البحتري الصغير
الشعراء والأدباء ، العظماء والمفكرين .. لا يعملون ليعرف الناس قدرشأنهم ، أو ليحيطوهم بهالات الشكر والتقدير والثناء , بل إنّ الوعي الخالص لفكرتهم،والتضحية العجيبة لهدفهم , والحبّ المتفاني لمبدئهم هو الذي يصوغ , ويصون منهج سيرة حياتهم ..
إنّ لمثل هذا الشاعر الملهم - محمد منلا غزيل - لا يمكن أن تتسع الصفحات لسيرته , والإطلاع على نواحي عبقرية وفن شعره ..
الوفاء لدعوة دينه سمت صفحات لسان شعره , وآيات قلمه سحر بيان يترنم من بديع لفظه , وعذب ألحانه , وتدفق عواطفه , وشفافية ورقة روحه ..
باع نفسه لله , ورضي بالقليل , وعاش بالكفاف،وأبغض التفاخر والتباهي بين خلانه , ورأى أن الدنيا زيف وباطل , ومتاع قليل فكان هدفه قول الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وصحبه وسلم :
(( لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وَادِيانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتْوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ ))
مُتَّفَقٌ عليه .
وهاهو يتحدث لنا بلسان قوله عن صاحب هذا الفكر المؤمن الزاهد فيقول :
"سحقا لك أيتها النزوات الرعن , وبعداً لك يا سعارالعاطفة الجموح .. إنّك أبداً تضجّين صاخبة , جيّاشة , وإنّك دائماً تثورين هادرة , عارمة .. إليك عني يا نزوات الرعونة , ويا سعار العاطفة الجموح .. فلقد ودّعت الأمس , ودفنت الماضي في قبر بعيد .. عميق .. لا يسبر غوره ..
وإنّني أيّتها العاصفة , أيّتها العاطفة , لصامد – بإذن الله – أمام صفعاتك الحلوة المرة : صمود الحقيقة فيوجه الوهم , والحقّ في وجه الباطل , والفضيلة في وجه الرذيلة , صمود الجبروت النبيلفي وجه الطاغوت , صمود العقل الحرّ أمام طاغوت الشهوة , واللبّ المستنير أمام إغراءالخرافة . والفكر الوقّاد أمام ظلمات الضلالة...
فلقد انتصرت أخيراً قوّة الحقّ وقوّة العقل المؤمن , ولم أخسر شيئاً حين ربحت العقل .. ربحت العقل فربحت معه الصحوة بعد الغفلة , وربحت معه الهدي بعد الزيغ . ..وربحت معه التوبة بعد المعصية .. والإسلام بعد الجاهلية"...
بدأ حياته في درب الحياة المظلم , وحلكة الليل البهيم , وفتنة القلب العاشق المحبّ المتيم الولهان ...
وفجأة إذ بنور الهدي والإيمان ينير قلب روحه , وفكر لسانه , وشذا مداد قلمه, لينبثق منه ينبوعا متدفقا من عذب نفحات الشعر الثائرة على جولة الظلم والبغي والطغيان , فيروي بها جوانحه الظمأى بهدي الإيمان , ونور الدعوة إلى الإسلام ..
ولد "محمد منلا غزيل "الشاعر المسلم الملتزم الشاعر عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثون في منبج , بلدة الشاعرعمر أبو ريشة , والبحتري ...
في هذه البلدة الجميلة , وطبيعتها الخلابة،وظلالها الوارفة ، وجمالها المتألق نشأ شاعرنا الملهم ؛ حيث درس في الكتّاب على يدالشيخ – عبد الرحمن الداغستاني – وحفظ القرآن ، وعدداً من قصائد الشعر..
وما زال يذكر شيخه الداغستاني الذي حفّظه قصيدة حسان بن ثابت رضي الله عنه وقد كان مطلعها :
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ** لا بارك الله بعد العرض بمال
في الصف الخامس الابتدائي كانت له أول تجربة شعرية , وهو يتغنى بمنبج بلدته الحبيبة :
سلام جلّق مدفن آبائي ** ومنبعنهر البطولة والإباء
سلام من محبّ متيّم في ** هوى ذات الهمة القعساء
هوبعيد الديار عنك ولكن ** مشوق كشوق قيس لليلاء
أنهى المرحلة الابتدائية في منبج بلدته بدرجة امتياز , مما أهلّه للذهاب إلى حلب الشهباء في ثانوية المأمون طالباً داخليًاً مجانًا ...
