--------------------------------------------------------------------------------
الجنرال
هادي زاهر
لم يفكر سمير طويلاً، قبل أن يستقر أمره، على ربط مستقبله بالجيش، ذلك بأن أقنع نفسه أن مجالات العمل في بلدته، شبه معدومة، وأنها أصلاً لا تتناسب وآماله وطموحه، أضف إلى ذلك قناعته بأن التحاقه بالجيش سوف يمنحه الكثير من الامتيازات.. المعاش الكبير، الخروج إلى التقاعد مع بداية العقد الخامس، كل هذا كوم، والمنحة المالية التي تقدر بمليـون شاقل التي سوف يحصل عليها عند نهاية الخدمة، كوم آخر. ولكي يتميز عن الآخرين كنى نفسه بأبي روني، وعندما تساءل أحد الأصدقاء إن كانت من سيختارها زوجة له سـوف ترضى بالاسم قال في أنفة: أنا أبو روني قبل أن تأتي وعليها أن تقبل بي أو الله يسهل لها..
وحتى يتحقق له ما يريد، كدَّ واجتهد، فنجح بتنفيذ كل ما أنيط به من مهام وعمليات، حتى بات يعرف بين حساده بأنه "ملكي أكثر من الملك"، ساعده في ذلك جسم متناسق، وهيئة جذابة، ولسان ذرب.. فراح يتدرج في المناصب العسكرية تبعاً لجهوده المبذولة حتى أصبح جنرالاً.
صحيح أن أقلية من أبناء بلدته كانوا ينظرون إليه بعدم الرضى، ولكن الأكثرية كانت تلمع في عيونهم نظرات الإعجاب والتقدير الممزوجة بشيء من الحسد، ولسان حالهم يقول: "الكف لا يلاطم المخرز، والشاطر من ينسجم مع الواقع المفروض عليه ويستفيد منه".
وإذا كانت المناصب التي تعاقب عليها قد أسعدته، إلاّ أن سعادته
كانت أكبر، عندما كان أبناء بلدته يتوجهون إليه، للاستعانة به، على تحسين أوضاع أبنائهم … فهذا يرجوه أن يعمل على ضم أبنه إلى الوحدة كذا، لأنها أقرب إلى ميوله أو إلى مكان سكنه، وذاك يتوسل إليه لكي يعمل على نقل أبنه من الوحدة التي يعمل بها إلى وحدة أخرى، وهكذا، وكأنهم يرون فيه الحاكم الأمر في الجيش…
وكان كلما عاد إلى بلدته، سار في شوارعها وطرقاتها، نافخاً صدره وهو يسير(واثق الخطوة يمشي ملكاً). كان حريصاً على زيارة الأصدقاء وهو بلباسه العسكري الذي كان يظهر على كتفه رتبته المرموقة والتي كانت تعلو وترتفع من سنه إلى أخرى، مما يفرض على الكثيرين تبجيله، فيزداد زهواً وهو يرمق نظرات الإعجاب والتقدير في عيون الحالمين والحاسدين معاً. وكان يزيده زهواً وخيلاء عندما يرمق تلك النظرات الشبقة في عيون بعض من فتيات ونساء البلدة..
ومع بروز مكانته في الوسط الذي يعيش فيه، كان لا بد من أن يتزوج. ومثله لا يمكن أن يتزوج إلا من فتاة جميلة فاتنة مثقفة معتزة بنفسها، يمكن أن ترطن بأكثر من لغة، وتخالط الرجال دون رهبة أو وجل.. فكيف وقد يضطره منصبه الذي تتصاعد درجاته في الرقي، إلى أخذها معه للمشاركة في الحفلات والمناسبات التي يدعى إليها، والتي يمكن أن يكون لها أول، ولكن لا يبدو لها أخر…
وإذا كان البعض يحسده على مكانته ومركز، فقد بات الكل يحسده على زوجته دلال التي استطاع أن يظفر بها بعد أن كانت محط أنظـار الجميـع.. وباتت تعرف بأم روني من قبل أن يأتي روني إلى
الوجود..
