(تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
.............................
وقصيدة "هوامش المسلم الحزين" تعد من الأصداء المباشرة لأفعال الجنرالات في أية بقعة من العالم، ولقد نَهَجَ الشاعر في كتابة نصه نهجاً فنيا رائعاً، وهو استخدامه أسلوب القص الشعري الجزئي عن طريق تحويل النص إلى مقاطع، وجعله كل مقطع يتصل بالآخر زمناً وفنا، وهو أشبه بمذكّرات الوقائع.
والطريف أن المقاطع في القصيدة (9 مقاطع)، استغرقت مذكرات مقتضبة لمسلم من البوسنة، أُخرج من بلده "موستار"؛ ويصف الشاعر الذئاب البشرية من الصرب والكروات في مقطع دال، يقول:
الطفلُ ماتَ في الصَّباحْ
وأمُّه قضَتْ
وجفَّ في عروقها الرحيقْ والوجيبْ
فقد عدا على الدِّيارِ ذيبْ ! (ص46)
وذئاب العسكر هنا يُنفذون سياسة الجنرالات في التصفية العرقية، وما يُصاحبها من جرائم متوحشة، ويستنفر الشاعر حسين علي محمد أمة الإسلام قائلاً في آخر المقطع الرابع من قصيدته:
يا مسلمونْ !
متى ستنهضونْ ؟
وبالعدوَّ تفتكونْ ؟ (ص47)
وقوله أيضاً على لسان بوسنوي مسلم:
هذا هو القرآنُ في العيونْ
رفيقي الحنونْ
يضيءُ دربيَ المسكونْ
بالرُّعبِ والجنونْ !
متى سنتلو "سورة القتال"
نكونُ خيرَ أمةٍ قدْ أُخرجتْ للناسْ (ص47)
والأجمل في نص "هوامش المسلم الحزين" هو التحول من رصْد الجرائم البشعة لطغاة الصرب والكروات وتجاوز تفصيلات المآسي التي حدثت إلى الحديث المتفائل عما يجب أن يقترن بوعي قادة الأمة ورجالها لمجابهة سديدة تحول دون تكرار ذلك، ومنه قول الشاعر الآمل في الله، وفي غد أفضل:
حبيبتي ( )
بينَ الرحيلِ والرحيلِ
والفرارِ والفرارِ
كانتْ هذه الرؤى،
وكانت هذهِ الأشعارْ
فكيف أُخبرُكْ
بأنني أُحبُّ بيتيَ الصَّغيرْ ؟
وأنني أُحبُّ ذاك الحيَّ، والجيرانَ، والدروبْ
والمسجدَ العتيقْ
وكلَّ نبتةٍ على الطريقْ !
فهل تُرى أعودُ للدِّيارْ
إليْكِ يا مُستارْ ؟!
…
متى نُضمِّدُ الجراحْ ؟
ونملؤ الآفاقَ بالغناءِ للصباحْ ؟! (ص48)
إلى قوله:
حبيبتي ..
سأذكرُكْ
سأذكرُ النسيمَ حانياً يُداعبُ الجفونْ
سأذكرُ النجومَ حينما تُوشوشُ العيونْ
سأخبرُكْ
بدفقةِ المطرْ
بكلِّ جملةٍ كتبتها ..
عن الغيابِ، والرحيلِ، والسَّفرْ ! (ص49،50)
ولعل الشاعر حسين علي محمد قد نجح في المراوحة بين وصف الواقع الآسن في البوسنة من جراء جرائم الصرب والكروات، وبين الأمل في نهضة أو استنفار، يبني ما تهدّم في جزء مسلم من قطعة حيوية من العالم. ومما لاشك فيه أن رؤية الشاعر هنا رؤية إنسانية، وتجربة فنية مهمة تتجاوز الخطاب الأدبي السطحي إلى نص عميق يُقدِّر أبعاد التجربة الإنسانية، ورؤيتها الصافية
***
* وفي قصائد الديوان الباقية يجسد الشاعر في غنائية حزينة، وفي أغلب الأحوال طبيعة العلاقات الاجتماعية مع الناس، وعلى وجه الخصوص دائرة المحيطين به من الأسرة والأصدقاء في دائرة الأدب والصحاقة والعلم، أو البيئة التي شهدت مولده، كما سنرى:
غنائية راضية في النص الاستهلالي:
يناجي الشاعر حسين علي محمد حلمه وواقعه السرمدي: زوجته المحلقة في حدائق عمره، وحولها الفراشات تطير وتحط في فرح بهيج وعقول متوازنة، وهي أفرخ الشاعر الصغيرة واليافعة، التي يطل عليها كل حين، أو يُغادرها للغربة والليل الطويل، والفراق القاسي. والألم / الحلم، والزوجة / الفراشة كم تتعب في الحديقة، وكلها أمل أن يعمرها الله بالخضرة والنماء والصلاح والاستواء. يقول المطلع مشيراً إلى تضاعيف الجهد في نوفمبر مع شواغل بدء الدراسة لدى الفراشات / الأبناء:
"هذا في الليلِ مدارُكِ
يا أيتها المُتْعبةُ
تعاليْ في آخرِ نوفمْبرْ
تطلُعُ منْ خَصرِكِ ـ في ظلِّ الضَّوْءِ ـ
فراشاتٌ زرْقاءْ !" (ص5)
والمرأة / النجمة، المرأة / الوعد المشتهاة (ولو بحروف الشعر)، ظاهرها عند الشاعر إطفاء رغبة المغترب، حين يُغادرها، لكن مكنونها في إجابة حلم الشاعر ورغبته تكون دائماً:
"وبراريكِ الأولى تخْضَرُّ
بِعُشْبِ الدَّهْشَةِ" (ص5)
أو قوله عن الجبين:
"كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
فتكْشِفُ عنْ ليلِ غوايَتِها الصَّبْوَةُ
وتُفَكِّكُ في الفجْرِ عناصِرَها
تتحرَّرُ في الصُّبحِ إشاراتُكِ
والأصْداءْ !!"(ص8)
الحلم إذن يتحوّل إلى فعل معيش، والصّدى مردود لأدوار المحبوبة المؤثرة، وأدواتها الضوء والخضرة والعشب والصباح الذي يعقب فجر الأم المتعبة في سبيل أداء رسالتها، ولن تكون هناك محبوبة أخرى يقصدها الشاعر بمثل هذه الحميمية الشعرية والواقعية في آن.