وفي ثانوية المأمون درس على يدالشيخ – رحمه الله – أحمد عز الدين البيانوني , وإسماعيل حقي , والأديب فاضل ضياءالدين ..وغيرهم من أساتذة حلب الشهباء الكبار ..
الشاعر الملهم كان يتردد باستمرار على دار الكتب الوطنية في حلب لينهل من مشارب الكتب , وعلومها الغزيرة، وينابيعها الثرّة منذ أن كان في المراحل الإعدادية الأولى مما ساعده على تنمية موهبته الفطرية المتألقة والمتميزة , وزيادة إنتاجه الشعري الخصب..
جذب الأنظار إليه حين بدأ ينشر في الصحف والمجلات و فطن له أساتذته مستقبلا باهرا في عالم الشعر ..
وقد أطلق عليه أستاذه اسماعيل حقي – رحمه الله – (البحتري الصغير) وأول مجلة نشرت له تحت اسمه ولقبه المحبب إليه كانت مجلة( الصاحب ) البيروتية ..
كتب الطالب الفتى في الصف السابع الإعدادي تحت عنوان
" تحية يراع " :
"إليه ... إلى مثال النظام ورمزه , وعنوان العظمة والعمل .. أرفع هذه النفثة القصيرة من اليراع الطفل والقلم الفتي .. بل هذه الأغرودة النشوانة، والنغمة الشجية .. إلى الأستاذ عمر كردي الأكرم :
إنقلت شعراً , قصيد الشعر يخذلني ** فالوصف من اسمه الضواع فوّاحا
والدرّ منظومإ عجاب لمرشــدنا ** نحو النظام , نظام منه قد لاحا
قد لاح في الليل نبراسا لنهضـتنا ** وفي النهار ,إلى الإبداع مصباحا
مصباح هدي , وبالفاروق متشح ** نالالجزاء فكلّ النفس (أفراحا)
الوقد العاطفي عنوانه , وجمال الروح والفضيلة والخُلق صفته , وجذوة الكلمة شُعلْة لهيب تتوقد من قصيده وقريحة نثر أدبه ...
في الصف الثالث الإعدادي نشر دراسة نقدية لديوان الشاعر سليمان العيسى في جريدة الشباب الحلبية ..
وأخذت شهرته يوما بعد يوم تزيد , لمَ كان في أبيات شعره تميّزا , وتألقا وحُسنا وجمالا ..
تعّلم فن العروض , وعرف وزن الرجز , وكان في هذه الفترة شعره ينحو نحوا غزليا وقد نشر في عام 1953م قصيدة بعنوان حطام ومن أبياتها :
ضمخّتُ قلبي بالشذى , وفرشت دربي بالمروجْ
وحملتُ منديل المنى وحدي على الدرب البهيج
كيما أناولَ زهرتي رمزاً لأشــــواقٍ تموج
في خافقي . بصبابتي بيض! ويا طهـرالثلوج
في عام 1954 م بتاريخ الحادي والثلاثين من كانون الثاني نشرت جريدة الجمهور العربي قصيدته العمودية بعنوان ( شعر)
يابسمة الفجر من إشراق دنيانا
يا نغمة الشعر بين الورد سكرانا
قد داعب الحب منقيثارنا وترا
فرتل اللحن , لحن الطهر نشوانا
وغرّد البلبل الصداح منتشياً
فوق الغصون وطاب الهمس ألحانا
حسنا هيّا أقبلي نروي جوانحنا
من خمرة الشوق فالأرواح تهوانا
ورتلّي اللحن , لحنا طال مرقده
بعد الفراق , ولحنا فيه ذكرانا
يحاول الشاعر أن يستعطف حبيبته , وهو يدعو أن تحيا معه هذا الصفاء الروحي , والجمال البريء, والحب الطاهر ... لكن لم تسمعه وتأبه له !!!!!؟؟؟؟...
