلص من ألمه، وذلك أن يمارس الحرية، في حياته، وأن يرفع صوته بمأساته، ويعلنها أمام الناس، ويقدمها، ويعبر عنها كما يحس بها، وكما ينبغي أن يحس بها الآخرون، وهنا يكون خرج من ألمه، ومارس الحرية بفعله حين عبر عن رأيه بحرية وصدق.
                وهو ما حققه هذا النص حين حطم القيد / السور المحيط بالناص، وتجاوزه، ليبلغ الحلم، بالتعبير عنه، وفي التعبير عنه بحيوية كبيرة تحقيق له، لأن التعبير عن النفس والقضية وإيصالها للآخرين جزء من الحلم. وفي هذه النقطة بالذات تتم التشاكل بين عنترة العبسي، وعنترة المصري فكلاهما يشعران بالألم من قيد العبودية والتسلط، وهما معاً يحلمان بتحقيق حريتهما على أكثر من مستوى. هذه الحرية لا تتحقق إلا عن طريق الشعر / اللغة، حيث يتخذانها طريقاً للتعبير عن آرائهما وما يحسان به، ومن هنا فهما يمارسان حريتهما بالتعبير، وهنا ـ بالتحديد ـ يحسان بحريتهما المفقودة.

                الرياض 5/3/1426هـ.
                ...................................
                *الجزيرة الثقافية: ملحق «الجزيرة»، العدد (105)، غرة ربيع الآخر 1426هـ- 9 مايو 2005م.

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  عضو أساسي
                  • 14-10-2007
                  • 867

                  #23
                  ( 18 ) يقين الرؤية في «حدائق الصوت»
                  للشاعر حسين علي محمد(1)

                  بقلم: د. محمد زيدان
                  ....................

                  اليقين في أبسط صوره هو تجريد كلي للموقف، دون إيثار يحمل هذا الثبات الروحي النافذ إلى جدل الروح وصولاً إلى جدل اللغة ومراميها وتجلياتها، والموضوعية التي هي من أنسجة اليقين تعمل على سدّ الفراغ بينه وبين من ينتج من الانحياز من ترهل في الرؤية وخضوع موطوء لغياب الموقف. ولعل هذا اليقين ينفتح أمام الشاعر إذا كان لا يحس الرد الوثاب بين الكلمة كيقين والموقف كسلوك عملي يرتبط بعملية الإبداع وخصوصيتها ومجالاتها المتفردة.
                  والشاعر حسين علي محمد أحد أقطاب اليقين الرؤيوي القائم على نزع الجدل وأنصاف الحلول للوصل إلى فضاء مُباغت من خلال القصيدة، وذلك ناتج عن وعيه بما يُكتب وما يكتُب، ولمن يكتب ـ هو ونفر قليل معه ـ.
                  وديوان "حدائق الصوت" الصادر في الزقازيق ـ مصر 1993م هو جماع الموقف الشعري ليقين الشاعر، ومرحلة متوهجة لعطائه المستمر منذ عشرين عاماً، ولذلك فهو يُمسك جيداً بأطراف العملية الإبداعية القائمة على إيجاد اللغة الشعرية المنفلتة من إطار التقليدية التي تزهق روح القصيدة بالإضافة إلى تمل حقيقي لموقفه المتحدد برؤية كلية لقضايا الإنسان المعاصر، متحدة مع هذه الرؤية، ومنسجمة مع قضايا الذات الشاعرة وتجلياتها وأحلامها وتطلعاتها.
                  ولتحديد هذه الافتراضات غير الجدلية نجد أنفسنا أمام إطارين هامين من الأطر الكثيرة التي يمكن أن نتناولها داخل المجموعة الشعرية.
                  الإطار الأول هو إطار الموقف، وفيه قد مزج الشاعر بين المشهد الكلي لموقف الإنسان العربي المعاصر وتساؤلاته وبين المشهد الخاص القائم على تملي الذات من خلال حلم كبير تنصهر فيه الجلود والعظام، وتنبجس منه عين ماء، تتضافر فيها الأيدي، وتتوضأ منها القلوب والأرواح ..
                  فلابد من طرح الفكر حتى يحس الشاعر بصوته وهو يقرع الآذان، في مواجهة الموقف المسيطر من الخارج، ودخولا في بوتقة الحلم .. ولعل تقسيمات الديوان الأربع تُجلي هذه النقطة .. وكيف مزج الشاعر إطار الموقف بالحلم بحيث لا نستطيع الفصل جيداً بين الذات والموضوع، فنجد "حدائق الصوت ـ زهور بلاستيكية ـ من دفتر العشق ـ تجليات الواقف في العراء"، وبها تتضح محددات المشهد الشعري عند حسين علي محمد، واستبصاره جيدا لموقف الانفلات من الذات المحطمة أحياناً لإمكانات الشاعر، إلى الدخول في الهم الجمعي الذي ظل يؤرق الشاعر كما يُحدثنا في قصيدة "ثرثرة في كراسة عنترة" من تقسيمه الثاني"زهور بلاستيكية".
                  مايو يطوي صفحته السوداءَ ،
                  يُحاولُ أنْ يقتلعَ جذورَ الحزنِ من القلبِ ،
                  ويعشقُ "عنترةُ" الحرفَ
                  جمالَ اللفتةِ ،
                  صدقَ النبضةِ ،
                  نزقَ الرغبةِ ،
                  دفْءَ الصدرِ ،
                  يُحاولُ أنْ يهرعَ للقرآنِ ،
                  ويجري للطرقِ الوعرةِ ،
                  تنطلقُ الشمسُ حصاناً يخترقُ جبالاً ومفاوزَ (2)
                  فبمجرد استدعاء عنترة بدلالاته التراثية، ومخاوفه، وأحزانه، ومحاولته أن يهرع للقرآن، يُفجِّر القضية المحورية عند الشاعر ـ كما أن الإحساس بالهزيمة أو الانهزام الذي يرزح تحته معظم شعراء جيل حسين علي محمد والأجيال التالية ـ لم يعُد إحساساً هُلاميا ناتجاً عن تحولات في الذات .. أو لموقف صوفي متوغِّل في الانغلاق والغموض، ولكن الوطء الذي ترزح تحته الأرواح بين جدران الأرض / الوطن، أدخل الإحساس المُلازم لقضايا الإبداع وخاصة في مصر .. فهناك من الشعراء من يبوح بذلك في القصيدة بوحاً تاما، ويضمنها الموقف الشعري، ومن الشعراء من يلوذ بالصمت والانغلاق والتستر وراء الكلمات والتخوم والأطلال التي تعبث بظلال القصيدة، "لذلك تتبدّى كما لو أنها حركة اجتياح لما يظل محتمياً بالصمت لا يطاله الكلام العادي، أو حدث استدعاء للغياب الكامن في الحضور"(3)، وشاعرنا يبوح بذلك كما لو يبدو مؤمناً ـ وقد بدا ذلك فعلاً ـ بعدم الصمت والانغلاق والتستر وراء اللغة:
                  أتسكّعُ تحتَ الجدرانِ وحيداً منهزما
                  أمشي بينَ قوافلِ غزلاني
                  أحرفِ شعري
                  أقطرُ حزنا ودَما
                  لي ولَعٌ بالأبيضِ إذْ يخترقُ الأسودَ
                  كالنَّصْلِ
                  ويمشي منتَشِياً مٌنهزِما !

                  هذي سنةُ الحزنِ ،
                  لماذا لا تُؤويني الكلماتُ بمحرابِ هواها
                  جُرحاً ملتئما ؟(4)
                  وهكذا ينفتح فضاء القصيدة لتبدو رؤية الشاعر واضحة جليلة، دون خوف أو مراوغة أو حجب، ولكنه فضاء يوحي بسطوة هذا اليقين الذي افترضناه في البداية.
                  وإذا تحدث الشاعر عن "الجواد المكسور"، و"تجليات الواقف في العراء"، و"الطوفان .. ومدن الوهم"، و"أقوال غيلان" فإن موقفه يبدو ساطعاً في إطار همِّه الذاتي، أو تكون الذات هي المحور الذي تنطلق منه تجلياته نحو المستقبل والإنسان، ونحو اللفظة الشعرية ومكاشفة الواقع، ومزج الخيال بالحزن، والحزن بالرغبة المسيطرة في حلم نظيف.
                  يبقى أن أقول في إطار موقف الشاعر الدكتور حسين علي محمد أن التصنيف الأدبي حيال نصوص شاعر مثله لم يعُد صحيحاً، لأنه يجمع في النص الواحد اشتعالاته المتطايرة، بمرايا الماء الراكد، وأنفاسه اللاهثة بلحظات النشوة، في صراع دائم مع الحزن والعبقرية والرحلة والتفوق، فلا مجال إذن للتصنيف. والتصنيف الذي أعني ليس التصنيف المذهبي "كحركة أدبية تقوم على وجود نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، والمجتمع المحيط"، كما يقول شكري عيّاد(5). ولكن تصنيف الشعراء بين الرومانسي والواقعي لم يعد هذا أوانه.
                  أما الإطار الثاني وهو إطار اللغة فإن ديوان "حدائق الصوت" يعد الوحدة الحية التي جمعت بين صرامة طرح الفكر وروعة البناء الشعري، وفيه أيضاً تتحطّم أغلال الملل من الصور الكلاسيكية الميتة، وبُعداً عن رضوخ الشعراء للألفاظ المعجمية التي تحجب الرؤية.
                  والصورة في الديوان تحمل من الدلالات النفسية الناتجة عن تجانس الصوتي مع الاختيار الأمثل لحركة "الفونيمات" و"المورفيمات" بين ثنايا النص، والوعي بحركات الإعراب والمد كما في "صرخة أولى":
                  يُباغِتُني توهُّجُ لفظِها النشوانِ
                  بينَ شقائقِ النُّعمانِ
                  والريحانِ
                  أُغنيةً .. مواويلا(6)
                  فمن ناحية لا يخيب طموح القارئ في رصد حركة التوقع التي تأتي أحياناً من تراث القصيدة العمودية، فلا يحرم النص من إيصال التجانس اللفظي إلى مسامع قارئ ليس له شغل كبير بالشعر الحديث. إلى جانب تصفية الأسلوب ورغبة المباغتة من قوله "أُغنيةً .. مواويلا" بما يحمل المعنى من ترادف، ولكن مع وجود فاصل البياض الذي يعكس بدوره حركة النفس، وأيضا في قوله:
                  وفيها العصْفُ
                  فيها القصْفٌ
                  وهكذا ينمو لدى الشاعر إحساس بتوهج المعنى من خلال تبادل المواقع بين الصوامت / المجهورة في اللغة العربية.
                  أما الإضافات التي تحمل ظل الحداثة الشعرية في إطار اللغة أيضاً، وتجاور البعيد، وبعد الغريب، مع التجسيد والتشخيص، وتراسل الحواس، والدلالات المتناقضة في الصورة الشعرية القائمة على تملّي الواقع والحلم مُحاولة المزج بينهما، فهي كثيرة، مثل: فتحتُ السترةَ للريحِ وبُحت، رأيتُ القلب، أبصرتُ الماءَ يُحاورُ قيْظي، والحلم الأخضر يجتاح الجسد(7).
                  وهكذا تحس ببدائية اللغة وبداوتها في آن واحد، وسيولتها وحركتها وعصريتها، بعيداً عن اقتناص الصور القديمة والسطو عليها، وبعيداً عن البهرجة اللفظية القائمة على الشكلانية الموغلة في الانغلاق بحيث يصبح النص مجرد لغة فقط.
                  وبعد، فإن "حدائق الصوت" ديوان جدير بالدرس والقراءة لشاعر هام من شعراء السبعينيات في مصر.
                  محمد زيدان
                  ...................
                  (1) نشر في «المسائية» (السعودية)، العدد (4301)، في 16/4/1996م، ص11، كما نُشر في العدد الخامس من مجلة «فاروس» (الإسكندرية)، يناير 2001م.
                  (2) حسين علي محمد: حدائق الصوت، ط1، دار الأرقم، بمصر 1993م، ص128.
                  (3) محمد لطفي اليوسفي: لحظة المكاشفة الشعرية، الدار التونسية للنشر، 1992م، ص23.
                  (4) الديوان، ص151.
                  (5) د. شكري محمد عياد: المذاهب الأدبية والنقدية، عالم المعرفة، سبتمبر 1993م، ص62.
                  (6) الديوان، ص183.
                  (7) الديوان، ص187.

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    عضو أساسي
                    • 14-10-2007
                    • 867

                    #24
                    ( 19 ) قراءة نقدية في ديوان «حدائق الصوت»
                    للشاعر حسين علي محمد

                    بقلم: عبد الرحمن شلش
                    ........................