والنص في النهاية غناء آمل مفعم بالرضا والسكينة والأشواق.
أغان صغيرة إلى فاطمة:
فاطمة في العنوان وفي المقاطع الغنائية للنص هي ابنة صديق الشاعر، وكان والدها الناقد حلمي القاعود قد رُزق بها مؤخراً ـ لتكتمل في أسرته نعمة الخالق في البنين والبنات.
والتهنئة بالمولود أحد أغراض الشعر العربي، تناوله الشعراء بمختلف طبقاتهم، ومثّل ذلك اللون ظاهرة فنية عند روّاد الشعر العربي الحديث في القرنين الأخيرين.
وقد نظم الشاعر أغنياته إلى فاطمة (ابنة الصديق)، وفاطمة (الأنموذج والمثل المرتجى)، فهي العصفورة، والحلم الذي يتغنّى له الشاعر بالأمهودة تلو الأخرى، وهي حين تشب وتكبر تتحوّل إلى فاطمة الأخرى، تقتدي ببيت النبوة وطريق محمد ، وقد ألمح الشاعر ببراعة إلى ذلك في المقطع الثالث الذي جعل عنوانه "الجرح الرّاعف" حيث يقول:
"أطِلِّي على ضِفَّةِ الغَيْمِ
هاتي ظلالَ النَّخيلِ..
عطاءَ السَّعَفْ
وقولي لعمِّكِ:
ياكمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
والمَشْيِ في المُنتصَفْ
تعالَ لِبرْدِ اليقينْ" (ص10)
وفي الواقع: إن تهنئة الشاعر بالمولودة ـ هنا ـ قد أدّت مهمتها منذ المقطع الأول، وبقيت الرؤى العميقة المنشودة فيها والمأمولة في أجيال الأمة، وبخاصة إن لغة الشاعر تحولت من البساطة إلى العمق. يقول لفاطمة:
"وَرَوِّ الفؤادَ طيوبَ الحقيقهْ
وهذا هُوَ الجُرحُ يرعُفُ
هلاّ عرفتَ طريقَهْ ؟
وهلاّ شممْتَ رحيقَهْ ؟" (ص10،11)
إن الشاعر يتحول إلى مرب، وإلى هادٍ إلى طريق الإسلام الفاعل، الذي يُضمِّد جراح المسلمين، ويجعل لهم شأواً بين العالمين، تلك هي الأغنية في باطنها الذي لا يقل أهمية عن الفرحة بمولد فاطمة ابنة صديقه الدكتور حلمي محمد القاعود، وفاطمة / الرمز سيدة نساء بيت النبوة، المغزى والقدوة، وبيت القصيد.
***
ونستقرئ مع الشاعر حسين علي محمد أحب قصائد الديوان إليه فيما أعتقد وهي قصيدة "عرس أمينة"، فما أجمل القطاف، وما أطيب الحصاد الحلال، وفي الحديث الشريف "إنما لأعمال بخواتيمها"( ). وفي قصيدة "عرس أمينة" ينسج الشاعر خيوط فرح عائلي يتمنّاه، ولعله أقرب إليه من حبل الوريد. والعرس هنا تتمة أو تتويج لدور اجتماعي فيه السعي والمكابدة، والرضا والشكر، وهاهم أولاد الشاعر وبناته من الراشدين والراشدات، حصاد عقود ثلاثة من السهر والمكابدة، والثناء والحمد، عقود ولّت بعذاباتها وخيرها، لذا فرسالة الوالديْن (الشاعر وصاحبته) بحاجة إلى توقيع بالزغاريد، وليس هناك أحسن من اجترار الذكريات مع أم الشاعر أمينة (اسماً وصفة) لتكون أمينةً على الفرح الذي لا بد وأن يغسل مكابدات الماضي البعيد. فرح ينتظره الجميع في الأسرة الصغيرة، ويومئ الشاعر إلى فرحة الأسرة بنجاح الابن في بدايات التكوين:
"فكُلُّنا للفرْحِ في اشتياقْ
وناظِرونَ للغدِ السَّنِيّْ"
وفي موضع آخر:
"العُرسُ حان وقتُهُ
فأيْنَ ياصِغارْ ..