وتحت عنوان (الشاعر الإنسان) كتب عنهالأستاذ محمد أحمد الطحان وهو يقارن بين قصيدته ( طفولة قلب ) وقصيدة الشاعر نزار قباني
(طفولة نهد ) فيقول :
(.. وعندما نقارن بين مقطوعة طفولة قلب , وقصيدة طفولة نهد لنزار قباني , فإننا نجور على الأولى , تلك المقطوعة الإيمانية , ذات الفكرة الإنسانية السامية , التي أراد أن يعبر الشاعرفيها عمّا يجيش في نفسه من حبّ للرحيل ... للتوبة .. من عالم .. إلى عالم . نجورعليها لأنّ الفكرة الإنسانية فيها هي الأساس , وهي الغاية . أما قصيدة نزار , فضرب من التحلل اللا أخلاقي والتمرد على الفضائل , يمثل بها الشاعر أحد الدعاة إلى الهبوط , وفي أهم فرع من فروع الأدب العربي .. ويتابع الأستاذ الطحان فيقول :
فإذا ما رأينا الشاعر الأول يتحدث عن فكرة إنسانية , وأن الأخير يتحدث عن فكرة لا إنسانية , حكمنا مباشرة أن الأول شاعر إنسان , وأن الآخر شاعر لا إنسان .وكلمة(لا إنسان ) ذات مدلولات كثيرة , يعرفها أصحاب اللغة .. ويجوز هذا الحكم في كل أسلوب أدبي , سواء كان نثرا أو خطابة أو مقالة أو توقيعات .. ذلك لأن الأدب عامة , وكما كررت مرارا , وسيلة لهدف إنساني , وليس غاية يحد ذاته .. )
لكن فطرته التي فطره الله عليها لم تكن إلا أن تعود إلى أصالتها من جديد , فيهجر الماضي هجرا لا عودة له , ويبدأ مع حياته صفحة جديدة, وبدأ يشعر أن من واجبه أن يكون ملتزما فيدينه , وصادقا في دعوته ويكون شعار لسان قلم شعره في حزيران عام 1954م قول الله تعالى :
(وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ*وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَيَفْعَلُونَ*إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِين ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)
الشعراء 224-225-226-227
وإذ به يهب نفسه للدفاع عن دينه وقيمه وأخلاقه وهو يأمل أن يتبع سيرة سلفه حسان بن ثابت – رضي الله عنه – وكعب بن مالك ..
في حينها الصحف كانت تفتح له صفحاتها بكل حبّ ووفاء لشعره الذي كان عنوانه : رب اجعل لي لسان صدق في الآخرين ...
أراد شاعرنا أن يجعل لشعره منهجاً بعيداً عن الأهواء , والانفعالات التي لايربطها ضابط , ولا مبدأ ولا قيم , وهو يأمل أن يخلق من شعره مشاعر نبيلةً ومنهجا ثابتا , وهو ينافح عن عقيدته ليصل إلى نصرة الحق المبين ..
فسلك سبل الصادقين المخلصين الصالحين , وامتثل لأوامر دينه , ومبدأ عقيدته , وأصبح قلمه نزيها من أهواء انفعالات ونزوات القلب , وسلوكيات مراهقة الشباب والطيش .....
وفي مقابلة أجراها الشاعر عبد الله عيسى السلامة مع شاعرنا المبدع في سؤال حول مهمة الشعر , فرد عليه قائلا :
(مهمة الشعر عندي أن يكون تعبيراصادقا عن نفس قائله , شريطة أن تتعلق اهتمامات النفس بمعالي الأمور دون سفاسفهاوترّهاتها .. ويسلك التعبير مبينا عن ذلك , مسالك شتى , سلبا وإيجابا , هدما أمبناء ... وليست مهمة الشعر – تصويرا وتعبيرا – أن ينافس الواعظين في توجيههم النبيل، لأن الواعظ يناسبه التفصيل والتبسيط , أما الشعر فهو لغة الإيماء والإيحاء والتلميح ...)
كان يأمل دائما أن يبذل كل ما في طاقته الفكرية , وتوثب اندفاعاتها باتجاه الأكمل والأسمى في رسم أبيات قصيده ..
ففي ثنايا شعره نجدعناصر الإبداع , ولهيب الثورة , وهو يلهث للدفاع عن أمّة الإسلام أمّة الحقّ ....