                    يطرح الشعر العربي المعاصر أسئلته النابعة من رؤية المشهد العربي الراهن، والمعبرة عنه .. فتتوازى وتتقاطع ـ في الوقت نفسه ـ مع أسئلة الواقع الثقافي لدينا، بإشكالياته وقضاياه وتحدياته.
                    وتبدو رحلة الشاعر حسين علي محمد ـ ولمّا تزل ـ سفراً مديداً بين المكان والزمان، بين الفعل ورد الفعل، بين السهم والوتر، بين المد والجزر.
                    إنها رحلة غوص في أعماق الإنسان، والمكان، والتراث، واللغة، بحثاً عن الجميل، وتنقيباً عن الكوامن واللآلئ، وكشفاً عن أسرار الكلمة المموسقة، والمتوهجة بإشراقة الأمل، والمعبرة عن نبض القلب الخافق بعشق كبير.
                    هذه الرحلة التي بدأت في مصر قبل أكثر من ربع قرن بشعر العامية، ثم لم يلبث الشاعر أن هجَرَه ـ بلا عودة ـ إلى الشعر الفصيح، فن العربية الأول الذي برَعَ فيه فرسان كثيرون، قدامى ومحدثون ومعاصرون، وكأنهم في سباق للمسافات الطويلة، كان الفوز فيه للأقدر، والأوفر عطاءً، وإثراءً، وتأصيلاً، وتجديداً، وتمايُزاً، ليُسهم في دفع مسيرة الشعر العربي إلى الأمام، نحو مسارات جديدة، ونحو منطلقات يتداخل فيها الخاص بالعام، والمحلِّي بالعربي، والصوتي بالمرئي، والوعي باللاوعْي.
                    فشاعرنا يعزف ألحانه منذ حقبة السبعينيات الميلادية، مع مجايليه في الوطن العربي، منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد فهمي سند، وأحمد سويلم، وأحمد عنتر مصطفى، ومصطفى النجار، وعصام ترشحاني، وخليفة الوقيَّان، وسعاد الصبّاح، وسعد الحميدين، وغيرهم كثير.
                    أصدر حسين علي محمد المجموعات الشعرية التالية: "السقوط في الليل"،(1977م)، و"حوار الأبعاد الثلاثة(مشترك)" (1977م)، و"ثلاثة وجوه على حوائط المدينة" (1979م)، و"شجرة الحلم" (1980م)، و"الحلم والأسوار" (1984م)، و"الرحيل على جواد النار" (1985م)، و"حدائق الصوت" (1993م)، و"مذكرات فيل مغرور (شعر قصصي للأطفال)" (1993م).
                    وله مسرحيتان شعريتان، هما: "الرجل الذي قال"(1983م)، و"الباحث عن النور"(1985م).
                    كما أصدر الدراسات الأدبية التالية: "عوض قشطة: حياته وشعره"(1976م)، و"القرآن .. ونظرية الفن" (1979م)، و"دراسات معاصرة في المسرح الشعري" (1980م)، و"البطل في المسرح الشعري المعاصر" (1991م)، و"شعر محمد العلائي: جمعا ودراسة" (1993م).
                    وواضح من هذا العرض تنوع عطاء الشاعر حسين علي محمد بين الشعر والمسرحية والدراسات الأدبية، سواء في موضوع القرآن ونظرية الفن، أو المسرح الشعري، أو تناول بعض الشعراء: حياتهم وأشعارهم.
                    وفي قراءتنا هذه في مجموعته الشعرية "حدائق الصوت" بوصفها أحدث ما ظهر للشاعر من أعمال شعرية سنركز على أبرز الملامح أو المحاور في تجربة الشاعر من خلال رؤاه وأدواته، فضلا على رصد السمات المشتركة التي تتسم بها تجربته.
                    الاغتراب النفسي والمكاني
                    لعل محور الوطن في تجربة حسين علي محمد الشعرية يُشكِّل المحور الرئيس في رؤاه؛ فالوطن يعني: العشق والجذور، الأرض والإنسان، والانتماء والكرامة، والحق في الحياة الحرة، والأزمنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فالوطن: هو الحياة، والهواء الطليق، وحضن الأمن، والشموخ والأمل، ولو سافر الشاعر بعيداً عن وطنه رآه أكثر وأقترب منه أكثر، فالغربة لا تُباعد بين الشاعر ووطنه، بل تجعله دوما قريباً منه، يحيا في ذاكرته وفي مخيلته وفي قلبه، لكن ما أقسى إحساس الإنسان بأنه يعيش غريباً في وطنه وبين أهله، إنه أشد أنواع الإحساس بالغربة النفسية والمكانية.
                    ويبدو شاعرنا واقعا في أتون هذا الإحساس مكتوياً بنار الغربة، وهو داخل وطنه، وهو مسافر بعيداً عنه في بغداد، وفي صنعاء، وفي الرياض. فالعشق يُحرِّك أوتار القلب، فتتَفجَّر ينابيع الرؤى وأشجان النفس، وينصهر الشعر في بوتقة الحزن والخيال المسافر عبر الزمان والمكان.
                    يتحدث الشاعر على لسان المتنبي في قصيدة "سطور من مواجيد أبي الطيب المتنبي" فاتحاً نافذةً يُطلُّ منها على الحاضر:
                    أفتحُ شبّاكي قلقاً
                    أخشى مجهولاً
                    يأتي
                    (هلْ يقتلُني كافورُ الليلةَ ؟)
                    أنهضُ مختنِقاً
                    أسترجعُ ذكرى الأيامَ الخضراءِ
                    وأفتحُ بابي للقمرِ الصيْفيِّ النشوانِ
                    فيُغمِضُ عينيْهِ ، ويزْورُّ يميناً عنِّي
                    وأظلُّ وحيداً
                    فوقَ السطحِ شريداً
                    وأٌقلِّبُ في ذاكرتي صفْحاتِ الرحلةِ :
                    أحببْتُ ديارَكِ يا مصرُ ، ونيلَكِ
                    والشعبَ الطيِّبَ ،
                    والشمسَ ،
                    وظلَّ الأيامِ المعطاءِ
                    وهذا كافورُ الخيْرِ يُحاورُني
                    يُغريني بالدّارِ الفخْمةِ
                    والراقصةِ المكتنزةِ
                    لكنِّي لا أُبصِرُ غيرَ الخوْفِ بداري
                    يجلسُ ، وأُحاورُهُ :
                    هلْ يأتي من أعماقِ القطْرِ الطيِّبِ
                    منْ ينشُرُ فوقَ الوجْهِ الخائفِ
                    ثوبَ الأمْنِ
                    ومنْ يُرجِعُ لي صفْوَ الأيامِ الأولى ؟
                    وفي هذا المقطع يستحضر الشاعر شخصية المتنبي كي تُصبح قناعاً، يُسقط من خلاله ما يريد أن يقوله ليس عن عصر المتنبي، بل عصرنا الراهن، ويأتي ذلك عبر عملية إسقاط واعية على حاضر الوطن، من أجل أن يعود الأمان والأمن، ويتراجع الخوف.
                    ويعبر الشاعر عن مناخ النكسة والهزيمة عام 1967م حيث تكسّرت النصال على النصال في رباعية "نكسة":
                    كانَ يوْماً ليسَ كالأيَّـــامِ ، إنِّي .:. قدْ خَشِيتُ الرِّيحَ ، والخوْفُ لجامْ
                    لا تلُمْني قدْ مَضَتْ في الفجْرِ سُفْـني .:. ثُمَّ عـادتْ لي مع الظُّهْرِ حُطـامْ
                    ويسجل الشاعر نقوشاً على ذراع الوطن في قصيدته "وشم على ذراع مصر":
                    أكتبُ عنكِ وعنْ أبنائكْ
                    كلِّ الفقراءِ الشرفاءْ
                    منْ زرعوا أرضَكِ،
                    وامتزجوا في ذرّاتِ ترابكْ
                    منْ ذابوا عشقاً فيكْ
                    منْ عرفوا طعمَ العرقِ ـ الملحْ
                    أكتبُ عنهمْ
                    فأنا أعرفهمْ فرْداً .. فردا
                    لمْ أخلعْ جذري منْ تربتهمْ
                    في البرْدِ القارسِ لا أتركُهمْ
                    في الصيفِ القائظِ أبقى معهمْ
                    وعلى ما في هذه الكلمات من ميل إلى النثرية فهي تُعبر عن إحساس صادق بالانتماء إلى الوطن: الأرض والناس، ويخاطب الشاعر واحداً من رفقة دربه في قصيدته "الحلم المسافر .. أو صابر عبد الدايم" حيث يتداخل فيها الخاص بالعام:
                    كانَ العالمُ مبتعِداً فتلاقيْنا ، لنُفجِّرَ في الأعماقِ قنابلَ حيْرتِنا ، فجَّرْنا الشعرَ منابعَ ضوْءٍ فتهامستِ الأنداءُ على الأعوادِ ، قطفْنا أشعارَ جزائرِنا المهجورةِ ، غامرْنا رغمَ القيْظِ / الأنواءِ / جفافِ الزمنِ / الخوْفِ .. كشفْنا سرَّ النَّبْضْ
                    وهذه الرؤية نثرية مثل سابقتها، لكنها تعبر عن المناخ أو الجو الخاص والعام الذي عاشه الشاعر وصديقه في الثمانينيات (1983م).
                    تداخل الخاص بالعام
                    وفي إطار تداخل الخاص بالعام ـ بشكل عام ـ يبدو الشاعر مؤرقا بهموم الناس الطيبين الشرفاء وأوجاعهم ومعاناتهم، فهو لا يكف عن التغني بعشق الوطن وحريته وأمنه وأمانه، كي يسمو شامخاً في علياء المجد والقوة في عصر لا يعترف إلا بالأقوياء.
                    وتتسع الرؤية في تجربة حسين علي محمد شاملة الوطن الكبير، بعطاء أبنائه المخلصين، وسعيهم الحثيث لاستعادة مجد الآباء والأجداد، وعبور مرحلة الانكسار والانقسام، فالشاعر في كثير من قصائد المجموعة يهمس مستصرخاً بني قومه حتى يفيقوا من سباتهم العميق، ويستردوا موقعهم ومكانهم على خريطة العالم، وتحت وهج الشمس، شمس الحقيقة، وهو يعبر عن ذلك في قصيدة "من أوراد الفتح"، ومنها قوله:
                    .. قدْ أَشرقتِ الشمسُ
                    صباحاً
                    منْ مكَّهْ
                    فلماذا يرْحلُ هذا العُصفورُ
                    إلى شُرفةَ قيْصَرْ
                    ومنازلِ كسْرى
                    يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
                    في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
                    ويرسم الشاعر صورة لإنسان هذا الوطن في قصيدته "فواصل من سورة الموت" معبِّراً في أحد مقاطعها عن الخروج إلى التيه، ثم نرى الشاعر في قصيدته "من إشراقات عمرو بن العاص .. أو التحديق في وجه الشمس" يستدعي الماضي كي يُحاكمَ زمانَنا:
                    تُوشوشُني في المساءِ العنادلُ
                    إذْ أمتطي في براريكِ صهوةَ هذا الجوادِ المُخاتلِ
                    أركضٌ في صحَراءِ العيونْ
                    وأبحثُ عنْ إخوةِ الصَّيْدِ
                    إذْ أبعدتْهمْ أيادي المنونْ
                    ـ تقدَّمْ فقدْ آذنَ البحرُ بالوصْلِ
                    مدّتْ خيولُ تهامةَ أعناقَها ،
                    وتمطّتْ
                    بجوفِ الصحارى رجالٌ يسيمونَ
                    ينطلقونَ
                    يغنونَ
                    فكيفَ نصيدُ الصقورَ ونحنُ نُصادْ ؟
                    وتشتعلُ النارُ تحتَ الرّمادْ
                    وخوفي محيطٌ من الرّملِ
                    ظلِّي دوائرُ حولي
                    ( أتروي الرمالُ عيوناً
                    من السَّيْلِ فرَّتْ
                    أتطوي الضلوعُ جبالاً
                    بها الحسَراتُ استبدَّتْ ؟)
                    ويطرح الشاعر رؤية أخرى في قصيدته "القناص تصطاده طريدته"، وقد كتبها في نوفمبر 1990م، معبراً فيها عن الغزو الصّدّامي الغاشم للكويت، وممّا جاء فيها:
                    مازالَ مرتحلاً بطائفِهِ
                    يُطاردُ ظبيةً تختالُ في أَلَقِ القصيدهْ
                    *
                    مدَّتْ ضفائرَها إليْهِ عشيَّةً
                    فارتاعَ في فَرَقٍ
                    ليُغلِقَ بابَهُ
                    ويفِرُّ منْ شَرَكِ الطّريدهْ
                    *
                    مدَّتْ شرارتها المباغتةَ الجريئةَ
                    فاستطارَ اللبُّ ،
                    وانكفأتْ تُجاذبُهُ
                    مرايا الشوقِ
                    تستدْني خُطاهُ إلى حْماها
                    منْ يُداجيها
                    بطلْقاتٍ
                    مُراوِغةٍ
                    شهيدهْ ؟!
                    وهكذا يضع الشاعر يده على جروح وطنه الكبير وأمته العربية، موقناً أنَّ ما حدث هو ابتلاء حلّ بالعرب، ومؤمناً أنَّ الفجر آت حتى ولو طال ليل الفرقة والانقسام.
                    من الملاحظ أن قراءة قصائد هذه المجموعة تقودنا إلى حدائق الكلمة الشعرية حيث يهمس صوت الشاعر في مواجهة لحظات الصمت والخوف والعتمة. وهنا تتجاور الصورة مع الصوت في لوحة تجمع بين البصري والمسموع أو الصوتي، وتشي بجمالية الرؤية والتعبير.
                    وإذا كان الشاعر يبدو معانياً الاغتراب النفسي والمكاني، فمرد ذلك إلى إحساسه الرهيف بالغربة التي يُعانيها الإنسان العربي المعاصر، وإن بدا الشاعر متمرداً على هذا الاغتراب، رافضاً للغربة.
                    الحنين إلى الماضي
                    ويعكس تعبير الشاعر عن الماضي العربي والإسلامي صوراً لحنينه إلى ماضينا، تعبر عن نزعة رومانسية في تجربته أو عالمه الشعري. ولعل ميل الشاعر إلى استخدام الرموز التاريخية، يدل على الرغبة في رفد رؤاه برموز مستلهمة من تاريخنا، ترد في النص الشعري بشكل لا يُكسيها غموضاً، بل تُسهم في تعميق الرؤية. ومن أمثلة ذلك رموز قيصر، كسرى، التيه، الفتح، عدن، البقرات السبع، عمرو بن العاص. وفي بعض قصائد الشاعر صوتان يتحاوران، مثل صوت المتنبي وصوت الشاعر، كما في قصيدة "سطور من مواجيد أبي الطيب المتنبي"، ونلمس في قصائد أخرى حسا دراميا، وميلا إلى التركيز على المفارقات سواء في رسم الشخصيات أو التعبير عن المواقف المتباينة، ناهيك عن العناية بالشعر المسرحي، مثلما في قصيدته "أوراد الفتح".
                    إنها مفردات تتناثر في نصوصه الشعرية وقد لا تكون لها أهمية بحد ذاتها، ولكن عندما توجد في سياق بنية النص تزيد الرؤية إلفاً ودلالة. فالشاعر يحمل في قلبه هموماً موجعةً؛ هموم الذات وهموم الآخرين من أبناء وطنه وأمته، وهو بذلك لا ينفصل عن المشهد العربي الراهن، ولا عن أحداث عصره وقضاياه، بل يتفاعل معها معايشاً لها، ومعبرا عن موقفه منها، برؤى تثير سؤال الشعر.
                    غير أن ثمة قصائد نجد فيها الفكر طاغياً إلى حد كبير على الشعر، كما في قصيدته "وشم على ذراع مصر" لأن الشاعر فيما يبدو، يصوغ رؤياه وهو واقع تحت تأثير الذهنية، التي جعلت النصَّ بعيداً عن التحليق في آفاق العاطفة، ممّا أدّى إلى طغيان الجانب الذهني على الجانب العاطفي، فجاء هذا النص أقرب إلى المباشرة، ويميل إلى التقريرية، وكاد يخلو من روح الشعر وتجلياته.
                    الرؤية وعمق الصورة
                    وبطبيعة الحال فإن الذهنية تُفقِد الشعر خصوصيته ومقوماته. وإن مالت بعض نصوص الشاعر إلى إعمال الذهن، فإن معظم نصوصه تميَّزت بشعرية التعبير، وعمق الرؤية النابعة من عمق الصورة ومعطياتها. إننا نراه شاعراً يمتلكُ أدواته، مهيمناً على المفردة التي تومئ وتُشير .. مثلما يمتلك إحساساً رهيفاً في تحديد المكان الذي يتعامل معه بحنوٍّ، مطلا على عالم الحلم وعالم الواقع.
                    ولدى الشاعر حضور خاص في رسم صورة جديدة تعبِّر عن رؤيته للواقع، بشكل ربما كان غير مألوف من قبل، إذ ينتقي كلماته ومفرداته بعناية، ليُشكِّل منها عزفاً شعريا، يُسهم في إثراء رؤاه، كما نجد حضوراً للتضاد في الصور والمعاني لدى الشاعر، وهنا تكمن مقدرته وشاعريته، فهو شاعر مؤرَّقٌ بالوجع الإنساني؛ وجع الناس الذين يُحسُّ بوجودهم، معبراً عن معاناتهم وهمومهم.
                    ويؤكد الشاعر بهذا الإحساس شاعرية ملتزمة بقضايا المُتعَبين، تُدافع عن حقهم في الحياة الحرة الكريمة، كي يعيشوا في ظل الأمان المفقود.
                    وعلى ما في كثير من أشعاره من مسحة حزن مقيم ونغمة تشاؤم، فإن شعره بصفة عامة يفتح أبواباً أو آفاقاً على التفاؤل وأسئلة الشعر.
                    .................................................. ...
                    *نشرت بعنوان «قراءة في المجموعة الشعرية «حدائق الصوت» للشاعر حسين علي محمد»، في مجلة «الحرس الوطني»، الرياض 1994م.

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      عضو أساسي
                      • 14-10-2007
                      • 867

                      #25
                      (20) الحلم المناضل في ديوان «شجرة الحلم» للشاعر حسين علي محمد

                      بقلم: أ.د. علي عشري زايد
                      ...........................

