شاقور*

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سمية البوغافرية
    أديب وكاتب
    • 26-12-2007
    • 652

    شاقور*

    شاقور*

    اندفعت مرحة لأجيب نداء زوجي ثم تسمرت في باب الصالة أحدق إلى وجه زائره كالبلهاء وشفتاي تنقشان في صمت: " هو شاقور.. وحش حارتنا.. هو.. هو.."..
    أيقظني زوجي وهو يربت على كتفي ويعيد علي تقديم ضيفه مبتسما لي:
    ـ السي شوقي.. مساعدي في العمل
    تيممت بابتسامته. ابتلعت ريقي الحار مع كأس ذكرياتي فأرخيت يدي كما الآلة لتصافح يد ضيفه الممدودة ثم انكمشت بجانب زوجي أحتمي به من هول لا أستبينه.. فقط صورة شاقور المتسخ الملتحي وهو يتمسح بجدران حينا أمام بوابة المدرسة يتفرس في فرائسه ككلب جائع ظامئ تستحوذ على ذاكرتي.. تمطرني بسنان حقبة اعتقدت أني نسيتها وانمحت من مخيلتي.. فجأة، تسربت إلى أنفي رائحة شاقور من مسامات جلد زوجي الذي اتخذه رفيقا له، فتشوك جسدي وانصرفت خارجة أجر هلعي وصدمة أول صباحي لألتقط أنفاسي بعيدة عن صفقاتهما...

    لم ينبت في تربة حارتنا وحش بشراسة شاقور.. فهو لم يكن يسرق ليأكل، أو يقتل ليغتني حتى لا يثير في كل هذا الرعب.. كان لا يسيل لعابه إلا لبنات في عمر الزهور.. يمتص روحهن ويذرهن أجسادا تتلظى على قارعة الحياة.. سمعت يوما، إحدى جاراتنا تقول لأمي أن شاقور سيتزوج "فتياته" يوم يبلغن.. فهرعت إلى صديقتي فدوى ونصحتها بأن تتزوج عفريتا ولا ترضى بشاقور زوجا.. فانفجرت تبكي لأن لا أحد استجاب لصراخها في ذلك الخلاء حيث استفرد بها شاقور.. أما أنا، فعويشة جارتنا الغالية وحدها من استجابت لصراخي وخطفتني من بين يديه قبل أن يقتلع جذعي ويطير به.. ومن يومه تحرسني كما لو كنت ابنتها..

    يوما، جاءتنا البيت وقد التقطت محفظتي وأحذيتي من الشارع وقالت لي ضاحكة: شاقور يبلغك التحية.. هي وأمي تضحكان وأنا الصغيرة آنذاك أتفقد أحوال جسدي فأرى ثماره قد برزت ومهما حاولت طمسها وعصرها حتى لا تقع عليها عينا شاقور تبدو لي فاكهة قد تمردت كثيرا على أوراق الشجرة.. فأظل أمام المرآة أعصرها بين يدي وأفضل أن تيبس أو تنضج داخل عظامي على أن تلسعها عينا شاقور.. ثم هرعت إلى أمي أصرخ بعدما استبد بي الهلع والضيق:
    ـ لما لم تؤجلي ميلادي حتى يجدوا لشاقور قبرا يدفن فيه إلى الأبد بدل هذه الزيارات الخاطفة التي يقوم بها للسجن؟؟..
    ضحكت من أمري أمي وجارتي الغالية عويشة وقالت لي بنبرة جادة:
    ـ من اليوم لك أن تذهبي إلى مدرستك بمفردك..
    قاطعت جارتي متشنجة:
    ـ يستحيل أن أعتب باب البيت لوحدي وشاقور حي
    أضافت تؤكد لي:
    ـ اعتبريه من اليوم قد مات واندفن
    ثم انحنت توشوش في أذن أمي .. لأعلم من صديقاتي في المدرسة بأن شاقور قد سيق إلى السجن مصفد اليدين وأن أمه هي التي بلغت عنه بعدما ضبطته يكشر عن أنيابه لينفث لعابه الثعباني في أخته الصغرى..

    اطمأن قلبي وتحررت قليلا من مخاوفي وسرت في الشارع دون أن أتلفت حولي.. كل شيء كان يهتز حولي أراه رسالة من شاقور وأحيانا أتخيل ظله يسبقني ويداه تمتدان لتلتقطاني وفمه فاغرا ليبتلعني.. فأصرخ وأطير إلى البيت.. اليوم فقط، سرت في الشارع أمرح وأترنح في مشيتي أكتم الغناء والرقص.. بلغت بيتي. تعريت من ملابسي أمام مرآة غرفتي ويداي تعيدان رسم ثمار جسدي بنشوة لم أستشعرها من قبل.. سرت دغدغة لذيذة في كياني لا عهد لي بها من قبل ليعقبها خدر لذيذ.. انصهرت منتشية فوق سريري.. لاستفيق هلعة مرعوبة من خيال شاقور الذي تسرب إلي مع نقرات على الباب ثم ضحكت من أمري أطمئن نفسي بأن شاقور قد مات ودفن..