لم يبتعد ويتخاذل عن مجريات الأحداث , ولم يصب قلبه الرعشة والخوف من الطغيان , ولم ترجف يده من تصرفات لعبة الحكام .. فجاء شعره نفثة مقهورة , وتعبئة شاملة لتأخذ بلبّ العقل والفكر معا ....
لم يكن يريد من الدنيا مباهجها وزخارفها ومتاعها , بل كان لديه رغبة في إذكاء روح الوعي , وتنوير العقول , وبذل التضحيات في سبيل رفع الظلم , ومحاربة الظلم والطغيان ..
عاش حياته في حلب عيشة الفقراء المستعلين – وما زال – لا يحزن على المادة السوداء , ولا حياة الرفاه والبذخ ..وقد نفذ الزهد إلى سويداء قلب روحه ..
فكان بحقّ رجل دعوة , وحياته كانت مليئة بالجدّ والدراسة،
و جلّ وقته يقضيه بين الذهاب إلى المكتبة الوطنية , والاستماع إلى المحاضرات الفكرية والأدبية, وهو مكبّا على التحصيل العلمي والأدبي , بالإضافة إلى أنه كان يقود المظاهرات الطلابية محمولاً على الأكتاف, ويهزّ بمشاعره الهائجة الثورية , وبأهازيج شعره , وخطب نثره قلب الشباب المسلم ..
امتزج شعره باللون الاجتماعي , والسياسي معا ضمن إطار التزامه بالإسلام, وصدق دعوته وذلك منعام 1954- 1957 التي كانت تعيش فيها سوريا تعدّد الأحزاب , وحرية الصحافة والخطابة والتظاهر ..
ونجده يستلهم الهدى والرشد , وطريق الحق والصواب من خالقه , فهوحسبه وكافيه , و الطريق والسبيل لدحر الظلم والطغاة هو قوله :
بجهادنا ... بالحق ... بالإيمان يسري في الدم
بالروح تزخر بالسنا , وهدي النبي الأعظم
سيزول ليل الظالمين , وليل بغي مجرم ..
وفي(قصيدته الفجر) يعلم بحقّ أننا قوم أعزنا الله بالإسلام , وإن ابتغينا العزة من دونه أذلنا الله :
والآخرون الهائمون الحالمون بأن يكونالفجر ( أحمر)
والهائمون الواهمون تعلقوا بعروبة ترضى بمنكر
وتمالئ الطغيان ، بالعار , مفهوم الأصالة قد تغير
ما الفاتحون , وما العروبة يا أخي لو لم تكن( الله أكبر)
الاستعمار أقام جذوره في الوطن المسلم لكنه على يقين بأن النصر آت رغم أنف الجبروت والكفر, والظلم والاستعمار...
أنا مؤمن بالحق ... بالنصر المبين لدعوتي
ليمزق الطغيان كل ممزق بالحق ..ياللقوة
ويزفها للأمة الظمأى ...ز شفاء الغلة
سنعيدها غراء إسلامية ..... يا أمتي
إنه كان شاعرا لقول.... كلمة الحق
وفي قصيدته العذبة الفتية يروي لنا شاعرنا قصة بدر تحت عنوان
(العصبة المسلمة)
وبدر أي وهج في سناها
أضاء القلبَ فاستوحى هداها
وذكرني بصورة مصطفاها
يقود المؤمنين إلى علاها
إلى الفوز المبين إلى التفاني
إلى قمم الجهاد , إلى ذراها
وذكرني دعاء في لظاها
يموج بلهفة رحبٍ مداها
تهزّالنفسَ حرقة مجتباها
يناجي فاطرَ الكون الإلها :
إلهي لستَ تُعبد إنأتاها
هلاك يا إلهي أو عراها
فهذي قلة نذرتْ قواها
لدعوتها , ولن ترضى سواها
فهل لمثل هذا الشاعر الملهم المبدع أن تستوفيَِ حقه هذه الكلمات المتواضعة !!!؟؟...
حفظه الله , وحفظ يراعه الذي ما زال شعره ينبض بهمساته الندية , وشذا معانيه الفواحة بالحب والعطاء , والوفاء لأمة الإسلام .....