الدّفُّ والمزمارْ ؟" (ص)
وقد أعجبني هذا السطر الشعري العفوي القائل:
"فالدَّارُ عندنا فسيحَهْ" (ص12).
وسطر شعري مثل هذا قد يمر على البعض دون تأمل، لكنه يحمل أمل العودة إلى الأم في رحابة صدرها والدار في اتساع قلوب أهلها بالفرحة والاجتماع النادرين، بدلاً عن الأندية والفنادق المعلبة!
ويخرج الشاعر عن سمته في الصمت المدرك، الموصوف به، إلى صياح طفولي لا بد وأنه من مكنون وعيه الباطن في مقطع من النص يقول:
"زَغْرِدْنَ يابناتُ لِلْفَرَحْ
حسيْنُ قدْ نَجَحْ
كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !" (ص12)
أي عفوية وأية بساطة في قدرة فنية أروع من المقطع السابق، حسين الأب وحسين الابن الشاعر يمتزجان .. فالفرح قد جمع الأهل والأصحاب، وفيه تتويج يُذيع على الناس نجاحه في أداء مهمته في الحياة، وقد وُفِّق الشاعر في استعمال شجرة النخيل دون سواها، لأنها شجرة مباركة (لا يسقط ورقها) دون كل الشجر، والورق هنا (أوراق الماضي) أو ثمار نجاح الأبناء مع الآباء، ولتتم الفرحة في حضور الأمينة على الجميع، فرحة وسلام، لا مكان اليوم لأي متحاسد أو متباغض، وأعتقد أن العلاقة بين الشاعر والأم في حياتها ومماتها أشبه بالأنموذج في البر وصلة الأرحام، فالشاعر مع زوجه وأولاده يهدي ثمار الفرح إلى أمينة، يوم أن أحس أنه نجح:
"وأنتِ في السَّماءِ تبسمينَ في براءهْ
وتُشرقينَ في وضاءهْ
: العُرْسُ حانَ وقْتُهُ
للدُّرَّةِ المكْنونهْ" (ص14)
***
غنائيات الموت الحزينة:
أودع الشاعر حسين علي محمد ديوانه بضعة قصائد من شعر المراثي، ونصوصه بكائيات غنائية ملتاعة، يسكب فيها الدمع على ثلة افتقدهم من أقرب المحيطين به من زملائه وأصدقائه. لقد فوجئ الشاعر بالموت يخترمهم الواحد تلو الآخر، فكتب ـ عنهم ولهم ـ غنائياته الحزينة، فكانت قصائده:
ـ صبيحة الغياب.
ـ رحيل آخر العام 1996.
ـ الصارخ في البرية.
ـ ونام في سلام.
ـ الغائب.
والنص الأول مُهدى إلى روح الشاعر عبد الله السيد شرف، وهو من أصدقاء الشاعر، والنص الثاني مرثية حارة تمثل جزع الشاعر لرحيل عزيز عليه، لم يكشف عن اسمه، لكنه من المحيطين به، أما "الصارخ في البرية" فعنوان لا يدل على بكائية حزينة، ذلك لأن الميت هنا صديق للأدب والأدباء، والفكر والمفكرين، وهو الأستاذ الشاعر كمال النجمي، وقد عبّرت قصيدة "الغائب" اسماً وصفةً ودلالة عن رثاء ذي مغزى إنساني صافٍ، حيث يقول فيها الشاعر:
.. وفي الليلِ كانَ يُهدْهِدُ حُزْنَ القمرْ
ويسمعُ شدْوَ السواقي
إلى إلفِها المُنتظرْ
هو الوعْدُ والسُّنبلاتُ / المطَرْ
هو الماءُ أيتها الأرضُ
كيفَ إذنْ ..
