القصيدة صورة شعرية واسعة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • علي المتقي
    عضو الملتقى
    • 10-01-2009
    • 602

    القصيدة صورة شعرية واسعة

    يرى مولينو وتامين أن الشعر ليس شيئا آخر سوى الاستعمال المنظم للصور. وهما بذلك يلامسان ظاهرة بالغة الأهمية، إذ الصور في النص لا تنفصل عن بعضها، بل تدخل في علاقات متعددة في ما بينها، فقد تتمحور حول صورة رحمية مركزية تؤطر القصيدة بكاملها، وباقي الصور فروع لها. وقد تتشكل القصيدة من صور متعددة ومتنوعة ينتظمها خيط رابط، فتمتد على شكل متغيرات لثابت بنيوي واحد.

    وقد انتبهت البلاغة العربية القديمة إلى هذا النوع من الترابط في دراستها للاستعارة الترشيحية، إلا أنها وقفت في حدود الجملة والمقطع، واهتمت أساسا بالاستعارات التي يجمعها حقل دلالي واحد. والواقع أن تعالق الصور قد يتجاوز الترشيح إلى علاقات دلالية أعمق لا تبدو إلا بعد تأمل وتقص، كما يتجاوز المقطع إلى قصيدة كاملة أو إلى ديوان بأكمله.

    ويعتبر ميخائيل ريفاتير من أبرز المهتمين بهذه الظاهرة، إذ يرى أن النص الشعري يتولد بواسطة التمطيط والعكس، فبواسطة التقنية الأولى يتحول الرحم والجملة الرحمية إلى مقطوعة كلامية مطولة، وكل تركيب وصفي استعاري من هذه المقطوعة يرتبط بمقوم من مقومات الرحم الدلالية. أما تقنية العكس فتزود كل التراكيب بسمات متماثلة، والتقنيتان معا تهدفان إلى إقامة تعادل بين الرحم المختزل في كلمة أو جملة وبين النص الشعري المركب[2].

    سنتخذ من دراسة ميخائيل ريفاتير ومفاهيمه خلفية مرجعية نستهدي بها لقراءة الصورة الشعرية في قصيدة (فارس الكلمات الغريبة)[]لأدونيس.

    تتكون هذه القصيدة من مزمور واثنين وعشرين مقطعا شعريا يشكل كل منها قصيدة مستقلة هي : ليس نجما ـ ملك مهيار ـ صوت ـ صوت آخر ـ تولد عيناه ـ الأيام ـ دعوة للموت ـ صوت ـ قناع الأغنيات ـ مدينة الأنصار ـ العهد الجديد ـ بين الصدى والنداء ـ الجرس ـ آخر السماء ـ وجه مهيار ـ الحيرة (أصوات) ـ ينام في يديه ـ يحمل في عينيه ـ توأم النهار ـ الآخرون ـ البربري القديس .

    هذه العناوين الفرعية ذات قيمة دلالية كبرى، فالعنوان دائما هو مبتدأ النص وخلاصته المكثفة وعتبة عالمه الداخلي. وأول ما يمكن القيام به هو مراكمة هذه العناوين، والبحث عن علاقات مشتركة تجمع بينها ما دامت تشكل فروعا تنتمي إلى أصل واحد هو قصيدة فارس الكلمات الغريبة، ويمكن تصنيفها إلى الحقول الدلالية الآتية :

    أ ـ الصوت : مزمور ـ صوت ـ صوت آخر ـ دعوة للموت ـ صوت ـ قناع الأغنيات ـ الحيرة (أصوات) ـ الجرس .

    ب ـ الإنسان : ليس نجما ـ ملك مهيار ـ تولد عيناه ـ وجه مهيار ـ ينام في يديه ـ يحمل في عينيه ـ الآخرون ـ البربري القديس.

    ج ـ الزمن : الأيام ـ العهد الجديد ـ توأم النهار .

    د ـ المكان : مدينة الأنصار ـ بين الصدى والنداء ـ آخر السماء .

    في ما يخص الحقل الدلالي الأول، يلاحظ أن العناوين كلها عبارة عن أصوات نكرة، باستثناء قناع الأغنيات المعرف بالإضافة والجرس المعرف ب أل. وهذه الخاصية تضفي على الأصوات طابع الإبهام والقدسية، فكلمة مزمور مرتبطة بالأناشيد الدينية المقدسة (مزامير داود) وكلمات (صوت ـ صوت آخر ـ أصوات ) يسهم تنكيرها في ربطها بعالم غير مألوف، و(الدعوة إلى الموت والجرس) يرتبطان بالجو الجنائزي. وبذلك تصبح هذه الأصوات كلها ذات طابع غير مألوف .

    في ما يخص الحقل الإنساني، نميز فيه بين ثنائيتين : الثنائية الأولى ، التأكيد بالنفي والتأكيد بالإثبات . الشاعر يؤكد بعض خصائص مهيار ـ الإنسان بنفي صفات محددة عنه ( ليس نجما ، ليس إيحاء نبي...) ؛ وفي الآن نفسه يؤكد ويثبت صفات إيجابية أخرى ( ملك مهيار ـ تولد عيناه ـ وجه مهيار ـ ينام في يديه ـ يحمل في عينيه ـ البربري القديس ـ توأم النهار).

    أما الثنائية الثانية فقائمة على علاقة التعارض والتضاد بين إنسانين، أحدهما مهيار، والثاني الآخرون. والملاحظ أن هؤلاء ، على الرغم من كثرة عددهم ، فقد اكتفى الشاعر بوصفهم بصفة الآخرين أي كل ما سوى الذات . فالذات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الآخرين المعرفين بـ "ال" التي تفيد استغراق الجنس.

    ينبني الحقل الدلالي الثالث على نفس الثنائية، الأيام من جهة، والعهد الجديد والنهار من جهة ثانية. فالأيام معرفة، وهذا التعريف يضفي عليها الاستغراق وطابع الألفة والاعتياد، أي الأيام التي تعد بالساعات وتتحول إلى شهور وسنوات وقرون وعصور. أما العهد الجديد، فعلى الرغم من وروده معرفا، فهو مقيد بصفة الجديد، مما يضفي عليه صفة الغرابة والندرة وعدم الاعتياد. من هنا، فالعلاقة بين الطرفين هي نفسها العلاقة بين المألوف والغريب، بين الجمع والمفرد، بين الآخرين ومهيار، إنها علاقة تعارض ونفي.
    ولا يشذ الحقل الدلالي الرابع عن هذه الثنائيات، فمدينة الأنصار مكان مألوف بدلالته التاريخية (يثرب)، وبتعريفه بالإضافة، إنه مكان حقيقي.أما بين الصدى والنداء، وآخر السماء، فمكانان مجازيان لاوجود لهما على الأرض. فبين الصدى والنداء مكان ميتافيزيقي يتلاشى بتلاشي النداء والصدى، أما آخر السماء فليس سوى الهاوية والمجهول والضياع .

    نخلص من هذه القراءة الأولية لعتبات النص إلى أن الحقول الأربعة تنبني أساسا على ثنائية واحدة هي ثنائة المألوف والمجهول غير المألوف
    فمهيار يحول الآخرين إلى أصوات نكرة ، ويحول الأيام إلى عهد جديد غير معلوم، ويحول مدينة الأنصار إلى مكان مجهول تفصح عنه كلمة بين


    إن مهيارـ الإنسان محور هذه العناصر ومركز تحولاتها. إنه فاعل (فارس) يفعل فعله في كل العناصر(تحويل الكلمات المألوفة إلى كلمات غريبة، والآخرين إلى أصوات تائهة ميزتها الحيرة، والأيام إلى أيام جديدة، ومدينة الأنصار إلى مكان آخر جديد وغير مألوف)، فيخرجها من حالتها المألوفة العادية الروتينية إلى حالة إيجابية غير مألوفة وجديدة وغير عادية. يرفض مهيار الآخرين بأيامهم ومدينتهم، ويدير لهم ظهره لأنهم هم الجحيم ( الجحيم هم الآخرون كما يقول سارتر ) والإنسـان المعمـم الـذي لا يتقن سوى الثرثرة، وبالمقابل يتقدم نحو الأصوات التائهة الخفية، خالقا عهدا جديدا وفضاء جديدا. وتؤكد هذه العلاقات المقاطع الآتية :
    ـ علاقته بالآخرين:(عرف الآخرين / فرمى صخره فوقهم واستدار حاملا غرة النهار)[4].
    ـ علاقته بالأيام : ( تعبت عيناه من الأيام (...) هل يثقب جدران الأيام / يبحث عن يوم آخر)[5].

    ـ علاقته بمدينة الأنصار : ( لاقيه يا مدينة الأنصار / بالشوك ، أو لاقيه بالحجار/ وعلقي يديه قوسا )[6].

    ـ علاقته بالأصوات:( علمنا أن نقرأ الغبار/ لأنه يحار / ...) .
    ـ علاقته بالعهد الجديد: ( يبحث عن يوم آخر/ أهنا أهنالك يوم آخر؟ )[7].
    ـ علاقته بالمكان الجديد : ( بين الصدى والنداء يختبئ / تحت صقيع الحروف يختبئ ... يحلم أن يرقص في الهاوية )[8].

    فمن هو مهيار هذا ؟ وكيف يفعل فعله السحري الغريب ليحول الأشياء من المألوف إلى غير المألوف ؟ لنعد إلى النص لنرى كيف يعرف نفسه أو كيف يعرفه الشاعر:

    * فاعل التحول :

    ـ إنه فيزياء الأشياء ، يعرفها ويسميها بأسماء لا يبوح بها .

    إنه الواقع ونقيضه، الحياة وغيرها.

    إنه الريح لا ترجع القهقرى، والماء لا يعود إلى منبعه.

    يخلق نوعه بدءا من نفسه، لا أسلاف له وفي خطواته جذوره[9]

    ـ ليس نجما، ليس إيحاء نبي.

    ليس وجها خاشعا للقمر[10].

    ـ ملك مهيار

    ملك والحلم له قصر وحدائق نار[11].

    ـ وحده البذرة الأمينة

    وحده ساكن في قرارة الحياة[12].

    ـ إنه لغة تتموج بين الصواري

    إنه فارس الكلمات الغريبة [13].

    ـ وجه مهيار نار [14].

    ـ مهيار توأمنا وتوأم النهار[15].

    ـ ذاك مهيار قديسك البربري

    يا بلاد الرؤى والحنين

    إنه الخالق الشقي[16].

    سنعيد ترتيب هذه الصور التي وردت مشتتة في القصيدة للتعرف على صورة مهيار ـ القصيدة منطلقين في ذلك من الكل إلى الجزء .

    ينطلق أدونيس في تعريفه بمهيار من نفي صفات الآخرين عنه:

    ليس نجما ، ليس إيحاء نبي

    ليس وجها خاشعا للقمر .