    في الواقع، لم يسجن شاقور مدة طويلة بل أحيل على مصحة نفسية بضع سنوات وخرج منها "شوقيا".. الكل أضحى يسميه السي شوقي.. وكل الأيادي ممدودة له كأنه لحس مخهم بطيبته ووداعته التي خرج بها من المصحة.. زوجوه جارتي عويشة التي تكبره بسنوات.. لم يكن يرفض لأحد طلبا مما يفتون عليه.. لم يكن يهمه غير تلميع سجله وطي صفحة من حياته يدعي أنه لا يذكر عنها شيئا.. وزوجي، بائع مجوهرات، فتح له محله يشتغل معه وقد أمسك بزمام متجرنا طيلة شهر العسل.. رغم كل ما يروى عن طيبة قلبه واستقامته ورغم مديح زوجي له فلم تتسرب إلي ذرة ارتياح لشوقي الجديد.. وإن كان زواجه بجارتي عويشة كسا نفسيتي مؤخرا ببعض الهدوء والطمأنينة وأفرح كلما زارانا في بيتي.. أعرف أنه لو نازعته نزعته الشريرة وفتح فكيه لينفث سمه ستنزع غاليتي عويشة أنيابه قبل أن ينهش..

    عويشة رجل! .. أنا أعرفها وأعرف كيف كان يرتعد منها إذا هددته بيدها الغليظة الخشنة..

    ما أن جاءنا يوما بمفرده حتى انتفضت وساوسي القديمة.. شعرت بأنه يعتصر ابنتي الرضيعة بين يديه كما حكت لي صديقتي فدوى قبل أن يطعنها طعنته الخبيثة.. وحينما هم ليقبلها خطفتها من حضنه متذرعة بوقت نومها وتركته يحدث زوجي عن معاناة زوجته عويشة المثقلة بحملها الأول ثم قام يستودعه ليمضي إليها.. في اليوم التالي كانت يداي تطرقان باب غاليتي عويشة، وأنا محملة بكل ما استطعت إعداده مما قد تشتهيه نفسيتها.. انتظرتها تفتح لي الباب لأطعمها بيدي حتى تتقوى وتنجب لنا من صلبها عويشة رقيقة لطيفة أو شوقيا نقيا.. بعد نقرات خفيفة انتصب أمامي جثمانه الضخم في عباءة فضفاضة يستقبلني في الباب ويفرشني بابتسامة عريضة تبدو لي دائما تكشيرة حيوان مفترس يتأهب للانقضاض.. ارتعش قلبي وتملكتني رغبة في الهرب.. ذاتها التي تملكتني في صغري وأنا في طريقي إلى المدرسة.. خطف ابنتي من ذراعي ومضى بها إلى غرفة النوم وأنا خلفه أدفع بجسدي وراءه وعيناي تجولان في البيت.. صمت رهيب يتدفق إلي من الأبواب فيغوص بي في بحر الهلع.. تسمرت في مكاني وسط البيت وعنقي تشرئب إلى المطبخ حيث رائحة الطبيخ تتدفق قوية مشهية.. يخرج شاقور من غرفة نومه يبتسم لي بخبث وينحني مادا ذراعيه مبالغا في الترحيب يدعوني إلى الداخل لأرى سرير مولوده القادم حيث تنام طفلتي الآن.. أزدرد ريقي الجاف وعيناي على يديه المشعرتين تبدوان لي ملقاطا جبارا ينفتح ليلتقطني وفوه فاغر ليبتلعني.. هكذا هيئ لي وأنا على شفا فوهة بركان أمامي..

    تماسكت أرسم بسمة الموت على شفتي وأنا ألفظ آخر ما تبقى في معين كلماتي:
    ـ هي عـ ويـ شـ ة فـ ي الـ داخـ ل؟؟
    ـ لا حاجة لنا اليوم إلى عويشة.. قد أعددت طعاما شهيا.. ستذوقين اليوم حلاوتي.. أنا طباخ ماهر ألم تخبرك عويشة؟...
    كل كلمة تنزلق من فيه البركاني أحملها سيلا من الحمم..
    غاب في قهقهة مدوية اخترقت أذني كالزئير ثم أضاف:
    ـ عويشة في المستشفى.. أتيت لأعد لها بعض الأكل ثم أعود إليها.. ما رأيك سنذهب إليها معا؟
    ابتسمت أهز رأسي بالإيجاب وقد سرت نسمة هواء تجوب تجاويف رئتي وقلت وأنا أعتصر التبسم:
    ـ كل ما يلزم عويشة معي في القفة.. من اليوم لا تحمل هما لطعامها

    رشقني بابتسامة خبيثة ومضى إلى المطبخ. انزاح الجبل من طريقي فهرعت إلى غرفة النوم لأفك الأسر عن نفسي وعن فلذة كبدي.. تنفست الصعداء أستقبل نسمة الحياة وأنا أمد يدي لأحرر بنتي الرهينة من كابوس خانق رسمته لي ولها فإذا بملقاط جبار يسحب ذراعي إلى الوراء ويقتلع جذعي من الأرض تماما كما حكت لي صديقتي فدوى...


