قراءة في قصيدة " هذا المدى "
للشاعر لطفي زغلول
بقلم : د . فاروق مواسي
القصيدة :
هذا المدى
هذا المدى
صحراءُ ...لم يزرْ لياليها القمرْ
كادتْ تصيرُ كهلـةً
ولم يُقبّلها المطــرْ
لم تكتحلْ عيونــُها
بفارسٍ ينزل في أحضانها
يطفئ بعضَ الجمــرِ في أشجانها
لا شيءَ ..ما وراءَ ليلِ الاغترابِ ..
منتظرْ
تثاءبتْ رمالُهــا من الضجــرْ
وفي جحيــمِـها الحجـَرْ
على عنادهِ انتــحرْ
صحراءُ حطّتْ عندها
قوافــلُ الرحـيـلْ
كل اتــجاهٍ بعدَ هذا الشــطّ
مستحيــلْ
هذا المدى ...وبعده كلُّ مــدى
وهم ومستحيـــلْ
هنا هناك ... لا مفرَّ لا مفرّْ
هذا المــدى
تكسّرتْ في تيهــِهِ
أجنحـــةُ المسافريــنَ في الرّؤى
إلى غــدٍ ...على ضفافِ شمسِــهِ
تنتحرُ الرّيــاحْ
وبعدَ ليــلٍ نهــشَــتْ أنيابُــهُ
الخُطـــى على طول المـــدى
لم يولَدِ الصبـــاحْ
خطًــى تموتُ ...
وخطًــى تولَدُ في المجهـــولْ
قد تهربُ الأيـــامُ من أيامـــها
ومن صديدِ قيدِهـــا
تنتفضُ الفصـــولْ
ولم تزلْ تشربُ من ...
جراحِــها الجـــِراحْ
لطفي زغلول : مدار النار والنوار ، نابلس – 2003 ، ص 39 - 40
القراءة :
قصيدة مميزة لشاعر مكثر في نتاجه ، ومعروف في مثابرته . تتسم كتبه – عامة - بالمباشرة الواعية ، فهو مدرك أهمية التوصيل للقارئ العادي ، ومن حق النقد أن يتوقف على قصيدة له مختلفة ، لعل فيها ما يشي بأسلوب آخر للشاعر ولأنفاسه ، خاصة إذا أعاد القارئ فهم العمل الأدبي من خلال استشفاف بؤرة النص ، ومن ثم توزيع الخطوط أو الخيوط في استيعاب البنية الخاصة في هذا النص .
القصيدة فيها نفس قصصي وإبداعات تتكئ على توزيع الصور لموقف أو لحالة ، والنفس القصصي من شأنه أن يرسل الدرامية مشحونة في أفعال حركية – هي السبيل إلى بدء السرد والاستمرار فيه : ، فتابع معي :
لم يزر لياليها ...ولم يقبّلها ....لم تكتحل ......تثاءبت ....تكسرت ...
نقل لنا الشاعر بكلماته ظلامًا وصحراء ، وجعل الحرمان من قبلات المطر نصيب هذه المرأة الخواء ، وتتبدى لنا المأساة في عمقها أو قمتها – سيان - ، فلا شيء هناك وراء ليل الاغتراب ، ولا انتظار لأي أمل ، ولا لبصيص نور أو لقبلة تبعث الحياة في هذا الموات .
تتشابك لغة القصيدة ودلالتها في احتدام متشيئ في بنية حكائية تسائل وتتأمل وتغضب وتثير إلى درجة استقراء القصيدة مرة تلو الأخرى ، وفي كل قراءة تتبدى معالم على حافة العدم واليباب أو - على النقيض تمامًا - دعوة للتغيير .
نقرب الكاميرا إلى الموقع : فالرمال تتثاءب ، والحجر ينتحر ، وقوافل الرحيل توقفت ، فلا مفر ولا مفر ، وكل شيء غدا وهمًا واستحالة .
ها هي أجنحة المسافرين وأحلامهم تتكسر ، وتضيع رؤى الغد ، وتنتحر الرياح على ضفاف شمس المدى – هذه الشمس التي لا تُطلع الصباح . فالصباح لا يطل ، بعد أن نهشت أنياب الليل الخطى . و الخطى تموت ( لاحظ كثافة الاستعارات وتلاحقها ) ، وتولد خطى أخرى ، ولكن الأيام في حركة هروب متواصل ، فهي تهرب من القيود التي كبلتها ، ومن صديد هذه القيود التي ولدتها الفاجعة .