يقطِفُ الموتُ وردتهُ في السَّحَرْ
ويسبِقُ وقْتَ التلاقي بليلٍ ،
وينْوي السَّفَرْ ؟ (ص58)
ومن شعر المراثي أيضا قصيدة ".. ونام في سلام" التي يُهديها للمرحوم الدكتور محمد علي داود، ويكشف النص عن زمالة لا تُنسى، وصداقة لا تبلى، والقصيدة زفرة وجد والتياع صادقين، وكيف لا؟ وشاعرنا يودِّع فيها أحد أهم أصدقائه، وقد وُفِّق في اختيار المفردات الهادئة كهدوء شخصية الفقيد، كما وُفق في استعماله الدقيق لكلمة "ونام" بديلاً عن الموت / الفقد / الوفاة، ونظائرها. أما "في سلام" فكأنما وداعة الشخصية التي اخترمها الموت قد نامت في هدوء، وكأن الفقيد كان على موعد مع النوم الهادئ الأبدي عند البارئ الحي الذي لا يموت، يقول الشاعر:
تعودُ للترابْ
يا أيُّها المسافرُ الحبيبْ
تعودُ .. في العينيْنِ أُغنيهْ
وفي الدروبْ:
مقاطعُ الغيابْ /
مدى كيانِكَ الرَّحيبْ /
ونبْضُ أُمسيَهْ
.. ملأتَها بالشعرِ والسَّمَرْ
يا أيُّها الغريبْ ! (ص59)
ويتوهَم قارئ الديوان أن حسين علي محمد يكرر تجربة المراثي لشخص واحد في نصين (هو صديقه الراحل الدكتور محمد علي داود)، والواقع أن قصيدة "مكان بالقلب" آهة ودمعة، وفاء لذكريات وأماسٍ، وتذكرة لمكان واحد جمع الصداقة بيد اليقين، ولا يعيبنّ كائد أو حاسد نعمة الوفاء النّادر والصداقة المشتركة، والمعيشة المشتركة الجميلة، ذلك أن الشاعر حسين علي محمد كان من أقرب المحيطين بصديقه الراحل الدكتور محمد علي داود في غربة العمل بالمملكة العربية السعودية، وقد بلغ الحزن المفعم بالتوتر مداه عند شاعرنا حينما مرض صديقه، ثم غادر المملكة عائداً إلى مصر؛ فلقد كانت النتائج الطبية المعملية تشير إلى قرب رحيل الصديق الراحل ـ الذي عاد إلى أسرته في مصر ـ إلى الدار الآخرة. وما أقسى أن تتحوّل الحياة إلى موات، في لعبة أرقام تشكِّلها أمراض العصر!
لقد جمع الإيمانُ والرضا شاعرنا بصديقه، وليس من طريق إلا الرحيل والسفر، والموت المنتظر، وكأنما كانت تصدق على الصديق في حالته تلك "الموت ملاقيكم بعد قليل"!
اهتزّت المشاعر، وأفاض حسين علي محمد في سكب الدمعة تلو الدمعة، لا تُفارقه اللوعة لفراق اللؤلؤة المملوءة بكنوز الذكريات، لؤلؤة القلب وحبته في الموضع اللائق به، يحتل مكاناً تحت الثرى وفي مستقر فؤاد الشاعر، يقول الشاعر في تجربة عروضية خليلية موقّعة ذات تأثير نفسي فعّال:
أتهْوي مَعَ الفجْرِ هـذي اللآلْ .:. بشُبَّاكِ صمْتِ الهوى .. في ارتحالْ؟
…
و"أنـوارُ" مكـةَ كمْ أيْقظتْ .:. بعُشْبِكَ عهدَ الصبـا والجمـالْ
وتحضنُهــا في وَدَاعٍ صموتٍ.:. وتهتفُ في الفجْرِ: نحنُ الرِّجالْ (ص70)
ويسترفد الشاعر من أسرار صديقه عشقه لمكة: الرمز، والوطن، والسكن، ولزوجه: سنوات الصبا والجمال، ها قد غادرنا الصديق ومضى في صمت، بل في خشوع الرجال ورضاهم. إن الشاعر يسترجع أدق التفاصيل قبل رحيل الصديق، فيذكر:
وتطلبُـهـا في ابتهـاجٍ رؤومٍ .:. وأنتَ تُراقِــبُ مالا يخـالْ ! (ص70)
والطلب هنا إيماءة للمهاتفة التي كان يحتشد لها الراحل احتشاداً، أي لزوجته وأولاده، ومع ذلك لم ينس الشاعر حسين علي محمد مسامراته مع صديقه محمد علي داود، وتعدد سفرهما إلى مكة معاً لأداء العمرة، والصلاة في بيت الله الحرام. إنها ذكريات لا يُمكن نسيانها فهي محفورة بالقلب، ومكانها دفقات الفؤاد ونبضه، وعن ذلك يقول الشاعر في صدق فني:
وفي مكــةَ الحـلمُ كمْ ضمّنا .:. خيــالٌ لـهُ في الفيافي جلالْ
وقُلتَ: أنـا في القـصائدِ نبْضٌ .:. وفي الشعرِ عاطفةٌ لا تُنـــالْ
كذلكَ أنـتَ صديقي هنــا .:. مكانُكَ بالقلبِ .. أغلى اللآلْ! (ص71)
لم تكن الرياض (مكان غربتهما) أو دمنهور أو ديرب نجم (مستقر أسرتيهما) هي المكان الذي ذُكِر في النص، ولكنها مكة المكرمة، الرمز الروحي الذي لا يتقدّمه أي رمز، وهنا ـ عند بيت الله الحرام، وفي الله ولله ـ عاشت صداقتهما، مرجعها القلب "أغلى اللآلْ ".
والنص في ضوء ذلك يُعمِّق البعد الإنساني من خلال الإشارة إلى أواصر العلاقات الاجتماعية بين الفرد والآخر، وقد وفق الشاعر في تصوير خلجات النفس الإنسانية، حيث أعاد في فنية استرجاع مشاهد الرحيل / الأفول، عن طريق اجترار ذكريات لا تبلى ولا تنقضي.
(يتبع)
.............................