    سمية البوغافرية
    أكتوبر، 2008


    *شاقور في الدارج المغربي يطلق على فأس لتقطيع اللحم
    التعديل الأخير تم بواسطة سمية البوغافرية; الساعة 05-05-2009, 20:59.
  • محمد السنوسى الغزالى
    عضو الملتقى
    • 24-03-2008
    • 434

    #2
    سبق ان قرات هذا العمل المُتميز لسمية في موقع القصة العربية..لغة جيدة وذاكرة حكائية رائعة..شدتني كثيرا خاتمتها..شكرا لقلبك الجميل.
    [B][CENTER][SIZE="4"][COLOR="Red"]تــــــــــــــــــدويناتــــــــــــــــــــي[/COLOR][/SIZE][/CENTER][/B]
    [URL="http://mohagazali.blogspot.com/"]http://mohagazali.blogspot.com/[/URL]

    [URL="http://shafh.maktoobblog.com/"]http://shafh.maktoobblog.com/[/URL]
    [BIMG]http://i222.photobucket.com/albums/dd312/lintalin/palestine-1.gif[/BIMG]

    تعليق

    • مها راجح
      حرف عميق من فم الصمت
      • 22-10-2008
      • 10970

      #3
      الاديبة الغالية سمية

      اسلوبك الجميل يدفعنا الى تقمص وتخيل شخصيات القصة وكأننا نعيش فيها
      كما تعودنا منك الجميل والاجمل
      دمت رائعة
      رحمك الله يا أمي الغالية

      تعليق

      • محمد سلطان
        أديب وكاتب
        • 18-01-2009
        • 4442

        #4
        استاذة سمية سرد غزير و ثرى بالصور الجميلة
        وأسلوب راق و رائق جدا
        دمت بخير
        صفحتي على فيس بوك
        https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

        تعليق

        • سمية البوغافرية
          أديب وكاتب
          • 26-12-2007
          • 652

          #5
          الأستاذ الكريم محمد السنوسي الغزالي
          حياك الله
          شكرا سيدي على هذا المرور العبق وعلى كلماتك المحفزة المشيدة دائما بحرفي
          دمت بهذا البهاء أيها الكريم
          وكل الأماني لك بالصحة والعافية والمزيد من العطاء
          امتناني ووافر تقديري

          تعليق

          • الحسن فهري
            متعلم.. عاشق للكلمة.
            • 27-10-2008
            • 1794

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة سمية البوغافرية مشاهدة المشاركة
            اندفعت مرحة لأجيب نداء زوجي ثم تسمرت في باب الصالة أبحلق في وجه زائره كالبلهاء وشفتاي تنقشان في صمت: " هو شاقور.. وحش حارتنا.. هو.. هو.."..
            أيقظني زوجي وهو يربت على كتفي ويعيد علي تقديم ضيفه مبتسما لي:
            ـ السي شوقي.. مساعدي في العمل
            تيممت بابتسامته. ابتلعت ريقي الحار مع كأس ذكرياتي فأرخيت يدي كما الآلة لتصافح يد ضيفه الممدودة ثم انكمشت بجانب زوجي أحتمي به من هول لا أستبينه.. فقط صورة شاقور المتسخ الملتحي وهو يتمسح بجدران حينا أمام بوابة المدرسة يتفرس فرائسه ككلب جائع ظامئ تستحوذ على ذاكرتي.. تمطرني بسنان حقبة اعتقدت أني نسيتها وانمحت من مخيلتي.. فجأة، تسربت إلى أنفي رائحة شاقور من مسامات جلد زوجي الذي اتخذه رفيقا له، فتشوك جسدي وانصرفت خارجة أجر هلعي وصدمة أول صباحي لألتقط أنفاسي بعيدة عن صفقاتهما...

            لم ينبت في تربة حارتنا وحش بشراسة شاقور.. فهو لم يكن يسرق ليأكل، أو يقتل ليغتني حتى لا يثير في كل هذا الرعب.. كان لا يسيل لعابه إلا لبنات في عمر الزهور.. يمتص روحهن ويذرهن أجسادا تتلظى على قارعة الحياة.. سمعت يوما، إحدى جاراتنا تقول لأمي بأن شاقور سيتزوج فتياته يوم يبلغن.. فهرعت إلى صديقتي فدوى ونصحتها بأن تتزوج عفريتا ولا ترضي بشاقور زوجا.. فانفجرت تبكي لأن لا أحد استجاب لصراخها في ذلك الخلاء حيث استفرد بها شاقور.. أما أنا، فعويشة جارتنا الغالية وحدها من استجابت لصراخي وخطفتني من بين يديه قبل أن يقتلع جذعي ويطير به.. ومن يومه تحرسني كما لو كنت ابنتها..

            يوما، جاءتنا البيت وقد التقطت محفظتي وأحذيتي من الشارع وقالت لي ضاحكة: شاقور يبلغك التحية.. هي وأمي تضحكان وأنا الصغيرة آنذاك أتفقد أحوال جسدي فأرى ثماره قد برزت ومهما حاولت طمسها وعصرها حتى لا تقع عليها عينا شاقور تبدو لي فاكهة قد تمردت كثيرا على أوراق الشجرة.. فأظل أمام المرآة أعصرها بين يدي وأتمنى أن تيبس أو تنضج داخل عظامي من أن تلسعها عينا شاقور.. ثم هرعت إلى أمي أصرخ بعدما استبد بي الهلع والضيق:
            ـ لما لم تؤجلي ميلادي حتى يجدوا لشاقور قبرا يدفن فيه إلى الأبد بدل هذه الزيارات الخاطفة التي يقوم بها للسجن؟؟..
            ضحكت من أمري أمي وجارتي الغالية عويشة وقالت لي بنبرة جادة:
            ـ من اليوم لك أن تذهبي إلى مدرستك بمفردك..
            قاطعت جارتي متشنجة:
            ـ يستحيل أن أعتب باب البيت لوحدي وشاقور حي
            أضافت تؤكد لي:
            ـ اعتبريه من اليوم قد مات واندفن
            ثم انحنت توشوش في أذن أمي .. لأعلم من صديقاتي في المدرسة بأن شاقور قد سيق إلى السجن مصفد اليدين وأن أمه هي التي بلغت عنه بعدما ضبطته يكشر عن أنيابه لينفث لعابه الثعباني في أخته الصغرى..