بقلم : ابنة الشهباء
الشعراء والأدباء ، العظماء والمفكرين .. لا يعملون ليعرف الناس قدرشأنهم ، أو ليحيطوهم بهالات الشكر والتقدير والثناء , بل إنّ الوعي الخالص لفكرتهم،والتضحية العجيبة لهدفهم , والحبّ المتفاني لمبدئهم هو الذي يصوغ , ويصون منهج سيرة حياتهم ..
إنّ لمثل هذا الشاعر الملهم - محمد منلا غزيل - لا يمكن أن تتسع الصفحات لسيرته , والإطلاع على نواحي عبقرية وفن شعره ..
الوفاء لدعوة دينه سمت صفحات لسان شعره , وآيات قلمه سحر بيان يترنم من بديع لفظه , وعذب ألحانه , وتدفق عواطفه , وشفافية ورقة روحه ..
باع نفسه لله , ورضي بالقليل , وعاش بالكفاف،وأبغض التفاخر والتباهي بين خلانه , ورأى أن الدنيا زيف وباطل , ومتاع قليل فكان هدفه قول الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وصحبه وسلم :
(( لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وَادِيانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتْوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ ))
مُتَّفَقٌ عليه .
وهاهو يتحدث لنا بلسان قوله عن صاحب هذا الفكر المؤمن الزاهد فيقول :
"سحقا لك أيتها النزوات الرعن , وبعداً لك يا سعارالعاطفة الجموح .. إنّك أبداً تضجّين صاخبة , جيّاشة , وإنّك دائماً تثورين هادرة , عارمة .. إليك عني يا نزوات الرعونة , ويا سعار العاطفة الجموح .. فلقد ودّعت الأمس , ودفنت الماضي في قبر بعيد .. عميق .. لا يسبر غوره ..
وإنّني أيّتها العاصفة , أيّتها العاطفة , لصامد – بإذن الله – أمام صفعاتك الحلوة المرة : صمود الحقيقة فيوجه الوهم , والحقّ في وجه الباطل , والفضيلة في وجه الرذيلة , صمود الجبروت النبيلفي وجه الطاغوت , صمود العقل الحرّ أمام طاغوت الشهوة , واللبّ المستنير أمام إغراءالخرافة . والفكر الوقّاد أمام ظلمات الضلالة...
فلقد انتصرت أخيراً قوّة الحقّ وقوّة العقل المؤمن , ولم أخسر شيئاً حين ربحت العقل .. ربحت العقل فربحت معه الصحوة بعد الغفلة , وربحت معه الهدي بعد الزيغ . ..وربحت معه التوبة بعد المعصية .. والإسلام بعد الجاهلية"...
بدأ حياته في درب الحياة المظلم , وحلكة الليل البهيم , وفتنة القلب العاشق المحبّ المتيم الولهان ...
وفجأة إذ بنور الهدي والإيمان ينير قلب روحه , وفكر لسانه , وشذا مداد قلمه, لينبثق منه ينبوعا متدفقا من عذب نفحات الشعر الثائرة على جولة الظلم والبغي والطغيان , فيروي بها جوانحه الظمأى بهدي الإيمان , ونور الدعوة إلى الإسلام ..
ولد "محمد منلا غزيل "الشاعر المسلم الملتزم الشاعر عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثون في منبج , بلدة الشاعرعمر أبو ريشة , والبحتري ...
في هذه البلدة الجميلة , وطبيعتها الخلابة،وظلالها الوارفة ، وجمالها المتألق نشأ شاعرنا الملهم ؛ حيث درس في الكتّاب على يدالشيخ – عبد الرحمن الداغستاني – وحفظ القرآن ، وعدداً من قصائد الشعر..
وما زال يذكر شيخه الداغستاني الذي حفّظه قصيدة حسان بن ثابت رضي الله عنه وقد كان مطلعها :
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ** لا بارك الله بعد العرض بمال
في الصف الخامس الابتدائي كانت له أول تجربة شعرية , وهو يتغنى بمنبج بلدته الحبيبة :
سلام جلّق مدفن آبائي ** ومنبعنهر البطولة والإباء
سلام من محبّ متيّم في ** هوى ذات الهمة القعساء
هوبعيد الديار عنك ولكن ** مشوق كشوق قيس لليلاء
أنهى المرحلة الابتدائية في منبج بلدته بدرجة امتياز , مما أهلّه للذهاب إلى حلب الشهباء في ثانوية المأمون طالباً داخليًاً مجانًا ...