                      يحدد لنا الشاعر حسين علي محمد الإطار العام لرؤيته الشعرية في هذه المجموعة منذ المقطع الأول من القصيدة الأولى من مجموعته هذه، بل إنه يُحدِّد لنا هذا الإطار منذ عنوان المجموعة ذاته «شجرة الحلم» .. ولذلك فلم يكن مُصادفة أن يكون هذا العنوان هو عنوان القصيدة الأولى، وهو في الوقت نفسه عنوان مقطعها الأول. هذا الإطار الذي يحدده لنا الشاعر ـ بوسائله الفنية الخاصة ـ هو "الحلم".
                      ولكن حلم شاعرنا ليس هو الحلم ـ الخدر والغيبوبة، وإنما هو الحلم المناضل، الحلم الذي يُدرك بوعي فادح مدى جهامة الواقع واربداده، ولكنه يصر ـ مع هذا الوعي ـ على أن يرسل أشعته، تخترق ظُلمات الجهامة، لتعانق توق الوجود إلى الحلم بواقع أكثر وضاءة، ولتحفز هذا التوق إلى العمل والنضال في سبيل تحقيق هذا الحلم. ولهذا فإن الشاعر يُجسِّد لنا حلمه في رمز من رموز العطاء والخصب والحياة، وهو "الشجرة". بل إنه يحرص على أن يكشف لنا منذ البدء ـ في مُفارقة تصويرية رائعة ـ عن تميز حلمه المناضل عن أحلام الحذر والغيبوبة التي تمتص كل حوافز العمل والنضال لدى الآخرين، فيقول في مقطع "شجرة الحلم" من القصيدة الأولى، في المجموعة التي تحمل نفس الاسم:
                      يشربُ غيري منقوعَ الكلماتِ الشافيةِ من الأدواءْ
                      ويبيعُ الفجر الآتي ذات صباحٍ أبيضَ للضُّعفاءْ
                      أقفُ وأصرُخُ في الأمواتِ: أفيقوا
                      هذا زمنُ الحجرِ الصَّنَمِ الرابضِ في الأبْهاءْ !
                      فلتخرُجْ كلُّ شجيراتِ الأحلامْ
                      ولتنفضْ عن عاتِقِها ظلَّ غُبارِ الأيَّامْ !
                      كي تحمينا ـ نحنُ الإخوة والأبناء ـ
                      من هذي الشَّمسِ الحارقةِ الصَّمَّاءْ
                      فالحلم الذي يتبنّاه الشاعر ويدعو إليه، ليس ذلك الحلم / الغيبوبة والوهم، الذي يسقي الحالمين منقوع الكلمات المعسولة، ويبيع لهم وهم فجر قادم لن يأتي في الحقيقة أبداً، وإنما هو الحلم / اليقظة، الحلم / الثورة، الحلم / الشجيرات الفتية، التي تنفض عن عاتقها كل رماد الغيبوبة، وتبسط ظلَّها العظيم لتحمي الأخوة والأبناء من هجير الشمس الحارقة الصماء.
                      وحتى في إطار هذا الحلم المناضل العام الذي يدعو إليه الشاعر، والذي يجسده شعريا في هذه الشجيرات الفتية، لا يفوته أن يصور تميز حلمه بين هذه الأحلام عن طريق مفارقة تصويرية جزئية أخرى، يستغل فيها وعيه اللغوي المرهف، وإدراكه للفروق الدلالية والإيحائية بين الصيغ اللغوية المختلفة، حيث يستخدم للتعبير عن حلمه الخاص الصيغة المكبرة للشجرة، بينما يستخدم للتعبير عن الأحلام الأخرى الصيغة المصغرة "شجيرات"، وعلى حين ينحصر العطاء المأمول من هذه الشجيرات في مجرد الظل والحماية من الهجير، فإن شجرة حلمه تتجاوز هذا ـ فيما يُشبه أن يكون صوتاً داخليا ـ إلى عطاء أكثر سخاءً، فتملأ سمعه بالأنغام الصدّاحة، وتُحيل أيّامه إلى ربيع:
                      (هذي شجرةُ أحلامي
                      بينَ شُجيراتِ الواحَهْ
                      تقصدُها كلُّ عصافيرِ الوادي
                      تملأُ أُذني بالأنغامِ الصَّدَّاحَهْ
                      وحبيبةُ روحي تبدو في فَرَحٍ غامِرْ
                      وأنا أحيا أيَّامَ ربيعي)
                      وسيظل الحلم بهذا المفهوم الإيجابي الخلاق إطاراً عاما لرؤية الشاعر في هذه المجموعة، تتعانق في نطاقه الأبعاد المختلفة لهذه الرؤية وتتفاعل وتتصارع، ومن خلال تعانقها وتصارعها ينمو العالم الشعري الغني عبر القصائد.
                      وفي إطار هذا الحلم يتصارع الأمل المزدهر مع كل عوامل الإحباط التي تُحيط به وتترصّده، هذه العوامل التي لا تغيب لحظة عن وعي الشاعر، والتي يكتسب حلم الشاعر كل قيمته الإيجابية من وعيه بها. وقد تلون هذه العوامل رؤيا الشاعر بظلال يأس كابية، ولكنه لا يلبث أن يبدد هذه الظلال بوهج حلمه الثائر، فهو حين يرى ـ في مقطع "الكلمات المفقودة" من قصيدة "شجرة الحلم" ذاتها ـ محبوبته الحلوة تتلفّت بين الجدران فاتنة غجرية، تتدحرج فوق تراب الخوف وأحجار الأحزان قمراً طفلاً، تكفهر رؤياه، وتربد بظلال يأس حزين:
                      يصعدُ في حلقي الشَّجَنُ فأمْضي
                      (في طُرقاتِ اليأْسِ وحيداً)
                      أبحثُ عنْ بارِقَةِ أَمانْ!
                      لكن حلمه المناضل لا يلبث ـ فيما يشبه مرة أخرى أن يكون صوتاً داخليا ـ أن يبدد ظلمات اليأس .. ويُرشد خُطاه إلى طريق الثورة:
                      (النَّارُ بأعراقي مُسْتَعِرَهْ
                      أوردتي الثلْجِيَّةُ صارتْ ورْدَهْ
                      أهدابُ الليلِ أراها تتفتَّحُ
                      .. عنْ أكمامِ الصُّبحِ المُمتدَّهْ)
                      والصراع بين الحلم وعوامل الإحباط ليس صراعاً مسطحاً، ينتهي دائماً نهاية سعيدة بانتصار رموز الأمل المضيئة على ظلال اليأس والقنوط، فقد تُحقق عوامل اليأس والإحباط انتصاراً مرحليا في بعض أبعاد الرؤية الشعرية في الديوان، بحيث تنتهي هذه القصيدة أو تلك من قصائد المجموعة، ولا تزال ظلال يأس قانط ترين على أفق الرؤيا لدى الشاعر، كما في قصيدة «متى تجيء المعجزة»، التي تنتهي وملامح تضرج وتبرم ضجر بطول الانتظار لتحقق الحلم والمعجزة، والصبر على فساد الواقع ورداءته تلون أفق الرؤيا:
                      فَسَدَ الحليبْ
                      وتقولُ لي :
                      "هذا أوانُ المعجزهْ"
                      قدْ ضِقتُ مثلَكَ بالأغاريدِ القديمةِ
                      والسُّعارْ
                      والليلُ طالَ .. الليْلُ طالْ
                      .. ومتى تجيء المعجزهْ ؟!
                      فلقدْ مللْنا الانتظارْ !
                      بل إن قصيدة "شجرة الحلم" ذاتها التي يحدد فيها الشاعر ملامح حلمه المناضل تنتهي بمقطع تغلب عليه ظلال اليأس والقنوط، متمثلة في ذلك الوعي الفادح الأليم بقوة عوامل الإحباط وعتوها. يجسد الشاعر هذا الوعي في مجموعة من الصور والرموز الشعرية البارعة: فذرات الطمي العالقة بحبات الرمل تصرخ باحثة عن جذر أخضر في الصحراء، وتتوق لقطرة ماء، وهجير الواقع القاسي الجهم لا يبسم للأحلام العجفاء، والأرض تغص بأشجار الكذب والزيف، وتُجهض أشجار الحلم، وتُشعِل في الجمع الغائب نار السكرة:
                      … والأُجراءْ
                      يبكونَ صباحَ مساءْ
                      والعرقُ الغامرُ أجسادَهم النَّاحِلَةَ السَّمراءْ
                      يحكي عن سادةِ "طِيبَهْ"
                      وقصورِهِم الشاهقةِ الشَّهباءْ
                      فطوبى .. طوبى للتُّعَساءْ!
                      ولكن هذا الوعي ذاته بقوة عوامل الإحباط، ومهما كانت درجة فداحته، هو الذي يُكسِب حلم الشاعر إيجابيته وفعاليته، ويميزه عن الأحلام السكرى البلهاء التي تُغمض عينيها عن جهامة الواقع، وما يغص به من معوقات للأحلام، وتحاول أن تبني فوق هذا الواقع قصوراً من وهم، فأي حلم يضع في اعتباره قوة هذه العوامل التي تُجهض أشجار الحلم لا بد أن يكون حلماً راسخاً واثقاً مناضلاً، لأنه يُدرك جهامة الواقع بوعي، ويُصر مع ذلك على أن يتجاوزها، ويُبددها، ويبني على أنقاضها في ثقة أركان عالم أكثر وضاءةً وعدلاً، وهو في نفس الوقت الذي يدرك مدى قسوة المعركة التي عليه أن يخوضها بكل هذا الوضوح والوعي، يُدرك بنفس الدرجة من اليقين مدى مضاءة أسلحته ونفاذها، وليس هذا الوعي بقسوة المعركة، وعتو العقبات، وطول المسيرة، إلا سلاحاً من أمضى الأسلحة، كما أن اليقين الواثق من النصر ـ المبني على تمثل واع لأبعاد الصراع ـ سلاح آخر، وأخيراً فإن اليقين من عدالة هذا الحلم ونبالته، سلاح ثالث، يجعل من أي تضحية تُبذل في سبيله ملمحاً من ملامح النصر، حتى لو لم تُحقق عائداً ملموساً.
                      في مقطع «الوجه الأخضر» من قصيدة "سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق"، يكشف الشاعر عن وعيه العميق بأبعاد الصراع، ومعرفته بأسراره مما يبعث فيه يقيناً واثقاً من النصر والوصول إلى الحلم؛ فذات الوجه الأخضر تستبطئ تحقق الحلم، ولا ترى حولها إلا عوامل الإحباط ومظاهر الجدب، ولكن الشاعر يُدرك مواقيت كل شيء، ويعرف أسرار الخصب وموعده، نفس معرفته بأسرار الجدب وبواعثه:
                      أعرِفُ أَنَّكِ مُتَعَجِّلةٌ ...
                      سوفَ يقولُ الوجهُ الأخضرُ:
                      إنَّ الخيْرَ بعيدٌ
                      إنَّ النَّهرَ ضنينٌ
                      فانْتظريني..
                      إنِّي أعرفُ كيْفَ يغيضُ النَّهرُ …،
                      وكيفَ يفيضْ
                      وانطلاقاً من هذا اليقين الراسخ، فإن الشاعر يدعو ذات الوجه الأخضر أن تبدأ معه الرحلة المنتصرة إلى الحلم، إلى المدن المفتوحة، فقد أعدّ الشاعر للرحلة ـ رغم طولها ومشقتها ـ كل عدتها:
                      عودي .. إنِّي أصدُقُكِ الحبَّ، وأعرِفُ
                      أنَّ الشَّوْطَ طويلٌ
                      عودي .. كيْ نبدَأَ رحلتَنا نحوَ المُدُنِ المفتوحةِ
                      عودي ..إنِّي أنتظِرُكِ قُدَّامَ البيْتِ،
                      وقدْ أسرجْتُ حِصاني
                      وإذا كان "الحلم" هو الإطار العام لرؤية الشاعر
                      … والعصفورُ يُحاورُني:
                      ـ خنتَ صباحاً ، وتراجعَ خَطْوُكَ!
                      ـ لم أتراجعْ
                      ـ لا تُنْكِرْ …
                      ـ لا أُنْكِرُ .. لكنَّ الفَرَسَ هزيلْ !
                      *صمَتَ العصفورُ ، أدارَ الوجْهَ وقالَ بصوْتِ اليائسِ : هذا أنتَ تُجيدُ الكلماتِ المحفوظةَ ! وانطلقَ العصفورُ يُغَرِّدُ لجزيرتِهِ الواعدِةِ ، ويحلمُ حلماً يعصِفُ بالوجْدانْ
                      ولم يضع هذا الحوار العاصف بين شطري ذات الشاعر هباء، حيث لم يلبث الشطران أن توحَّدا في كل واحد هو «الشاعر الثائر»، أو العصفور الذي يُدحرج كرة النار فوق أودية الأحزان: «مع نسماتِ الفجرِ أراني أولدُ ثانيةً في تغريدةِ عصفورٍ دحْرجَ كرةَ النّارِ على أوديةِ الأحزانْ». وليس هذا التوحد سوى تجسد من تجسدات «الحلم المناضل» الذي يتجسّد في شتى الصور والأشكال الشعرية.
                      (يتبع)

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        عضو أساسي
                        • 14-10-2007
                        • 867