            اطمأن قلبي وتحررت قليلا من مخاوفي وسرت في الشارع دون أن أتلفت حولي.. كل شيء كان يهتز حولي أراه رسالة من شاقور وأحيانا أتخيل ظله يسبقني ويداه تمتدان لتلتقطني وفمه فاغر ليبتلعني.. فأصرخ وأطير إلى البيت.. اليوم فقط، سرت في الشارع أمرح وأترنح في مشيتي أكتم الغناء والرقص.. بلغت بيتي. تعريت من ملابسي أمام مرآة غرفتي ويداي تعيدان رسم ثمار جسدي بنشوة لم أستشعرها من قبل.. سرت دغدغة لذيذة في كياني لا عهد لي بها من قبل ليعقبها خدر لذيذ.. انصهرت منتشية فوق سريري.. لاستفيق هلعة مرعوبة من خيال شاقور الذي تسرب إلي مع نقرات على الباب ثم ضحكت من أمري أطمئن نفسي بأن شاقور قد مات ودفن..

            في الواقع، لم يسجن شاقور مدة طويلة بل أحيل على مصحة نفسية بضعة سنوات وخرج منها "شوقيا".. الكل أضحى يسميه السي شوقي.. وكل الأيادي ممدودة له كأنه لحس مخهم بطيبته ووداعته التي خرج بها من المصحة.. زوجوه جارتي عويشة التي تكبره بسنوات.. لم يكن يرفض لأحد طلبا مما يفتون عليه.. لم يكن يهمه غير تلميع سجله وطي صفحة من حياته يدعي أنه لا يذكر عنها شيئا.. وزوجي، بائع مجوهرات، فتح له محله يشتغل معه وقد أمسك بزمام متجرنا طيلة شهر العسل.. رغم كل ما يروى عن طيبة قلبه واستقامته ورغم مديح زوجي له فلم تتسرب إلي ذرة ارتياح لشوقي الجديد.. وإن كان زواجه بجارتي عويشة كسا نفسيتي مؤخرا ببعض الهدوء والطمأنينة وأفرح كلما زارانا في بيتي.. أعرف أنه لو نازعته نزعته الشريرة وفتح فكيه لينفث سمه ستنزع غاليتي عويشة أنيابه قبل أن ينهش..

            عويشة رجل! .. أنا أعرفها وأعرف كيف كان يرتعد منها إذا هددته بيدها الغليظة الخشنة..

            ما أن جاءنا يوما بمفرده حتى نضخت وساوسي القديمة.. شعرت أنه يعتصر ابنتي الرضيعة بين يديه كما حكت لي صديقتي فدوى قبل أن يطعنها طعنته الخبيثة.. وحينما هم ليقبلها خطفتها من حضنه متذرعة بوقت نومها وتركته يحدث زوجي عن معانات زوجته عويشة المثقلة بحملها الأول ثم قام يستودعه ليمضي إليها.. في اليوم التالي كانت يداي تطرقان باب غاليتي عويشة، وأنا محملة بكل ما استطعت إعداده مما قد تشتهيه نفسيتها.. انتظرتها تفتح لي الباب لأطعمها بيدي حتى تتقوى وتنجب لنا من صلبها عويشة رقيقة لطيفة أو شوقيا نقيا.. بعد نقرات خفيفة انتصب أمامي جثمانه الضخم في عباءة فضفاضة يستقبلني في الباب ويفرشني بابتسامة عريضة تبدو لي دائما تكشيرة حيوان مفترس يتأهب للانقضاض.. ارتعش قلبي وتملكتني رغبة في الهرب.. ذاتها التي تملكتني في صغري وأنا في طريقي إلى المدرسة.. خطف ابنتي من ذراعي ومضى بها إلى غرفة النوم وأنا خلفه أدفع بجسدي وراءه وعيناي تجولان في البيت.. صمت رهيب يتدفق إلي من الأبواب فيغوص بي في بحر الهلع.. تسمرت في مكاني وسط البيت وعنقي تشرئب إلى المطبخ حيث رائحة الطبيخ تتدفق قوية مشهية.. يخرج شاقور من غرفة نومه يبتسم لي بخبث وينحني مادا ذراعيه مبالغا في الترحيب يدعوني إلى الداخل لأرى سرير مولوده القادم حيث تنام طفلتي الآن.. أزدرد ريقي الجاف وعيناي على يديه المشعرتين تبدوان لي ملقاطا جبارا ينفتح ليلقطني وفوه فاغر ليبتلعني.. هكذا هيئ لي وأنا على شفا فوهة بركان أمامي..