وفي ثانوية المأمون درس على يدالشيخ – رحمه الله – أحمد عز الدين البيانوني , وإسماعيل حقي , والأديب فاضل ضياءالدين ..وغيرهم من أساتذة حلب الشهباء الكبار ..
الشاعر الملهم كان يتردد باستمرار على دار الكتب الوطنية في حلب لينهل من مشارب الكتب , وعلومها الغزيرة، وينابيعها الثرّة منذ أن كان في المراحل الإعدادية الأولى مما ساعده على تنمية موهبته الفطرية المتألقة والمتميزة , وزيادة إنتاجه الشعري الخصب..
جذب الأنظار إليه حين بدأ ينشر في الصحف والمجلات و فطن له أساتذته مستقبلا باهرا في عالم الشعر ..
وقد أطلق عليه أستاذه اسماعيل حقي – رحمه الله – (البحتري الصغير) وأول مجلة نشرت له تحت اسمه ولقبه المحبب إليه كانت مجلة( الصاحب ) البيروتية ..
كتب الطالب الفتى في الصف السابع الإعدادي تحت عنوان
" تحية يراع " :
"إليه ... إلى مثال النظام ورمزه , وعنوان العظمة والعمل .. أرفع هذه النفثة القصيرة من اليراع الطفل والقلم الفتي .. بل هذه الأغرودة النشوانة، والنغمة الشجية .. إلى الأستاذ عمر كردي الأكرم :
إنقلت شعراً , قصيد الشعر يخذلني ** فالوصف من اسمه الضواع فوّاحا
والدرّ منظومإ عجاب لمرشــدنا ** نحو النظام , نظام منه قد لاحا
قد لاح في الليل نبراسا لنهضـتنا ** وفي النهار ,إلى الإبداع مصباحا
مصباح هدي , وبالفاروق متشح ** نالالجزاء فكلّ النفس (أفراحا)
الوقد العاطفي عنوانه , وجمال الروح والفضيلة والخُلق صفته , وجذوة الكلمة شُعلْة لهيب تتوقد من قصيده وقريحة نثر أدبه ...
في الصف الثالث الإعدادي نشر دراسة نقدية لديوان الشاعر سليمان العيسى في جريدة الشباب الحلبية ..
وأخذت شهرته يوما بعد يوم تزيد , لمَ كان في أبيات شعره تميّزا , وتألقا وحُسنا وجمالا ..
تعّلم فن العروض , وعرف وزن الرجز , وكان في هذه الفترة شعره ينحو نحوا غزليا وقد نشر في عام 1953م قصيدة بعنوان حطام ومن أبياتها :
ضمخّتُ قلبي بالشذى , وفرشت دربي بالمروجْ
وحملتُ منديل المنى وحدي على الدرب البهيج
كيما أناولَ زهرتي رمزاً لأشــــواقٍ تموج
في خافقي . بصبابتي بيض! ويا طهـرالثلوج
في عام 1954 م بتاريخ الحادي والثلاثين من كانون الثاني نشرت جريدة الجمهور العربي قصيدته العمودية بعنوان ( شعر)
يابسمة الفجر من إشراق دنيانا
يا نغمة الشعر بين الورد سكرانا
قد داعب الحب منقيثارنا وترا
فرتل اللحن , لحن الطهر نشوانا
وغرّد البلبل الصداح منتشياً
فوق الغصون وطاب الهمس ألحانا
حسنا هيّا أقبلي نروي جوانحنا
من خمرة الشوق فالأرواح تهوانا
ورتلّي اللحن , لحنا طال مرقده
بعد الفراق , ولحنا فيه ذكرانا
يحاول الشاعر أن يستعطف حبيبته , وهو يدعو أن تحيا معه هذا الصفاء الروحي , والجمال البريء, والحب الطاهر ... لكن لم تسمعه وتأبه له !!!!!؟؟؟؟...