كانت دلال على قسط كبير من الحضور، فأجادت لعب دورها بكل ذكاء وحنكة حتى نالت ثناء وإعجاب كل من عرفها.. فازداد إحساس سمير بالعظمة والزهو وهو يراها لا تكف عن ذكر محاسنه بمناسبة وبغير مناسبة، حتى أظهرت للكل بأنها قد ظفرت بالرجل الذي يرضي طموحها وغرورها أيضاً.. ونظراً لفطنتها وسرعة بديهتها، كانت تجد دائماً ما تقوله عند أي سؤال أو استفسار من نساء البلدة وحسناواتها، أو ممن تلتقيهن في الحفلات والمناسبات، من زوجات الضابط والساسة.."لقد اشترى أبو روني هذا "العقد" لي بمناسبة عيد ميلادي"، ثم تتحسس العقد بأيد طرية ناعمة، وهي تدفعه إلى الأمام لتبهر به العيون…"هذه الأسوار اشتراها لي في عيد الحب".. وكم وكم من الهدايا كانت تثقل جيدها ويديها، إذ لم تعد تقتصر الهدايا على الزوج، فقد أصبحت تتلقاها من الكل دون تكلف، وكان ذلك يسعد زوجها، ظناً منه بأن هذه الهدايا إنما هي رشوة مبطنة له، مقابل ما كان يقدمه من خدمات للجميع.. ولكن يبقي ما في النفوس في النفوس..
ولكنه شيئاً فشيئاً، بدأ ينشغل بنفسه عنها، بعد أن أخذه الكبر بعيداً بعيداً.. فلم يعد يعرف ماذا يدور من حوله وحولها..
ونظراً لحدة ذكائها، فطنت لذلك منذ البداية.. فراحت تبحث عن الأسباب التي دفعته لذلك.. وبعد رصد لحركاته، بدأ الشك يغزو قلبها في خيانته لها مع أخرى.. فالمرأة هي المرأة، ولا يمكن أن يمر أي تطور في علاقتها بزوج أو حبيب أو عشيق، دون أن تلحظه.. لم يعد سمير يبدي اهتمامه السابق بشؤونها، حتى هداياه بدأت تتباعد، وكأنه ركن لتلك الهدايا التي تصلها من الآخرين.. ولكن كيف يمكنها أن تثبت خيانته لها وهي غير قادرة على ملاحقته في كل مكان يذهب إليه؟! ليس من السهل على المرأة –أية امرأة- أن تنسى أحاديث زوجها حين يحدثها عن ملاحقة بعض النساء والمجندات له.. ولكنه منذ فترة ليست بالقصيرة كف عن مثل هذه الأحاديث، فهل تراهن قد كففن عن ملاحقته؟ أم أنه قد استجد في الأمر أمور؟!
إنها تشك في ذلك ولكنها لا تستطيع أن تصل إلى دليل قاطع.. فالاتهام دائماً بحاجة إلى دليل.. فشعرة شقراء أو سوداء على كتف "جكيته" لا يمكن أن تكون دليلاً قاطعاً، وإلا فلت الزمام، وبات الكل في قفص الاتهام.. حتى أثر أحمر الشفاه التي وجدته يوماً يلطخ ملابسه الداخلية استطاع أن يقنعها بأنه منها.. لقد كان من نفس اللون الذي تستخدمه.. وعندما وجدت في أحد الأيام واقعي مطاطي لعدم الحمل في جيب بنطاله، ادعى بأنه قد اشتراه ليقي إصبعة الذي أصيب بجرح أثناء عمله، إلا أنه قد عالج الجرح، ونسي الواقي في جيبه..
إلا أن ذلك كله كان يزيد من لهيب الشك في أعماقها، وقد ازداد الشك يوم أن قال لها أحد أصدقائه: "أنت تحافظين على نفسك من أجله، حتى كلمات الاطراء والاعجاب ترفضين سماعها، ولكن هل يقوم هو بنفس الدور…؟"
هنا بدأت أفكارها تتغير،.. فبدأت تعاني من القلق والحيرة والاكتئاب، فاضطربت أفكارها، وتبلبلت خواطرها، وبدا ذلك واضحاً على ملامح وجهها.. لحظ الكل ذبولها، إلا هو.. وزاد الطين بلة بأنه قد بدأ يغيب عن الدار لأيام، وعندما يعود، يبدي للحظات بعض الاهتمام بها، ثم يغتنم أول فرصة ليغفو في السرير، دون أن يكترث لها أو للهفتها وتحرقها شوقاً إلى دفء أحضانه، وحجته في ذلك بأنه مرهق من العمل..