                        #26
                        (بقية دراسة أ.د. علي عشري زايد)
                        وعلى الرغم من تعدد الخيوط الشعرية والنفسية التي يتكون منها النسيج العام للرؤية الشعرية في هذه المجموعة وتنوعها وتشابكها فإننا نستطيع أن نُدرك بوضوح أن الشاعر كان أكثر انشغالاً بالهموم العامة ـ سياسية كانت أو اجتماعية أو فكرية أو إنسانية عامة ـ منه بالهموم الذاتية الخاصة، بحيث لا نكاد نعثر على بعد ذاتي من أبعاد رؤيته لم يُحمله ملامح هم عام، وتمتزج الهموم العامة بالهموم الخاصة إلى الحد الذي لا يُدرك القارئ في كثير من الأحيان ما إذا كان الشاعر يتحدث عن محبوبته الحقيقية، أو عن وطنه، وما إذا كان ينفث مواجعه الخاصة أو مواجع الناس، وما إذا كان يعبر عن أحلامه أو أحلام الجماهير، فالعام في تجربة الشاعر يمتزج بالخاص ويذوب فيه ويتحد به.
                        ويمكننا أن نلمح بوضوح أن الوجدان الديني يمثل مكوناً أساسيا من مكونات الرؤية الشعرية في هذه المجموعة، فنحن نجد قصيدتين من قصائد المجموعة يُشكل الوجدان الديني فيهما لحمة الرؤية الشعرية وسُداها ..
                        وأولى هاتين القصيدتين هي قصيدة «التجربة» التي كانت أول قصيدة أتعرف منها على صاحب هذه المجموعة الشاعر المبدع حسين علي محمد، وقد قلتُ عن هذه القصيدة في مكان آخر( ): «أما قصيدة «التجربة» للشاعر حسين علي محمد فتحقق لوناً آخر من الامتزاج بين الحداثة والموروث؛ حيث ينتقل الموروث في هذه القصيدة في مضمونها الروحي والصوفي، بينما تتمثّل الحداثة في البناء الشعري للقصيدة، سواء في ذلك الجانب الموسيقي بما فيه من استخدام لآخر إنجازات التجديد في مجال الشعر الحر كالتدوير، والجانب التصويري بما فيه من توظيف بارع للصور في الإيحاء بجوانب هذه «التجربة» الروحية الخصبة، حيث يرسم الشاعر أبعاد هذا الجو الروحي بمجموعة من الألفاظ الصوفية الموحية، ومجموعة من الصور البارعة التي تحملنا إلى هذا الجو الشفاف الذي يتجرد فيه المريد من كل هموم الحياة ومشاغلها وأثقالها، ويُصبح هدفه الأسمى هو الوصول «اترُكْ أحزانَكَ قُدَّامَ البابِ، اخْلعْها جنْبَ حذائكَ، وتعالَ إليْنا، فستحْيا أحلى لَحَظاتٍ في ظِلِّ الشيخِ "وليِّ الدِّينِ" الليْلَهْ!» ولنتأمل على سبيل المثال هذه الصورة الذكية «اخْلعْها جنْبَ حذائكَ» بما فيها من إيحاءات غنية، هذه الإيحاءات التي لا تقف عند حد ضرورة التجرد من هموم الحياة وأثقالها وتركها عند الباب، وإنما تتجاوز ذلك إلى التعالي عن هذه المشاغل والهموم، واحتقارها، ووضعها بجانب الحذاء.
                        وأخيراً ذاك الختام الشعري الرائع للتجربة يإيحاءاته العميقة، حيث يفر الشيخ ويترك المريدين بعد أن وضعوا أقدامهم على الطريق، فالوصول إلى الله ليس في حاجة إلى وسائط، وحسب المرشد أن يضع أقدام المريدين على طريق الوصول، وقد يكون الراغب في الوصول أقدر على سلوك الطريق من المرشد ذاته: «لكنَّ الشَّيخَ العاشقَ شربَ الكأْسَ، ونظَر ملِيًّا في الصَّدْرِ النَّابِضَ بالحبِّ الأسمى للخالقِ، نظرَ وقالَ: "أحبَّائي، إنِّي أضعفُكُمْ، إنِّي آخرُكُمْ قُدَّامَ اللهِ"، وأعطى ساقيْهِ للريحِ، وفرّْ».
                        ولا شك أن انفتاح شعرنا الحديث على هذا النبع المتمثل في تراثنا الروحي يصل شعرنا بمعين لا ينضب له عطاء، ويمثل أملاً من آمال هذا الشعر في اجتياز أزمته الحالية».
                        أما القصيدة الثانية التي يمثل الوجدان الديني فيها البعد الأساسي في الرؤية الشعرية، فهي قصيدة «ترنيمة بلال»، حيث يمثل «بلال» فيها تجسداً آخر من تجسدات «الحلم المناضل»، ويحمل دلالات رمزية معاصرة، ويستغل الشاعر من شخصية بلال ـ  ـ ملمحين أساسيين: المؤذن، والمجاهد الصامد، فإلى جوار كون بلال هو مؤذن الرسول  فهو واحد من الذين تحمّلوا أقسى صنوف العذاب في سبيل عقيدته، وصمد صموداً فذا والمشركون يجرّونه في شعاب مكة، ويضعون الصخور على صدره ليُعلن كفره بالدين الجديد، ولكنه لم يكن يُحرِّك لسانه بسوى هذا الدعاء العلوي «أحد .. أحد». وقد امتزج هذان الملمحان امتزاجاً فنيا بارعاً، للرمز من خلال هذا المزج إلى انتصار صوت الحق دائماً في النهاية، واكتساح نور الحق لكل ظلمات الضلال والظلم، شريطة أن يجد هذا الحق أنصاراً في مثل صمود بلال، ومثل يقينه:
                        خلفَ النوافذِ حطَّ عصفورٌ شريدْ
                        نقرَ المساءْ
                        فافترّ عنْ فجرٍ جديدْ
                        فجرِ العصافيرِ التي
                        غَنَّتْ كثيراً للصباحْ
                        أحَدٌ .. أحَدْ
                        أحَدٌ .. أحَدْ
                        أحَدٌ .. أحَدْ
                        والليْلُ يرحلُ والجراحْ
                        والشمسُ شمسُ محمّدٍ
                        تجتاحُ مكّةَ والبِطاحْ
                        وبالإضافة إلى هاتين القصيدتين الكاملتين نجد هذا الوجدان الديني يترقرق عبر الكثير من جوانب رؤيته، ونجد المعجم الديني ـ وبخاصة المعجم القرآني ـ يمثل مكوناً أساسيا في الكثير من صوره وأدواته الفنية، فالذي يقرأ الصور التالية مثلاً «تعالَوْا نقرأْ "للمنصورةِ" فاتحةَ الوصْلِ ، … لوْ متنا فالقبْرُ مضيءٌ فيهِ الياقوتةُ خيْرٌ منْ ذهبِ الدُّنيا .. هأنذا أُبْصِرُ مقعدَنا منْ جنَّاتِ اللهِ العُلْيا ، والطيرُ الأخضرُ ينسربُ من الرُّوحِ ، ويَرِدُ الأنهارَ ، ويأكلُ منْ ثمراتِ اللهِ ، ويأْوي للقنديلِ الهابطِ منْ سقْفِ العرْشِ» (قصيدة «الأميرة تنتصر»)، و«في الفجْرِ تراني أخرجُ طفلاً عرياناً بين الرحمِ وماءِ الصلبِ الدّافقِ» (قصيدة «قنديل الحلم»)، و«نكص على عقبيْه وفر» (قصيدة «المهرج») و«يركب خيل الليلِ السريِّ، ويصحبُهُ طيْرُ أبابيلَ فيُمطرهمْ» (قصيدة «سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق»)، و «يسقطُ من عينيها ظل شعاعٍ فتانٍ، يبعثُ في الوهْمِ السُّفليَّ النارَ القدسيَّةَ، فأكادُ أموتُ وحيداً بين الطينِ ورحمِ الأرضِ الحبالى بالنور العلويّْ» (قصيدة «شجرة الحلم») .. الذي يقرأ هذه الصور وغيرها لا يُخطئ إدراك دور المعجم الديني في تشكيل هذه الصور، ومدى تغلغل الوجدان الديني في رؤيا الشاعر.
                        وهذا يقودنا إلى الحديث عن الأدوات الشعرية التي يستخدمها الشاعر في تجسيد رؤيته الشعرية، والحقيقة أن أدواته تمتزج امتزاجاً بارعاً بأبعاد رؤيته، وتتحد بها، إلى الحد الذي تُصبح فيه محاولة الفصل بين أبعاد الرؤية الشعرية وأدوات تجسيدها ضرباً من التعسف، ومن ثم فإن الحديث عن الأدوات الشعرية هو بالضرورة حديث عن الرؤية الشعرية التي تتقمّص هذه الأدوات.
                        وكما تعدّدت أبعاد الرؤية وتنوعت فقد تعددت الأدوات أيضاُ وتنوعت، وإن كانت الأداتان الأساسيتان في هذه المجموعة هما «الصورة» و«الرمز»، وإن كان الشاعر قد اعتمد إلى جانب ذلك على أدوات إضافية أخرى، كالأسطورة، ووسائل التشكيل اللغوي المتنوعة، والموسيقى، والمفارقة التصويرية، وبعض التكنيكات المسرحية كالحوار وتعدد الأصوات وتصارعها في القصيدة .. وغير ذلك من الأدوات الفنية المتعددة التي تمتزج وتتفاعل، ليُثري بعضها إيحاء بعض، ولتزيد بدورها الرؤية العامة في الديوان ثراءً وعمقاً ورحابة.
                        وقد تنوّعت المصادر التي يستمدُّ منها الشاعر مواد صوره ورموزه، فهو يستمدها تارة من الطبيعة، وتارة من التراث القديم والمعاصر، وتارة من الأساطير، وتارة من عالم اللاشعور حسبما تقتضي طبيعة الرؤية الشعرية.
                        ولعل أكثر رموز الطبيعة شيوعاً في المجموعة هي تلك الرموز التي توحي بالخصب والحيوية والعطاء، كالنهر والشجرة، وهما رمزان أساسيان من الرموز التي يتكئ عليها الشاعر اتكاءً كبيراً في الإيحاء بأبعاد تجربته، وتتعدد إيحاءات هذين الرمزين وتتنوّع، فلا يتجمّدان على إيحاء واحد؛ فالنهر مثلاً يرمز للعطاء والخصب «إنِّي أعرفُ كيْفَ يغيضُ النَّهرُ …، وكيفَ يفيضْ»، ويرمز للطهارة «أنزلُ للنَّهْرِ وأغسلُ وجْهي ، تتعلَّقُ بالثَّوْبِ الأبيضِ ذرَّاتُ الطَّمْيِ الأسمرِ»، ويرمز للقوة والتدفق والعنف والثورة «ينطلِقُ النِّيلُ حصاناً همَجِيَّ الخُطُواتْ»، ويرمز للأمل المرتقب «أتشهَّى جسَدَ امرأةٍ تطلُعُ منْ زهْرِ النَّارِ، وتُعطيني أحواضَ الدُّنيا، تمنحُني الكوْثَرْ». وقد يحمل كل هذه الدلالات ويشع بكل هذه الإيحاءات في آن واحد كما في قصيدة «نهر الغضب» ـ وهي مرثية لنجيب سرور ـ حيث يصبح النهر في هذه القصيدة رمزاً لكل المعاني السابقة «نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ أراهُ يفورُ ، ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ ، ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ … ويُمنِّينا أنْ يحملَ فوقَ قِلاعِ الغضبِ صباحَ العيدْ». وما يُقال عن النهر يُمكن أن يُقال مثله عن «الشجرة» وعن «النار» وعن «النور» وعن «العصافير» وغيرها من المعطيات التي استمدها الشاعر من الطبيعة ليشكل منها صوره ورموزه.
                        أما المصدر التراثي فإن الشاعر يلجأ إليه في بعض الأحيان، ويستمد منه أدوات ومعطيات يوظفها توظيفاً رمزيا بارعاً، كما فعل مثلاً في قصيدته «الأميرة تنتصر» ـ وهي واحدة من أجود قصائد المجموعة ـ التي اتكأ فيها على الموروث التاريخي، ووظفه توظيفاً رمزياً بارعاً يمتزج فيه المُعاصر بالموروث، والماضي بالحاضر امتزاجاً فنيا رائعا. وقد اختار الشاعر لحظة من أكثر لحظات موروثنا التاريخي إشراقاً ونصاعةً، لتكون هي محور البناء الفني في القصيدة، وهي معركة المنصورة، التي حقق فيها الجيش المصري الأيوبي المسلم بقيادة الملك الصالح أيوب ـ ثم زوجته شجر الدر وابنه تورانشاه من بعده ـ نصراً حاسماً على الجيوش الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، حيثُ عادت هذه الجيوش تجر أذيال الخيبة والهزيمة بعد أن تكبّدت أفدح الخسائر، وبعد أن أُسِر قائدُها لويس نفسُه. وقد استغل الشاعر المعطيات التراثية لهذه اللحظة بمهارة فنية واضحة، واستطاع أن يُوحِّد بينها وبين معطيات الواقع المُعاصر في رؤية شعرية شديدة الشفافية والعمق والبراعة، ولا يكتفي الشاعر بمعطيات هذه اللحظة فيرفدها بمعطيات تُراثية أخرى تزيد من نصاعتها وإشراقها:
                        «هذي "شجرُ الدُّرَّ" فكمْ يشتاقُ الصَّالحُ للضَّمَّةِ ! ، هذي قِطَعُ الليلِ القادمِ منْ دِمياطَ ، العابرِ لُجَجَ المتوسِّطِ لمْ تُرْهِبْنا ، لمْ نتبدَّلْ في النَّقْعِ (وكانتْ حين التحمَ الجيشانِ كسَدٍّ عاتٍ يحمينا منْ أسيافِ الأعداءِ ، وكانتْ تلثُمُ هذا الجمعَ المتشرنِقَ في الليلِ ، الباحثَ عنْ نورِ الفجْرِ) وأرضُ الباحةِ تمتلئُ بخيْلٍ يصْهلُ ، وبصُلبانٍ ، ونواقيسَ . ومئذنةُ الفجْرِ أراها تصرخُ في أعماقِ الجمعِ : صموداً . يُشرقُ خالدُ وابنُ الخطابِ وسعدٌ في الظُّلمَةِ أقماراً ، هذا وعْدُ اللهِ لنا ، لمْ يكتُبْ في اللوْحِ الباقي ـ للأبناءِ البررةِ ـ غيْرَ النصرِ ، فهاتي حضنيْكَ ، وهذي "المنصورةُ" تصبرُ وتقاتِلُ ، تنفضُ عنْ كتِفيْها ذُلَّ العُمْرِ ودَهْرَ السُّخْرَهْ ! »
                        ولا يقف استرفاد الشاعر للتراث عند حدود تراثنا القديم ـ بمصادره المتعددة ـ وإنما يتجاوز ذلك إلى تراثنا الأدبي المعاصر، فيستمد منه رموزاً تلائم طبيعة الرؤية التي يُجسدها، فمثلاً في قصيدة «ثلاثة أصوات ترسم النهاية» التي يُهديها إلى سر بدر شاكر السياب ـ تُصبح معطيات حياة السياب ومُعطيات شعره أدوات فنية في يد الشاعر، ورموزاً يُسقط عليها أشدَّ أبعاد رؤيته خصوصية وذاتية. وهكذا تتحول «إقبال» ـ زوجة السياب ـ و«بويب» ـ نهر جيكور الذي طالما غنّى له السياب ـ و«البصرة» ـ بلد الشاعر ـ و«لندن» ـ التي قضى فيها الشاعر مرحلة مرضه، و«الأقنان» ـ الذين كتب عنهم السياب أحد دواوينه «منزل الأقنان» ـ هكذا تتحوّل كل هذه المعطيات إلى رموز ووسائل إيحاء تمتزج برموز الشاعر الخاصة، وتتحد كل هذه الرموز بأبعاد رؤية الشاعر الذاتية في هذه القصيدة:
                        «إني أحمل في القلب حكايا وتراتيل
                        وباقة أشعارٍ خضراءْ
                        وتغريدةَ عصفورٍ،
                        أُطلقُها في أفيائكِ يا "لندنُ"
                        حتى تسكبَ موسيقاها
                        في شريان الشجرةِ "إقبالَ"
                        ويهدرُ قلبٌ أخضرُ:
                        عادَ يُغنِّي، يمشي مرفوعَ الهامةِ
                        يطرقُ أبوابَ الفجرِ
                        ويجلسُ مع أصحاب صباه مساءً
                        قُدّامَ الدارِ،
                        وأنت "بُويبُ" حزينُ، قل لي:
                        لمَ لا تُثمرُ أشجارُ حدائقِكَ اليابسةِ
                        لماذا لا ينطلقُ العصفورُ بنارِ الوصْلِ
                        ويحرقُ تذكاراتِ (الأقنانِ) التعسةِ والحلوهْ؟»
                        وهو يصنع نفس الصنيع في قصيدته «السمان والخريف» التي يستمد أدواتها من رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، فالرمز الأساسي في القصيدة هو «عيسى الدباغ» بطل رواية نجيب محفوظ.
                        بل إن الشاعر يقوم في مجال استرفاد التراث الأدبي المعاصر بتجربة جريئة، حيثُ يُضمِّن بعض قصائده مقاطع كاملة من شعر أصدقائه من الشعراء العرب الشبان المُعاصرين، كما فعل مثلاً في المقطع الأخير من قصيدة «سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق»، وهو المقطع الذي يحمل عنوان «طائر الخرافة»، فقد ضمّن الشاعر هذا المقطعَ مقطعاً كاملاً من شعر الشاعر الأردني عبد الله الشحام:
                        «قالَ صديقي عبدُ اللهِ الشَّحّامُ قديماً
                        "فليحصُلْ ما يحْصُلْ
                        ولتُصبِحْ مأساتي صلصلةً وأزيزا
                        ولتُصبِحْ أُقصوصةُ حبي مَحْرَقَةً وخريفا
                        ولتنْدكَّ قلاعُ الكَفَرَهْ!
                        ولْيحْصُلْ غزْوٌ ما
                        هذا .. هذا
                        شاهدْتُ العالَمَ كالقائمِ
                        والمنكوبَ صليباً وغماما
                        شاهدْتُ الدُّنيا بالمقلوبِ
                        وشاهدْتُ البحْرَ على الشاطِئِ
                        يحملُ سيفاً ورصاصاً، ويُعيدُ عيوني»
                        ويُعلِّق شاعرنا في قصيدته على هذا المقطع بقوله:
                        «وكأنَ صديقي عبدَاللهْ
                        كانَ يُطالِعُ في اللوحِ المحفوظِ
                        فقالَ، وعاشَ، وشاهدَ ما أُبصرُهُ الآنَ»
                        وكأنما يُقدم التبرير الفني للجوئه إلى هذا التكنيك الشعري البارع، وهو وحدة الرؤية، ووحدة المُعاناة.
                        ولكن إذا كان الشاعر قد حقق هذا النجاح الكبير في استرفاده لموروثه العربي والإسلامي ـ القديم والمُعاصر ـ فإنه لم يكن على نفس هذا القدر من التوفيق عندما حاول أن يسترفد بعض التراثات الأجنبية، كالتراث الإغريقي مثلاً، حيث تبدو هذه التراثات غريبة على نسيج رؤيته الشعرية وطبيعة أدواته الفنية، ويبدو استخدامه لهذه الموروثات مجرد مجاراة لتيار اللجوء إلى التراثات الأجنبية، دون أن يكون في طبيعة الرؤية الشعرية ما يقتضي هذا اللجوء أو يبرره .. فضلاً عن أن هذه التراثات تظل غريبة على وجدان المتلقي العربي وذوقه، وهذا واضح في مقطع «مشهد الموت والميلاد» من قصيدة «شجرة الحلم» الذي اعتمد فيه الشاعر اعتماداً أساسيا على معطيات أسطورة «أوديب» الإغريقية، وقتله لأبيه «أيوس» ـ دون أن يعرف أنه أبوه ـ وزواجه من أمه «جوكاسته» ـ دون أن يعرف أنها أمه ـوقد فقأ عينيه وقتلت أمه نفسها بعد اكتشاف الحقيقة .. فعلى الرغم من أن الشاعر نجح في أن يُحمِّل هذه المعطيات بعض رؤيته العامة في القصيدة فإن هذه المعطيات تظل ـ رغم ذلك ـ غريبة على النسيج العام للرؤية الشعرية .. وطبيعة الأدوات الأخرى المستخدمة في تجسيدها.
                        *
                        أما بالنسبة للموسيقا في الديوان، فيستلفت النظر فيها ظاهرتان:
                        الأولى: أن الشاعر استخدم وزناً واحداً في معظم قصائد الديوان؛ فجاءت قصائد المجموعة باستثناء عدد قليل منها من «بحر الخبب» الذي هو أحد صيغ «بحر المتدارك»، ووحدة إيقاع هذا البحر «فعلن»، وموسيقى هذا البحر على قدر كبير من الاضطراب بطبيعتها وقريبة من النثرية والركاكة الموسيقية، ولكن شاعرنا نجح في إن ينأى بإيقاعه الموسيقي ـ إلا في مواضع قليلة ـ من هذه الركاكة الموسيقية التي هي سمة طبيعية من سمات هذا الوزن.
                        أما الظاهرة الثانية فهي استخدام الشاعر لأسلوب «التدوير» استخداماً بارعاً في هذه المجموعة. و«التدوير» ظاهرة أخرى شاعت في نتاج الشعر الحر شيوعاً لافتاً للنظر .. بحيث أصبح استخدام معظم الشعراء له لوناً من التقليد والمُجاراة للآخرين دون أن يكون في طبيعة الرؤية ما يُبرر استخدام هذا الأسلوب .. فضلاً عن أن الاستخدام غير الواعي لهذا الأسلوب يُضاعف من ظهور النثرية والركاكة الموسيقية في معظم نماذج الشعراء الشباب، ولكن شاعرنا واحد من الشعراء الشباب القليلين الذين ينجحون ـ في معظم الأحيان ـ في السيطرة على هذا الأسلوب وتجاوز مزالقه، خاصة وأن رؤيته في هذه المجموعة فيها من التدفق والاطراد ما يُلائم هذا الأسلوب الموسيقي .. وإن كان الشاعر لم يسلم تماماً من الوقوع في مزالق النثرية وعدم الانضباط التي يقود إليها استخدام هذا الأسلوب.
                        وقد وضع الشاعر بعض الضوابط الموسيقية الفنية على تدفق هذا الأسلوب غير المنضبط، بأنه كان يلجأ إلى عدد من القوافي تكون بمثابة محطات، يتوقف عندها تدفق الإيقاع، ويستريح معه القارئ، فكانت بعض القصائد تتكوّن من مجموعة أبيات طويلة مدوّرة موحدة القافية. والنموذج على ذلك قصيدته «الأميرة تنتصر» التي تتألّف من ثمانية أبيات مدوّرة طويلة، يصل طول بعضها إلى ما يقرب من مائة تفعيلة، وكل هذه الأبيات مبنية على قافية موحّدة، حيث تتوالى قوافي الأبيات الثمانية على النحو التالي: «البررة. المندحرة. الوعرة. الشجرة. المستعرة. الدرة. السخرة. السترة».
                        وفي القصائد التي تتألّف من مقاطع منفصلة كان الشاعر يبني كل مقطع من مجموعة من الأبيات المدورة الموحدة القافية، ويغيِّر القافية من مقطع إلى آخر.
                        كما كان الشاعر يلجأ في بعض القصائد إلى استخدام أبيات قصيرة غير مدورة، إذا كان في طبيعة الرؤيا ما يقتضي ذلك، كما في قصيدة "نهر الغضب" وهي مرثية كتبها للشاعر نجيب سرور .. شاعر الثورة والغضب، ففي هذه القصيدة يستخدم الشاعر ـ إلى جانب الأبيات الطويلة المدورة ـ أبياتاً قصيرة غير مدورة، فحين تهدر رؤيته بالغضب والثورة يتدفّق الإيقاع هادراً في أبيات مدورة، على قدر واضح من الطول والتدفق، أما حين يطغى عليه الحزن فإن الأبيات تقصر، وتأخذ صورة الندب شكلاً وإيقاعاً، كما في المقطعين الثاني والثالث اللذين يندب فيهما الشاعر نجيباً:
                        2
                        *لكنَّ نجيباً غابْ
                        *والفجرُ الأخضرُ كنتُ أراهُ على الأبوابْ

                        3
                        *منْ قتَلَ نجيبْ ؟
                        *والليلُ كئيبْ ؟
                        وهذان المقطعان يتوسطان مقطعين آخرين يتألف كل منهما من بيتين طويلين مدوّرين، يتدفقان بالغضب، ويبلغ طول بعض الأبيات المدورة أكثر من ثلاثين تفعيلة، كما في البيت الأول من المقطع الأول، الذي يقول فيه الشاعر:
                        *نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ أراهُ يفورُ، ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ، ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ، اندفعتْ منْ شرنقةِ الليلِ نساءُ الفجْرِ، هتفْنَ بصوتِ الغضبِ الثورةِ: هذا النهرُ عنيدْ
                        هكذا يُسيطر الشاعر على أدواته، وهكذا تُصبح الموسيقى وسيلة إيحاء وتعبير وليست مجرد إطار نغمي عام، وإنما هي كالصورة، والرمز واللغة تتشكل بشكل الرؤية الشعرية وتُجسدها.
                        وبعد؛
                        فأرجو أن تكون هذه القراءة النقدية لمجموعة الصديق الأستاذ حسين علي محمد إسهاماً متواضعاً في إلقاء بعض الضوء على جهود شعرائنا الشباب، ومحاولتهم النبيلة تحدي كل عوامل الإحباط واليأس التي تُطالعهم من كل أرجاء الواقع المُحيط بهم ..
                        كما أرجو أن تكون تحية مخلصة للشاعر، وكل الذين يشاركونه محاولة الاحتفاظ للكلمة الشعرية بنصاعتها وتألقها من ذوي الأحلام النبيلة المُناضلة.
                        علي عشري زايد

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          عضو أساسي
                          • 14-10-2007
                          • 867

                          #27
                          (21) قراءة تحليلية في قصيدة «رحيل الظلال» للشاعر حسين علي محمد

                          بقلم: سعيد عاشور
                          ...............