وتحت عنوان (الشاعر الإنسان) كتب عنهالأستاذ محمد أحمد الطحان وهو يقارن بين قصيدته ( طفولة قلب ) وقصيدة الشاعر نزار قباني
(طفولة نهد ) فيقول :
(.. وعندما نقارن بين مقطوعة طفولة قلب , وقصيدة طفولة نهد لنزار قباني , فإننا نجور على الأولى , تلك المقطوعة الإيمانية , ذات الفكرة الإنسانية السامية , التي أراد أن يعبر الشاعرفيها عمّا يجيش في نفسه من حبّ للرحيل ... للتوبة .. من عالم .. إلى عالم . نجورعليها لأنّ الفكرة الإنسانية فيها هي الأساس , وهي الغاية . أما قصيدة نزار , فضرب من التحلل اللا أخلاقي والتمرد على الفضائل , يمثل بها الشاعر أحد الدعاة إلى الهبوط , وفي أهم فرع من فروع الأدب العربي .. ويتابع الأستاذ الطحان فيقول :
فإذا ما رأينا الشاعر الأول يتحدث عن فكرة إنسانية , وأن الأخير يتحدث عن فكرة لا إنسانية , حكمنا مباشرة أن الأول شاعر إنسان , وأن الآخر شاعر لا إنسان .وكلمة(لا إنسان ) ذات مدلولات كثيرة , يعرفها أصحاب اللغة .. ويجوز هذا الحكم في كل أسلوب أدبي , سواء كان نثرا أو خطابة أو مقالة أو توقيعات .. ذلك لأن الأدب عامة , وكما كررت مرارا , وسيلة لهدف إنساني , وليس غاية يحد ذاته .. )
لكن فطرته التي فطره الله عليها لم تكن إلا أن تعود إلى أصالتها من جديد , فيهجر الماضي هجرا لا عودة له , ويبدأ مع حياته صفحة جديدة, وبدأ يشعر أن من واجبه أن يكون ملتزما فيدينه , وصادقا في دعوته ويكون شعار لسان قلم شعره في حزيران عام 1954م قول الله تعالى :
(وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ*وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَيَفْعَلُونَ*إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِين ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)
الشعراء 224-225-226-227
وإذ به يهب نفسه للدفاع عن دينه وقيمه وأخلاقه وهو يأمل أن يتبع سيرة سلفه حسان بن ثابت – رضي الله عنه – وكعب بن مالك ..
في حينها الصحف كانت تفتح له صفحاتها بكل حبّ ووفاء لشعره الذي كان عنوانه : رب اجعل لي لسان صدق في الآخرين ...
أراد شاعرنا أن يجعل لشعره منهجاً بعيداً عن الأهواء , والانفعالات التي لايربطها ضابط , ولا مبدأ ولا قيم , وهو يأمل أن يخلق من شعره مشاعر نبيلةً ومنهجا ثابتا , وهو ينافح عن عقيدته ليصل إلى نصرة الحق المبين ..
فسلك سبل الصادقين المخلصين الصالحين , وامتثل لأوامر دينه , ومبدأ عقيدته , وأصبح قلمه نزيها من أهواء انفعالات ونزوات القلب , وسلوكيات مراهقة الشباب والطيش .....
وفي مقابلة أجراها الشاعر عبد الله عيسى السلامة مع شاعرنا المبدع في سؤال حول مهمة الشعر , فرد عليه قائلا :
(مهمة الشعر عندي أن يكون تعبيراصادقا عن نفس قائله , شريطة أن تتعلق اهتمامات النفس بمعالي الأمور دون سفاسفهاوترّهاتها .. ويسلك التعبير مبينا عن ذلك , مسالك شتى , سلبا وإيجابا , هدما أمبناء ... وليست مهمة الشعر – تصويرا وتعبيرا – أن ينافس الواعظين في توجيههم النبيل، لأن الواعظ يناسبه التفصيل والتبسيط , أما الشعر فهو لغة الإيماء والإيحاء والتلميح ...)
كان يأمل دائما أن يبذل كل ما في طاقته الفكرية , وتوثب اندفاعاتها باتجاه الأكمل والأسمى في رسم أبيات قصيده ..
ففي ثنايا شعره نجدعناصر الإبداع , ولهيب الثورة , وهو يلهث للدفاع عن أمّة الإسلام أمّة الحقّ ....