            تماسكت أرسم بسمة الموت على شفتي وأنا ألفظ آخر ما تبقى في معين كلماتي:
            ـ هي عـ ويـ شـ ة فـ ي الـ داخـ ل؟؟
            ـ لا حاجة لنا اليوم إلى عويشة.. قد أعددت طعاما شهيا.. ستذوقين اليوم حلاوتي.. أنا طباخ ماهر ألم تخبرك عويشة؟...
            كل كلمة تنزلق من فيه البركاني أحملها سيلا من الحمم..
            غاب في قهقهة مدوية اخترقت أذني كالزئير ثم أضاف:
            ـ عويشة في المستشفى.. أتيت لأعد لها بعض الأكل ثم أعود إليها.. ما رأيك سنذهب إليها معا؟
            ابتسمت أهز رأسي بالإيجاب وقد سرت نسمة هواء تجوب تجاويف رئتي وقلت وأنا أعتصر التبسم:
            ـ كل ما يلزم عويشة معي في القفة.. من اليوم لا تحمل هما لطعامها

            رشقني بابتسامة خبيثة ومضى إلى المطبخ. انزاح الجبل من طريقي فهرعت إلى غرفة النوم لأفك الأسر على نفسي وعلى فلذة كبدي.. تنفست الصعداء أستقبل نسمة الحياة وأنا أمد يدي لأحرر بنتي الرهينة من كابوس خانق رسمته لي ولها فإذا بملقاط جبار يسحب ذراعي إلى الوراء ويقتلع جذعي من الأرض تماما كما حكت لي صديقتي فدوى...(!!!!!!!)


            سمية البوغافرية
            أكتوبر، 2008


            *شاقور في الدارج المغربي يطلق على فأس لتقطيع اللحم

            بسم الله.

            الأخت العزيزة المحترمة/ سمية، رعاك الله..

            حال بيني وبينك بعض مشاغل الحياة، و"أعطاب" ألمّت بجهازي

            الذي قال الأخ/ حُسين ليشوري إنّه (يحتاج "رُقية شرعية" من

            خبير إعلام متمكن!)

            أما قصتك، فمن عنوانها توجّستُ خِيفة!! ومن نهايتها بقيتْ في

            نفسي "أشياءُ كثيرة من حتّى"!!! فأحداثها مقلقة بل مروّعة..

            ونهايتها مفتوحة على الأسْوأ والأدْهَى!!

            * أرجو أن تتفضلي بمراجعة ما أشرتُ إليه في القصّة..

            وتقبلي تحياتي وسلامي ومتمنَّياتي لك من ربوع بني انصار...

            ودومي في حفظ الله ورعايته لأخيك.
            ولا أقـولُ لقِـدْر القـوم: قدْ غلِيَـتْ
            ولا أقـول لـباب الـدار: مَغـلـوقُ !
            ( أبو الأسْـود الدّؤليّ )
            *===*===*===*===*
            أنا الذي أمرَ الوالي بقطع يدي
            لمّا تبيّـنَ أنّي في يـدي قـلــمُ
            !
            ( ح. فهـري )

            تعليق

            • سمية البوغافرية
              أديب وكاتب
              • 26-12-2007
              • 652

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
              الاديبة الغالية سمية

              اسلوبك الجميل يدفعنا الى تقمص وتخيل شخصيات القصة وكأننا نعيش فيها
              كما تعودنا منك الجميل والاجمل
              دمت رائعة
              العزيزة مها
              هذه شهادة أعتز بها أيتها الغالية
              دامت لي طيبة روحك وبهاء إبداعك
              امتناني ومحبتي يا غالية جدا

              تعليق

              • سمية البوغافرية
                أديب وكاتب
                • 26-12-2007
                • 652

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة الحسن فهري مشاهدة المشاركة
                بسم الله.

                الأخت العزيزة المحترمة/ سمية، رعاك الله..

                حال بيني وبينك بعض مشاغل الحياة، و"أعطاب" ألمّت بجهازي

                الذي قال الأخ/ حُسين ليشوري إنّه (يحتاج "رُقية شرعية" من

                خبير إعلام متمكن!)

                أما قصتك، فمن عنوانها توجّستُ خِيفة!! ومن نهايتها بقيتْ في

                نفسي "أشياءُ كثيرة من حتّى"!!! فأحداثها مقلقة بل مروّعة..

                ونهايتها مفتوحة على الأسْوأ والأدْهَى!!

                * أرجو أن تتفضلي بمراجعة ما أشرتُ إليه في القصّة..

                وتقبلي تحياتي وسلامي ومتمنَّياتي لك من ربوع بني انصار...

                ودومي في حفظ الله ورعايته لأخيك.
                الشاعر المقتدر الحسن فهري
                تحية طيبة وألف حمد الله على سلامتك وسلامة حاسوبك... الحاسوب وما أدراك ما الحسوب.. صار بمثابة أحد أطرافنا إذا أصابه مكروه شلت بعض حركاتنا..
                أولا أستسمح من الأخ الكريم ابراهيم سلطان لتأجيل الرد عليه حتى أتولى تصحيح ما تفضلت بتلوينه بالأحمر.. إني أراها بمثابة خدوش في وجهي لولا مرآتك العزيز الحسن ما انتبهت إليها... لذا سأقترح ما أرى وإذا صادقت عليها اعتمدتها في النص وقبل كل شيء لك الشكر الجزيل وجزاك الله خيرا عما تبذله من مجهود...
                ـ أحدق إلى.. بدل أبحلق
                ـ يتفرس في فرائسه
                ـ إحدى جاراتنا تقول لأمي أن شاقور سيتزوج فتياته يوم يبلغن.. لم أكتشف الخطأ هنا أرجو تنويري
                ـ لا ترضى
                ـ على أن تلسعها.. بدل من أن تلسعها
                ـ وأحيانا أتخيل ظله يسبقني ويداه تمتدان لتلتقطاني وفمه فاغرا
                ـ بضع سنوات
                ـ ما أن جاءنا يوما بمفرده حتى مخضت وساوسي القديمة.. شعرت بأنه يعتصر
                ـ لأفك الأسر عن نفسي وعن فلذة كبدي..
                أما عن علامات التعجب في نهاية القصة فلم أفهم سر تعجبك؟؟ أرجو التوضيح ربما ناقشتك في الأمر..
                أستاذ الحسن دمت نبراسا في هذا المنتدى وجزاك الله عنا خيرا
                وتفضل بقبول أصدق تحياتي وأسمى عبارات تقديري