    تكرر النفي ثلاث مرات لينفي عن مهيار صفة تجمع بين النجم والنبي والوجه الخاشع للقمر. فالنجم يدور في فلكه دورة آلية منتظمة، والنبي لا ينطق عن الهوى أومن تلقاء ذاته، إن كلامه إلا وحي وإيحاء يوحى إليه من خارج ذاته، والخاشع للقمر يذوب في خشوعه حتى تذوب شخصيته. إن العناصر الثلاثة إذن تشترك في خاصية التبعية: التبعية للفلك، والتبعية للوحي، والتبعية للقمر. ولايتمرد أي عنصر من هذه العناصر عن معبوده ومتبوعه.

    يرفض مهيار أن يكون أحد هذه العناصر، أو أن يحمل بعض خصائصها، لذا يؤكد منذ البداية أنه يخلق نوعه بدءا من نفسه، وأن لا أسلاف له، فمهيار إذن ينفي عن نفسه التبعية، ويؤكد عودته إلى الذات للانطلاق منها، فهي مصدر القرار، ومصدر المعرفة، وهذه المعرفة غير قابلة للتراكم، ولا يهمه إن ناقض نفسه أوعارض خطواته القديمة ، ففي ذاته يجمع بين كل المتناقضات .

    إنه فيزياء الأشياء ، يعرفها ويسميها بأسماء لايبوح بها

    إنه الواقع ونقيضه، الحياة وغيرها.نقيض الواقع هو الحلم والمتخيل، وغير الحياة هو الموت. فمهيار يجمع في ذاته بين هذه المتناقضات كأي خالق شقي، فحلمه هو واقعه الذي لايخضع لأي منطق عقلاني، والحياة تتضمن في باطنها بذرة الموت ، كما الموت تتضمن بذرة الحياة.

    تجتمع هذه المتناقضات: الحلم / الواقع ـ الحياة / الموت في اللغة المتموجة بين الصواري. فمهيار فارس الكلمات الغريبة الذي يصنع قصور حلمه وحدائقها النارية بالكلمات، وفي صناعتها يحولها من المألوف إلى الغريب، وفي غرابتها طرافتها، وفي الطرافة إعجاب ، وفي الإعجاب إبداع كما يقول الجاحظ [17]، والإبداع خلق. إنه الخالق الشقي الذي يعجن اللغة إلى أن يحولها إلى ذهب لماع سمته الحيرة والغموض. فكيف يمارس مهيار هذه العملية ؟

    يتحد مهيار في فعله بأربعة عناصر يمارس من خلالها كل أفعاله، ويفرض سلطته على كل أبطال التاريخ والأسطورة فيخضعهم لسلطته المطلقة. هذه العناصر هي : الريح والماء والنار والأرض.

    ـ إنه الريح لا ترجع القهقرى.

    ـ إنه الماء لا يعود إلى منبعه .

    ـ وجه مهيار نار .

    ـ غدا غدا في النار والربيع

    تعرف أني حاضن البذور .

    يتحد مهيار أول ما يتحد بالريح، والريح كما سبقت الإشارة عنصر فاعل في عملية التحول، فهو أحد عوامل التعرية التي تصنع خريطة التضاريس الجيلوجية، وفي الآن نفسه عامل إخصاب. وكلا الوظيفتين لا تقوم بهما الريح إلا لأنها تمتلك خاصية الإقدام والسير إلى الأمام إلى ما لا نهاية، وهي نفسها الخاصية التي تجمع بين الريح ومهيار . وفي سيرها تلقح الأشجار، والتلقيح مصدر البعث والخلق والإبداع .

    كما اتحد مهيار بالريح، اتحد بالماء. وهو كالريح عنصر تحول وصيرورة وخلق، فإذا فاض جرف كل ما يجد أمامه من حياة ميتة، فيحفر مجراه كما مهيار، ويغير وجه الأرض ، ويبعث الجذور والبحار.

    العنصر الثالث الذي يتحد به مهيار ويتقمصه هو النار التي تحرق كل القصور لتبعث الحياة من رماد الجذور، تحرق كل وجه أليف ومعتاد ومعروف، إنها تحرق كما الريح تكنس ، كما الماء يجرف. تحرق الآخرين، تحــرق الأيام، تحرق مدينة الأنصار بحثا عن أصوات تائهة، عن يوم آخر لا كالأيام، عن مكان يتحول ويتغير. ولا يكتفي مهيار بإحراق كل شيء، بل يحرق حتى ذاته ليخلق عالما آخر جديدا يبعث فيه من جديد . فنار مهيار إذن كالماء تجمع بين المتناقضات وتوحد بينها.

    العنصر الرابع هو الأرض " إني حاضن البذور" وحاضن البذور هو الأرض. فمهيار تارة ماء، والماء عنصر ذكوري، وتارة أرض والأرض عنصر أنثوي. وبتلاقي الذكورة والأنوثة تنبثق الحياة، إنه فاعل ومنفعل في الآن نفسه .

    إن هذه العناصر الأربعة، على الرغم من تناقضها الظاهر، تتكامل في ما بينها، ويتولد بعضها عن بعض " مرت على بحارنا سحابة من ناره من عطش الأجيال"، فالسحابة ماء إلا أنها من نار ومن عطش، أي من نقيضها. وكما يتولد الماء من النار، تتولد النار من الرياح " يأخذ من عينيه لألأة ومن آخر الأيام والرياح شرارة ". ومن الأرض والماء ( عنصري الذكورة والأنوثة ) يولد الصباح.

    * فعل التحول : أول ملاحظة تستوقفنا في قصيدة "فارس الكلمات الغريبة" هو انبناؤها على الفعل المضارع الدال على التحول في الحاضر والمستقبل ، فاعله مهيار ومفعوله يشمل عناصر الكون كلها زمانا ومكـانا وإنسانا.

    تسند هذه الأفعال إلى فواعل متعددة تشكل أقنعة لمهيار ، لكنها في معظمها تعود إلى العناصر الأربعة التي اتحد بها مهيار، ويتضح ذلك من الجدول الآتي :



    الإقدام ـ الريح
    الإحراق ـ النار
    البعث ـ الماء
    الخصوبة ـ الأرض

    إنه الريح لا ترجع القهقرى.( الإقدام ـ الريح)
    يحرق فينا قشرة الحياة والصبر ...( الإحراق ـ النار)
    يعلن بعث البحار. ( البعث ـ الماء)
    يحتضن الأرض الخفيفة. ( الخصوبة ـ الأرض)

    يقبل...وكالغيم لا يرد. ( الإقدام ـ الماء)
    استسلمي للرعب ... يا أرضنا...واستسلمي للنار....( الإحراق ـ النار)

    يعلن بعث الجذور. ( البعث ـ الأرض)
    يملك أرض الأسرار. ( الخصوبة ـ الأرض)

    يحول الغد إلى طريدة.. ( الإقدام )
    وليحترق مهيار. (الإحراق ـ النار)
    يعلن بعث المرافئ. ( البعث ـ الماء)
    إنه البذرة الأمينة. ( الخصوبة ـ الأرض)

    يمشي في الهاوية. ( الإقدام )
    وجه مهيار نار. ( الإحراق ـ النار)

    ساكن في قرارة الحياة. ( الخصوبة )

    يأتي كرمح وثني. ( الإقدام )
    تحرق أرض النجوم الأليفة. (الإحراق ـ النار)

    إني حاضن البذور. ( الخصوبة )

    يثقب جدران الأيام. ( الإقدام )
    يأخذ من آخر الأيام شرارة. ( الإحراق )

    يحيا في ملكوت الريح. ( الإقدام)

    يتقدم تحت الركام. ( الإقدام )

    مانحا شعره للرياح. ( الإقدام )

    إنه مقبل ـ إنه مثلنا. ( افقدام )

    يتخطى تخوم الخليفة. ( الإقدام)
    هادما كل دار. ( افقدام )


    فهناك أفعال تفيد الإقدام والسير إلى الأمام. و أخرى تفيد الاحتراق ( احتراق القشرة والصبر والملامح الوديعة والأرض والذات...)، وثالثة تفيد البعث والخلق (بعث الجذور وبعث البحار). ورابعة تفيد الاحتضان والخصوبة المرتبطة بالعلاقة الحميمية بين الذكر والأنثى.

    إن أفعال ( الإقدام والإحراق ) هي أفعال هدم، هدم كل ما هو كائن ومألوف. أما أفعال البعث والاحتضان والخصوبة فأفعال بناء ( الاحتضان والخصوبة والبعث ) وهذه الثنائية ( الهدم والبناء ) هي أساس الحداثة الأدونيسية.

    * ظروف الفعل: تتعدد الأمكنة التي يتحقق فيها فعل التحول كما تعددت الأفعال وأقنعة الفاعل، إلا أنها تتحاقل في ما بينها لتصبح مكانا واحدا تتعدد وجوهه كما يتضح من جدول الأمكنة الآتي :

    ـ الحيرة وطنه. ( الضياع)

    ـ حيث يصير الحجر بحيرة والظل مدينة يحيا. ( الماء)

    ـ في طرق بيضاء منفية . ( الضياع)

    ـ في الصخرة المجنونة الدائرة. ( الضياع )

    ـ في الأعين المطفأة الحائرة . ( الضياع)

    ـ في سفر يسيل كالنزيف من جثة المكان . ( الضياع والماء)

    ـ في عالم يلبس وجه الموت ... (الضياع)

    ـ بين الصخور ... ( الماء)

    ـ بين المجاذيف ... ( الماء)

    ـ في جزائر العرائس ... (الماء)

    ـ في وشوشات المحار... )الماء)

    ـ خلف القناع الطويل من الأغنيات ... ( اللغة)

    ـ في مناخ الحروف الجديدة... ( اللغة )

    ـ بين الصدى والنداء ... ( الضياع واللغة)

    ـ تحت صقيع الحروف ... (اللغة)

    ـ في لهفة التائهين ... ( الضياع)

    ـ في الموج بين الأصداف ... (الضياع)


    إن أغلبية الأماكن ترتبط بالماء والضياع واللغة، وهذا راجع إلى أن البحر يحتضن جذور مهيار، كما أن جميع الأمكنة تتميز بخاصية الغموض والسرية. فهي أمكنة لا يعرفها الآخرون، إنها أمكنة نقيضة لمدينة الأنصار:

    حيث لا يلتقي بسواه يجيء

    حيث لا يلمح الآخرين استدار[18].

    إن الظرف ( حيث ) في هذين السطرين اختزال وتكثيف لكل هذه الأمكنة المتعددة. أما الزمان، فيختزل في زمن واحد هو العهد الجديد المغاير للأيام المثقوبة.

    نخلص من هذا التحليل إلى أن القصيدة كلها بمقاطعها المتعددة وأقنعتها المتنوعة ليست إلا صورة واحدة تتعدد ملامحها في صور متعددة، إلا أنها تعود كلها إلى بنية رحمية واحدة محورها الفعل الإيجابي ( الهدم والبناء ) الذي يقوم به فاعل متمرد في زمان ومكان محددين .







    [[align=center]"]ملحق : قصيدة[/align][align=center]

    فارس الكلمات الغريبة : أدونيس :



    مزمـــور
    يقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا يرد ، وأمس حمل قارة ونقل البحر من مكانه .

    يرسم قفا النهار ، يصنع من قدميه نهارا ويستعير حذاء الليل ، ثم ينتظر ما لا يأتي . إنه فيزياء الأشياء، يعرفها ويسميها بأسماء لايبوح بها . إنه الواقع ونقيضه ، الحياة وغيرها .