وقصيدة "هوامش المسلم الحزين" تعد من الأصداء المباشرة لأفعال الجنرالات في أية بقعة من العالم، ولقد نَهَجَ الشاعر في كتابة نصه نهجاً فنيا رائعاً، وهو استخدامه أسلوب القص الشعري الجزئي عن طريق تحويل النص إلى مقاطع، وجعله كل مقطع يتصل بالآخر زمناً وفنا، وهو أشبه بمذكّرات الوقائع.
والطريف أن المقاطع في القصيدة (9 مقاطع)، استغرقت مذكرات مقتضبة لمسلم من البوسنة، أُخرج من بلده "موستار"؛ ويصف الشاعر الذئاب البشرية من الصرب والكروات في مقطع دال، يقول:
الطفلُ ماتَ في الصَّباحْ
وأمُّه قضَتْ
وجفَّ في عروقها الرحيقْ والوجيبْ
فقد عدا على الدِّيارِ ذيبْ ! (ص46)
وذئاب العسكر هنا يُنفذون سياسة الجنرالات في التصفية العرقية، وما يُصاحبها من جرائم متوحشة، ويستنفر الشاعر حسين علي محمد أمة الإسلام قائلاً في آخر المقطع الرابع من قصيدته:
يا مسلمونْ !
متى ستنهضونْ ؟
وبالعدوَّ تفتكونْ ؟ (ص47)
وقوله أيضاً على لسان بوسنوي مسلم:
هذا هو القرآنُ في العيونْ
رفيقي الحنونْ
يضيءُ دربيَ المسكونْ
بالرُّعبِ والجنونْ !
متى سنتلو "سورة القتال"
نكونُ خيرَ أمةٍ قدْ أُخرجتْ للناسْ (ص47)
والأجمل في نص "هوامش المسلم الحزين" هو التحول من رصْد الجرائم البشعة لطغاة الصرب والكروات وتجاوز تفصيلات المآسي التي حدثت إلى الحديث المتفائل عما يجب أن يقترن بوعي قادة الأمة ورجالها لمجابهة سديدة تحول دون تكرار ذلك، ومنه قول الشاعر الآمل في الله، وفي غد أفضل:
حبيبتي ( )
بينَ الرحيلِ والرحيلِ
والفرارِ والفرارِ
كانتْ هذه الرؤى،
وكانت هذهِ الأشعارْ
فكيف أُخبرُكْ
بأنني أُحبُّ بيتيَ الصَّغيرْ ؟
وأنني أُحبُّ ذاك الحيَّ، والجيرانَ، والدروبْ
والمسجدَ العتيقْ
وكلَّ نبتةٍ على الطريقْ !
فهل تُرى أعودُ للدِّيارْ
إليْكِ يا مُستارْ ؟!
…
متى نُضمِّدُ الجراحْ ؟
ونملؤ الآفاقَ بالغناءِ للصباحْ ؟! (ص48)
إلى قوله:
حبيبتي ..
سأذكرُكْ
سأذكرُ النسيمَ حانياً يُداعبُ الجفونْ
سأذكرُ النجومَ حينما تُوشوشُ العيونْ
سأخبرُكْ
بدفقةِ المطرْ
بكلِّ جملةٍ كتبتها ..
عن الغيابِ، والرحيلِ، والسَّفرْ ! (ص49،50)
ولعل الشاعر حسين علي محمد قد نجح في المراوحة بين وصف الواقع الآسن في البوسنة من جراء جرائم الصرب والكروات، وبين الأمل في نهضة أو استنفار، يبني ما تهدّم في جزء مسلم من قطعة حيوية من العالم. ومما لاشك فيه أن رؤية الشاعر هنا رؤية إنسانية، وتجربة فنية مهمة تتجاوز الخطاب الأدبي السطحي إلى نص عميق يُقدِّر أبعاد التجربة الإنسانية، ورؤيتها الصافية
***
* وفي قصائد الديوان الباقية يجسد الشاعر في غنائية حزينة، وفي أغلب الأحوال طبيعة العلاقات الاجتماعية مع الناس، وعلى وجه الخصوص دائرة المحيطين به من الأسرة والأصدقاء في دائرة الأدب والصحاقة والعلم، أو البيئة التي شهدت مولده، كما سنرى:
غنائية راضية في النص الاستهلالي:
يناجي الشاعر حسين علي محمد حلمه وواقعه السرمدي: زوجته المحلقة في حدائق عمره، وحولها الفراشات تطير وتحط في فرح بهيج وعقول متوازنة، وهي أفرخ الشاعر الصغيرة واليافعة، التي يطل عليها كل حين، أو يُغادرها للغربة والليل الطويل، والفراق القاسي. والألم / الحلم، والزوجة / الفراشة كم تتعب في الحديقة، وكلها أمل أن يعمرها الله بالخضرة والنماء والصلاح والاستواء. يقول المطلع مشيراً إلى تضاعيف الجهد في نوفمبر مع شواغل بدء الدراسة لدى الفراشات / الأبناء:
"هذا في الليلِ مدارُكِ
يا أيتها المُتْعبةُ
تعاليْ في آخرِ نوفمْبرْ
تطلُعُ منْ خَصرِكِ ـ في ظلِّ الضَّوْءِ ـ
فراشاتٌ زرْقاءْ !" (ص5)
والمرأة / النجمة، المرأة / الوعد المشتهاة (ولو بحروف الشعر)، ظاهرها عند الشاعر إطفاء رغبة المغترب، حين يُغادرها، لكن مكنونها في إجابة حلم الشاعر ورغبته تكون دائماً:
"وبراريكِ الأولى تخْضَرُّ
بِعُشْبِ الدَّهْشَةِ" (ص5)
أو قوله عن الجبين:
"كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
فتكْشِفُ عنْ ليلِ غوايَتِها الصَّبْوَةُ
وتُفَكِّكُ في الفجْرِ عناصِرَها
تتحرَّرُ في الصُّبحِ إشاراتُكِ
والأصْداءْ !!"(ص8)
الحلم إذن يتحوّل إلى فعل معيش، والصّدى مردود لأدوار المحبوبة المؤثرة، وأدواتها الضوء والخضرة والعشب والصباح الذي يعقب فجر الأم المتعبة في سبيل أداء رسالتها، ولن تكون هناك محبوبة أخرى يقصدها الشاعر بمثل هذه الحميمية الشعرية والواقعية في آن.