                          أ-النص:


                          رحيل الظلال
                          (قصيدة إلى مفتتح عام 2003م)
                          شعر: د. حسين علي محمد

                          الظلالُ التي أدمنتْ حبَّنا / هجرنا ..
                          ـ هكذا قالت الريحُ في سِفرِها ـ
                          تخدعُ الروحَ، توعدنا بالهلاكِ،
                          فهل ترحلُ الآن ـ قبل رحيل الظلالِ ـ خُطى القافِلةْ؟
                          قالتْ الآنَ هذي الظلالُ التعيسةُ:
                          هذا أوانُ الرحيلِ،
                          سأترك وقْعَ خطاك على الصَّخْرِ،
                          كمْ قادني البوحُ نحو الفراغ الذي يجتليه الربيعُ ،
                          العنادلُ في هدأةِ الوقت تحرسُ تلك الأغاني
                          .. التي لم تمتْ في صقيع ِ المجرات، في الهدأةِ القاتِلةْ
                          للحقيقةِ قال حداءُ القوافلِ فجراً،
                          لتلك التلال الصديقة :
                          أنتِ نصوصي التي فاوضتني الجبالُ على طهرها،
                          أنتِ لنْ تسقطي تحت أرجلِ هذا الشتاءِ الكسولِ،
                          تعاليْ ..
                          لقد سرق اللصُّ ما وفرتهُ النمالُ،
                          وذي جوقةٌ للِّصوص تُغنيكِ: هيا لنهربْ ..
                          هيا لنأخذ كعكتنا في الشتاء المواتي و نهربُ ..
                          ـ لن نركب الرحلة الآفلة
                          سنبقى هنا، نتحاورُ،،،
                          ويْ .. يا لتلكَ النسورِ المهيضةِ ..
                          ....!!
                          والأرضُ لن تترك الأُسْدَ تبكي
                          بتلك الفؤوس التي تفتح الآن بطن السهول ليظهر هذا النخيلُ المقاتلُ
                          نحضنُ ظلَّ الضحى في السنابلِ،
                          نرقبُ عشقَ الجداولِ،
                          ... كمْ ناغتِ القريةَ الغافلة
                          ولن يعبر الوحشُ في نومةِ العاشقِ المستكينِ على جثةِ النخْلِ
                          لن يمتطي صهوةِ الريحِ في أفقنا ..
                          كيفَ يأخذُ فيضَ البداياتِ،
                          لا نرتجي أن يكونَ الرحيلُ رفيقاً لنا
                          سنتركه فوق هذا الرصيفِ المخاتلِ
                          يبكي على الوعْدِ، والسابلةْ
                          هنا،
                          يتعفن هذا الفراغُ الذي حاصرَ الوقتَ ..
                          أُسكتهُ بالحياةِ التي تتحدّى الحصارَ،
                          وتقتلُُ في فزعةِ الروحِ: ليل العذابِ
                          / النهاياتِ
                          / صوتاً له ملمحُ الرَّعدِ ..
                          أوْ هجمةَ القنبلةْ.


                          الرياض 5/1/2002م
                          ................
                          ب-القراءة:
                          يقول الشاعر
                          (الظلالُ الَّتي أدمنت حُبَّنا/ هجرنا )
                          فلننظر للمفردة الأولى (الظلال)، الظلال: جمع ظل، يعني ظلالاً كثيرة، فـ(الظلالُ ) تعني الأماكن، و(الظلال) قد تكون ظلال الأشجارِ، أو ظلال الحوائط الأسقفِ و..و..و... مما يعني في النهاية أنها هي ظلال الوطن أو الأوطان.
                          وكل هذي الظلال عاشرتنا وأحبتنا؛ أحبتنا في حبنا، وأحبتنا في هجرنا حتى أدمنت هذا الحب وأصبحت لا تستطيع أن تهجرنا، ولا نحنُ نستطيع أن نهجرها ولو فقدنا أنفسنا وأرواحنا وكل ما نملك!
                          فماذا يُريد الشاعر أن يقول حتى خرج علينا بهذا المفتتح لِأن البيت الذي سوف يأتي بعد هذا البيت يقولُ فيهِ:
                          ( هكذا قالت الريحُ في سفرها) ولو نظرنا في هذا البيت سنجد فعلاً وفاعلاً: الفعل (قال) فعل ماضٍِ والتاء تاء التأنيث، أما الفاعل هُنا فهي (الريح). ولماذا قال الشاعرُ (الريحَ) ولم يقل (الرياح) إشارةٌ إلى قول النبي صلى الله عليهِ وسلم : ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) لِأن الريحَ تحملُ من الشرِ أكثرُ من الخيرِ (ريحٌ صرصرٌ) قرآن كريم) هُنا يرى الشاعر مالا يراهُ الآخرون لِأن الشاعرَ تنبأ بأنَ هُناك ريحٌ سوف تأتي إلينا تحملُ شراً لِأنها تخدعُ الروحَ، وتوعدنا بالهلاك، وتهددنا بالرحيلِ، وليسَ برحيلنا وحدنا، بل: الظلال كذلك سوف ترحل هي الأُخرى.
                          يقول الشاعر
                          (هكذا قالت الريحُ في سفرها)
                          ( تخدعُ الروحَ ، توعدنا بالهلاك)
                          ثمَ تقول الريحُ
                          (فهل ترحلُ الآنَ ـ قبلَ رحيل الظلال ـ خُطى القافلة)
                          ثمَ يأتي البيت الذي يلي ذلكَ:
                          (قالت الآنَ هذي الظلالُ التعيسة )
                          (هذا أوان الرحيل )
                          قالت، مَن هيَ التي قالت؟ مازال الكلامُ للريحِ، لِأنَ هذي الريحُ العاتية هي التي تقولُ بل تأمر ثم تصف الظلال التي عشقتنا وأدمنت حبها لنا بأنَّها ظلالٌ تعيسة، بل تأمرها بالرحيلِ، وتأمرنا نحنُ أيضاً بالرحيلِ لِأنها تقولُ:
                          (فهل ترحلُ الآن قبل رحيل الظلالِ
                          ثمَ ينقلنا الشاعرُ نقلة أُخرى : فيقول:
                          ( كم قادني البوحُ نحو الفراغ الذي يجتليهِ الربيعُ)
                          ولننظر هذا البيت: كم يعني مراتٍ كثيرة، ولننظر هُنا لياء المتكلم في قادني ومَن هو القائد : القائد هُنا هو البوح وماذا يُريد أن يبوح : البوح ليسَ في هذا البيت (البوح) في البيت الذي يلي هذا يقولُ الشاعر (العنادلُ في هدأةِ الوقت تحرسُ تلكَ الأغاني)
                          كأنما أرادَ أن يقولَ إنَ الطيورَ هيَ التي سوف تحرسُ ما تركناهُ من تراثٍ لِأننا أصبحنا عاجزينَ عن هذا، وأصبحنا عاجزينَ تماماً أمام هذهِ الريح العاتية: لأنَ ما تركناهُ من تراثٍ مرتْ عليهِ هجماتٍ كثيرة قبل ذلكَ من خلال البيت التالي يعني تلكَ الأغاني :
                          (التي لم تمت في صقيع المجرات في الهدأةِ القاتلة)
                          الهدأة تعني الأوقات التي مرتْ على هذهِ الأماكن التعيسة، وهي تلك الأُوقات العصيبة التي حاول فيها المستعمرونَ إذلالنا، ولكن كُنا نقاوم. أما الآن فنحنُ عاجزونَ وما دمنا عاجزينَ فسوف نترك هذا التراثُ للعنادلِ، وهي التي سوف تحرسهُ، وهذا دليلٌ على عجزنا واستسلامنا .
                          يقولُ الشاعرُ بعد ذلكَ :
                          (للحقيقةِ قالَ حداءُ القوافلِ فجراً لتلك التلال الصديقةُ)
                          هُنا (قالَ)، فمَن هو هذا القائلُ؟ إنه حدُاء القوافل، أي غناء القوافل. ولا بد أن يكون الغناء في هذه الساحة حزيناً! فمن يقصد بالحداء؟ ومَن هو؟ إن الحداءَ هنا هو ذات الشاعر، أو نفسهُ،. لقد أخرجَ الشاعرُ ذاتهُ وجعلها تتحدثَ مع تلك التلال الصديقة : التلال التي اعتادَ عليها ولم يتصورَ أنَّهُ سوف يتركها ولو دفنَ فيها يقولُ لها أنتِ نصوصي أنتِ تراثي الذي لا أفرط فيهِ أبداً :
                          (أنتِ نصوصي التي فاوضتني الجبالُ على طهرها) (أنتِ لن تسقطي تحت أرجلِ هذا الشتاء الكسول).
                          ثم تأتي مفردةٌ في سطر وحدَها، مفردة نداء: (تعالي). ولنتتبع هذا المشهد الدرامي الذي سوف يحدث من خلال هذهِ المفردة (تعالي) مَن يُنادي على مَن ذات الشاعر أو نفسه؟ تنادي على تلك التلالُ : التلالُ الصديقة التي راودتها الجبالُ على طهرها : تُنادي عليها (تعالي) أسرعي ماذا وراءَك أسرعي كي أخبركِ.
                          التلالُ: ماذا تُريدين وعم تُخبرين؟
                          ـ (لقد سرقَ اللصُّ ما وفرتهُ النِّمالُ )
                          ـ أي لِصٍ تقصدين؟
                          ـ اللِّصُّ صاحبَ الريح العاتية التي هددتنا بالرحيل نحنُ والظلال!
                          ـ وأي نمالٍ تقصدين؟
                          ـ النمال التي كنا نحسب أنَّها ديناصورات وما علمنا أنَّها نمالٌ إلا بعد ما أتى اللصُّ صاحب الريح العاتية الذي ضرب ودمرَ ولم يستطيع أحدٌ الوقوف في وجههِ.
                          ولنتتبع استكمال المشهد عندما يعتري النفس الإنسانية الوهن والخمول تُريد الهرب ولكن في ظل شيءٍ تحتمي فيهِ فتخاطب التلال تقول
                          (وذي جوقة للصوصِ تُغنيكِ: هيا لنهرب
                          هيا لِنأخذ كعكتنا في الشتاءِ المواتي ونهرب)
                          فتأبىَ التلالُ الأبيةُ ما تعرضهُ عليها النفس وتقول (لن نركب الرحلة الآفلة سنبقى هُنا نتحاورَ ،،، وي..يا لتلكَ النسورِ المهيضة والأرضُ لن تتركَ الأُسدَ تبكي.
                          ثمَ تُشيرُ إلى الفؤوس وكأنها تقولُ (بتلك الفؤوس التي تفتحُ الآنَ بطن السهولِ لِيظهر هذا النخيلُ المقاتل نحضنُ ظلَّ الضحى في السنابل نرقبُ عشقَ الجداول ولن يعبرَ الوحشُ في نومةِ العاشقِ المستكين على جثةِ النخلِ لن يمتطي صهوةِ الريح في أُفقنا ...كيفَ يأخذ فيضَ البدايات، لا نرتجي أن يكونَ الرحيلُ رفيقاً لنا سنتركهُ فوقَ هذا الرصيفِ المخاتل يبكي على الوعد ، والسابلة. : هُنا، يتعفن هذا الفراغُ الذي حاصرَ الوقتَ .. أسكتهُ بالحياةِ التي تتحدى الحصار وتقتلُ في فزعةِ الروحِ:ليل العذاب) ثمَ أنهت كلامها بهذا المقطع الرائع (النهاياتِ: صوتاً لهُ ملمحُ الرَّعدِ أو هجمة القنبلة) .
                          هكذا يجب أن تكون الجملة الشعرية أو السطر الشعري. أن تكون الجملة فيها حياة وحركة من خلال الصورة مع الصوت مع الخيال لِإجادة الدهشة والحركة. وسوف يظهر الصدق الفني في النص، فتصبح الجملة فيها حركة غير عادية كمثل خلية النَّحل فتجد المفردة التي تتساوى مع الملكة الأُم التي سوف نطلق عليها اسم المفردة الملكة، أما باقي المفردات فسوف نطلق عليها المفردةَ الشغالة التي تأتي بالرحيق من الزهور والتي تعملُ على حماية الخلية والتي تصنع الغذاء للملكة الأم فتقوم كل مفردة بما طلب منها تحت نظامٍ دقيق يتساوى فيهِ الجميع.
                          وسنضربُ مثالاً على ذلكَ من خلال بعض الجمل الشعرية... ، ومنها: (الظلالُ )التي أدمنت حبَّنا / هجرنا، و هكذا قالت ( الريحُ ) في سفرها ، كم ( قادني البوحُ )نحو الفراغ الذي يجتليهِ الربيع، و( تعالي )، لقد سرقَ اللصُ ما وفرتهُ ( النِّمال )، و( تلكَ الفؤوس ) التي تفتحُ الآن بطن السهول ليظهر (هذا النخيل المقاتل )، و( ملمحُ الرعد ) ( أو هجمةِ القنبلة ) ... وغيرها.
                          وهذا على سبيل المثال وليس الحصر .

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            عضو أساسي
                            • 14-10-2007
                            • 867

                            #28
                            (22) القصيدة في «الرحيل على جواد النار»

                            بقلم: محمد سعد بيومي
                            .......................

                            في حديثه مؤخراً للصحافة العربية قال الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي: "الشعر اليوم: لا توجد قصيدة، بل يوجد بيت من الشعر".
                            وهذه مقولة تعود بنا للوراء؛ والحقيقية أنني لم ألتق بهذا الشاعر الكبير لأطرح عليه سؤالاً هو: ما القصيدة التي تُريدها؟ إذ أنه لا يقصد بالطبع أن يسحب مسميات العصر الجاهلي على الشعر اليوم متجاهلاً المساحة الزمنية الكبيرة وما فيها من تطور ضرب جذوره في كل شيء: مادةً وفكراً.
                            والحقيقة أنني اجتهدت إلى تفسير شخصي لعلّ الشاعر الكبير توصّل إليه من خلال مطالعته لمعظم الأشعار العربية والأجنبية، وأقصد بها الشعر الأوربي والأمريكي. وهذا الرأي، أو التفسير الشخصي، يتكئ على جناحين:
                            الأول: أن الكثير من الأعمال الشعرية الحديثة ـ وأخص الغنائي منها ـ يفتقر إلى التلاحم، بحيث يبدو العمل كجسد إنساني حي، ولعل ذلك راجع إلى عدم التنامي في البناءين: الشعوري والتعبيري.
                            والثاني: يعود إلى اتكاء بعض الأعمال الشعرية إلى النبرة الإيقاعية بالدرجة الأولى.
                            وأحسبني في هذا المقال القصير معنيا بالدرجة الأولى بتتبع القصيدة في ديوان "الرحيل على جواد النار" للشاعر حسين علي محمد والذي صدر عن سلسلة "الإبداع العربي، التي تُشرف عليها الهيئة المصرية العامة للكتاب.
                            وأنت تقرأ قصيدة "صهيل الجواد الخشبي" إحدى قصائد الديوان تشعر أنك مشدود بخيط من أسمى الخيوط الإنسانية:
                            عملُ الليلَ مريحٌ
                            فاتركْ أرضَ الريفِ،
                            ففي غدِكَ المزهرِ ترحلُ للأرضِ الموعودةِ،
                            يشمخ بك البناء التعبيري لريفي منسلخ عن عالمه النقي ليضيع في عرق المدينة الليلي، ويصبح نكرة من النكرات، وحين أراد البحث عن وجهه بعد صحوة متأخرة، لم يجد من يرده إلى عالمه الذي انفصل عنه، وحين أراد البحث عن جذوره التي قطعها سمع شهادة وفاته على ألسنة أهل قريته، في حين بقيت سيرة أمه ممتدة الهامة بنقائها، وعطائها غير المحدود.
                            نستطيع أن نقول إن "صهيل الجواد الخشبي" قصيدة متكاملة البناء، فهي شريحة حية متكاملة التكوين، وصل مبدعها إلى معادلها بمرحلتين غير منفصلتين: معادل شعوري يدل على ذهن صاف وموروث من العقائد الأصيلة، ومكتسبات من الثقافة الشمولية، مكّنته من إخراج هذا المُعادل الشعوري في بناء تعبيري واضح المعالم في قدرة يُحسَد عليها.
                            وإذا كان البناء التعبيري يشمل البناء اللغوي والأسلوبي والبياني فإننا للوهلة الأولى نلحظ اللفظ المختار بصدق وأمانة وعذوبة
                            عملُ الليلَ مريحٌ
                            فاتركْ أرضَ الريفِ،
                            ففي غدِكَ المزهرِ ترحلُ للأرضِ الموعودةِ،
                            ولتصحُ مع الفجْرِ
                            لتركبَ أوَّلَ حافلةٍ
                            للقاهرةِ الحالمةِ الرحبةِ
                            ولتضعِ الوردةَ في عروةِ صدرِكَ
                            إيقاعُ الخطْوِ يُمثِّلُ قَفَزاتٍ
                            والحركةُ في قاعِ الصمتِ
                            وأنتَ كبيرٌ، هلْ تجهلُ صولةَ عملِكَ ؟
                            (عمل الليل مريح ـ اترك أرض الريف ـ لتركب أول حافلة للقاهرة ـ الحالمة ـ الرحبة ـ ولتضعِ الوردةَ في عروةِ صدرِكَ).
                            هنا يصبح اللفظ والصورة الجزئية والجملة والعبارة والتوظيف الأسلوبي ـ إخباريا كان أم إنشائيا ـ يُصبح كل هذا التكوين ملامح القصيدة ـ الجسد الحي ـ وتُفلح القصيدة ـ وكل قصائد الديوان ـ في إعطائك هذا الانطباع.
                            والمُلفت للنظر في "صهيل الجواد الخشبي" أن الصراع في معظم القصيدة خافت، لكنه يتفجّر في المقطع قبل الأخير، وهو صراع عنيف، لأنه تفجّر من النفس، وعلى النفس.
                            وإذا عدنا إلى الجناح الثاني في الاجتهاد الشخصي والخاص بالإيقاع نجد أن الشاعر حسين علي محمد يدخل هذا الجانب بدقة تحسب له أيضاً، فلم يُغفله، ولم يجعله يقف حجر عثرة أمام تلاحم قصائده:
                            كان يُحبُّ الخلاّنْ
                            كانَ يُحبُّ العظمةَ والسلطانْ
                            فليرحمْهُ الرحمنْ
                            لكن خاتمة القصيدة تتركنا أمام عدة تساؤلات: هل من لم يشهد أحداً أو بدراً أو حرب التحرير ضرير؟ وهل يتساوى عديم النفع بالبعير؟ وكيف كان السقوط؟
                            الحقيقة أننا نستطيع أن نلمس التلاحم في معظم قصائد الديوان حتى الذاتي منها (دمعتان ـ الأسوار ـ الصوت الأخضر في غابات القيظ)، غير أننا نميز القصائد الذاتية بالشمولية والانطلاق، حتى وإن كانت مهداة إلى أشخاص معينين، وهذا يؤكِّد قدرة حسين علي محمد على الانطلاق بقصيدته ـ رغم الرحيل الصعب ـ في عالم الشعر.
                            محمد سعد بيومي
                            ................................
                            *المساء، في 28/6/1991م.