    حيث يصير الحجر بحيرة والظل مدينة يحيا ، يحيا ويضلل اليأس ، ماحيا فسحة الأمل ، راقصا للتراب كي يتثاءب ، وللشجر كي ينام .

    وهاهو يعلن تقاطع الأطراف، ناقشا على جبين عصرنا علامة السحر.

    يملأ الحياة ولا يراه أحد ، يصير الحياة زبدا ويغوص فيه ، يحول الغد إلى طريدة ويعدو يائسا وراءها ، محفورة كلماته في اتجاه الضياع الضياع الضياع.

    والحيرة وطنه ، لكنه مليء بالعيون.

    يرعب وينعش

    يرشح فاجعة ويفيض سخرية

    يقشر الإنسان كالبصلة

    إنه الريح لا ترجع القهقرى، والماء لا يعود إلى منبعه، يخلق نوعه بدءا من نفسه ، لا أسلاف له وفي خطواته جذوره .

    يمشي في الهاوية وله قامة الريح .




    ليس نجما

    ليس نجما ليس إيحاء نبي

    ليس وجها خاشعا للقمرـ

    هو ذا يأتي كرمح وثني

    غازيا أرض الحروف

    نازفا ـ يرفع للشمس نزيفه ؛

    هو ذا يلبس عري الحجر

    ويصلي للكهوف

    هو ذا يحتضن الأرض الخفيفه .



    ملك مهيار

    ملك مهيار

    ملك والحلم له قصر وحدائق نار

    واليوم شكاه للكلمات

    صوت مات ؛

    ملك مهيار

    يحيا في ملكوت الريح

    ويملك في أرض الأسرار.



    صـوت

    مهيار وجه خانه عاشقوه

    مهيار أجراس بلا رنين

    مهيار مكتوب على الوجوه

    أغنية تزورنا خلسة

    في طرق بيضاء منفيه،

    مهيار ناقوس من التائهين

    في هذه الأرض الجليليه.



    صوت آخر

    ضيع خيط الأشياء وانطفأت

    نجمة إحساسه وما عثرا

    حتى إذا صار خطوه حجرا

    وقورت وجنتاه من ملل

    جمع أشلاءه على مهل

    جمعها للحياة ، وانتثرا .



    تولد عيناه

    في الصخرة المجنونة الدائره

    تبحث عن سيزيف ،

    تولد عيناه ،

    تولد عيناه

    في الأعين المطفأة الحائره

    تسأل عن أريان ،

    تولد عيناه

    في سفر يسيل كالنزيف

    من جثة المكان .

    في عالم يلبس وجه الموت

    لا لغة تعبره لا صوت ـ

    تولد عيناه .



    الأيام


    تعبت عيناه من الأيام

    تعبت عيناه بلا أيام

    هل يثقب جدران الأيام

    يبحث عن يوم آخرـ

    أهنا أهنالك يوم آخر ؟



    دعوة للموت[ أصوات ]

    يضربنا مهيار

    يحرق فينا قشرة الحياة

    والصبر والملامح الوديعه ؛

    فاستسلمي للرعب والفجيعه

    يا أرضنا يا زوجة الإله والطغاة

    واستسلمي للنار.



    صــوت


    يهبط بين المجاديف بين الصخور

    يتلاقى مع التائهين

    في جرار العرائس

    في وشوشات المحار؛

    يعلن بعث الجذور

    بعث أعراسنا والمرافئ والمنشدين ـ

    يعلن بعث البحار.



    قناع الأغنيات

    باسم تاريخه في بلاد الوحول

    يأكل ، حين يجوع ، جبينه

    ويموت وتجهل كيف يموت الفصول

    خلف هذا القناع الطويل

    من الأغنيات.

    وحده البذرة الأمينه

    وحده ساكن في قرار الحياة .



    مدينة الأنصار

    1

    لاقيه يا مدينة الأنصار

    بالشوك ، أو لاقيه بالحجار

    وعلقي يديه

    قوسا يمر القبر

    من تحتها ، وتوجي صدغيه

    بالوشم أو بالجمر ـ

    وليحترق مهيار .

    2

    أكثر من زيتونة ونهر

    ونسمة تروح أو تجيء

    أكثر من جزيرة وغابه

    أكثر من سحابه

    تركض في طريقه البطيء

    تقرأ ، في سريرها ، كتابه .



    العهد الجديد

    يجهل أن يتكلم هذا الكلام

    يجهل صوت البراري ،

    إنه كاهن حجري النعاس

    إنه مثقل باللغات البعيده .

    هو ذا يتقدم تحت الركام

    في مناخ الحروف الجديده

    مانحا شعره للرياح الكئيبه

    خشنا ساحرا كالنحاس .

    إنه لغة تتموج بين الصواري

    إنه فارس الكلمات الغريبه .



    بين الصدى والنداء


    بين الصدى والنداء يختبئ

    تحت صقيع الحروف يختبئ

    في لهفة التائهين يختبئ

    في الموج، بين الأصداف يختبئ ،

    وحينما يغلق الصباح على

    عينيه أبوابه وينطفئ،

    يلجأ مصباحه إلى جبل

    ضيعه يأسه، ويلتجئ .



    الجرس


    النخيل انحنى

    والنهار انحنى والمساء ـ

    إنه مقبل ، إنه مثلنا؛

    غير أن السماء

    رفعت باسمه سقفها الممطرا

    ودنت كي تدلي

    وجهه ، فوقنا ، جرسا أخضرا .





    آخر السماء



    يحلم أن يرمي عينيه في

    قرارة المدينة الآتيه

    يحلم أن يرقص في الهاويه

    يحلم أن يجهل أيامه الآكلة الأشياء

    أيامه الخالقة الأشياء ؛

    يحلم أن ينهض أن ينهار

    كالبحر ـ أن يستعجل الأسرار

    مبتدئا سماءه في آخر السماء .



    وجه مهيار


    وجه مهيار نار

    تحرق أرض النجوم الأليفه،

    هو ذا يتخطى تخوم الخليفه

    رافعا بيرق الأفول

    هادما كل دار؛

    هو ذا يرفض الإمامه

    تاركا يأسه علامه

    فوق وجه الفصول .



    الحيرة[أصوات]


    لأنه يحار

    علمنا أن نقرأ الغبار.

    لأنه يحار

    مرت على بحارنا سحابه

    من ناره من عطش الأجيال.

    لأنه يحار

    أعطى لنا الخيال

    أقلامه ، أعطى لنا كتابه .



    ينام في يديه


    يمد راحتيه

    للوطن الميت للشوارع الخرساء،

    وحينما يلتصق الموت بناظريه

    يلبس جلد الأرض والأشياء

    ينام في يديه .



    يحمل في عينيه


    يأخذ من عينيه

    لألأة ؛ من آخر الأيام والرياح

    شرارة ؛ يأخذ من يديه

    من جزر الأمطار

    جبلّة ويخلق الصباح .

    أعرفه ـ يحمل في عينيه

    نبوة البحار

    سماني التاريخ والقصيده

    الغاسلة المكان ،

    أعرفه ـ سماني الطوفان .

    توأم النهار



    الليل أبواب وساحرات

    في رئتي مهيار

    في وجهه الأصفر في يديه.

    مت مثلنا ضع معنا يا آدم الحياة

    أبحر بنا إليه

    نشتاقه نحيا له ـ مهيار

    توأمنا وتوأم النهار .



    الآخرون


    عرف الآخرين

    فرمى صخره فوقهم واستدار

    حاملا غرة النهار

    والسنين التي تهرول عذرية الجنين.

    وجهه عالق بالحدود الغريبه

    ينحني فوقها ويضيء ؛

    حيث لا يلتقي بسواه يجيء

    حيث لا يلمح الآخرين استدار

    حاملا غرة النهار

    ماحيا صفحة السماء القريبه .



    البربري القديس


    ذاك مهيار قديسك البربري

    يا بلاد الرؤى والحنين ،

    حامل جبهتي لابس شفتي .

    ضد هذا الزمان الصغير على التائهين.

    ذاك مهيار قديسك البربري ـ

    تحت أظفاره دم وإله ؛

    إنه الخالق الشقي

    إن أحبابه من رأوه وتاهوا .

    [/align]
    --------------------------------------------------------------------------------

    [.[/color]
    التعديل الأخير تم بواسطة علي المتقي; الساعة 02-04-2009, 10:29.
    [frame="1 98"][align=center]أحبتي : أخاف من كل الناس ، وأنتم لا أخافكم، فالمجيئ إليكم متعه، والبحث عنكم فتنة ولذه، ولقاؤكم فرحة تعاش ولا تقال.[/align][/frame]
    مدونتي ترحب بمن يطرق أبوابها:
    http://moutaki.jeeran.com/
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    #2
    عزيزي علي متقي، حفظكم الله وأجزل عطاءكم؛

    قال قائل - والحوار يدور بيننا حول قصيدة النثر- إن إشعاعها خفت قبل أن يبرق، وتحسرم عنبها قبل أن يتزبب، فما شأنك تحفر بئرا يابسا لا ماء فيه ولا طلاوه له؟

    قلت: موقفي أعلنته في مقال : "الشاعرية بين الشعر والنثر"؛ وإنه لا مسوغ لنا من مسايرة أهل هذا الفن لما وجدنا لهم من رونق وجمال وصبغة فنية... لا يمكن نكرانها... وأخشى أن نصبح نموذجا لألفونس دودي في رسائل طاحونتي.

    ولا أخفي الآن، رق حالي عليكم، وأنتم تعصرون الكلمات والدلالات، كي ترفعوا شأنها، وتحتفون بنص ينتسب لا لأدونيس وإنما لفلاسفة القرن الرابع الهجري حيث كانوا يقسمون الناس حسب الأمزحة مائي، ناري، هوائي، ترابي، ومن هنا كان لأهل التنجيم دخل ورتوشات في مدونة الفلاسفة.

    وليس هذا إبخاسا لجهدكم، - بقدر ما هو- رأيا بدا لي، ولعلكم تنيرون سبيلا تلاشت فيه أفكاري ولم تستوعب شتات فكر مدمر، وتجمعت لتدفع ضلالا جاءنا في حلة قشيبة، بعد ما طرد من الميدان طردا.

    لم يكن أدونيس ها هنا مبدعا، لأنه ناقل، وسارق لحقوق الملكية للغير لما تناهى القول عنها؛ بعد بطلان دلالتها، وبدا عيبها، بل كذبها. وكأني به بمثابة مركز للدراسات الشخصية الإنسانية تابعت معه دروسا نفسية كان يعتمد ما يسميه العرب حساب الجمل وسموها la méthode de Paris. فيا لسخريةّّّّّ!!!

    وكل حفر في غياهب أهل التنجيم، وأهل الفلسفة القديمة، ليس إقداما وإنما تراجعا للقهقرى ظنا منه أن الناس تناسوا تلك العوالم، التي اختار الركوب عليها لإبراز عبقريته الدائبة في عالم التيه.