ودون تخطيط منها، وقعت في المحظور.. في البداية شعرت بندم شديد يوم انطبعت على شفتيها أول قبلة من رجل غيره، ولكنها سرعان ما بدأت تبرر لنفسها وهي تردد: "العين بالعين والسن بالسن، والبادئ أظلم". ورغم كل اندفاعها نحو الآخرين، إلا أنها حافظت على إيجابيتها وحرارتها نحوه، وإن غلفت مشاعرها بشيء من الفتور نحوه، إلا أنه لم يستطع أن يلحظ ذلك…
وها هي تتعلق في عنقه، لا تدري أتشكره أم تقبله.. أم تلقيه فوق السرير وهو يقدم لها مفتاح سيارة جديدة، هدية في عيد زواجهما.. وعندما خطر السرير في بالها، انتابتها قشعريرة أربكتها بعض الوقت.. فالسرير ما زال دافئاً بعد احتضانه لعراك لذيذ أرخى مفاصلها.. لم تكن قد دخلت إلى الحمام بعد وإن كان زائرها قد غادر منذ برهة.. ولكي تطرد ما ألم بها من ارتباك وقشعريرة، قالت بصوتها المغناج الذي بدأت تجيد تلوينه ليوافق هوى المتلقي لا هواها:
- إن شاء الله كل أيامك أعياد.. يا هيك بكون الحب يا بلاش.. وخلي الحساد يموتوا بغيظهم..
وبات كل ما يثقل كاهلها، هو كثرة المتطفلين الذين يلجأون لطلب مساعدة زوجها لتسيير أعمالهم، حتى باتوا يرهقون راحتها ويفسدون عليها الكثير من خلواتها.. ووجدت نفسها تقول، ذات مرة، بصورة عفوية:
- صدق المثل اللي بقول: "دلع كلب ولا تدلع بني آدم".. الحقيقة
أن الناس، إذا ما أرخوا دلعهم ما بعودوا ينطاقوا.. وكل شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده…
إن معظم المتحرشين بها، والطامعين باحتوائها بين أذرعهم لنيل وترهم منها كانوا من أصدقاء زوجها. ورؤسائه، وحتى مرؤسيه.. حتى بات اسمه مضغة على كل لسان.. الكل يتحدثون بذلك، ولا خبر يطرق مسامعه، حتى كان ذات يوم.. عاد من عمله منهكاً، يجر قدميه نحو غرفة نومه فتعثر بكنبة كانت في طريقه مما أثار ضجة تنهبت لها زوجه ومن كان معها.. وعندما خرجت شبه عارية لترى الأمر، فوجئت به مكوماً بالقرب من الكنبه، فقالت بصوت مرتفع لتحذر الاخر:
- شو اللي جابك بغير ميعادك؟
فقال بصوت منهك غلبه الارهاق والنعاس:
- ما كنت امفكر إن في ميعاد حتى الواحد يرجع لبيته..
وفي ارتباك قالت وهي تقف أمامه شبه عارية:
- ما بقصد هيك.. لكن عادتك إنك ترجع وجه الفجر مش عند الغروب.. أنا انفزعت لما سمعت الصوت.. فكرت حرامي أو هزه..
في تلك اللحظة أطل رأس الآخر من خلف باب غرفة النوم وهو يلملـم أشياءه.. فلمحه سمير الذي قال بصوت تغيرت نبراته فأصبح
حاداً:
- مين اللي في غرفة النوم؟
فقالت الزوجة في جزع:
- مين يعني.. يمكن حرامي وإلا… لا.. لا يكون قصدك…
ثم علت نبرات صوتها وهي تردف بصوت فيه حدة وارتباك:
- اللي على رأسه بطحة بحسس عليها..
وعندما هم بالوقوف، خانته قواه.. فأغمض عينية وهو يقول في استسلام:
- أنت عارفه إني عمري ما شكيت فيك.. بس.. ساعديني حتى أقوم لأرى.. ربما يكون حرامي.. ولكن.. مين بدو يجرؤ على هيك عمله في بيت جنرال..
- المال السايب بعلم السرقة.. والناس كلها صارت تعرف إنك كل الوقت بتكون غايب عن البيت.. قوم.. قوم روح الحمام خليك تخلص من البلاوي إللي حاطة فوقك..
- الواحد لازم يكون أحرص من هيك..
ثم أردفت لنفسها: "إمفكر إنه واعي وامفتح..، لكن المغفل ما بعرف "إن كيدهن عظيم".. والله لا أخليك تمشي وإنت اتحاكي حالك.. يا أبا روني"..