والنص في النهاية غناء آمل مفعم بالرضا والسكينة والأشواق.
أغان صغيرة إلى فاطمة:
فاطمة في العنوان وفي المقاطع الغنائية للنص هي ابنة صديق الشاعر، وكان والدها الناقد حلمي القاعود قد رُزق بها مؤخراً ـ لتكتمل في أسرته نعمة الخالق في البنين والبنات.
والتهنئة بالمولود أحد أغراض الشعر العربي، تناوله الشعراء بمختلف طبقاتهم، ومثّل ذلك اللون ظاهرة فنية عند روّاد الشعر العربي الحديث في القرنين الأخيرين.
وقد نظم الشاعر أغنياته إلى فاطمة (ابنة الصديق)، وفاطمة (الأنموذج والمثل المرتجى)، فهي العصفورة، والحلم الذي يتغنّى له الشاعر بالأمهودة تلو الأخرى، وهي حين تشب وتكبر تتحوّل إلى فاطمة الأخرى، تقتدي ببيت النبوة وطريق محمد ، وقد ألمح الشاعر ببراعة إلى ذلك في المقطع الثالث الذي جعل عنوانه "الجرح الرّاعف" حيث يقول:
"أطِلِّي على ضِفَّةِ الغَيْمِ
هاتي ظلالَ النَّخيلِ..
عطاءَ السَّعَفْ
وقولي لعمِّكِ:
ياكمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
والمَشْيِ في المُنتصَفْ
تعالَ لِبرْدِ اليقينْ" (ص10)
وفي الواقع: إن تهنئة الشاعر بالمولودة ـ هنا ـ قد أدّت مهمتها منذ المقطع الأول، وبقيت الرؤى العميقة المنشودة فيها والمأمولة في أجيال الأمة، وبخاصة إن لغة الشاعر تحولت من البساطة إلى العمق. يقول لفاطمة:
"وَرَوِّ الفؤادَ طيوبَ الحقيقهْ
وهذا هُوَ الجُرحُ يرعُفُ
هلاّ عرفتَ طريقَهْ ؟
وهلاّ شممْتَ رحيقَهْ ؟" (ص10،11)
إن الشاعر يتحول إلى مرب، وإلى هادٍ إلى طريق الإسلام الفاعل، الذي يُضمِّد جراح المسلمين، ويجعل لهم شأواً بين العالمين، تلك هي الأغنية في باطنها الذي لا يقل أهمية عن الفرحة بمولد فاطمة ابنة صديقه الدكتور حلمي محمد القاعود، وفاطمة / الرمز سيدة نساء بيت النبوة، المغزى والقدوة، وبيت القصيد.
***
ونستقرئ مع الشاعر حسين علي محمد أحب قصائد الديوان إليه فيما أعتقد وهي قصيدة "عرس أمينة"، فما أجمل القطاف، وما أطيب الحصاد الحلال، وفي الحديث الشريف "إنما لأعمال بخواتيمها"( ). وفي قصيدة "عرس أمينة" ينسج الشاعر خيوط فرح عائلي يتمنّاه، ولعله أقرب إليه من حبل الوريد. والعرس هنا تتمة أو تتويج لدور اجتماعي فيه السعي والمكابدة، والرضا والشكر، وهاهم أولاد الشاعر وبناته من الراشدين والراشدات، حصاد عقود ثلاثة من السهر والمكابدة، والثناء والحمد، عقود ولّت بعذاباتها وخيرها، لذا فرسالة الوالديْن (الشاعر وصاحبته) بحاجة إلى توقيع بالزغاريد، وليس هناك أحسن من اجترار الذكريات مع أم الشاعر أمينة (اسماً وصفة) لتكون أمينةً على الفرح الذي لا بد وأن يغسل مكابدات الماضي البعيد. فرح ينتظره الجميع في الأسرة الصغيرة، ويومئ الشاعر إلى فرحة الأسرة بنجاح الابن في بدايات التكوين:
"فكُلُّنا للفرْحِ في اشتياقْ
وناظِرونَ للغدِ السَّنِيّْ"
وفي موضع آخر:
"العُرسُ حان وقتُهُ
فأيْنَ ياصِغارْ ..