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              عضو أساسي
                              • 14-10-2007
                              • 867

                              #29
                              (23) توظيف التراث في ديوان «الرحيل على جواد النار»
                              للشاعر حسين علي محمد

                              بقلم: عبد الله مهدي
                              ....................

                              "للتراث وجود حي ودائم في وجدان الأمة ، والشاعر حين يتوسل إلى الوصول لوجدان أمته بتوظيفه لبعض مقومات تراثها يكون قد توسل إلى هذا الوجدان بأقوى الوسائل تأثيراً فيه . وقد شاعت في شعرنا العربي المعاصر ظاهرة توظيف التراث بهذا المفهوم ، حتى لا نكاد نجد شاعرا من شعرائنا المعاصرين لم يلجأ إلى توظيف معطيات التراث في شعره ، بحيث أصبح هذا التوظيف تقنية أساسية من تقنيات بناء القصيدة العربية"(2)
                              ففي مسرحية "الباحث عن النور: أبو ذر الغفاري"(3) حاول شاعرنا أن يسلبنا من الواقع عن طريق الإيهام ، لكي يرجع بنا إلى التجربة التاريخية فنعيش واقعها حيث نتعرف على الشخوص ، ونعاين الأحداث ، ونلم بكل التفصيلات ، حتى لنصبح بوصفنا قلقين جزءا من هذه التجربة .
                              وقد أمعن شاعرنا في التقيد بالإطار التاريخي ، فنقلنا إلى ما ردّده أبطال مسرحيته في إطار وحدة الزمان والمكان التاريخيين .
                              فها هو أنيس بعد سماعه كلام ورقة بن نوفل عن محمد ـ r ـ ورسالته يذهب إلى مكة ، ويعود حاكيا لأخيه :
                              أبو ذر: هل أبصرتَهْ ؟
                              أنيس: كنتُ أسيرُ جوارَ البيتْ
                              أبصرتُه
                              يدعو الناسَ لدينِهْ
                              والقولُ جميلٌ لا أذكرُ شيئا منه
                              أبو ذر: والناس ؟
                              في مكه ؟
                              ما موقفُهُم منهْ ؟
                              أنيس: بعض القوم أجاب نداءَ الحق
                              لكن كثيراً من أعيانِ القومْ
                              انفضوا من حولهْ
                              ويقولونْ:
                              ـ هذا شاعرْ
                              ـ أوْ ساحرْ
                              ـ أوْ كاهنْ
                              ـ أوْ مجنون
                              وكذلك حوار ورقة بن نوفل مع الراهب وأنيس.
                              "وبما أن التجربة قد صارت ماضيا منتهيا فإن استعارتها يمكن أن يكون له مغزى بالنسبة إلى الحاضر الذي لم ينته بعد، ومن ثم يكون اختيار الكاتب للنموذج التاريخي موجها بما يتراءى له فيه من مغزى ينعكس على الحاضر ويُضيئه" (4)
                              إن إمعان شاعرنا في الإطار التاريخي لم ينسه واقعه، فنراه يتأمل واقعه في ضوء ما عايشه في تلك التجربة.
                              فنقرأ في المسرحية أن أنيسا طالب أخاه أبا ذر بالذهاب معه وقومه إلى "مناة" حتى ترضى عنهم ، وتُسقط الأمطار:
                              أنيس: لا يا جندبْ
                              لن نُصبح أفقرَ مما أصبحْنا
                              لكنَّ القومْ
                              سيقولونْ:
                              "جندبُ سببُ النقمهْ
                              جلَبَ علينا غضبَ "مناةْ" .. "!
                              لعلك تلحظ نموذجا للقوم الذين يختلقون المبررات لإرضاء أنفسهم بإقناعها بالباطل، ويتجلّى هذا النموذج حينما نسقطه على واقعنا المكتظ بتلك النماذج.
                              وها هم أولاء قوم أبي ذر يذهبون ومعهم أنيس إلى "مناة"، يذبحون لها القرابين من أجل أن تعفو عنهم:
                              أبو ذر: لا يا أمي !
                              (يُضاء المنظر في الجانب الأيمن)
                              أنيس: (مستمرا) وذهبنا لمناةْ
                              ورجوْنا منها العفو
                              وذبحنا الجُزُرَ إليها قُربانا
                              الراهب: ماذا فَعَلَتْ معكمْ ؟
                              أنيس: لم تفعل شيئا !
                              إنا قصّرنا في حق المعبودةِ سبْعَ سنينْ
                              وهجرناها
                              ولذا لم تمنحنا الأمطارْ
                              أو تدرأْ عنا الأخطارْ
                              تركتنا للفقْرِ وللبرْدِ القارس
                              الراهب: (في شفقة)
                              لا يُعطي حجرُ شيئا يا ولدي
                              فاللهُ تبارَكَ في مجدِهْ
                              قد سخِطَ عليكمْ
                              حينَ نحتُمْ ماشيةً قُرباناً
                              قُدَّامَ صَنَمْ !
                              أنيس: لكنَّ مناةْ
                              كمْ منحتْنا من قبلُ الأمطارْ
                              كانتْ تسقطها في العامِ وراءَ العامْ
                              الراهب: لم تمنحْكُم شيئا يا ولدي
                              فاللهُ هو المانحُ والمانعْ
                              ومناةْ
                              لا تقدرُ أن تفعلَ شيئا
                              وهنا يتمثل نموذج الشخص الذي يُجادل في الباطل حتى لا يُهزم متمثلا في أنيس . وتلحظ هذا النموذج في واقعنا حينما تُسقطه عليه ، وقد تكون أنت هذا النموذج فتحاول أن تُصلح منها وتقوِّمها .
                              ولعل اتصال شاعرنا الكامل بالتراث في هذه المسرحية دون محاولة التفاعل معه فنيا ليُنتج مركّبا جديدا من هذا التراث قد قلّل من قيمة العمل الفنية .
                              وفي قصيدة "الرحيل على جواد النار: من مكابدات عبد الله بن الزبير" (ص 25-37 من الديوان) يوظف الشاعر شخصية واقعية لها وجودها الحقيقي التراثي هو عبد الله بن الزبير t في التعبير عن التمسك بالمبادئ والمثل مهما ينتج عن ذلك من تصادم مع الطغاة وزبانيتهم .
                              وقد وفق الشاعر في توظيفه لتلك الشخصية التراثية ، فـ "عبد الله بن الزبير" t أبوه حواريُّ رسول الله r ، وأمه ذات النطاقين t ، وقد اشترك في فتح شمال أفريقيا ، وأبدى سخطه في عهد معاوية بن أبي سفيان t على تحوُّل الخلافة من نظام الشورى والانتخاب … ولذا عندما تولى يزيد بن معاوية الخلافة أعلن الثورة عليه ، فوجّه يزيد الجيوش لقتاله ، فلاذ بالكعبة وسمّى نفسه "العائذ بالبيت" .
                              وفي أثناء حصار جيش يزيد لابن الزبير توفي يزيد ، فأعلن قائد الجيش مبايعته لعبد الله بن الزبير وطالبه بالذهاب معه إلى الشام لمبايعته هناك .. ولكنه رفض لإيمانه بوجوب أن تكون بلاد الحجاز حاضرة الدولة الإسلامية ، كما كانت في عهد الرسول r وأبي بكر وعثمان ، ولكن سرعان ما وحّد البيت الأموي نفسَه حتى تولى عبد الملك بن مروان الذي دانتْ له جميع البلاد الإسلامية ماعدا الحجاز، بعد أن سقطت العراق آخر معاقل الزبيريين في يد جيشه ، فأرسل قائده الحجّاج بن يوسف الثقفي إلى الحجاز لقتال ابن الزبير …
                              وفي تلك الأثناء شعر أنصار عبد الله بحرج موقفهم ، فطلبوا لأنفسهم النجاة والسلامة ، وأسرع بعضهم إلى البيعة لعبد الملك بن مروان ، وخرج ابناه حمزة وحبيب فأخذا لأنفسهما أماناً من الحجّاج بعد أن تخلّى معظم الناس عن أبيهما .. حتى لقي ابن الزبير مصرعه ، وأراد الحجاج أن يُنكِّل بعبد الله فصلب جثته ، ولكن ذلك أثار عطف أعدائه قبل أنصاره .
                              ويرمز الشاعر للقوى المُعادية الطاغية بشخصية الحجاج بن يوسف الثقفي .
                              يقول الشاعر في المقطوعة الثالثة التي تحمل عنوان "يشتعل الجسد الفارع" (ص 32 من الديوان) مبينا حب ابن الزبير لمكة ، ومحاولته بأن تكون قلب الأمة الإسلامية النابض :
                              ظلَّ يُخاصرُ مكةَ قدّامَ الناسِ ويصرُخُ
                              "أنتِ عروسي"
                              يا قمري النّاصعَ غِبتِ سنينَ عن القلبِ،
                              تعودينَ الآنَ، فتمتلئُ الدنيا بالبهجةِ،
                              ويصوِّر الشاعر حبه العميق لمكة ومخاوفه من عدم مقدرة عبد الله من تنفيذ حلمه بأن تكون مكة حاضرة الدولة الإسلامية (ص 33 من الديوان) :
                              ومحبوبتُكَ الليلةَ تلتصقُ بصدركَ يا عبدَ اللهِ ..
                              وصدرُكَ هلْ ينخرُهُ السوسُ
                              القادمُ في الليلِ ..
                              آراء عبد الله كانت مبدئية نزيهة قصد بها وجه الله فقط .. لكن أنصاره حين احسُّوا بحرج موقفهم تركوه لمبا يعة عبد الملك بن مروان ، فيقول عبد الله على لسان الشاعر (ص 35 من الديوان) :
                              إليْكَ نسيرُ ،
                              ولا نرغبُ إلا في وجهِكَ ياربُّ ،
                              فقوِّ عزيمةَ أصحابي
                              واجعلْ رايةَ جمعِ الفقراءِ ..
                              هي الجائحةَ .. هي المُنتصِرهْ !
                              وفي نفس القصيدة (ص 35،36) :
                              ـ يا أحبابَ اللهِ تعالوْا ، قولوا
                              هلْ ضلَّتْ خطواتُ الأحبابِ نهاراً ؟
                              أم جبُنتْ كلُّ خيولِ الصحراءِ ، وخارَ العزمُ
                              يقول عبد الله بن الزبير على لسان شاعرنا لأصحابه وأنصاره الذين وقفوا في وجه الطغيان وزبانيته ، ومبينا أن صوت الحق هو الخالد مهما عاقته العوائق (ص 37 من الديوان) :
                              قلتم كلمةَ حقٍّ في وجهِ الحجّاجِ ،
                              وقفتمْ
                              ثابرتمْ
                              مازلتُ أُناديكمْ يا أحبابَ الفجْرِ الآتي
                              أبنائي :
                              منْ يحملُ رايةَ حزبِ اللهِ القادرِ لا ييأسُ
                              من نصرِ اللهِ القادمْ
                              وفي قصيدة "الخروج من الجنة أو من تحولات أبي حيان التوحيدي" يوظف الشاعر شخصية تراثية لها وجودها التراثي الحقيقي في التعبير عن التغير الرهيب لبعض الساسة العرب "السادات" / من الكفاح المسلح إلى الاستسلام والخضوع وأغلال "كامب ديفيد" .
                              وقد وفق الشاعر في توظيفه لهذه الشخصية التراثية "فأبو حيان التوحيدي أديب فيلسوف (عاش من 310-414هـ) جمعت نفسه بين ميل قوي إلى التنعم بالعيش ولذائذه وزهده في الحياة ونعيمها الزائل .
                              اتصل التوحيدي بأبي محمد الحسن بن علي المهلبي (291-414هـ) الذي تولى الوزارة لمعز الدولة سنة339هـ ، ولكن ابن المهلبي غضب عليه لعدائه للشيعة والرافضة ، ونفاه من بغداد فرحل إلى الري للوقوف بباب ابن العميد ، وبعد فترة طرده من بلاطه ، فرحل إلى الصاحب ابن عباد ، وفعل الصاحب به كما فعل ابن العميد ، ويُفَسَّرُ سبب طرده من بلاطهما لآرائه المُنافية للقواعد الإسلامية التي أوردها التوحيدي في كتابه "الحج العقلي" والتي أدّت إلى اتهامه بسوء العقيدة والزندقة ، زدْ على ذلك عداءه للشيعة والرّافضة .
                              وفي النفثات الأخيرة من حياته عاد إلى بغداد ، واتصل بابن العارض .
                              وأبو حيان التوحيدي في القصيدة رمز للرئيس السادات الذي تنازل عن حملِ السيفِ الصادق ، وفضَّلَ الأغلال .
                              يُصوِّر الشاعر كفاح السنين وقد تحول إلى سراب خادع بعد أغلال "كامب دبفيد"؛ فقد بيع الحلم ( ص 42 من الديوان) :
                              ـ هأنذا بعدَ رحيلِ الأعوامِ
                              وراءَ سرابٍ خدّاعٍ ..
                              أرجعُ في يديَ الأغلالُ ،
                              وهاهو ذا يحصد نتيجة خطئه (ص 43 من الديوان) :
                              (فرّتْ نجماتي هاربَةً
                              سقطتْ راياتُ صمودي
                              تحت خُطى حمقي
                              غابتْ فرحةُ عيدي ،
                              ماتَ النبضُ بأعراقي ،
                              جفَّتْ كلُّ حروفِ الأملِ النابتِ في صدري)
                              يُحاول التوحيدي / السادات الرحيل إلى القدس ، ولكنه يرجع من رحلته خائب الأمل ، مكسوراً ، جريحاً ، ويعرف بعد ذلك أنه خان أمته (ص 44 من الديوان) :
                              وإني سأُسافرُ هذي المرّةِ للقدسِ ..
                              أُخاصِرُ حلمي ،
                              ولكنه كما سبق وذكرت يرجع خائب الأمل (ص 42 من الديوان) :
                              ـ أرجع مكسوراً وجريحاً
                              (قد يكفي أنْ أمتصَّ جراحي)
                              .. لكنِّي أخرجُ من جنتِكِ
                              وأعرفُ أني خنتُكِ في أولى لحظاتِ الكشفِ ..
                              وفي قصيدة "مفتتح" (ص ص 7-10 من الديوان) يوظف الشاعر مجموعة من الأحداث التراثية المسيحية التي توسم لوناً من التراسل الشعري بينها وبين الرؤية المعاصرة ؛ فقتل "يوحنا المعمدان" صديق المسيح بإيعاز من زوجة الملك الذي نهاه "يوحنا" عن الزواج منها لأنها إحدى محارمه ، كل ذلك وظفه الشاعر توظيفا رمزيا للإيحاء برغبته في الهروب من فوضوية المجتمع وقسوة ضياع الحق بين أفراده .
                              فهاهي زوجة الملك ترص الأكواب على مائدة السكرى فرحةُ بتحقيق رغبتها (ص 8 من الديوان) :
                              هذي لؤلؤةٌ تلْمعُ في ثوْبِ صديقي
                              والزوجةُ تلهو، وترصُّ الأكوابَ ..
                              على المائدةِ السّكْرى
                              ويصف لنا الشاعر الرفع / الهروب (ص 9،10 من الديوان):
                              وقَرَأَتْ بعضَ تعاويذِ الوصلِ ..
                              تبرعمَ هذا الجسدُ الميتُ ..
                              ووقفتُ ..
                              ارتفعتْ تلك القامةُ …
                              حتى عانقتِ الشمسَ
                              وفي قصيدة " أغنية خضراء إلى حلب: من يوميات أبي فراس" (ص 96-101 من الديوان) يوظف الشاعر شخصية واقعية تاريخية لها وجودها التراثي الحقيقي هو أبو فراس الحمداني في التعبير عن معاناته مما يحدث للشعب العربي من ذل وهوان .
                              وقد وُفق الشاعر في توظيفه لتلك الشخصية ، فأبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان رب سيف وقلم ، وخير شاهد على مجتمعه ، فقد تربى أبو فراس يتيماً تحتضنه أمه ، ويعطف عليه ابن عمه سيف الدولة ، وكان سيف الدولة يُحبه لشجاعته وكرم أخلاقه ، فقلده إمارة "منبج" ، وكان يصحبه في غاراته ، فيسطو على القبائل التي كانت تثور على ابن عمه .
                              ويرمز الشاعر إلى الأمل في تحرر الشعب العربي وتقدمه برجوع سيف الدولة الحمداني ، فالحلم بالرجوع / الأمل (ص 98 من الديوان) :
                              ـ أتجرّعُ كأْسَ الذكرى
                              أحلمُ أنْ ألقى "سيفَ الدولةِ
                              ترجعُ أيامٌ البهجةِ ،
                              ونُزيلُ الشوكَ ،
                              وتُزهرُ أشجارُ حدائقنا اليابسةِ ،
                              وأشربُ كأْسَ النشوةِ
                              حينَ أراهُ
                              وهذه دعوة يحملها الشاعر على لسان الأمل / أبي فراس لتحطيم حاجز الخوف من الإقدام على ذبح هذا البلد الرومي الميت / إسرائيل (ص 10 من الديوان) :
                              وهذا الليلُ كئيبٌ
                              هذا البلَدُ الروميُّ الميِّتُ ينفثُ فيَّ السلَّ ، فأجفلُ
                              أنشبُ ظفري في البابِ الخشبيِّ الموصَدِ
                              (هلْ يُفتحُ يوماً ؟)