الجنرال
هادي زاهر
لم يفكر سمير طويلاً، قبل أن يستقر أمره، على ربط مستقبله بالجيش، ذلك بأن أقنع نفسه أن مجالات العمل في بلدته، شبه معدومة، وأنها أصلاً لا تتناسب وآماله وطموحه، أضف إلى ذلك قناعته بأن التحاقه بالجيش سوف يمنحه الكثير من الامتيازات.. المعاش الكبير، الخروج إلى التقاعد مع بداية العقد الخامس، كل هذا كوم، والمنحة المالية التي تقدر بمليـون شاقل التي سوف يحصل عليها عند نهاية الخدمة، كوم آخر. ولكي يتميز عن الآخرين كنى نفسه بأبي روني، وعندما تساءل أحد الأصدقاء إن كانت من سيختارها زوجة له سـوف ترضى بالاسم قال في أنفة: أنا أبو روني قبل أن تأتي وعليها أن تقبل بي أو الله يسهل لها..
وحتى يتحقق له ما يريد، كدَّ واجتهد، فنجح بتنفيذ كل ما أنيط به من مهام وعمليات، حتى بات يعرف بين حساده بأنه "ملكي أكثر من الملك"، ساعده في ذلك جسم متناسق، وهيئة جذابة، ولسان ذرب.. فراح يتدرج في المناصب العسكرية تبعاً لجهوده المبذولة حتى أصبح جنرالاً.
صحيح أن أقلية من أبناء بلدته كانوا ينظرون إليه بعدم الرضى، ولكن الأكثرية كانت تلمع في عيونهم نظرات الإعجاب والتقدير الممزوجة بشيء من الحسد، ولسان حالهم يقول: "الكف لا يلاطم المخرز، والشاطر من ينسجم مع الواقع المفروض عليه ويستفيد منه".
وإذا كانت المناصب التي تعاقب عليها قد أسعدته، إلاّ أن سعادته
كانت أكبر، عندما كان أبناء بلدته يتوجهون إليه، للاستعانة به، على تحسين أوضاع أبنائهم … فهذا يرجوه أن يعمل على ضم أبنه إلى الوحدة كذا، لأنها أقرب إلى ميوله أو إلى مكان سكنه، وذاك يتوسل إليه لكي يعمل على نقل أبنه من الوحدة التي يعمل بها إلى وحدة أخرى، وهكذا، وكأنهم يرون فيه الحاكم الأمر في الجيش…
وكان كلما عاد إلى بلدته، سار في شوارعها وطرقاتها، نافخاً صدره وهو يسير(واثق الخطوة يمشي ملكاً). كان حريصاً على زيارة الأصدقاء وهو بلباسه العسكري الذي كان يظهر على كتفه رتبته المرموقة والتي كانت تعلو وترتفع من سنه إلى أخرى، مما يفرض على الكثيرين تبجيله، فيزداد زهواً وهو يرمق نظرات الإعجاب والتقدير في عيون الحالمين والحاسدين معاً. وكان يزيده زهواً وخيلاء عندما يرمق تلك النظرات الشبقة في عيون بعض من فتيات ونساء البلدة..
ومع بروز مكانته في الوسط الذي يعيش فيه، كان لا بد من أن يتزوج. ومثله لا يمكن أن يتزوج إلا من فتاة جميلة فاتنة مثقفة معتزة بنفسها، يمكن أن ترطن بأكثر من لغة، وتخالط الرجال دون رهبة أو وجل.. فكيف وقد يضطره منصبه الذي تتصاعد درجاته في الرقي، إلى أخذها معه للمشاركة في الحفلات والمناسبات التي يدعى إليها، والتي يمكن أن يكون لها أول، ولكن لا يبدو لها أخر…
وإذا كان البعض يحسده على مكانته ومركز، فقد بات الكل يحسده على زوجته دلال التي استطاع أن يظفر بها بعد أن كانت محط أنظـار الجميـع.. وباتت تعرف بأم روني من قبل أن يأتي روني إلى
الوجود..