                تعليق

                • الحسن فهري
                  متعلم.. عاشق للكلمة.
                  • 27-10-2008
                  • 1794

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة سمية البوغافرية مشاهدة المشاركة
                  الشاعر المقتدر الحسن فهري
                  تحية طيبة وألف حمد الله على سلامتك وسلامة حاسوبك... الحاسوب وما أدراك ما الحسوب.. صار بمثابة أحد أطرافنا إذا أصابه مكروه شلت بعض حركاتنا..

                  أولا أستسمح من الأخ الكريم ابراهيم سلطان لتأجيل الرد عليه حتى أتولى تصحيح ما تفضلت بتلوينه بالأحمر.. إني أراها بمثابة خدوش في وجهي لولا مرآتك العزيز الحسن ما انتبهت إليها... لذا سأقترح ما أرى وإذا صادقت عليها اعتمدتها في النص وقبل كل شيء لك الشكر الجزيل وجزاك الله خيرا عما تبذله من مجهود...


                  1ـ أحدق إلى.. بدل أبحلق

                  2ـ يتفرس في فرائسه

                  3ـ إحدى جاراتنا تقول لأمي أن شاقور سيتزوج فتياته يوم يبلغن.. (لم أكتشف الخطأ هنا أرجو تنويري)

                  4ـ لا ترضى

                  5ـ على أن تلسعها.. بدل من أن تلسعها(أقترح هنا: أفضّل أنْ... على أنْ تلسعها.. أوْ: أتمنى أنْ... خيراً منْ أنْ..)

                  6ـ وأحيانا أتخيل ظلَّه يسبقني، ويديْه تمتدان لتلتقطاني، وفمَه فاغراً

                  7ـ بضع سنوات

                  8ـ ما إن جاءنا يوما بمفرده حتى مخضت(أقترح هنا: حتى "انتفضتْ" وساوسي القديمة.. شعرت بأنه يعتصر)

                  9ـ لأفك الأسرعن نفسي وعن فلذة كبدي..


                  أما عن علامات التعجب في نهاية القصة فلم أفهم سر تعجبك؟؟
                  أرجو التوضيح ربما ناقشتك في الأمر..

                  أستاذ الحسن دمت نبراسا في هذا المنتدى وجزاك الله عنا خيرا
                  وتفضل بقبول أصدق تحياتي وأسمى عبارات تقديري

                  بسم الله.

                  مواطنتي الغالية/ سمية، أسعد الله ليلتك بكل الخيرات والمسرات..

                  * ما لوّنته بالأخضر كله سليم.. إن شاء الله.

                  * وما كان بالأحمر، تأمّلي فيه.. وتصرّفي..

                  * أما "معانات" فصوابها: معاناة.

                  * وأما الرقم3، ففيه غرابة، وربما بشاعة! فهل المقصود فعلا هو

                  مضمون هذه العبارة؟؟!

                  * وأما علامات التعجب في نهاية القصة، فهي تعبير مني عن

                  الدهشة بل الذهول والهول من هذه النهاية التي قلتُ إنها(مفتوحة

                  على الأسْوأ والأدْهَى!!)


                  وفقك الله إلى الصواب والسداد والإجادة.

                  وإلى الأمام بكل ثقة وعزم.. والله المستعان..

                  وتقبلي من أخيك كل تشجيع وإعجاب..
                  ولا أقـولُ لقِـدْر القـوم: قدْ غلِيَـتْ
                  ولا أقـول لـباب الـدار: مَغـلـوقُ !
                  ( أبو الأسْـود الدّؤليّ )
                  *===*===*===*===*
                  أنا الذي أمرَ الوالي بقطع يدي
                  لمّا تبيّـنَ أنّي في يـدي قـلــمُ
                  !
                  ( ح. فهـري )

                  تعليق

                  • عائده محمد نادر
                    عضو الملتقى
                    • 18-10-2008
                    • 12843

                    #10
                    الزميلة القديرة
                    سمية البوغافرية
                    دوما رائعة أنت بنصوصك التي تسحبنا معها الى الداخل فتقتلع أنفاسنا منا بسلاسة ورغما عنا.. هكذا أنت تدهشينا بتلك القصص وكأننا نتابع مسلسل تلفزيوني محبوك
                    تحياتي لك ولقلمك المدهش الرائع
                    دمت بكل ود
                    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                    تعليق

                    • سمية البوغافرية
                      أديب وكاتب
                      • 26-12-2007
                      • 652

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة الحسن فهري مشاهدة المشاركة
                      بسم الله.

                      مواطنتي الغالية/ سمية، أسعد الله ليلتك بكل الخيرات والمسرات..

                      * ما لوّنته بالأخضر كله سليم.. إن شاء الله.

                      * وما كان بالأحمر، تأمّلي فيه.. وتصرّفي..

                      * أما "معانات" فصوابها: معاناة.

                      * وأما الرقم3، ففيه غرابة، وربما بشاعة! فهل المقصود فعلا هو

                      مضمون هذه العبارة؟؟!