    ولئن ذم التبعية للأنبياء، والنظر بخشوع وخضوع للقمر، والنجوم التي تدور في فلكها... فلن ينفك أي فكر عن التبعية، فها هو مقلد لفلاسفة التيه والضلال المبين.

    وإلا لم يمجد الفكر الحداثي الثوري؟

    والإمعية داء يلاحق الأمم، فهي لا ترضى أن تفكر وتنحصر قناعتها بما جاء به أهل الحل والعقد، فهي تتأثر ولا تؤثر، وهي الغالبية العظمى من الشعب.
    فواعجبا لمن يرى الهلال رمضان بأم عينيه ثم يقول: الذنوب على الحكومة، حيث لم تأخذ بشهادتنا.

    أما النجوم التي تراوح مكانها وتزاول عملها هي بمثابة الفئات النفعية سواء المأجورة منها، أو ذات الفكر النفعي الاقتصادي ما دامت الأمور تدور لصالحها...فلن تجد عنها بديلا فلها أساس في كل فكر، ووجود في كل مجال.

    وبهذا يتناقض بنيانه من الأساس، فهو كمن يبني في الرمال، ثم لا يلبث البناء أن يسقط من جديد،

    وخلاصة القول هي كلمات تبنية لا قوة فكرية تؤازرها، ولا سند بنائي تعتمده. فهي شعلة تنقشع وسرعان ما تخبو؛ إذ لا جدوى من ورائها.

    ---------

    آه على جهود ضلت سبيلها، وتابعتكم لعلي أتنسم نسائم فنها، أو أستفيد من توجيهات جاءت بها؛ لكنها كانت تنظر للفكر الشيوعي الثوري الذي يعمد إلى الثورة والجنون والحرق والضياع والهدم... و....بعدها البناء!!! وهل هذا فعل العقلاء؟؟؟ أم هذا كلاما يستحق الاحتفاء به؟؟؟

    فأين هذا من فكر القومة لله التي تحق الحق وتبطل الباطل، وتؤدي الشهادة لله ولو على النفس والوالدين والأقربين فضلا عن غيرهم...

    ولربما كان لهيمنة الفكر اليساري على جامعة مراكش زمنا أثرا، ترك بصماته على أرض الواقع، فقدَّسنا ما يستحق الإهانة...

    ألم ينبذ الفكر الشيوعي، والاشتراكية الثورية ورحل إلى غير رجعة، وكأني بهذه الجهود نفخ في الرماد!!!

    أليس كذلك؟

    فلسنا ضد الفكر من حيث هو فكر، وإنما نعمد لضم سفن جنت جنيها وساقت إلينا دررا ناذرة وفوائد كثيرة، فلئن تقمصنا القصيد، وقلنا علما، علينا أن نبحر حيث بريق الأمل في فكر متنور مستقيم ذي أصالة، على الأقل.

    لقد كانت جهودكم أكثر شاعرية، وإنارتكم للنص جمالا أكثر فلسفة من أصله، ورؤيتكم إبداعا في التحليل، ولو قام أدونيس لقدم لك شكرا جزيلا، للنفس الذي نفختم به النص وتلألأ حيوية، بينما عصير الكلمات لم يفتكم فيه إلا الأصوليون...

    بارك الله جهودكم...

    محبتي وتقديري
    http://www.mhammed-jabri.net/

    تعليق

    • علي المتقي
      عضو الملتقى
      • 10-01-2009
      • 602

      #3
      السيد محمد جابري : السلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته وبعد :


      أولا الحوار لا يكون مثمرا وغنيا مالم يكن هادئا ومتصفا بأخلاقية الحوار ، وكلامكم لا يحمل هذه المواصفات ، فقد كان هجوما عنيفا واتهامات مجانية ناتجة عن سوء فهم وخلط بين حقول لا يتم عادة الخلط بينها .
      ثانيا : أدونيس ليس شاعرا يساريا ولا شيوعيا ، ولا يؤمن أبدا بما وصفته به ،ولا يقول شعره إنه يساري أو يشوعي ، وإنما هو مجرد شاعر ، مجرد إنسان يعيش حياته وله القدرة بأن ينقل تجاربه إلى مستوى التجربة الشعرية ، وهي تجربة إنسانية فردانية تحمل رؤيا وجودية وصوفية ، وقد رفض أن يكون الشعر مرهونا بأي رؤيا أيديلوجية بما فيها الرؤية الماركسية أو الشيوعية أو اليسارية أو اليمينية .
      ثالثا :ما قلته في هذا التحليل ، ليس أدونيس من قاله ، بل هو قراءة للنص و إنتاج معرفة به ،وليس القراءة الوحيدة للنص ، فالنص حمال أوجه ، وله مداخل متعددة ، وقد اخترت مدخل العتبات فأوصلتني إلى ما أوصلتني إليه ، ولو اخترت بوابة أخرى غيرها لقلت في هذا النص ربما ما يرضيك وقد لا يرضيك . وإذا كان لك أن تنتقد فانتقد قراءتي ، وأثبت تهافتها أو تناقضها أو عدم انسجامها ، أو اقترح قراءة أخرى للنص تغني هذه القراءة ، فزوايا النظر تتعدد . فالصورة الواحدة قد تراها ضفدعة من زاوية ، وقد تراها حصانا من زاوية أخرى ، مع ما بينهما من فروق في الحجم وفي الشكل .بل إن الظاهرة الواحدة يراها بعضنا بيضاء نا صعة البياض ، ويراها غيرنا سوداء ، وهما صفتان متناقضتان .
      ثالثا: هناك فرق كبير بين ما قمت به وما قام به الأصوليون على المستويات الآتية :
      ـ إنهم يشتغلون على نص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، نص إقناعي أرسل إلى الناس كافة ليبين لهم ، فاللغة فيه ذات وظيف بيانية ، وكان همّ الأصوليين الأول والأخير هوالكشف عن قناع المعنى ، فاعتمدوا البلاغة البيانية . أما أنا فأشتغل على نص شعري جميل يصوغ كلمات جميلة ، لا يحمل أي رسالة إلى القارئ ، وإنما يحمل تجربة فردانية عاشها صاحبها ، وآمن بها، ونقلها إلينا في قالب شعري دون أن يطلب منا أن نسير في فلكه ، لأنه هو أيضا يرفض أن يسير في فلك أحد ، وأن يحيا حياة من سبقه من الشعراء مهما بلغت من العظمة، لأنه يريد أن يحيا حياته هو .و لقراءة هذا النص لا يمكن أن نقرأه بالبلاغة نفسها التي قرأ بها الأصوليون نصا مخالفا ، ولا أن نجيب على سؤالهم غير المطروح على النص أصلا لأنه لا يتحمله ، و إنما يجب أن نقرأه ببلاغة الشعر التي لاتنحصر في التشبيه والاستعارة والكناية و التقديم والتأخير والتعريف والتنكيروغيرها من الظواهر البلاغية الجزئية ، و إنما في البحث عن شعرية النص وشمولية أنساقها ومدى انسجامها مع الأنساق الإنسانية التي تتخذها خلفية فلسفية لها .
      قد نعجب بما قاله أدونيس وقد لا نعجب به ، لكن هذا لايغير من الأمر شيئا .
      رابعا : إننا هنا لا نناقش عقيدة أدونيس أهو مسلم أم غير مسلم ، أهو على حق أم على ضلال . وإنما نناقش أسس شعره الحداثي وخلفياته الفلسفية ، وكيف يمكن الكشف عن بنية تعود في أصلها إلى رحم واحد ، فلماذا تصر على أن تكون خصما وحكما في غير موقع الخصم والحكم . إنك في مجال الأدب ، مجال الاختلاف بامتياز لا مجال الاتفاق بامتياز .ومجال الفردانية لا مجال الأمة ، أنا شخصيا أدرّس أدونيس و أدرّس البلاغة القرآنية وأقوم لله خمس مرات في اليوم ، ولا أجد تناقضا في كل هذا ، و أقول لأدونيس ولغير أدونيس أمتعتني في هذا، وأخالفك الرأي في هذا ، ولا أجد إحراجا في أن أقول لكل العالم الذي يخالفني لك دين ولي دين دون سب ولا شتم ولاتكفير ، والله سبحانه وتعالى يحكم بيننا في ما كنا فيه نختلف .أقرأ القرآن الكريم وأقف مشدوها أمام بلاغته البيانية ، و أبحث فيها بمنظور بياني عقدي ، وأقرأ الشعر وأعجب ببلاغته الشعرية و أبحث فيها بمنظور شعري جمالي .
      من هنا لاداعي للمقارنة بين الدعوة إلى الله وبين قراءة الشعر فلا مجال للمقارنة بينهما ، لأن المقارنة ليست قائمة أصلا .
      خامسا : تتأسفون على ضياع جهودكم في تتبع ما أكتبه ، لأنكم وجدتم أنفسكم وراء ناقد له فكر شيوعي أو ماركسي أو لا أدري ،و أرجعت كل ذلك إلى هيمنة الفكر الماركسي على جامعة مراكش زمنا، وهو كلام جانب الصواب إلى درجة أن رأى الأبيض أسودَ ، فأين هي الماركسية و اليسار والشيوعية في كل ما كتبته ، وهو أبعد ما يكون عن الفكر الماركسي بل إنه يسير معه في خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا .يضاف إلى ذلك أنني لم أقل إنني أؤيد أدونيس أو أرفضه، وبالأحرى أن أدعو إلى تقديسه ، فالشعر ليس قرآنا يقدس ، إنه كلام قاله صاحبه ورحل بعد ما هام به في كل واد ونسيه . ونحن من نختصم حوله .
      سادسا : اتهمت أدونيس بالسرقة ، لأن الماء والهواء والنار والتراب هي من بنات أفكار القرن الرابع الهجري . و الواقع أن هؤلاء ليس من قال بالأسطقسات الأربعة( الماء والنار والهواء والتراب) كأصل للوجود ، وإنما الفلسفة اليونانية هي من قالت بذلك ، وهذا لا يعني أبدا أن أدونيس سارق ، وإنما ينطلق من خلفية فلسفية تؤمن بوحدة الفكر الإنساني العربي واليوناني والصيني والإفريقي . ولأن القصيدة تتمحور حول الفاعل ( فارس الكلمات الغريبة )الذي يفعل فعله في الكلمات المألوفة المتداولة فيحولها إلى كلمات غريبة ،وكلما كانت أغرب كانت أبعد في الوهم ، وكلما كانت ابعد في الوهم كانت أطرف ، وكلما كانت أطرف كانت أعجب ، وكلما كانت أعجب كانت أبدع كما يقول الجاحظ ، فقد اختارت هذه الاسطقسات الأربعة باعتبارها مادة الخلق ، ليتحد معها الفاعل ويتمرد ضد الثابت وجعله متحولا .
      وقد كتبت نصا شعريا عنوانه ( رسالة إلى مهيار الدمشقي ) أحاور فيها أدونيس في شعره وتنظيره ،ولو قرأتها ما اتهمتني بما اتهمتني به . وأعيد نشر النص هنا بعد ما كان منشورا ببوابة قصيدة النثر :


      [align=center]

      دفنتُ أبِي

      والسيفَ والعِمامهْ.