لم يبتعد ويتخاذل عن مجريات الأحداث , ولم يصب قلبه الرعشة والخوف من الطغيان , ولم ترجف يده من تصرفات لعبة الحكام .. فجاء شعره نفثة مقهورة , وتعبئة شاملة لتأخذ بلبّ العقل والفكر معا ....
لم يكن يريد من الدنيا مباهجها وزخارفها ومتاعها , بل كان لديه رغبة في إذكاء روح الوعي , وتنوير العقول , وبذل التضحيات في سبيل رفع الظلم , ومحاربة الظلم والطغيان ..
عاش حياته في حلب عيشة الفقراء المستعلين – وما زال – لا يحزن على المادة السوداء , ولا حياة الرفاه والبذخ ..وقد نفذ الزهد إلى سويداء قلب روحه ..
فكان بحقّ رجل دعوة , وحياته كانت مليئة بالجدّ والدراسة،
و جلّ وقته يقضيه بين الذهاب إلى المكتبة الوطنية , والاستماع إلى المحاضرات الفكرية والأدبية, وهو مكبّا على التحصيل العلمي والأدبي , بالإضافة إلى أنه كان يقود المظاهرات الطلابية محمولاً على الأكتاف, ويهزّ بمشاعره الهائجة الثورية , وبأهازيج شعره , وخطب نثره قلب الشباب المسلم ..
امتزج شعره باللون الاجتماعي , والسياسي معا ضمن إطار التزامه بالإسلام, وصدق دعوته وذلك منعام 1954- 1957 التي كانت تعيش فيها سوريا تعدّد الأحزاب , وحرية الصحافة والخطابة والتظاهر ..
ونجده يستلهم الهدى والرشد , وطريق الحق والصواب من خالقه , فهوحسبه وكافيه , و الطريق والسبيل لدحر الظلم والطغاة هو قوله :
بجهادنا ... بالحق ... بالإيمان يسري في الدم
بالروح تزخر بالسنا , وهدي النبي الأعظم
سيزول ليل الظالمين , وليل بغي مجرم ..
وفي(قصيدته الفجر) يعلم بحقّ أننا قوم أعزنا الله بالإسلام , وإن ابتغينا العزة من دونه أذلنا الله :
والآخرون الهائمون الحالمون بأن يكونالفجر ( أحمر)
والهائمون الواهمون تعلقوا بعروبة ترضى بمنكر
وتمالئ الطغيان ، بالعار , مفهوم الأصالة قد تغير
ما الفاتحون , وما العروبة يا أخي لو لم تكن( الله أكبر)
الاستعمار أقام جذوره في الوطن المسلم لكنه على يقين بأن النصر آت رغم أنف الجبروت والكفر, والظلم والاستعمار...
أنا مؤمن بالحق ... بالنصر المبين لدعوتي
ليمزق الطغيان كل ممزق بالحق ..ياللقوة
ويزفها للأمة الظمأى ...ز شفاء الغلة
سنعيدها غراء إسلامية ..... يا أمتي
إنه كان شاعرا لقول.... كلمة الحق
وفي قصيدته العذبة الفتية يروي لنا شاعرنا قصة بدر تحت عنوان
(العصبة المسلمة)
وبدر أي وهج في سناها
أضاء القلبَ فاستوحى هداها
وذكرني بصورة مصطفاها
يقود المؤمنين إلى علاها
إلى الفوز المبين إلى التفاني
إلى قمم الجهاد , إلى ذراها
وذكرني دعاء في لظاها
يموج بلهفة رحبٍ مداها
تهزّالنفسَ حرقة مجتباها
يناجي فاطرَ الكون الإلها :
إلهي لستَ تُعبد إنأتاها
هلاك يا إلهي أو عراها
فهذي قلة نذرتْ قواها
لدعوتها , ولن ترضى سواها
فهل لمثل هذا الشاعر الملهم المبدع أن تستوفيَِ حقه هذه الكلمات المتواضعة !!!؟؟...
حفظه الله , وحفظ يراعه الذي ما زال شعره ينبض بهمساته الندية , وشذا معانيه الفواحة بالحب والعطاء , والوفاء لأمة الإسلام .....
بقلم : ابنة الشهباء
تعليق