                      * وأما علامات التعجب في نهاية القصة، فهي تعبير مني عن

                      الدهشة بل الذهول والهول من هذه النهاية التي قلتُ إنها(مفتوحة

                      على الأسْوأ والأدْهَى!!)


                      وفقك الله إلى الصواب والسداد والإجادة.

                      وإلى الأمام بكل ثقة وعزم.. والله المستعان..

                      وتقبلي من أخيك كل تشجيع وإعجاب..
                      الأخ العزيز الحسن فهري
                      أنت الضوء كله لذا أجدني عاجزة على شكرك..
                      حقيقة العبارة غريبة وبشعة على حد قولك وبعيدة كل البعد عن المقصود بها لذا سأرد " فتياته" بين مزدوجتين للإشارة إلى أنها تجري على الألسن وليست الحقيقة.. وأتمنى أني سأكون قد خففت من حدتها وإلا استبدلتها بالفتيات الضحايا..
                      أغبطك على مجهرك الذي لا تفوته صغيرة ولا كبيرة... وبأصدق التحايا وأجملها أودعك على أمل اللقاء بك على مائدة الحرف في أقرب الآجال.. فهل من قصيدة جديدة مرت دون أن أراها.. أرجو تذكيري بها فأنا جد مقصرة إزاء أصدقاء هذا الملتقى بسبب ضيق الوقت.. دمت وأهلك وأهلنا في الناضور بألف خير
                      ملحوظة: هذ "شاقور" تم نشره في جريدة العرب العالمية وتلقيت تهنئة عليها من مصر ولم تره عيني على الورق ولم أراسل الجريدة يوما.. وذات الأمر حدث مع قصة أخرى أعتز بها جدا " أجنحة صغيرة" ..
                      التعديل الأخير تم بواسطة سمية البوغافرية; الساعة 14-04-2009, 11:41. سبب آخر: ملاحظة خطرت

                      تعليق

                      • سمية البوغافرية
                        أديب وكاتب
                        • 26-12-2007
                        • 652

                        #12
                        شكر

                        المشاركة الأصلية بواسطة محمد ابراهيم سلطان مشاهدة المشاركة
                        استاذة سمية سرد غزير و ثرى بالصور الجميلة
                        وأسلوب راق و رائق جدا
                        دمت بخير
                        الأستاذ محمد إبراهيم
                        حياك الله،
                        معذرة عن تأخري في الرد أيها القلب الكبير
                        وتقبل جزيل شكري على مرورك العبق
                        دمت رائعا إنسانا وإبداعا
                        ومزيدا من التألق أتمناه لك

                        تعليق

                        • سمية البوغافرية
                          أديب وكاتب
                          • 26-12-2007
                          • 652

                          #13
                          المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                          الزميلة القديرة
                          سمية البوغافرية
                          دوما رائعة أنت بنصوصك التي تسحبنا معها الى الداخل فتقتلع أنفاسنا منا بسلاسة ورغما عنا.. هكذا أنت تدهشينا بتلك القصص وكأننا نتابع مسلسل تلفزيوني محبوك
                          تحياتي لك ولقلمك المدهش الرائع
                          دمت بكل ود
                          العزيزة الغالية عائدة محمد نادر
                          آسفة جدا عن تأخري في الرد على هذا الجمال الذي نثرته بسخاء على نصوصي...
                          جئت لأنقل هنا قراءة نقدية حول هذ شاقور ففوجئت بأني لم أرد عليك..
                          فمعذرة أيتها الروح الطيبة ويبقى عزيزتي الكريمة الرائع والأروع هو مرورك وما يضفيه من جمال على نصي وفرح على نفسي..
                          فتقبلي اعتذاري وشكري ومحبتي
                          أختك سمية

                          تعليق

                          • سمية البوغافرية
                            أديب وكاتب
                            • 26-12-2007
                            • 652

                            #14
                            هذه قراءة لقصتي "شاقور" تفضل بها الأديب السوري محمد باقي محمد أحببت نقلها هنا كلمة شكر لكل من شرفني بمروره..
                            كل الود
                            القراءة
                            محمد باقي محمد | سوريا حرر في 2009-03-11 08:47:48

                            في نصّها الموسوم بـ " شاقور" - أي الفأس الخاصة بتقطيع اللحم في اللهجة المغربية الدارجة - تأتي " سميّة البوغرافية" على شخصية غريبة، اجتمع على رسم صورتها في الأذهان سلوك مرضيّ نحو الفتيات الصغيرات البريئات، دفعه إلى التربّص بهنّ قرب باب المدرسة، على أمل أن يحظى بإحداهن في غفلة عن الأعين، ليفترسها بلا أي وازع أو رحمة، و " كاراكترٌ " يُحيل إلى الغلظة بسبب من ثيابه المتسخة دوماً، ولحيته غير المشذبة، وجرمه الضخم، ناهيك عن إبداع الذهن الشعبيّ في إسناد ما كان وما لم يكن إلى تمام الصورة، ما أكسبها شيئاً من عناصر الأسطرة!

                            لقد نسيت الساردة الشاقور، غبّ أن خلفت ذكريات الطفولة وراءها، لتتزوج بتاجر مجوهرات، كان الرجل - أو الوحش بحسبها - قد مات، إلى أن تفاجأت به يدخل عليها مع زوجها، فاستيقظت ذكرياتها المجبولة بالخوف، واستعادت مخيّلتها محاولاتها المخفقة في إخفاء ثمار جسدها، الذي تمرّد على تخوم الطفولة، حتى أنّها كانت تتمنى لو أن أمّها تأخّرت في إنجابها إلى ما بعد موته!