      ولَّيتُ ظهرِي

      لِلإرثِ و الإمامهْ .

      وجئتُ حدائقَ النَّارْ

      أسألُ يا مهيارْ ...

      من أختارْ ؟

      أ أختارُ نفسِي؟

      هذا الحطامْ

      مِنَ الجُبنِ

      والعجزِ

      وحبِّ الزَّعامهْ؟

      أَأختارُ غيرِي

      هذا الفعالُ الموسومُ

      بالغدرِ والخِيانهْ

      أخطُو.... فتَسيخُ قدمايَ

      في الرمالْ....

      في صوتِ الآخرينَ يصلبُني

      قربَ أبِي رِغالْ

      حتى أُرجمَ

      في أيَّامِ الحجِّ سبْعًا

      وتلعنُنِي الأجيالْ

      لِمَ لاَ تجيبُ يا مهيارْ؟

      كيف أصيرُ

      رمحَ نارْ؟

      يخرِقُ صحارَى الثلوجِ

      باحثا عن سرِّ الحجارَهْ

      كيف تفيضُ نهرًا ؟

      كيف تصيرُ شرارَهْ ؟

      أجبْ يا مهيارْ

      فقد مللتُ

      حلقاتِ الرَّاوِي

      وحكاياتِ الشُّطَّارْ.

      أنا الإمامُ بنُ الإمامِ

      أرفُضُ الإِمامَهْ

      لنْ أجعلَ رأْسِي

      بينَ الرُّؤوسِ

      وأدعو لَهُ بالسَّلامَهْ.

      لنْ أحدوَ حدوَكَ يَا مِهْيارْ

      لنْ أخونَ

      لنْ أضيعَ

      لنْ أتيهَ فِي البِحارْ

      لنْ أكونَ أوديسَ

      أوْ سيزيفَ

      أو مِهيارْ.

      لكَ النارُ تحرِقُ أشياءَنَا الأليفَهْ

      لكَ الماءُ يجرِفُ تُخومَ الخَليفَهْ

      لكَ الرِّيحُ تَكنِسُ بقايَا السَّقيفهْ

      لنْ أحْدوَ حدوَكَ يَا مِهيارْ

      أنَا الإِمَامُ بْنُ الإمامِ

      سأنصبُ النَّارَ

      في طرِيقِ القَوافلِ علامَهْ

      سأرسمُ الماءَ

      في واحاتِ النخيلِ غمامَهْ

      سأَرحلُ مع الرِّيحِ إلَى رحمِ الأشجارْ

      أمُدُّ يَدِي إلَى محمَّدٍ الأَمينْ

      أكونُ لهُ صِدّيقًا في الغارِ

      وخارجَ الغارْ.

      لن أحْدوَ حدوَكَ يَا مِهيارْ

      لنْ أحْدوَ حدوَكَ

      لنْ أحْدوَ

      لنْ ...لنْ ...لنْ [/align]


      فهل ترى بعد هذا أنني أحمل أفكارا ماركسية ؟ لقد أصدرت كتابا يناقش قضايا الشعر المعاصر ، أتمنى أن يصلك وتطلع عليه ، لعلك تجد فيه ما يضيء طريق الأدب لديك . اطلع على ورقته التقديمية في بوابة أحوال الكتاب تحت عنوان إصدار جديد.
      هداك الله وأنار سبيلك .
      [frame="1 98"][align=center]أحبتي : أخاف من كل الناس ، وأنتم لا أخافكم، فالمجيئ إليكم متعه، والبحث عنكم فتنة ولذه، ولقاؤكم فرحة تعاش ولا تقال.[/align][/frame]
      مدونتي ترحب بمن يطرق أبوابها:
      http://moutaki.jeeran.com/

      تعليق

      • محمد جابري
        أديب وكاتب
        • 30-10-2008
        • 1915

        #4
        عزيزي متقي: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛

        آسف جدا من كوني أقلقت راحتكم، ووترت أعصابكم، ما كان هذا هدفي ولا مرادي، وإلا لم التواصل؟؟؟.

        أخي الكريم: يشهد الله أن لكم عندي محبة وتقديرا خاصين، ولا أخفي اعتزازي بكم وبما تنشرونه، وهذا لا جدال فيه.

        ربما قرأتم ردي قراءة أغضبتكم - فمعذرة - فليس هذا ليس هدفي ولا مرادي، كما لا أخفي عليكم فقد توصلت أيضا بدعوة من أحدهم على عكس ما جاء في كلامكم، ولما تبينت من أمر الدعوة (وجدت نفسي وقعت في فم أسد)...

        أخي الكريم فقد مررت في فترة من فترات عمري بفكر متشدد، ومهما حاولت التخلص منه وجدته يتملكني رغم طول البون وسعة المدة التي تنصلت منه...

        فقد حاولت أن أستفيد من درر كتاباتكم وبخاصة هذا الموضوع فوجدتكم ربما بلطف معشركم تبينون وتشدون على مدارج بنائه، على درب تحميل النص على أحسن محمل، وبان لي عكس توهجكم...

        على كل لي عودة للموضوع بإذن الله.
        http://www.mhammed-jabri.net/

        تعليق

        • علي المتقي
          عضو الملتقى
          • 10-01-2009
          • 602

          #5
          السيد محمد جابري : بعد السلام والتحية :
          شخصيا لا يمكن أن أنفعل و أنا أناقش وأحاور في موضوع أعتبره موضوعا خلافيا ، أقول فيه رأيي وأرحل ولا ألزم به أحدا . وإذا كنت قد وجهت إليكم ملا حظة حول طريقة حواركم ، فلأنني أريد لكم أن تتوفقوا في إقناع الآخرين لا المواجهة معهم، وطريقتكم تتعارض مع هدفكم و مع طريقة الحوار الذي دعا إليها القرآن الكريم .ألم يقل الله عز وجل في محكم كتابه العزيز : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " فقد حدد الإسلام في هذه الآية الكريمة للحوار طرقا ثلاثة حسب طبيعة المتلقي الذي يوجه الخطاب وحسب المقام . ذلك أن الدعوة إلى المذهب أمران : إما إقرار المذهب وإقناع المتلقي به، وهذا يقتضي الحكمة والموعضة الحسنة ، أو دحض وتفنيذ الرأي المضاد الذي يناقضه ، وهذا يقتضي الجدل بالتي هي أحسن . ولما كان المتلقي متعددا وغير منسجم ، ميز الله عز وجل بين الحكمة والموعظة الحسنة ، فإذا كان المتلقي من الذين يبحثون عن الحجة القطعية فطريقة دعوته هي الحكمة ، والحكمة هي الحجة القطعية التي لا ترد ، وإذا كان من عامة الناس الذين لا ينكرون ولا يؤمنون ، فطريقة دعوتهم هي الموعظة الحسنة والترغيب قبل الترهيب . تأمل قول الله عز وجل في سورة الزمر :قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله, إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم.53
          لنا أن نلاحظ أن الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه على لسان الرسول (ص) إلى الذين أسرفوا على أنفسهم, و بلغ بهم هذا الإسراف حد اليأس و القنوط من رحمة الله و مغفرته. فجاءت الآية الكريمة لتزيح القنوط و لتبقي باب التوبة و الإنابة إلى الله مفتوحا , حتى لقد فرح المسلمون بنزول هذه الآية أيما فرح, فقال عنها رسول الله(ص):ما أحب أن لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية. و قال عنها ابن عباس رضي الله عنه: من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا( أي بعد نزول هذه الآية) فقد جحد كتاب الله عز و جل. و لذلك تسمى عند المسلمين أية الرجاء , و تسمى آية الفرح, و آية المغفرة.
          إن المستهدفين بهذه الآية الكريمة، هم الذين أسرفوا على أنفسهم بترك الأوامر و إتيان المعاصي. و مع ذلك يخاطبهم ربنا جلت قدرته بقوله:يا عبادي. و في هذا من الرفق والشفقة ما يذيب القلوب و لو كانت كالحجارة أو أشد قسوة. خاطبهم عز وجل بقوله يا عبادي تماما كما خاطب غيرهم ممن خالفهم في السورة نفسها بقوله:قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم.11 وفي ذلك إشارة إلى أن المخاطبَيْن في الآيتين على الدرجة نفسها من رضا الله و رضوانه, بغض النظر عن أفعالهم السابقة, لا فرق عنده بين عباده الذين آمنوا و عباده الذين أسرفوا على أنفسهم سوى وجوب تقوى الله على الأوائل, و وجوب عدم القنوط من رحمة الله على الأواخر. فالمقام مقام بناء و تربية و توجيه لا مقام حساب وجزاء وعقاب.و الواقع أن ربنا جلت قدرته يسمي بني البشر عبادا، ويسندهم إلى نفسه في مقام الرضا، أو في مقام العطف و الإشفاق كما هو واضح في المصحف الشريف. قال تعالى في سورة البقرة (186):و إذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعان. و قال في سورة الحجر(42):إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين. و قال في سورة الأنبياء (105): و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون. و في سورة الزخرف (68): يا عبادي لا خوف عليكمُ اليوم و لا أنتم تحزنون. و إذن, فلا غضب لرب العالمين على من أسرف على نفسه مهما كان هذا الإسراف, ما دامت فرصة التوبة باقية. و في هذا حث على تجاوز هذه الوضعية بنفوس آمنة مطمئنة إلى رحمة الله متى سلك العبد المذنب سبيلها. و إنما العبرة بالخواتم.ختم الله علينا و إياكم بالحسنى.
          وقد أشار الفخر الرازي رحمه الله إلى أن هذه الآية تدل على كمال الرحمة والغفران من وجوه

          : الأول: أن الله عز وجل سمى المذنبين عبادا والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج.
          الثاني: أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال: {قل ياعبادى الذين أسرفوا } وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب. ( كيف؟ لأن هناك فرقا بين الإضافة إلى ياء المتكلم، وبين الإضافة إلى الاسم الظاهر، فياء المتكلم تفيد القرب وانمحاء المسافة الفاصلة بين المضاف والمضاف إليه ، فالإنسان كائن حي يحس ويشعر وكلما تقرب منه خالقه أو تقرب إلى خالقه إلا وأحس بالأمل والرجاء والنجاة.و أكثر الإضافة محوا للمسافة وقربا بين المضاف والمضاف إليه هي الإضافة إلى ياء المتكلم.)
          و الثالث: أنه تعالى قال: {أسرفوا على أنفسهم } ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه بل هو عائد إليهم، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم.
          الرابع: أنه قال: {لا تقنطوا من رحمة الله } نهاهم عن القنوط، فيكون هذا أمرا بالرجاء، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم .
          الخامس: أنه تعالى قال أولا: {يا عبادى } وكان من الممكن أن يقول لا تقنطوا من رحمتي لكنه ترك هذا اللفظ وقال: {لا تقنطوا من رحمة الله } لأن اسم الجلالة أعظم أسماء الله وأجلها، فالرحمة المضاف إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة (يضاف إلى ذلك أن المسافة هنا بين المضاف والمضاف إليه ليست ذات قيمة كما هو الأمر في كلمة يا عبادي لأن الرحمة ليست كالإنسان ، فهي ملك لله فحسب وصفة من صفاته).
          .و السادس: أنه لما قال: {لا تقنطوا من رحمة الله } كان من الممكن أن يقول: إنه يغفر الذنوب جميعا، ولكنه لم يقل ذلك، بل أعاد اسم "الله" وقرن به لفظة "إن" المفيدة لأعظم وجوه التأكيد، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمة.
          السابع: أنه لو قال: {يغفر الذنوب } لكان المقصود حاصلا لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال جميعا. وهذا أيضا من المؤكدات.
          الثامن: أنه وصف نفسه بكونه غفورا، ولفظ الغفور يفيد المبالغة.
          التاسع: أنه وصف نفسه بكونه رحيما والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله {إنه هو الغفور } إشارة إلى إزالة موجبات العقاب، وقوله {الرحيم } إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب.
          العاشر: أن قوله {إنه هو الغفور الرحيم } يفيد الحصر، ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو، وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة، فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية.
          إذن فهذه الآية الكريمة التي نتأملها والتي بلغت مبلغ الكمال البلاغي في الرحمة و المغفرة دعوة لكل العصاة ـ منذ نزول الآية وإلى قيام الساعة ـ إلى التوبة و الإنابة، و إخبار بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها و رجع عنها مهما كانت.
          فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: و الذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء و الأرض, ثم استغفرتم الله لغفر لكم. و الذي نفس محمد بيده, لو لم تخطئوا لجاء الله عز و جل بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم.( و الحديث في مسند أحمد).