الدّفُّ والمزمارْ ؟" (ص)
وقد أعجبني هذا السطر الشعري العفوي القائل:
"فالدَّارُ عندنا فسيحَهْ" (ص12).
وسطر شعري مثل هذا قد يمر على البعض دون تأمل، لكنه يحمل أمل العودة إلى الأم في رحابة صدرها والدار في اتساع قلوب أهلها بالفرحة والاجتماع النادرين، بدلاً عن الأندية والفنادق المعلبة!
ويخرج الشاعر عن سمته في الصمت المدرك، الموصوف به، إلى صياح طفولي لا بد وأنه من مكنون وعيه الباطن في مقطع من النص يقول:
"زَغْرِدْنَ يابناتُ لِلْفَرَحْ
حسيْنُ قدْ نَجَحْ
كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !" (ص12)
أي عفوية وأية بساطة في قدرة فنية أروع من المقطع السابق، حسين الأب وحسين الابن الشاعر يمتزجان .. فالفرح قد جمع الأهل والأصحاب، وفيه تتويج يُذيع على الناس نجاحه في أداء مهمته في الحياة، وقد وُفِّق الشاعر في استعمال شجرة النخيل دون سواها، لأنها شجرة مباركة (لا يسقط ورقها) دون كل الشجر، والورق هنا (أوراق الماضي) أو ثمار نجاح الأبناء مع الآباء، ولتتم الفرحة في حضور الأمينة على الجميع، فرحة وسلام، لا مكان اليوم لأي متحاسد أو متباغض، وأعتقد أن العلاقة بين الشاعر والأم في حياتها ومماتها أشبه بالأنموذج في البر وصلة الأرحام، فالشاعر مع زوجه وأولاده يهدي ثمار الفرح إلى أمينة، يوم أن أحس أنه نجح:
"وأنتِ في السَّماءِ تبسمينَ في براءهْ
وتُشرقينَ في وضاءهْ
: العُرْسُ حانَ وقْتُهُ
للدُّرَّةِ المكْنونهْ" (ص14)
***
غنائيات الموت الحزينة:
أودع الشاعر حسين علي محمد ديوانه بضعة قصائد من شعر المراثي، ونصوصه بكائيات غنائية ملتاعة، يسكب فيها الدمع على ثلة افتقدهم من أقرب المحيطين به من زملائه وأصدقائه. لقد فوجئ الشاعر بالموت يخترمهم الواحد تلو الآخر، فكتب ـ عنهم ولهم ـ غنائياته الحزينة، فكانت قصائده:
ـ صبيحة الغياب.
ـ رحيل آخر العام 1996.
ـ الصارخ في البرية.
ـ ونام في سلام.
ـ الغائب.
والنص الأول مُهدى إلى روح الشاعر عبد الله السيد شرف، وهو من أصدقاء الشاعر، والنص الثاني مرثية حارة تمثل جزع الشاعر لرحيل عزيز عليه، لم يكشف عن اسمه، لكنه من المحيطين به، أما "الصارخ في البرية" فعنوان لا يدل على بكائية حزينة، ذلك لأن الميت هنا صديق للأدب والأدباء، والفكر والمفكرين، وهو الأستاذ الشاعر كمال النجمي، وقد عبّرت قصيدة "الغائب" اسماً وصفةً ودلالة عن رثاء ذي مغزى إنساني صافٍ، حيث يقول فيها الشاعر:
.. وفي الليلِ كانَ يُهدْهِدُ حُزْنَ القمرْ
ويسمعُ شدْوَ السواقي
إلى إلفِها المُنتظرْ
هو الوعْدُ والسُّنبلاتُ / المطَرْ
هو الماءُ أيتها الأرضُ
كيفَ إذنْ ..