                            اليوم، وعلى الرغم من تصرّم السنين، ما تزال ذكرى تلك اللحظات التي راحت جارتهم عويشة تهمس لأمّها بالخبر، لتعلم من زميلاتها في المدرسة بسجن " شاقور"، وتفهم معنى عبارتها تلك أن..

                            " اعتبريه من اليوم قد مات واندفن!"

                            حيّة في الذهن، كانت أمّه هي التي بلغت عنه، عندما ضبطته وهو يُحاول افتراس شقيقته الصغرى، لكنّ الساردة اكتشفت في ما بعد بأنّه لم يُسجن طويلاً، بل أحيل إلى مصحّ لبضع سنوات، وخرج منها تحت اسم شوقي، ثمّ تزوّج عويشة التي كانت تكبره ببضع سنوات، وأخذ يُحاول بشتى الوسائل أن يطوي صفحة حياته تلك، مُدّعياً بأنّه لا يتذكّر منها شيئاً!

                            كان شوقي - أو شاقور - واقفاً خلف زوجها إذن، فانكمشت بجانب زوجها كمن يحتمي من هول لا يدرك كنهه، وعندما حملت زوادة لعويشة، بعد أن سمعت بحملها، تحقّقت مخاوفها على نحو يختلط فيه الواقعي بالحلم أو الكابوس، فلقد فتح شاقور الباب، كانت زوجته في المشفى، فاختطف من الساردة ابنتها على نحو مُفاجىء، ليضعها في سرير المولودة المنتظرة، وعندما انحنت فوق الصغيرة، مغتنمة فرصة انشغاله في المطبخ ، ومدت يديها لتحرير الصغيرة، إذا بشيء كالملقط يسحب ذراعها نحو الخلف، ويقتلع جذعها من الأرض!

                            نصّ غريب ينهل من ذاكرة ثرّة، ألجأ " البوغرافية" إلى العزف على ضمير المتكلم في إحالة إلى الحديث من أساليب القصّ، وتوخّياً للانسجام والتناغم اشتغلت في ضوئها على زمن مُنكسر، ما أتاح لها اللعب على التقديم والتأخير في الأجزاء بقصد التشويق، أي بهدف ضخّ توتر دراميّ إضافي إلى المتن من جهة، وترتيب الأجزاء ترتيباً قصدياً مُضمراً يشي بمقولة القصّ من جهة أخرى، ناهيك عن حلّ إشكالية الزمن!

                            أمّا لغة " البوغرافية" فهي تجمع التعبيريّ إلى التوصيف، وعليه فهي لغة دالة مشغولة باقتصاد لغويّ، ينأى بها عن الترهّل، فلا إسهاب أو استفاضة إذن، وهي - إلى ذلك - لا تخل من الاتكاء على المجاز كما في " ويذرههنّ أجساداً تتلظى على قارعة الطريق"، بل لأنّها تماهت بخوف الساردة تسلل إلى لا وعيها مجاز يمتح جذوره من الدينيّ " تيمّمت بابتسامته"، فأعطى للغتها حضوراً نفسياً، يُضاف إلى حضورها الواقعيّ، من غير أن تضع المبتكر من سياقات في مغازيها!

                            لقد أتت القاصّة على المكان في الحدود التي يبيّء فيها المتن، فلم تتفكّر في الاشتغال عليه بشكل يرقى به إلى فضاء قصصيّ، يندغم بمصائر شخوصه، ويقف معهم على سوية واحدة كندّ أو بطل!

                            وفي الخواتيم جاءت " البوغافرية" على نهاية بديعة، تداخل فيها الواقعيّ بالحلم كما أسلفنا، لتُحيل إلى المُدهش، وتتوفر على المفارق والصادم، ولا نظن أنّ قارئاً ما لن تنكمش عضويّته بشكل لا إراديّ عندما يأتي على صورة الشاقور، وهو يقتلع الساردة من جذعها، ما اقتضى التنويه!

                            تعليق

                            • ربيع عقب الباب
                              مستشار أدبي
                              طائر النورس
                              • 29-07-2008
                              • 25792

                              #15
                              شاقور
                              قصة مدهشة ، أتقنتها أصابع مدربة ، قادرة على نسج الدهشة ، مع عدم ترك مساحة لالتقاط الأنفاس ، حتى تصل الأحداث إلى الذروة
                              أظن أن هذه الخامة صالحة لبناء عالم أوسع ، و أكبر رقعة .. فى عمل روائى ماتع .. أنت قادرة على نسجه ، و امتاعنا به .. فقد كنت هنا تتحلين بكثير من الحنكة ، و الاقتراب من الأنثى ، و خوفها ، و خصوصيتها ، التى لا يستطيع كاتب أن يعبر عنها إلا أن كان أنثى بالفعل .. بدأت بشاقور .. و أنهيت به .. !!
                              دروس كثيرة .. ذنب الكلب ما ينعدل .. علم فى المتبلم .. الطبع غالب .. قد تحضرنى الكثير من الأمثال ، و الحكم .. التى صيغت عبر تجارب السابقين ، و لكن ما أدهشنى قدرتك على بلورة العمل ، دون ترهل ، أو تسرع !!
                              أكتفى برغم فرحى الكبير بهذا العمل
                              و أقول شكرا لك سيدتى
                              دمت مبدعة
                              sigpic

                              تعليق

                              يعمل...
                              X