          أما المجادلة بالتي هي أحسن، فتتجسد واضحة في المناظرات القرآنية كقصة إبراهيم مع أبيه، وقصة فرعون مع موسى وغيرهما. وكلها حوارات تسعى إلى دحض أراء الخصم منطوقا، وتأكيد الرأي النقيض مفهوما.
          ففي سورة البقر 258 قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ.
          سعى ابراهيم إلى إثبات عجز خصمه بأن طلب منه تغيير الفعل الإلهي، وتعديل قوانين الكون بأن يأتي بالشمس من المغرب ليؤكد أن العاجز عن فعل واحد لا يستحق أن يكون إلها. فانتهي به الأمر إلى أن بهت.
          وفي قصة ابراهيم عليه السلام مع قومه، لما سألوه أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ وهو سؤال القصد منهم الإقرار بذنبه وهم يعلمون أنه الفاعل، لكن ابراهيم بحنكته كان جوابه مفحما مقنعا " قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانو ينطقون، وبعد ما تأكد من إفحامهم لأنهم يعلمون أنهم لا ينطقون، عاد إلى الموعظة الحسنة قائلا :أتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم لما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون.أخي الكريم : هكذا يحاور القرأن الكريم ، وهكذا أريدك أن تحاور في هدوء وبحب صادق لمن تحاوره مهما كان رأيه ، فتشده بطريقة حوارك قبل أن تشده بحججك، وتخفف من عناده .
          وما أعظم رد موسى عليه السلام في سورة البقرة : لما خاطبه بنو إسرائيل : أتتخذنا هزؤا : قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين : لم يقل لهم إنكم جاهلون بقولكم هذا ، وإنما نفى عن نفسه أن يكون جاهلا ، ومفهوم القول أن هم الجاهلون بقولهم هذا .
          أخي الجابري : أؤكد لكم مرة ثانية أن الانفعال والزعل لا يعرف طريقا إلى قلبي و أنا أحاور الآخرين حتى ولو كانوا في الطرف اقصى مما أومن به .
          هدانا الله وإياكم لما فيه الخير
          [frame="1 98"][align=center]أحبتي : أخاف من كل الناس ، وأنتم لا أخافكم، فالمجيئ إليكم متعه، والبحث عنكم فتنة ولذه، ولقاؤكم فرحة تعاش ولا تقال.[/align][/frame]
          مدونتي ترحب بمن يطرق أبوابها:
          http://moutaki.jeeran.com/

          تعليق

          • محمد جابري
            أديب وكاتب
            • 30-10-2008
            • 1915

            #6
            عزيزي علي متقي حفظكم الله ورعاكم،

            شكر الله لكم هذه الإيضاحات وهذا البيان الواسع، فإن أسلوبي ولله الحمد في كل حوارات - سواء في هذا الملتقى أو حتى في ملتقى البلاغيين وبخاصة هناك، حيث المسئولية تكبلني من جهتين - أسلوبا هادئا؛ لكنني وبصدق حينما تخدش حدود الله فكأني أفقد صوابي، وأغضب لله...فقد صادفت في هذا الملتقى من وجه إلي كلاما فظا، فما انتقمت لنفسي بل كان ردي هادئا؛
            ذلك لكوني أستمد سندي وعدتي من قوله تعالى: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف : 164] حفظنا الله من كل زيغ وانحراف عن الجادة والكمال لله جل علاه.

            وإتماما للفائدة فيما جرى به قولكم تعقيبا على رد سيدنا موسى، أريد فقط توضيح نكتة علمية "وما أعظم رد موسى عليه السلام في سورة البقرة : لما خاطبه بنو إسرائيل : أتتخذنا هزؤا : قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين : لم يقل لهم إنكم جاهلون بقولكم هذا ، وإنما نفى عن نفسه أن يكون جاهلا ، ومفهوم القول أن هم الجاهلون بقولهم هذا" .

            أن لفظ الجهل في القرآن حيث ما حل لا يعني إلا الجهل بالله، وهنا استعاذ سيدنا موسى عليه السلام من الكينونة من الجاهلين لكون الله جل جلاله بيّن بأن جزاء الاستهزاء من الخلق استهزاء من الخالق {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [14]البقرة، فعقب الحق عليهم {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة : 15]} ذلك لكون الجزاء في سنن الله من جنس العمل، إلا فيما لا يليق بجلال الله مثل الخيانة...
            أجارنا الله وإياكم من غضبه ونقمه وشر عباده.

            لقد كان هذا النص بالنسبة لي ضربة قاضية لكل ما حاولتم شحدي به من معطيات، فلقد سبق أن ناقشنا أن هذا الفكر جاء ردة فعل لنصرة اليسار، فكان ردكم بأن الشعر مكسب إنساني لا دخل لهذا، ولاذاك في توجيهه، ومن هنا واجهتكم بالسؤال إذا أصبح علم آلة يستعمله هذا خدمة لفكره ويستعمله ذاك أيضا في توجهه... وتبين الأمر واتضح ولله الحمد وما أن استقر الفكر، ودخلت بدوري في مجادلة أساتذة أجلة حتى طلع علي هذا النص والذي اعتبرته جاء هادما لكل ما بنيناه، ومن هنا كانت الصدمة قوية علي... وكان عنف الرد.
            والحمد لله أن ساق النص على أيديكم ولو شاء الله وجاء به آخر لكانت حجته دامغة لي مخرسة لحججي...

            وقديما قيل باللغة الدارج " ما يتفرس الإنسان حتى يتهرس" وما أصدقها من حكمة، والحمد لله أن هيأكم الله لهذا السدد وهذا الصواب.

            جزاكم الله عني كل خير وبارك الله فيكم أولا وأخيرا...
            http://www.mhammed-jabri.net/

            تعليق

            • عبدالرؤوف النويهى
              أديب وكاتب
              • 12-10-2007
              • 2218

              #7
              أوّل الجسد آخر البحر

              [align=justify]من قصائد أدونيس ..قرأتها ..شغلتنى ،فى حينها،طويلاً. نسيتها ..تذكرتها الآن ..قلتُ لنفسى :لما لاتُشرك أستاذنا الدكتور المتقى ،فى قراءتها.علّه يُبحر فيها ويأتى إلينا بالدرر واللآلىء؟؟؟[/align]
              **********
              أوّل الجسد آخر البحر
              أدونيس
              - 1 -

              خَرَجَ الوردُ منْ حوضِه
              لملاقاتها،
              كانتِ الشمسُ عُريانةً
              في الخريفِ، سِوَى خَيْطِ غيمٍ على خَصْرِها.
              هكذا يُولَدُ الحبُّ
              في القريةِ التي جئتُ مِنْها.

              - 2 -

              نهضتُ أسْألُ عَنْكِ الفجْرَ: هَلْ نَهضَتْ؟
              رأيتُ وجهَكِ حولَ البيتِ مرتَسِماً
              في كلِّ غصْنٍ. رميْتُ الفجرَ عن كَتِفي:
              جاءَتْ
              أمِ الحلمُ أغواني؟ سألتُ ندىً
              على الغصونِ، سألتُ الشمسَ هَلْ قَرأَتْ
              خُطاكِ؟ أينَ لمسْتِ البابَ؟
              كيفَ مَشى
              الى جوارِكِ ورْدُ البيتِ والشجرُ؟
              أكادُ أشطرُ أيّامي وأنْشَطِرُ:
              دَمي هناكَ وجسمي هَا هُنا - ورقٌ
              يجرُّهُ في هَشيمِ العالَمِ الشَّررُ.

              - 3 -

              صامتٌ ليلُنا.
              مِنْ هُنا زهرٌ ينحني
              مِـنْ هنـالك ما يُشبـه التَّلَعثُمَ.
              لا رَجَّةٌ. لا افْتِتانْ.
              ليلُنا يتنهّد في رئتَيْنا
              والنوافذ تُطبِق أهدابَها.
              - تقرأين؟
              - ضع الشايَ. ضوءٌ
              يتسرّبُ مِنْ جسدينا الى جسدينا
              ويغيّر وجْهَ المكانْ.

              - 4 -

              هكذا - في عناق الطّبيعةِ والطَّبْعِ، نعصفُ أو نَهْدأُ
              لا قرارٌ، ولا خِطَّةٌ، - عَفْوَ أعضائِنا،
              ننتهي، نَبْدأُ.
              جسدانا
              كوكبٌ واحِدٌ.
              نتبادَلُ أحزانَنا
              نتبادل أحشاءَنا،
              جسدانا دَمٌ واحِدٌ.
              نحن صِنْوانِ في الجرحِ، مفتاحُ أيّامِنا
              ومفتاحُ أفراحِنا وأَحزانِنا،
              جَسدانا.

              - 5 -

              فَكَّتِ الأرضُ أَزْرارَها، وسارَتْ
              حُرَّةً في خُطانَا،
              عندما سألَتْنا وقلنا:
              نعرف الحبَّ يا أرضَنا. جَبَلْنا
              طينَنا مِن هَباءِ مسافاتِهِ، وجَبَلْنَا
              فتنةَ القمر المتشرّد في طَمْثهِ بأوجاعِنا،
              ورسَمْنا
              كُلَّ ما لا يُرى مِن تقاطيعهِ،
              بتقاطيعِنا.
              هي ذي أرضُنا، -
              نتوقّعُ أن يعشقَ الحبُّ أسماءَه
              كيفما دُوِّنَتْ
              في دفاتر أيّامِها.