                              * * *
                              ولا يقف في مجال استرفاده للتراث عند حدود تراثنا القديم بمصادره المتعددة ، وإنما يتجاوز ذلك إلى تراثنا الأدبي المعاصر ، فيستمد منه رموزاً تلائم طبيعة الرؤيا التي يُجسِّدها ، فمثلاً في قصيدة "دمعتان : إلى الشاعر الراحل الكبير صلاح عبد الصبور" (ص 50-53 من الديوان) تُصبح معطيات شعر صلاح عبد الصبور أدوات فنية في يدي الشاعر ، ورموزاً يُسقِطُ عليها أشد أبعاد رؤيته خصوصيةً وذاتيةً .
                              وهكذا يتحوّل "زهران" الشاب القوي المولع بالغناء وسماع الشعر الذي شنقه الاستعمار الإنجليزي في حادثة دنشواي الشهيرة ، والشيخ "بسّام الدين" الذي يُمثِّل "المثال" في قصيدة "مذكرات الملك عجيب بن الخصيب" والتي نجد فيها الصراع بين المثالِ والواقعِ العفنِ المرفوض .. ولعل قول شاعرنا في قصيدته (ص 51 من الديوان) يُوضح ذلك :
                              المحبوسونَ ..
                              لماذا لا يأتيني
                              بعدَ مكابدةِ الأعوامِ الشيخُ الطيبُ "بسامُ الدينِ" ؟
                              لماذا تتخلى عني الذاكرةُ ؟..
                              أراني أُمسكُ بعنانِ اللحظةِ ،
                              شيخي "بسامُ الدينِ" يقولُ الليلةَ : "دنيانا أجملُ مما تذكُرُ ..
                              فلماذا لا تُبصِرُ إلا الأنقاضَ السوداءَ ؟
                              لعل تحول هذه المعطيات الأدبية المعاصرة ـ في قصيدتي شنق زهران ومذكرات الملك عجيب بن خصيب ـ إلى رموز ووسائل إيحاء تمتزج برموز الشاعر الخاصة ، وتتحد كل هذه الرموز بأبعاد رؤية الشاعر الذاتية في هذه القصيدة .
                              وشاعرنا يصنع نفس الشيء في قصيدة "مشهد العودة إلى علوان : إلى سر فوزي العنتيل " حيث يستمد من حياة الشاعر فوزي العنتيل وإبداعاته الرمز الأساس في قصيدته ، ولعله في توحُّد كامل تام مع مفردات فوزي العنتيل ومعطياته وحنينه لقريته "علوان" / وحنين حسين علي محمد شاعرنا .. للعودة إلى قريته "العصايد" إحدى قرى مركز ديرب نجم في محافظة الشرقية .
                              ولنا الحق في أن نؤكد هذا الترابط الفكري والوجداني الكامل بين الشاعر وأعمال الروائي محمد جبريل .. ولذلك يستغل شاعرنا مفردات رواية "الأسوار" والتي صدرت عام 1974 رموزاً ووسائل إيحاء تمتزج برموز الشاعر الخاصة ، وتتحد كل هذه الرموز بأبعاد رؤية الشاعر الذاتية في القصيدة ، ولعل قول شاعرنا في القصيدة (ص 55 من الديوان) :
                              (الشيخُ يُقامِرُ في المسرحِ ..
                              ويُعربِدُ مع سيدةٍ في حضنِ الدلتا
                              والصوتُ الجبليُّ يُطرِّزُ أوجهَنا
                              بالرغبةِ في الصبحِ الآتي)
                              يؤكِّد التوحد الكامل بين مفردات رواية "الأسوار" وقصيدة شاعرنا التي تحمل نفس عنوان الرواية .
                              وفي قصيدة "ملامح وجه ميت" (ص 19-24 من الديوان) قام الشاعر بتجربة جريئة بتضمينه مقطعاً كاملاً للشعراء المُعاصرين ، وهو المقطع الرابع في القصيدة وعنوانه "صفحات من مذكراته خلال عشرين سنة" (ص 22-24 من الديوان) . وكل الأبيات التي ضمنها شاعرنا في هذا المقطع أرخ لها بتواريخ محصورة خلال عشرين سنة قبل تاريخ كتابة القصيدة: 5/1/1972م) .
                              وفي تأريخ تلك الأبيات دلالة واضحة على الهدف من قولها :
                              ـ لن يجيءَ الصبحُ إلا بالدماءْ
                              فاستعدوا يا رفاقي
                              للفداءْ
                              (1951)
                              إنها دعوة صريحة للتضحية من أجل الحرية والاستقلال .
                              وقد دفع الشاعر إلى تضمين هذه الأبيات الاتحاد الكامل بين رؤيته والمدلول التراثي لهذه النصوص ، ووحدة الرؤية ووحدة المعاناة .
                              وخلاصة القول : إن توظيف التراث عند شاعرنا الدكتور حسين علي محمد يكشف لنا عن ما وراء "كواليس" حياتنا المعاصرة .
                              أهم المراجع :
                              1-الرحيل على جواد النار : للشاعر الدكتور حسين علي محمد ، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 ، سلسلة (الإبداع العربي) .
                              2-توظيف التراث في الشعر العربي المعاصر : للدكتور علي عشري زايد ، المجلد الأول من مجلة "فصول" ـ أكتوبر 1980 ـ تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة .
                              3-توظيف التراث في المسرح : للدكتور عز الدين إسماعيل ، المجلد الأول من مجلة "فصول" ـ أكتوبر 1980 ـ تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة .
                              4-عبد الله بن الزبير: للدكتور علي حسني الخربوطلي ـ سلسلة "أعلام العرب" (42) ـالمؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ القاهرة .
                              5-أبو حيان التوحيدي : للدكتور إبراهيم الكيلاني ـ سلسلة "نوابغ الفكر العربي" (21) ـ دار المعارف بمصر .
                              6-ديوان أبي فراس : رواية أبي عبد الله الحسين بن خالويه ـ دار بيروت للطباعة والنشر 1399هـ ـ 1979م .
                              عبد الله مهدي

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                عضو أساسي
                                • 14-10-2007
                                • 867

                                #30
                                (24 ) الدكتور حسين علي محمد يشرب القهوة في فندق الرشيد!

                                بقلم: مجدي محمود جعفر
                                .......................