يقطِفُ الموتُ وردتهُ في السَّحَرْ
ويسبِقُ وقْتَ التلاقي بليلٍ ،
وينْوي السَّفَرْ ؟ (ص58)
ومن شعر المراثي أيضا قصيدة ".. ونام في سلام" التي يُهديها للمرحوم الدكتور محمد علي داود، ويكشف النص عن زمالة لا تُنسى، وصداقة لا تبلى، والقصيدة زفرة وجد والتياع صادقين، وكيف لا؟ وشاعرنا يودِّع فيها أحد أهم أصدقائه، وقد وُفِّق في اختيار المفردات الهادئة كهدوء شخصية الفقيد، كما وُفق في استعماله الدقيق لكلمة "ونام" بديلاً عن الموت / الفقد / الوفاة، ونظائرها. أما "في سلام" فكأنما وداعة الشخصية التي اخترمها الموت قد نامت في هدوء، وكأن الفقيد كان على موعد مع النوم الهادئ الأبدي عند البارئ الحي الذي لا يموت، يقول الشاعر:
تعودُ للترابْ
يا أيُّها المسافرُ الحبيبْ
تعودُ .. في العينيْنِ أُغنيهْ
وفي الدروبْ:
مقاطعُ الغيابْ /
مدى كيانِكَ الرَّحيبْ /
ونبْضُ أُمسيَهْ
.. ملأتَها بالشعرِ والسَّمَرْ
يا أيُّها الغريبْ ! (ص59)
ويتوهَم قارئ الديوان أن حسين علي محمد يكرر تجربة المراثي لشخص واحد في نصين (هو صديقه الراحل الدكتور محمد علي داود)، والواقع أن قصيدة "مكان بالقلب" آهة ودمعة، وفاء لذكريات وأماسٍ، وتذكرة لمكان واحد جمع الصداقة بيد اليقين، ولا يعيبنّ كائد أو حاسد نعمة الوفاء النّادر والصداقة المشتركة، والمعيشة المشتركة الجميلة، ذلك أن الشاعر حسين علي محمد كان من أقرب المحيطين بصديقه الراحل الدكتور محمد علي داود في غربة العمل بالمملكة العربية السعودية، وقد بلغ الحزن المفعم بالتوتر مداه عند شاعرنا حينما مرض صديقه، ثم غادر المملكة عائداً إلى مصر؛ فلقد كانت النتائج الطبية المعملية تشير إلى قرب رحيل الصديق الراحل ـ الذي عاد إلى أسرته في مصر ـ إلى الدار الآخرة. وما أقسى أن تتحوّل الحياة إلى موات، في لعبة أرقام تشكِّلها أمراض العصر!
لقد جمع الإيمانُ والرضا شاعرنا بصديقه، وليس من طريق إلا الرحيل والسفر، والموت المنتظر، وكأنما كانت تصدق على الصديق في حالته تلك "الموت ملاقيكم بعد قليل"!
اهتزّت المشاعر، وأفاض حسين علي محمد في سكب الدمعة تلو الدمعة، لا تُفارقه اللوعة لفراق اللؤلؤة المملوءة بكنوز الذكريات، لؤلؤة القلب وحبته في الموضع اللائق به، يحتل مكاناً تحت الثرى وفي مستقر فؤاد الشاعر، يقول الشاعر في تجربة عروضية خليلية موقّعة ذات تأثير نفسي فعّال:
أتهْوي مَعَ الفجْرِ هـذي اللآلْ .:. بشُبَّاكِ صمْتِ الهوى .. في ارتحالْ؟
…
و"أنـوارُ" مكـةَ كمْ أيْقظتْ .:. بعُشْبِكَ عهدَ الصبـا والجمـالْ
وتحضنُهــا في وَدَاعٍ صموتٍ.:. وتهتفُ في الفجْرِ: نحنُ الرِّجالْ (ص70)
ويسترفد الشاعر من أسرار صديقه عشقه لمكة: الرمز، والوطن، والسكن، ولزوجه: سنوات الصبا والجمال، ها قد غادرنا الصديق ومضى في صمت، بل في خشوع الرجال ورضاهم. إن الشاعر يسترجع أدق التفاصيل قبل رحيل الصديق، فيذكر:
وتطلبُـهـا في ابتهـاجٍ رؤومٍ .:. وأنتَ تُراقِــبُ مالا يخـالْ ! (ص70)
والطلب هنا إيماءة للمهاتفة التي كان يحتشد لها الراحل احتشاداً، أي لزوجته وأولاده، ومع ذلك لم ينس الشاعر حسين علي محمد مسامراته مع صديقه محمد علي داود، وتعدد سفرهما إلى مكة معاً لأداء العمرة، والصلاة في بيت الله الحرام. إنها ذكريات لا يُمكن نسيانها فهي محفورة بالقلب، ومكانها دفقات الفؤاد ونبضه، وعن ذلك يقول الشاعر في صدق فني:
وفي مكــةَ الحـلمُ كمْ ضمّنا .:. خيــالٌ لـهُ في الفيافي جلالْ
وقُلتَ: أنـا في القـصائدِ نبْضٌ .:. وفي الشعرِ عاطفةٌ لا تُنـــالْ
كذلكَ أنـتَ صديقي هنــا .:. مكانُكَ بالقلبِ .. أغلى اللآلْ! (ص71)
لم تكن الرياض (مكان غربتهما) أو دمنهور أو ديرب نجم (مستقر أسرتيهما) هي المكان الذي ذُكِر في النص، ولكنها مكة المكرمة، الرمز الروحي الذي لا يتقدّمه أي رمز، وهنا ـ عند بيت الله الحرام، وفي الله ولله ـ عاشت صداقتهما، مرجعها القلب "أغلى اللآلْ ".
والنص في ضوء ذلك يُعمِّق البعد الإنساني من خلال الإشارة إلى أواصر العلاقات الاجتماعية بين الفرد والآخر، وقد وفق الشاعر في تصوير خلجات النفس الإنسانية، حيث أعاد في فنية استرجاع مشاهد الرحيل / الأفول، عن طريق اجترار ذكريات لا تبلى ولا تنقضي.
(يتبع)
تعليق