              - 6 -

              نَهَرٌ - مِنْجَمٌ
              نهرٌ غامرٌ
              يتلبّس أعضاءنا
              ويسافر فيها -
              يدخلُ البحرُ فيه
              تخرجُ الأرضُ منه،
              والبقيةُ لا تُفهَمُ.
              لا أحدّدُ لا أرسمُ
              الدخول الى ليل حبي مضيءٌ
              والخروج هو المعتمُ.

              - 7 -

              علَّمتني مراراتُ أيّاميَ الرائيهْ:
              ليس للحبّ إلاَّ طريقٌ عموديةٌ
              لا تُسمَّى،
              وإن قيل عنها
              لغةٌ في الهبوط الى آخر الليل،
              في ناره العاليهْ.

              - 8 -

              كيف لي أن أسمّيَ ما بيننا ماضياً؟
              "ليس ما بيننا قصةً،
              ليس تُفَّاحَ إنسٍ وجِنِّ
              أو دليلاً إلى موسمٍ،
              أو مكانْ
              ليس شيئاً يؤرَّخُ": هذا
              ما تقول تصاريفُ أحشائنا.
              كيف لي أن أقول، إذاً، حبُّنا
              أخذته إليها تجاعيدُ هذا الزمان؟

              - 9 -

              تركتِ في جسدي ورداً، تركتِ ندىً
              تركـتِ غـابـةَ ألوانٍ، تُـراهُ غدي
              يُضيئها؟ أم ترى أمسي يُضيِّعها؟
              أفي عروقيَ ورْدٌ آخرٌ؟ شهقتْ
              إلى ترابكِ أعضائي - نمازجه
              نفيضُ فيه، ونستقصي، ونبتكرُ
              دمٌ هَوىً لهبٌ ماءٌ مدىً - أبدٌ
              لا بالحياة ولا بالموت يُختَصَرُ.

              - 10 -

              ربّما،
              ليس في الأرض حبٌّ
              غيرُ هذا الذي نتخيّلُ أنّا
              سنحظى بهِ، ذات يومٍ.
              لا تَقِفْ
              تابع الرَّقصَ يا أَيُّها الحبُّ، يا أيُّها الشِّعر،
              حَتَّى وَلو كان مَوْتاً.

              - 11 -

              لا أحبُّ الرسائلَ، كلاَّ
              لا أريدُ لحبّيَ هذا الأرقْ
              لا أريدُ له أن يُجَرْجَرَ في كلماتٍ.
              لا أحبُّ الرسائل، كلاَّ
              لا أريد لأعضائنا
              أن تسافرَ في مركبٍ من ورقْ.

              -12 -

              آهِ، كلاَّ
              لا أُريد لعينيّ أن تَسْبحَا في فضاءٍ
              غير عينيْهِ. كلاَّ
              لا أُريد لحبّي وأشيائه وضوحاً
              لا أُريد انتماءً ولا نَسَباً أو هويّهْ.
              لا أُريد سوى أن نكونَ لغاتٍ
              للجموح، وأعضاؤنا أبجديّهْ.

              - 13 -

              لا تَقُلْ، لا تُسمِّ:
              الخليقةُ يا حبُّ، أشياؤها وأعمالُها
              صُوَرٌ في كتاب من الظَّنِّ. خُذْني
              أعطني أنْ أسافر في الوهم،
              في ما تخيّلتُ أو أتخيّلُ -
              أن أتمادَى
              وأُشَهّيَ شَكّي بِنَفْسي
              وبتمزيق ما تَنْسُجُ الكلماتُ وما أتَقرّاهُ فيها،
              وما أَشْتَهيهِ
              وأَنْذرُ جِسْمي لِمعراجِهِ.
              أعْطِني أن تكون حياتي طريقاً إلى لا قرارٍ.

              - 14 -

              جالسٌ قربها
              والستار الذي نسجتْه تباريحُنا مُسْدَلٌ.
              قَامةُ الأفق مكسـورةُ الخصرِ،
              والشمسُ تمضي الى نومِها.
              مِشْطها، قلمُ الحبر، كرسيُّها، الفراشُ
              على الأرض، أكداسُ أوراقِها -
              كتباً ودفاترَ، بستانُ وردٍ
              تتناثر أكمامهُ.
              أتذكّر حتَّى كأني أرى الآنَ: ها بيتُها
              يَتنهَّدُ، هَا شُرفاتُ النوافذ تُسلم أحضانَها
              للمُريدِ المولَّه،
              والشمس في أوّل اللَّيل،
              تخلع آخر قمصانها.

              - 15 -

              لا الزمانُ سريرٌ ولا الأرضُ نومٌ،
              شجرُ الحبِّ عارٍ
              والمكان الذي شاءه الحبُّ دونَ غطاءٍ.
              أتُرَى، أيقظَ اللَّيلُ أحلامَهُ
              وهي الآنَ تركضُ في شارعِ الشمسِ؟ ظَنِّي
              أنّ هذي الشموسَ التي تَتَثاءبُ
              فِي فلكِ الحبِّ
              ليسَتْ على الأرض إلاَّ جراحاً.
              سأُغنّي لهذا المكان المُضاءْ
              بحُطامِ المحبّين قبلي،
              ليسَ هذا الوجودُ سوى فُسْحةٍ للغِناءْ.

              - 16 -

              يدها في يدي
              وكلانا غريبٌ
              وكلانا غداً ميّتٌ
              في فراشٍ بعيدٍ.
              سَرْبلينا بأوهامنا
              وبأشباحنا،
              يا أساطيرَ أيّامنا،
              واضطربْ واقتربْ
              أيُّهذَا البعيدُ الجميلُ الأَحَدْ،
              أيُّهذا الجسدْ.

              - 17 -

              غالباً أتفقَّدُ بَيْتِيَ في اللَّيلِ أُشعِلُ ضوءَ المصابيحِ،
              لكنّها لا تُضيءُ/ النوافذُ؟ أبدأ فتح
              النوافذِ لكنَّها لا تُضيءُ/ لعلِّيَ في البابِ
              ألقى ضياءً، أقولُ لِنفسي،
              وأُسرعُ للبابِ أَرْجوهُ،
              لكنَّهُ لا يُضيءُ/ الظَّلامُ هنا مثلُ جُرحٍ
              يظلُّ، على بُرئه، نازفاً،
              يقولُ ليَ الحبُّ -
              يا حُبُّ مِنْ أيـنَ يـأتي الضِّياءْ،
              والسَّماءُ تخونُ السَّماءْ؟

              - 18 -

              ها هو السَّهرُ المُرُّ يأتي ويُشعِلُ قِنْديلَهُ.
              هل أُعيدُ رسائلَ حُبّي إلى حِبرها؟
              هل أُمَزِّقُ تلكَ الصُّوَرْ؟
              أقرأ الآنَ جِسْمي،
              وأملأُ بالحُزْنِ قِنْديلَ هذا السَّهَرْ.

              - 19 -

              أفتحُ الباب، يأتي هواءٌ يزورُ الرسومَ التي تتدلّى
              ويُداعِبُ أَطْرافَها.
              بَغْتةً، يتثاءَبُ، يمضي حانياً ظهرَهُ.
              لَمْ يكُنْ حُبُّنا هنالِكَ، أطيافُهُ
              حملَتْ كلَّ ما رَسَمَتْهُ
              في السَّريرِ، وَفَوْقَ الوسائدِ، في قبضةِ البابِ،
              في قُفْلِهِ وغابتْ.
              أَتَخيّلُ؟ لكنْ
              كلُّ هذا تؤكِّده غيمةٌ -
              غيمةٌ تعبُرُ الآنَ، غابتْ.
              لا هواءٌ يزور، ولا مَنْ يقولُ لِتلكَ الرسومْ
              كيفَ تُروَى أساطيرُنَا
              كيفَ يُكْتَبُ تاريخُ هذي الغيومْ.

              - 20 -

              ما الذي سوفَ يبقى
              ويُشعِلُ للعاشقين قناديلَ أيّامِنا؟
              ما الكلامُ الذي سوفَ يَبْقى
              من مَعَاجِمِ أحشائِنا وأعضائِنا
              مِنْ أساطيرِنا البعيدهْ؟
              ما الذي سوفَ يَبْقى
              غَيرُ ما قاله قاتِلونا:
              كَتَبْنا بحبرِ مَرَارَاتِنا هَوانا
              وعِشْنَا بلا حِكْمةٍ
              وَسَكنّا قَصِيدَهْ.

              - 21 -

              سأزورُ المكان الذي كان صيفاً لنا
              بعدَ تَرْحالِنا
              بَيْنَ شطآن يوليسَ، في ليلِ دِلفي،
              وفي شمسِ هِيدْرا.
              وسأمشي مثلما كُنْتُ أمشي
              هائماً بينَ أشجارِهِ.
              سأذكّرُ أزْهارَهُ ورياحينَهُ
              بأريجِ لقاءَاتِنَا.
              وأكيدٌ سَتَسأَلُني عَنْكِ: ما صِرْتِ؟
              أينَ تكونينَ؟ ما وجهكِ الآنَ؟ لكنْ
              ما تُراني أقولْ؟
              والفصولُ مَحَتْها الفُصولْ؟

              الحياة 25/ 9/2003م

              تعليق

              • علي المتقي
                عضو الملتقى
                • 10-01-2009
                • 602

                #8
                أخي عبد الرؤوف : شكرا جزيلا على تحفك الإبداعية الذي تستقيها من ذاكرة غنية وواسعة . لقد سبق لي أن قرأت القصيدة وعشت معها لحظات ليست بالقصيرة مع طلبة ماستر أسئلة الإبداع في الشعر العربي . وأتمنى أن تتاح لي الفرصة لتنظيم ملاحظاتي حولها ونشرها على بوابة النقد التي تتشرف برئاستكم لها . دمت قارئا متميزا أخي .
                [frame="1 98"][align=center]أحبتي : أخاف من كل الناس ، وأنتم لا أخافكم، فالمجيئ إليكم متعه، والبحث عنكم فتنة ولذه، ولقاؤكم فرحة تعاش ولا تقال.[/align][/frame]
                مدونتي ترحب بمن يطرق أبوابها:
                http://moutaki.jeeran.com/

                تعليق

                • محمد سلطان
                  أديب وكاتب
                  • 18-01-2009
                  • 4442

                  #9
                  السلام عليكم و رحمة الله
                  أساتذتى الكرام .....
                  د.على المتقى
                  أستاذى الجابرى
                  أستاذى رؤوف


                  بحق .. استمتعت بما دار هنا و هنا .. ليس حباً فى الخلافات بين اسلتى ـ أعوذ بالله ـ لكن وجدتنى أقف مشدوهاً أمام طودين .. لا لا .. بل أعظم والله أعلى و أعظم ..
                  استمتعت بحوار فاض بالكثير و عن أشياء كنت أبحث عنها وأخيراً وجدتها هنا .. جميل ما ورد من نقاش بين أخين و عالمين من علماء الكلم .
                  أضعف الإيمان .. تعلمت فن الخطابة بأدب و فن التقبل و الرفض و فى النهاية تعلمت كيف أصافحك بحب و نحن منقسمان فى كفتى الميزان .
                  ودى لك و احترام الذى لا ينضب دكتور على , و سلامى لقلبك الطيب أستاذ محمد..
                  صفحتي على فيس بوك
                  https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