                                ضمن سلسلة كتاب الرسالة صدر للشاعر والأديب والناقد الأدبي المعروف الدكتور حسين علي محمد ديوانان في مجلد واحد ، الأول بعنوان ( المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد ) والآخر بعنوان ( رحيل الظلال ) ، وسنتناول في هذه العجالة الديوان الأول ، راجين أن نتناول الديوان الثاني في مقال لاحق .
                                يضم ديوان ( المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد) عشرين قصيدة ، كتبها الشاعر ما بين عامي 1977م ، 2007م ، وهي كالتالي كما وردت حسب ترتيبها في الديوان :
                                1 – فتنة في 26|12|2005م
                                2 – لا في 11|5|2005م
                                3 – شمس صباح آخر في 12|2|2006م
                                4- صهيل قادم في 1|5|2006م
                                5- ليلى .. لا تجدد أحزان قيس ! في 9|4|2007م
                                6 _ وحدة في 23|2|2006م
                                7- خيط الوهم في 18|3|1987م
                                8- محاورة وجه لا يغيب في 17|3|1981م
                                9- قطرات من دم الحسين في 4|12|1979م
                                10- صوب قلبك في 20|1|2006م
                                11- الخطبة الأخيرة لمسيلمة الكذاب في 29|1|1996م
                                12-خداع في ..........
                                13- وحل في 3|11|200م
                                14- العودة في 23|5|1989م
                                15- مطر .. مفاجئ ! في 24| 5 |2007م
                                16– أيا دار عبلة عمت صباحا ! في 14|5|2001م
                                17- المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد في31|12|2003م
                                18- حظك هذا الأسبوع في 1|4|1977م
                                19- رواية أخيرة للعشق الذاوي في 12|11|2007م
                                20- لما يأت زمن بلقيس في 10|11|2007م
                                وننوه أن القصيدة رقم 12 والتي تحمل عنوان ( خداع ) كما هو مُثبت في الفهرست ، سقطت من الديوان ، وجاءت الصفحة رقم 29 خالية منها ، وعلى الناشر أن يتدارك هذا في الطبعات المقبلة ، وتعود القصيدة إلى موقعها في ص 29 ، وهذه واحدة من آفات وأخطاء الطباعة عندنا ، وسقوط قصيدة من الديوان ليس بالأمر الهين ، فقد تكون هذه القصيدة هي مفتاح القارئ والناقد للولوج إلى عالم الشاعر الشعري ، وقد يلتقط القارئ منها خيط البداية وينطلق من خللها إلى القصائد الأخرى ، قد تكون البؤرة الضوئية التي تكشف للناقد عوالم الديوان ، قد تكون بمثابة النواة ، أو المركز ، وحتى يرد الله غربتها سنحاول أن نكتب هنا رؤيتنا حول هذا الديوان .
                                نلاحظ أن الشاعر ضمّن هذا الديوان قصيدتين كتبهما في سبعينيات القرن الماضي وهما : ( حظك هذا الأسبوع ) و( قطرات من دم الحسين ) ، ومن ثمانينيات القرن الفائت أيضا جاءت قصائد : ( خيط الوهم ) ، ( محاورة وجه لا يغيب ) ، ( العودة ) ويلحظ القارئ أن قصيدتيّ السبعينيات تعكسان الهم الوطني والقومي ، المحلي والعالمي ، إذ هي فترة التحولات التي شهدت انتكاسات جيل أُجهضت أحلامه ومعاهدة السلام المزعومة وتفرق وتمزق عربي وإسلامي وثورة شيعية وحرب إيرانية عراقية وعربدة أولاد القردة بعد أن حيدت مصر أو جعلتها تستسلم وتسلم ، كما عكست قصائد الثمانينات هجرات المصريين بعد أن ضاقت بهم سُبل الرزق والمعيشة في وطنهم ، فبرحوا الديار إلى الصحراء تاركين الوادي الأخضر أو الذي كان أخضرا ، وتتوالى بعد ذلك القصائد التي تعكس هموم الذات / ذات الشاعر ، وذات الجماعة ، حيث يزداد الوضع في مصر سوءا ويزداد قتامة ، وينسحب هذا على الأمة العربية والإسلامية ، ونصير في ذيل قائمة الأمم ، بعد أن تعرضنا للتغريب والتهميش ، وتضيع بغداد !!! وهي النهاية المأساوية التي أفقدت الشاعر توازنه تماما .
                                إذن شاعرنا لم ينفصل عن الجماعة ولم يجنح إلى التغريب والانعكاف على الذات وحدها يمتح منها ، كما فعل غيره ، بل تماهى مع هموم الوطن ومشاكل الأمة ، يعي تماما في كل الأحوال دور الشاعر ، ووظيفته ، ووظيفة الشعر .
                                وسأتناول الديوان في هذه العجالة من خلال محورين :
                                المحور الأول : المرأة
                                وقد تناولها الشاعر على مستويين
                                1- المرأة على مستوى الواقع
                                2- المرأة على مستوى الحلم
                                المحور الثاني : البُعد السياسي وعلاقة المثقف بالسلطة.
                                أولا : المرأة
                                1 – المرأة على مستوى الواقع :
                                عبرت قصيدة ( خيط الوهم ) عن المرأة على المستوى الواقعي أفضل تعبير ، ترك الشاعر لها الحديث لتعبر ، عبر أكثر من ثلاث صفحات ، عن أوجاعها ، وأحزانها ، وهذه المساحة التي تركها لها الشاعر للحديث وآثر هو الصمت ، تؤكد أن شاعرنا تقدمي ، يؤمن بحرية المرأة ودورها ، ويؤمن بالحرية كقيمة عليا ، فعلا وسلوكا وممارسة لا قولا أجوف وطنطنة فارغة ، وجعل المرأة تمارس هذه الحرية ، وقلما نجد شاعرا من شعراء العرب يعطي للمرأة هذه المساحة للتعبير ، ويُؤثر هو الصمت لتفضفض هي ، وتعبر عن كل ما يجيش بصدرها .
                                بروز صوت المرأة هنا ، واحتلالها لهذه المساحة ، وخفوت صوت الشاعر أو اختفاؤه ، قدم لنا نصا مغايرا ، كشف عن هموم المرأة ومشاكلها حينما يغادرها زوجها ، تاركا لها إرثا ضخما من المعاناة النفسية والمكابدات المادية ، ومجابهتها وحدها الحياة مع أولاد تخلى عنهم أبوهم ، متعلقا بصارية الوهم ، كما جاء على لسان الزوجة ، قد يكون وهم الثروة أو غيرها ، فالفضاءات هنا واسعة للتخيل .
                                وهذا النص ، أعتبره نصا استثنائيا في ظل النصوص الذكورية التي أبدعها الشعراء العرب ، ولم يعطوا للمرأة ولو سنتيمترات قليلة من حقها لتعبر عن نفسها ، وتمارس فعلا حرية هذا التعبير ، عن أحزانها ، وأوجاعها ، ولكن الشعراء يستلبون منها هذا الحق ، ويُنصبون أنفسهم أوصياء عليها ، وينوبون هم في التعبير عنها ، وكأنها لم تزل طفلة ، لم تبلغ سن الرشد بعد ! وكأنها بحاجة دائما إلى من يعبرون عنها ، فيقومون هم بهذا الدور ، ويمارسون ديكتاتورية الخطاب ، ونلاحظ دائما أن سلبية الخطاب للمرأة هو المهيمن على النصوص التي يبدعها الذكور ، وفي هذا النص نجد الشاعر قد أعطاها الحرية ، ومنحها الحق في التعبير عن نفسها ، ولم يناد الشاعر بالحرية قولا ، ولكنه قولا وفعلا كما قلت وسلوكا وممارسة ، ويجعل هذه المرأة تمارس الحرية في هذه القصيدة وغيرها فعلا بلغتها هي ، وبأحاسيسها هي ، وبمشاعرها هي ، وهذا تصرف فني جديد ، واستخدم مفردات ولغة ( أنثوية ) إذا جاز هذا التعبير ، ولم يكن هناك من أثر لمفردة ذكورية ، كما هو شائع في نصوص الشعراء العرب ، حيث نجد المرأة في معظم النصوص العربية تتحدث بلغة ذكورية .
                                والشاعر قدم لنا في هذا النص ، امرأة من لحم ودم ، طالعة من رحم هذه الأرض ، ومن طين هذا الوطن ، وجاءت اللغة بسيطة ، بساطة هذه المرأة ، التي تحمل تراث وموروثات المرأة المصرية عبر آلاف السنين ، جاءت اللغة واقعية ، معبرة عن واقع هذه المرأة :
                                ( مع أولادك أتعذب / من سنة لا أحسبها من عمري )
                                ( سنة كاملة .. لم تشعرني أني زوجُك )
                                ( من حفيت قدماك قديما .. كي تتزوجها ..! )
                                (عشت بحضنك أجمل أيامي ! )
                                هذه اللغة الشعبية التي تتواتر على ألسنة المرأة في مصر والتي قام الشاعر بتفصيحها ، ناسجا منها لغة فنية راقية في حواريته الجميلة ، وتلك المرأة التي تمارس حرية الخطاب في هذه الحوارية ، وتعود بنا إلى فطرتها وموروثها الشعبي ، هذا الموروث متناثرا في كلماتها :
                                ( أرض عاقر – كلماتك كالأحجار – وجه الاعصار – يجرفك التيار .... إلخ )
                                وتتماس مع الموروث الديني الشعبي :
                                ( عشت حياة قاسية لم تطرقها كفُّ الوعد !)
                                ( إني امرأة لا يأتيها السعد
                                .. فمتى تُسعدُني يارب ! )
                                مثل هذه المرأة ، التي مارست حرية الخطاب ، تثير قضاياها ، وهمومها الحياتية بذكاء أنثوي نادر ، فالزوج غادرها إلى بلاد الغربة ، ويبدو أنه استطاب له المقام هناك ، وتريد أن تستعيده إلى حضنها وحضن الوطن .
                                تحدثه عن هموم الأولاد وعذاباتها معهم :
                                ( مع أولادك أتعذبُ )
                                ثم عن احتياجها له فتذكره :
                                ( سنة كاملة .. لم تُشعرني أني زوجُك
                                زوجُك تلك المحبوبة
                                من حفيت قدماك قديما .. كي تتزوجها ! )
                                وهي تمهد له بذكاء أنثوي فريد ، وتدخل له من زوايا عديدة ومتعددة ، من زاوية الحب القديم مرة ، ومن زاوية الأولاد مرة ، ولم تعدم الحيل والوسائل .
                                وهي تحاوره تقول :
                                ( أنني أحببتك ذات صباح أخضر !
                                عشت بحضنك أجمل أيامي ! )
                                إذ تذكره بحبها له ، وأنها عاشت في حضنه أجمل أيامها ، فإن ذلك تمهيدا لعتابها له :
                                ( لكني إذ أبصرتُك تبعدُ عني
                                قلتُ : غدا سيعود ! )
                                إذن هي لا تفقد الأمل في عودته ، بل تؤكد هذا الأمل :
                                ( قد يهطلُ ذاك المطرُ الغائب – عنا – ذات صباح ! )
                                لاحظ أنها أحيانا تتحدث بصيغة المفرد ، وأحيانا أُخر بصيغة الجمع ، وحينما تتحدث بصيغة المفرد يكون هذا لسان حالها هي ، وعندما تتحدث بصيغة الجمع يكون لسان حالها وحال الأولاد معا ، والذكاء في استعمال مفردتي ( عني – وعنا ) تقول بصيغة المفرد :
                                ( لكني أبصرتُك تبعد عني )
                                وكأنها أرادت أن تقول أنه لو كان هناك بُعد ، فعنها ، وليس عن الأولاد ، وتدخر الأولاد وتستعملهم في الوقت المناسب ، فإذا كانت العلاقات الزوجية تمر بأوقات فتور ، يمل الزوج فيها الزوجه ، فعلى الزوجة العاقلة أن تحاول أن تعيد المياه إلى مجاريها كما يقول المثل ، والزوج غادر الزوجة والديار والأولاد إلى بلاد الغربة متعلقا بسارية الوهم كما تقول الزوجة ، قد يكون وهم الثروة ، وقد يكون الهروب منها أو .. أو .. وتسلم بأنه إذا كان هناك سبب للبُعد فعنها ومنها إذا دعت الحاجة واقتضت الضرورة ، أما الأولاد لا يمكن أن تغادرهم وتبعد عنهم في اصرار ، فتقول بصيغة الجمع :
                                ( قد يهطلُ المطرُ الغائبُ – عنا – ذات صباح ! )
                                إذن قد يجئ الزوج المهاجر ، إن لم يكن من أجلها ، فمن أجل الأولاد ، أو من أجلها هي والأولاد معا ، وكأن لسان حالها يقول :
                                إذا لم تكن عودتك من أجل خاطري فمن أجل خاطر الأولاد !
                                وتتساءل ببراءة :
                                ( أأنا واهمة في ظني ؟ )
                                وتحاول أن تعاتبه مرة أخرى :
                                ( ولماذا كلماتك متباعدة ؟
                                ولماذا لم تطلبني في الهاتف أبدا
                                تخبرني عن أحوالك ؟
                                تسأل عن حال الأولاد ، الجيران ، العمة ؟ )
                                وهنا تذكر الأولاد صراحة ، بل تتوسل له بكل من يحبهم : الأولاد ، الجيران ، العمة .
                                وتسرد جوانب مهمة ومؤثرة من حياتهما الماضية معا :
                                ( كانت كلماتُك تدميني في السنوات الخمس الأولى :
                                -إنك أرض عاقر ..
                                لا تُنبت ُزهرا بين يديا !
                                كانت كلماتُك كالأحجار ؟
                                لكني لم أطلب منك
                                ها قد منّ الله علينا .. بالإثمار
                                ها قد أعطانا الله ثلاثة أولاد )
                                وإذا كان الله قد منّ عليهم بنعمة الإنجاب ، بعد عقم دام لسنوات ، فإن هذا أولى بأن يكون بجانبهم ولا يغادرهم أبدا
                                ( فلماذا تذهب للصحراء وتتركهم
                                في وجه الإعصار ؟ )
                                وهكذا تسير حوارية ( خيط الوهم ) ، يعلو الحوار ويهبط حسب مقتضى الحال ، وقد أمسكت هذه المرأة بتلابيب الحوار ، ولم تدعه يفلت منها ، وأدارته بذكاء ومهارة ، وكشفت من خلاله عن الكثير من مجاهل النفس وخبايا الروح ، وكشفت أيضا عن واقع معيش ، دون طنطنة أو زعيق .
                                2 – المرأة على مستوى الحلم :
                                وتظل المرأة | الحلم تطارد الشاعر ، وهي حلم مراوغ ، يحاول الإمساك به ، والقبض عليه ، والمرأة / الحلم في ظني ، هي التي تفجر الشعر عنده ، بل هي أحيانا القصيدة نفسها .
                                فالشاعر يبحث عنها ، تارة في بثينة ، وتارة أخرى في ليلى ، وتارة ثالثة في عبلة ، وغيرهن ، وهذه المرأة مفتقدة في هذا العصر ، فليلى مثلا هي التي صنعت لخياله جناحا وجعلته يحلق ، ويحلم :
                                ( كنت التي صنعت للخيال جناحا
                                فطار
                                يرافقنا في المساء الحنين
                                فنحلم )
                                وهو يبحث عن عالم البكارة الأول :
                                ( تعالي إلى عالم لم تفض السنون بكارته )
                                ويقول :
                                ( تجيئين مثل الفراشة ،
                                همسُك ظل يؤرقني بالحكايا القديمة )
                                ويقول أيضا :
                                ( أنت اخضرار الربيع
                                الذي في الرؤى .. )
                                و :
                                ( وأنت .. أيا عبلُ الطريقُ
                                فغادري..
                                جنوحك..
                                هيا طيبي لي جراحيا !
                                تعالي إلى الدرب القديم
                                مرزأ
                                فكوني شفائي
                                لا يطول انتظاريا )
                                إذن ثمة امرأة / حلم ، يبحث عنها الشاعر ، لا وجود لها على أرض الواقع ، فراح يبحث عنها في بثن وعبل وليلى وأخريات ، لتفجر فيه القصيدة ، والمرأة التي يبحث عنها الشاعر ، امرأة كونية ، تحل في الفراشات ، وفي اخضرار الربيع ، تسع أحلامه ، أحزانه ، أفراحه ، تطبب جراحه ، تثير الخيال ، بل تصنع له جناحا ، بدونها لاتحليق ، ويظل العصفور كسيحا ، وعصفورنا / شاعرنا يريد أن يحلق حتى يأتي الشعر ، وهي الخيال وهي ينبوع الشعر ووحيه والهامه .
                                ثانيا : البُعد السياسي وعلاقة المثقف بالسلطة .
                                السياسة تطل بمخالبها في قصائد شاعرنا ، لتلقي عليها مسحة من الحزن ، فحظ الشاعر التعس أنه جاء في زمن الانتكاسات والنكسات والانكسارات . زمن ضنين ، زمن ( مسيلمة الكذاب ) الذي يعلن في خطبته الأخيرة للأتباع :
                                ( سأظلُّ في ليلي البهيم أقاومُ النور الجسور )
                                ففي هذا الزمن ( النكد المستريب ) بتعبير الشاعر ، كل الحكام فيه ( مسيلمة الكذاب ) ، لا يطيقون الضياء ، ويقاومون النور الجسور بجسارة ، ففي زمن كهذا :
                                ( كيف تطل العصافير ..
                                كيف يجيء الكلام الجميل )
                                إذن السياسة تلقي بظلالها الكئيب على الشاعر فنراه نكدا حزينا ممرورا .
                                وشاعرنا لا ينسى أنه من أمة ، ذات حضارة عريقة وتاريخ ممتد ، وعبر هذا التاريخ الممتد والتراث العريض ، يمضي ويسافر وينقب ، باحثا عن حلول لما نحن فيه ، فيستدعي شخوصا من هذا الزمن أو ذاك ، ويتماهى مع هذه الشخصية أو تلك ، ويحل فيها ، ويظل الواقع أعنف ، وأقسى ، وأمر ، فالشخصيات التراثية التي استرفدها من التراث عجزت عن التعامل مع هذا الواقع وفشلت في التحاور معه وتقديم الحلول له .
                                وشاعرنا يملك ذكاءا حادا وأسلوبا فريدا – في توظيف الشخصية التراثية ، ولننظر كيف وظف شخصية زرقاء اليمامة في نهاية قصيدته ( حظك هذا الأسبوع ) وهي أطول قصائد الديوان ( ثماني صفحات تقريبا ) .
                                حينما يذكر الشاعر اسم شخصية تراثية ، فإن الشخصية تلقي بظلالها الثقافية والتاريخية على المتلقي ، فعندما يذكر الشاعر بثينة مثلا فالقارئ / المتلقي يستدعي في ذهنه جميلا أيضا وقصة غرامه مع بثينة ، وعندما يذكر عنترة يستدعي القارئ / المتلقي عبلة وقبيلة عبس ونضال عنترة في سبيل الحب والحرية .
                                وعندما يذكر المتنبي – لا يأتي -المتنبي _ الشاعر النبي وحده ، بل يطل علينا العصر العباسي بأكمله ، وعندما يذكر الشاعر قيسا أو ليلى فيتداعى إلى ذهن القارئ الحب العذري وزمن البراءة وعندما يذكر الشاعر الحسين فتتداعى إلى أذهاننا قصة حياة وكفاح هذا الشهيد سبط الرسول صلى الله عليه وسلم أو يذكر الشاعر زرقاء اليمامة أو سبأ ، أو غيرها من الشخصيات التي يستدعيها الشاعر من التراث .
                                وشاعرنا ذهب إلى عصور متباينة ومتعددة ومختلفة في محاولة جادة منه لاستدعاء شخصية من هذا العصر أو ذاك لإيجاد حلول لهموم ومشاكل هذا العصر التي استعصت على الحل ، ترى هل تنجح هذه الشخصيات في إيجاد الحلول لنا ؟
                                فلننظر إليه كيف وظف زرقاء اليمامة في مطولته الشعرية ( حظك هذا الأسبوع ) فيقول :
                                (ومدينتك الليلة .. تنتظر رحيل الزرقاء
                                سملوا عينيها في الفجر
                                وغنوا سعداء :
                                لا نحتاجك يازرقاء ، فليس لنا أعداء )
                                فعندما يسملون عيني زرقاء اليمامة ، ويشيعونها فرحين في الفجر ، فإنهم بذلك يقتلون رمزا – ومعلما مهما على الاستبصار والنبوءة ، يقتلون رمزا – دالا – على إنقاذ العباد والبلاد من الأعداء ، ولكنهم يعلنون :
                                ( لا نحتاجك يازرقاء ، فليس لنا أعداء )
                                فمسيلمة الكذاب وكلهم مسيلمة ، يقتلون الحقيقة ويمارسون القهر ويغيبون الشعوب ، ومطولة شاعرنا ( حظك هذا الأسبوع ) تعري حكام هذا الزمان وأفعالهم المزرية وتكشف أيضا زيف مثقف هذا الزمان الذي ينضوي تحت عباءة السلطة ، وأصبح بوقا للسلطة من أجل منصب أو جاه أو حفنة مال . ويظل الشاعر وحيدا خارج الصف ، خارج السرب :
                                ( لم أهمس للغيلان
                                ولم أمش بموكب تلك الدببة
                                لأبيض وجه الأيام الحالكة السوداء !!
                                لم أمش بركب الخونة ، لأغني ذاك الليل ..
                                لم أكتب أحجية للصمت أو القهر
                                لم أشرب دم أصحابي . ذات مساء
                                أو أطعنهم في الظهر !! )
                                وعلاقة المثقف بالسلطة يثيرها الشاعر في أكثر من موضع في قصائد هذا الديوان وهذه إشكالية سنفرد لها مبحثا مستقلا في وقت لاحق .
                                اختار شاعرنا أن يكون مناوئا للسلطة التي يمثلها مسيلمة الكذاب ، اختار الشاعر الشعب وصفوف الفقراء ليكون ضميرهم ، وحين عبر عن البسطاء كان بسيطا مثلهم ، مستخدما لغتهم ، لم يتعال عليهم ، انظر إليه وهو يعبر عن حال المواطن البسيط الموظف والمثقف الذي يعاني قسوة الحياة وشظف الأيام ، انظر إلى شاعرنا وهو يعبر عن هذا النموذج قبل أن يجرفه التيار ويتحول :
                                ( في هذا الحر الضاغط والمثقل
                                في الصالة تجلس زوجتك الصفراء
                                ترتقُ جوربها المقطوع ،
                                تشرب كوبا من شاي بارد
                                سقطت فيه ذبابة
                                لا تحلم هذا الأسبوع
                                بزيادة راتبك المقطوع
                                فاعبد ربك وتيقن أن الله الرزاق
                                وتوكل ! )
                                في هذا المقطع يقدم لنا معاناة الموظف والمثقف ، واستخدم مفردات ولغة هذا الموظف المثقف البسيط ، وهو ما نسميه في القصة لغة الشخصية ، وهي لغة واقعية ولكنها فنية وتشع بالجمال ، فالشاعر يرسم لنا صورة ، صورة الشخصية ، وفي سبيل رسمها حشد الشاعر جُملة كبيرة من الأمثال والحكم والمواعظ والكلمات التي تتناثر على ألسنة العامة وقام بتفصيحها وترصيع القصيدة بها وأصبحت من نسيج القصيدة .
                                مثل :
                                ( امش جنب الحائط )
                                ( لا تتكلم فيما لا يعنيك )
                                ( أنت عبرت الخط الفاصل بين الفقر وبين هطول الأمطار )
                                ( فسيأتيك المالُ لعتبة بيتك )
                                ( لا تبدو بارقة في الأعين )
                                ( احمد ربك )
                                ( واحصد ما زرعته الكفان )
                                ... في زمن ( مسيلمة الكذاب ) الذي استباحوا فيه الوطن والعرض ، وشيعوا زرقاء اليمامة في الفجر وهم يغنون ، تضيع بغداد ، ويجيئ المتنبي ليشرب القهوة في فندق الرشيد ، أو بالأحرى يأتي حسين علي محمد ليشرب القهوة سادة في فندق الرشيد ورمز القهوة السادة غير خاف على القارئ
                                ( تجلس في أبهاء الفندق
                                تشرب قهوتك المُرة )
                                ويسأل الشاعر :
                                ( قل لي ..
                                من أين يجئُ الشعر الفاجعُ
                                في هذا الليل الخانع
                                بالعزم الجبار؟!
                                هل مازال الوهم يراود قلبك
                                عن ظل طريق يمتدُّ من القاهرة إلى بغداد )
                                والقضايا التي يثيرها الديوان كثيرة ، والشاعر لا يقف عند حدود الرصد ، ولكنه رغم عتمة الواقع وضبابية الأيام ، ثمة أمل يلوح ، في «صهيل قادم»:
                                ( ها أنت يا قمري تستفيقُ
                                ويبدأ فجرك يغمرني
                                في زحام الخواطر .. بالفتح
                                يُطمعني في رحيق الصهيل )
                                لاحظ مدلول لفظة الصهيل ووقعها في النفس العربية ، حينما ترتبط بالفتح ، والفتح مرتبط بالحصان ، وهي لحظة إشراقة مستوحاة من التراث والتاريخ ، تحيلنا إلى الفتح العربي والاسلامي المبين ، تحيلنا إلى أمجاد وحضارة صنعناها في زمن الحصان العربي الأصيل .
                                والشاعر يقدم لنا صورا مكثفة تعج بالصوت والحركة وتأمل المقطع السابق وهذه الصورة المشرقة : القمر يستفيق من غفلة أو نعاس وهو رمز ، والفجر يغمر الشاعر أو الوطن بالضياء ، إيذانا بطلوع نهار جديد عليه وعلى الوطن والأمة ، نهارا ينبثق من ظلام طال ، والصوت في صهيل ، والحركة والفعل في فتح ، وهكذا تأتي صور الشاعر ، وفي ( ليلى .. لا تجدد أحزان قيس ).
                                تأمل هذه الصورة وما فيها من أصوات وحركة أيضا :
                                ( على شاطئ الوجد ، هذي بحيرة نأيي تثغو ،
                                كمثل الشياه الصغيرة )
                                ويمتلئ الديوان بمثل هذه الصور الجديدة والمبتكرة ، وعلى الباحثين عن الصور الجديدة والمبتكرة وغير المستهلكة بقراءة قصائد هذا الديوان وغيره من دواوين شاعرنا الكبير.
                                وإذا كنا قد نوهنا إلى ملمح الحزن ، حيث يبدو الشاعر حزينا ، وكل شاعر ومثقف حقيقي حزين ، وهذا الحزن ينعكس على القصائد ، فتأتي حزينة ، وتعج بمفردات الحزن ، والأمثلة والشواهد كثيرة في هذا الديوان .
                                وملمح آخر وهو : الموت
                                فالموت ومفرداته متناثرا أيضا في قصائد الديوان ، بل إن القصيدة التي استهل بها الديوان ( فتنة ) يطل الموت منها :
                                ( لم أتنبه للموت القادم في أحذية صراخ أجوف
                                يغتصب نهارا لم يأت إلينا مجانا )
                                لاحظ قوة الصورة واغتصاب الموت للنهار / العمر ، العمر الذي ضاع في صراخ أجوف
                                ويبدو أن بثينة هنا هي الدنيا التي فتنته .
                                ( مفتتنا بغناء بثينة ، أمضي
                                أحمل أمتعة ، وطقوس سفر )
                                فهي الدنيا التي تفتننا ونسير وراءها كالنداهة مغيبين ، وغالبا لا نكتشف الحقيقة إلا في نهاية العمر وقد لا نكتشفها ونظل مغيبين ، ولكن شاعرنا في لحظة صدق نادرة يقبض على الحقيقة :
                                ( شعري ضاع بمعزوفات أصابعها
                                والأمراءُ ، الكتبةُ ، ساقوا أمواج نفايات القول
                                إلى مزبلة الكتب المحفوظة للزينة )
                                وبثينة هنا تأخذ رمز مركب ، أو هي رمز داخل الرمز ، فهي على مستوى الرمز القريب / بثينة التراثية وعلى مستوى الرمز البعيد هي الدنيا ، وهو يتقوى ببثن / الرمز القريب في مواجهة الموت ومواجهة الموت عند الشاعر في أحايين أخرى بالشعر والغناء ، ولكنه يتقوى ببثن :
                                ( تعالي يابثنُ بأخضرك المتهدل –
                                بين الليلة والبدء نحاصرُ
                                هذا الموت المتغطرس ! )
                                وسوف نستكمل قراءتنا لإبداعات الدكتور حسين علي محمد في هذا الديوان وغيره بإذن الله في أيامنا المقبلة . ونرجو أن نكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة ومن الله التوفيق.
                                مجدي جعفر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X