كانت دلال على قسط كبير من الحضور، فأجادت لعب دورها بكل ذكاء وحنكة حتى نالت ثناء وإعجاب كل من عرفها.. فازداد إحساس سمير بالعظمة والزهو وهو يراها لا تكف عن ذكر محاسنه بمناسبة وبغير مناسبة، حتى أظهرت للكل بأنها قد ظفرت بالرجل الذي يرضي طموحها وغرورها أيضاً.. ونظراً لفطنتها وسرعة بديهتها، كانت تجد دائماً ما تقوله عند أي سؤال أو استفسار من نساء البلدة وحسناواتها، أو ممن تلتقيهن في الحفلات والمناسبات، من زوجات الضابط والساسة.."لقد اشترى أبو روني هذا "العقد" لي بمناسبة عيد ميلادي"، ثم تتحسس العقد بأيد طرية ناعمة، وهي تدفعه إلى الأمام لتبهر به العيون…"هذه الأسوار اشتراها لي في عيد الحب".. وكم وكم من الهدايا كانت تثقل جيدها ويديها، إذ لم تعد تقتصر الهدايا على الزوج، فقد أصبحت تتلقاها من الكل دون تكلف، وكان ذلك يسعد زوجها، ظناً منه بأن هذه الهدايا إنما هي رشوة مبطنة له، مقابل ما كان يقدمه من خدمات للجميع.. ولكن يبقي ما في النفوس في النفوس..
ولكنه شيئاً فشيئاً، بدأ ينشغل بنفسه عنها، بعد أن أخذه الكبر بعيداً بعيداً.. فلم يعد يعرف ماذا يدور من حوله وحولها..
ونظراً لحدة ذكائها، فطنت لذلك منذ البداية.. فراحت تبحث عن الأسباب التي دفعته لذلك.. وبعد رصد لحركاته، بدأ الشك يغزو قلبها في خيانته لها مع أخرى.. فالمرأة هي المرأة، ولا يمكن أن يمر أي تطور في علاقتها بزوج أو حبيب أو عشيق، دون أن تلحظه.. لم يعد سمير يبدي اهتمامه السابق بشؤونها، حتى هداياه بدأت تتباعد، وكأنه ركن لتلك الهدايا التي تصلها من الآخرين.. ولكن كيف يمكنها أن تثبت خيانته لها وهي غير قادرة على ملاحقته في كل مكان يذهب إليه؟! ليس من السهل على المرأة –أية امرأة- أن تنسى أحاديث زوجها حين يحدثها عن ملاحقة بعض النساء والمجندات له.. ولكنه منذ فترة ليست بالقصيرة كف عن مثل هذه الأحاديث، فهل تراهن قد كففن عن ملاحقته؟ أم أنه قد استجد في الأمر أمور؟!
إنها تشك في ذلك ولكنها لا تستطيع أن تصل إلى دليل قاطع.. فالاتهام دائماً بحاجة إلى دليل.. فشعرة شقراء أو سوداء على كتف "جكيته" لا يمكن أن تكون دليلاً قاطعاً، وإلا فلت الزمام، وبات الكل في قفص الاتهام.. حتى أثر أحمر الشفاه التي وجدته يوماً يلطخ ملابسه الداخلية استطاع أن يقنعها بأنه منها.. لقد كان من نفس اللون الذي تستخدمه.. وعندما وجدت في أحد الأيام واقعي مطاطي لعدم الحمل في جيب بنطاله، ادعى بأنه قد اشتراه ليقي إصبعة الذي أصيب بجرح أثناء عمله، إلا أنه قد عالج الجرح، ونسي الواقي في جيبه..
إلا أن ذلك كله كان يزيد من لهيب الشك في أعماقها، وقد ازداد الشك يوم أن قال لها أحد أصدقائه: "أنت تحافظين على نفسك من أجله، حتى كلمات الاطراء والاعجاب ترفضين سماعها، ولكن هل يقوم هو بنفس الدور…؟"
هنا بدأت أفكارها تتغير،.. فبدأت تعاني من القلق والحيرة والاكتئاب، فاضطربت أفكارها، وتبلبلت خواطرها، وبدا ذلك واضحاً على ملامح وجهها.. لحظ الكل ذبولها، إلا هو.. وزاد الطين بلة بأنه قد بدأ يغيب عن الدار لأيام، وعندما يعود، يبدي للحظات بعض الاهتمام بها، ثم يغتنم أول فرصة ليغفو في السرير، دون أن يكترث لها أو للهفتها وتحرقها شوقاً إلى دفء أحضانه، وحجته في ذلك بأنه مرهق من العمل..