                  تعليق

                  • علي المتقي
                    عضو الملتقى
                    • 10-01-2009
                    • 602

                    #10
                    الأستاذ محمد ابراهيم سلطان : شكرا على كلمتكم الطيبة . الجذع ـ الحمدلله ـ واحد و الفروع متعددة ، وكلما تعددت الفروع إلا وأزهرت الشجرة أكثر وأثمرت أكثر . و الخلاف قائم في فهم ما أنزل الله عز وجل، وبالأحرى في ماهو إنساني ، و الناقد لا يكون ناقدا وهو يعتقد أنه وحده صاحب الكلمة الفصل في ما يقول ، فكل منا يقول كلامه ويرحل ، والقارئ وحده يحكم بين الآراء ويأخذ بما اقتنع به ، وما لم يقتنع به يدعه جانبا . تحياتي الصادقة
                    [frame="1 98"][align=center]أحبتي : أخاف من كل الناس ، وأنتم لا أخافكم، فالمجيئ إليكم متعه، والبحث عنكم فتنة ولذه، ولقاؤكم فرحة تعاش ولا تقال.[/align][/frame]
                    مدونتي ترحب بمن يطرق أبوابها:
                    http://moutaki.jeeran.com/

                    تعليق

                    • محمد سلطان
                      أديب وكاتب
                      • 18-01-2009
                      • 4442

                      #11
                      دكتور على والله ليشرفتى ان أكون واحد من تلاميذك
                      فمثلك نادر وفرعك طيب يعود إلى منت و جذر كريم .. لكن أيضا الأستاذ محمد الجابرى لا أنكر تواجده الكريم .. هو ذو فكر ورؤية قد نختلف و قد نتفق معه .. و الأكيد ان منبته راقى وإن كان قد اختلف معك فى رؤية دينية أو ما شابه ذلك فصدقنى كلنا أبناءكم و نتعلم منكم الحديث و الرؤى .. لا يزعجك قوله و لا يزعجه قولك .. أنتما تستحقان التحية وسيجزى الله أقلامك خيرا .. و القضية المتناولة ذات أبعاد اختلف فيها السابقون و لم يكن هذا سبب للكراهية و الضغينة بين العلماء .. أجدك معلم و لجد الأستاذ الجابرى صاحب منهج و فكر ونحن نتعلم منكما .. أنتم قدوة لأقلامنا ودائما أقول :
                      لولا أقلامكم ما سطرنا الاحرف .
                      صدقنى أستاذى أجد فيكما جمال الروح و الرائحة ..
                      تحياتى لكما تصل لعنان السماء
                      صفحتي على فيس بوك
                      https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

                      تعليق

                      • رشيدة فقري
                        عضو الملتقى
                        • 04-06-2007
                        • 2489

                        #12
                        اخي الكريم علي المتقي
                        سعيدة وفخورة بفكرك النير وقلمك المتمكن
                        وممتنة لدروسك القيمة التي تنير لنا درب قصيدة النثر هذا الدرب الذي ما تزال طرقه وعرة لا سبيل الى عبورها الا بتلك الفوانيس التي تضع انت وامثالك في طريق عشاقها
                        فشكرا لك ودمت للادب نبراسا
                        *********************************
                        اخي الفاضل
                        محمد الجابري
                        لا اجد العبارة التي تفيك حقك من الشكر لانك فتحت نقاشا راقيا
                        وكنت واسع الصدرحليما رؤوفا في ردودك مما جعلني اعتز بزيارة هذه الصفحة التي اغنت معارفي وجعلتني اتابع بكل اعجاب كل حرف سطرته هنا وكل حرف وقعه اخونا الكريم علي المتقي الذي كان في مستوى النقاش وادبه
                        وهذا لا استغربه منكما فانتما استاذانا وقدوتنا بارككما المولى ودام لكما حب الكلمة وعشق القصيدة بكل انواعها
                        تقديري واعجابي
                        اختكما رشيدة فقري
                        [url=http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=1035][color=#008080]رسالة من امراة عادية الى رجل غير عادي[/color][/url]

                        [frame="6 80"][size=5][color=#800080]
                        عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتـي العَزائِـمُ
                        وَتأتـي علَى قَـدْرِ الكِرامِ المَكـارمُ
                        وَتَعْظُمُ فِي عَينِ الصّغيـرِ صغارُهـا
                        وَتَصْغُرُ فِي عَيـن العَظيمِ العَظائِـمُ[/color][/size][/frame]
                        [align=center]
                        [url=http://gh-m.in-goo.net/login.forum][size=5]جامعة المبدعين المغاربة[/size][/url][/align]
                        [URL="http://mountadaal3acharah.4rumer.com/index.htm"]http://mountadaal3acharah.4rumer.com/index.htm[/URL]

                        [url=http://www.racha34.piczo.com/?cr=2][COLOR="Purple"][SIZE="4"][SIZE="5"]موقعي[/SIZE][/SIZE][/COLOR][/url]

                        تعليق

                        • علي المتقي
                          عضو الملتقى
                          • 10-01-2009
                          • 602

                          #13
                          الأخ الكريم : محمد ابراهيم سلطان :العفو كل العفو ، فنحن نتعلم من بعضنا ، والأخ جابري قارئ مشاكس بالمفهوم الإيجابي للمشاكسة التي تدفع بالحوار إلى الإمام . ومن حسناته أيضا ، أنه لا يناوش من أجل المناوشة ، أو من أجل شد الأعصاب ، وإنما ليعبر عن رأيه كما هو ، وهذا النوع من القراء لا يزعجني أبدا، وإنما يسعدني. وكم أكون سعيدا حينما أجد من بين طلبتي، في السلك الثالث ، طالبا ملحاحا لا يسمح لي بأن أواصل الحديث ما لم يقتنع بكلامي .
                          تحياتي الصادقة لك وللأخ جابري ، ولكل ناقد قارئ يسع قلبه الرأي والرأي الآخر .
                          [frame="1 98"][align=center]أحبتي : أخاف من كل الناس ، وأنتم لا أخافكم، فالمجيئ إليكم متعه، والبحث عنكم فتنة ولذه، ولقاؤكم فرحة تعاش ولا تقال.[/align][/frame]
                          مدونتي ترحب بمن يطرق أبوابها:
                          http://moutaki.jeeran.com/

                          تعليق

                          • علي المتقي
                            عضو الملتقى
                            • 10-01-2009
                            • 602

                            #14
                            الفاضلة السيدة رشيدة : أقف إجلالا واحتراما أمام كلماتك الطيبة في حقي وحق الأستاذ جابري التي أضاءت هذه الصفحة. وأملي في كل ما أكتب وما أناقش أن أجد قارئا يشاركني آرائي و أفكاري ويحاورني ويفيد ويستفيد ، وقد كان للأستاذ جابري الفضل في تحريك هذا الحوار و الدفع به ، والاختلاف في الرأي أساس تطور البحث العلمي في العلوم الإنسانية، وإلا فكل أستاذ يفرخ في كل سنة مجموعة من الطلبة عبارة عن نسخ طبق الأصل من أفكاره وآرائه ، وما هكذا علمنا أساتذتنا وشيوخنا ، فلكل باحث رأيه الخاص المستمد من قناعاته ومبادئه وافكاره ، ويكفي أن يكون رأيه منسجما ينطلق من مسلمات وفرضيات ليصل إلى نتائج دون الوقوع في التناقض بين المنطلق و المنتهي ، و أن تكون أفكاره واضحة ولغته سليمة ، إذ ذاك فقط أقف أمامه باحترام و أضمه إلى صفي حتى ولو خالفني الرأي .
                            احترامي وتقديري سيدتي المحترمة والشاعرة المبدعة .
                            [frame="1 98"][align=center]أحبتي : أخاف من كل الناس ، وأنتم لا أخافكم، فالمجيئ إليكم متعه، والبحث عنكم فتنة ولذه، ولقاؤكم فرحة تعاش ولا تقال.[/align][/frame]
                            مدونتي ترحب بمن يطرق أبوابها:
                            http://moutaki.jeeran.com/

                            تعليق

                            • محمد جابري
                              أديب وكاتب
                              • 30-10-2008
                              • 1915

                              #15
                              أستاذي الجليل د. علي المتقي،

                              بارك الله فيكم، وفيما أدليتم به في حقي وشكر الله لكم، ما أجمل الحوار مع أهله، وكم أكون سعيدا أن يجري الله الحق على لسان محاوري فأقبله وأتواضع للحق الذي هو اسم الله واسم دينه، ولئن ناقشتكم فقد وجدت فيكم المحاور الجاد، ووجدت للطف معشركم وسلاسة أسلوبكم ما يستوجب غض الطرف، وخفظ الجناح.

                              عزيزي علي متقي؛

                              نقلت موضوعكم قصيدة النثر إلى ملتقى البلاغيين والنقاد العرب، وحبذا لو التحقتم بنا هناك لعل الله يلهمكم كلمة جامعة.

                              وموضوع " قصيدة " النثر، خاض فيه إخوة محترمين بمختلف أرائهم في موقع تجمع الشعراء بلا حدود، ورأيت أن الخلاف لدى بعضنا يحوم حول تسميته بلفظ " قصيدة " وهو خلاف اصطلاحي لا غير فقد اقترحت تسميته ب " البناء الشاعري"؛

                              لكنني وجدت من يرفض هذا اللون إطلاقا فضلا عن قصيدة التفعيلة، لا لشي إلا لكونها ولدت خارج رحيم ثقافتنا، متمسكين بالأصالة الفكرية المتميزة، لونا وصفاء.

                              وعلى كل تبقى قصيدة النثر مجالا للأخذ والرد، ليس لشاعريتها، ولا لشروط كتاباتها، وإنما لما تستدعيه من دراسة سيميائية - أو قراءة للفنجان - لفك طلسمها وحل ألغازها.

                              أضف إلى ذلك ما افتتح به هذا المقال من تعريف للشعر :

                              " يرى مولينو وتامين أن الشعر ليس شيئا آخر سوى الاستعمال المنظم للصور. وهما بذلك يلامسان ظاهرة بالغة الأهمية، إذ الصور في النص لا تنفصل عن بعضها، بل تدخل في علاقات متعددة في ما بينها، فقد تتمحور حول صورة رحمية مركزية تؤطر القصيدة بكاملها، وباقي الصور فروع لها. وقد تتشكل القصيدة من صور متعددة ومتنوعة ينتظمها خيط رابط، فتمتد على شكل متغيرات لثابت بنيوي واحد".

                              ترى أليس الشعر مرآة للاهتزازات النفسية للمرء؟ فما تغني الصور بمختلف تلوناتها - وبخاصة إن تلفت المعاني بين السطور، أوفي عتمة الحيرة - عن شاعرية تدغدغ المشاعر لخيالها الموار فضلا عما تستقيه من إيقاعات موسيقية القافية، وما تضفيه جمالية الوزن من رنات وانضباط الخطوات.؟

                              بارك الله فيكم وفي آرائكم النيرة.
                              http://www.mhammed-jabri.net/

                              تعليق

                              يعمل...
                              X