ودون تخطيط منها، وقعت في المحظور.. في البداية شعرت بندم شديد يوم انطبعت على شفتيها أول قبلة من رجل غيره، ولكنها سرعان ما بدأت تبرر لنفسها وهي تردد: "العين بالعين والسن بالسن، والبادئ أظلم". ورغم كل اندفاعها نحو الآخرين، إلا أنها حافظت على إيجابيتها وحرارتها نحوه، وإن غلفت مشاعرها بشيء من الفتور نحوه، إلا أنه لم يستطع أن يلحظ ذلك…
وها هي تتعلق في عنقه، لا تدري أتشكره أم تقبله.. أم تلقيه فوق السرير وهو يقدم لها مفتاح سيارة جديدة، هدية في عيد زواجهما.. وعندما خطر السرير في بالها، انتابتها قشعريرة أربكتها بعض الوقت.. فالسرير ما زال دافئاً بعد احتضانه لعراك لذيذ أرخى مفاصلها.. لم تكن قد دخلت إلى الحمام بعد وإن كان زائرها قد غادر منذ برهة.. ولكي تطرد ما ألم بها من ارتباك وقشعريرة، قالت بصوتها المغناج الذي بدأت تجيد تلوينه ليوافق هوى المتلقي لا هواها:
- إن شاء الله كل أيامك أعياد.. يا هيك بكون الحب يا بلاش.. وخلي الحساد يموتوا بغيظهم..
وبات كل ما يثقل كاهلها، هو كثرة المتطفلين الذين يلجأون لطلب مساعدة زوجها لتسيير أعمالهم، حتى باتوا يرهقون راحتها ويفسدون عليها الكثير من خلواتها.. ووجدت نفسها تقول، ذات مرة، بصورة عفوية:
- صدق المثل اللي بقول: "دلع كلب ولا تدلع بني آدم".. الحقيقة
أن الناس، إذا ما أرخوا دلعهم ما بعودوا ينطاقوا.. وكل شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده…
إن معظم المتحرشين بها، والطامعين باحتوائها بين أذرعهم لنيل وترهم منها كانوا من أصدقاء زوجها. ورؤسائه، وحتى مرؤسيه.. حتى بات اسمه مضغة على كل لسان.. الكل يتحدثون بذلك، ولا خبر يطرق مسامعه، حتى كان ذات يوم.. عاد من عمله منهكاً، يجر قدميه نحو غرفة نومه فتعثر بكنبة كانت في طريقه مما أثار ضجة تنهبت لها زوجه ومن كان معها.. وعندما خرجت شبه عارية لترى الأمر، فوجئت به مكوماً بالقرب من الكنبه، فقالت بصوت مرتفع لتحذر الاخر:
- شو اللي جابك بغير ميعادك؟
فقال بصوت منهك غلبه الارهاق والنعاس:
- ما كنت امفكر إن في ميعاد حتى الواحد يرجع لبيته..
وفي ارتباك قالت وهي تقف أمامه شبه عارية:
- ما بقصد هيك.. لكن عادتك إنك ترجع وجه الفجر مش عند الغروب.. أنا انفزعت لما سمعت الصوت.. فكرت حرامي أو هزه..
في تلك اللحظة أطل رأس الآخر من خلف باب غرفة النوم وهو يلملـم أشياءه.. فلمحه سمير الذي قال بصوت تغيرت نبراته فأصبح
حاداً:
- مين اللي في غرفة النوم؟
فقالت الزوجة في جزع:
- مين يعني.. يمكن حرامي وإلا… لا.. لا يكون قصدك…
ثم علت نبرات صوتها وهي تردف بصوت فيه حدة وارتباك:
- اللي على رأسه بطحة بحسس عليها..
وعندما هم بالوقوف، خانته قواه.. فأغمض عينية وهو يقول في استسلام:
- أنت عارفه إني عمري ما شكيت فيك.. بس.. ساعديني حتى أقوم لأرى.. ربما يكون حرامي.. ولكن.. مين بدو يجرؤ على هيك عمله في بيت جنرال..
- المال السايب بعلم السرقة.. والناس كلها صارت تعرف إنك كل الوقت بتكون غايب عن البيت.. قوم.. قوم روح الحمام خليك تخلص من البلاوي إللي حاطة فوقك..
- الواحد لازم يكون أحرص من هيك..
ثم أردفت لنفسها: "إمفكر إنه واعي وامفتح..، لكن المغفل ما بعرف "إن كيدهن عظيم".. والله لا أخليك تمشي وإنت اتحاكي حالك.. يا أبا روني"..
تعليق