صور قاتمة تعبر عنها الأفعال والأسماء وكثافة الاستعارة – كما ذكرت – فالأفعال : لم يزر ...تثاءبت ...تكسرت ...تنتحر ...نهشت ...تموت ، والأسماء : كهلة ...أشجان ...اغتراب ...رمال ...صحراء ..أنياب ..صديد ...قيد ...الجراح ...إلخ كله هذه معًا تضفي هذا الجو الأسيان الطاغي .
في المقطوعة الأولى من القصيدة كادت الصورة تكون جنسية قاصرة عن الوصول ، فالكهلة حرمت من القبلة ومن انتظار الفارس – الذي قد يطفئ بعض الجمر من أشجانها ، والذي يخلصها من ليل الاغتراب ، وتظل صورة الخصب المفقودة محورًا نتعاطف معها بقدر ما نتألم لها .
في المقطوعة الثانية نجد وصفًا لهذه الصحراء ولحالة الخواء المستبدة ، في غمرة التثاؤب والهلاك ، فحتى الحجر ينعدم في جحيم الصحراء - حيث لا مفر ، ومرة أخرى لا مفر .
أما المقطوعة الثالثة ففيها انتقال إلى المدى وإلى الحلم الذي هو كالتيه ليلَ نهار . وقد تكسرت الرؤى والأحلام ، وها هي الرياح ( تعبيرًا عن الأمل والتغيير ) تنتحر على ضفاف شمس حارقة . وكذلك فإن الليل تنهش أنيابه الخطوات وعلى طول المدى . ولا يطل الصباح في هذا الانثيال المأساوي - الصباح الذي يرمز - كما هو مفروض - للإشراق والصفاء والبداية ، ولكن هيهات !
ونصل إلى خلاصة القصيدة في المقطوعة الأخيرة ، حيث نجد الخطى كلها في حركة موت وهروب وقيود وجراح متوالية .
هذا النموذج الشعري لا يمثل – كذلك - مألوفية شعر لطفي زغلول ، حيث نجد نغمة التفاؤل المباشر في خواتيم القصائد ، نحو :
الليل مهما طال ليل الساهرين
بعده النهار
وحين يروي عطش التراب
ينتصر الجرحُ على الحراب
فلم تزل تحت الرماد نار
( مدار النار والنوار ، ص 38 )
وبرغم هذا الأسى الذي يشع في اليأس والشجا الذي يبعث الشجا ، ففي تصوري أن القصيدة تحمل تفاؤلا آخر ، تفاؤلاً يضع الإنسان وجهًا لوجه أمام صحراء الواقع ، وخواء الحقيقة ، إنه نوع من البناء في الندب فوق الركام ، وكلما ازداد الغضب والألم الممض تكون إشارة وإلماع فيما وراء النص : لا بد من جو آخر وحقيقة أخرى . تشي القصيدة بذلك إيحاء ولمحًا دون أن تصرح وتصرخ .
يقول علي جعفر العلاق في مثل هذا المنحى : " إن الشعر هنا يلتهم الواقع ويغور وراء قشرته الظاهرية اللامعة بحثًا عن الجوهر الحي الراجف للحياة والإنسان والوجود " ويواصل العلاق مقولته متكئًا على ستيفن سبندر :
" لا شك أن هذه الرؤيا المتحركة لا تستسلم للعادة ولا يخدعها سطح الحياة البراني المألوف ، بل تظل مأخوذة بالخفي والكامن من معناها ، ودلالتها المدهشة ، وهذا هو امتياز الشعر "( العلاق : في حداثة النص الشعري ، دار الشروق ، عمان – 2003 ، ص 33 ) ويستطيع القارئ أن يترجم نص الشاعر إلى مثل هذه الرؤى الطموحة في استشفاف الشعر .
أما من حيث الشكل الذي يتلاحم - أو على الأقل ينعكس في القصيدة - فإننا نلحظ تموسق القصيدة في إيقاع النص عبر تكرارية ألفاظ مختلفة - كلها تؤكد هذا المضمون القاتم ، نحو :
لم يزر ...ولم يقبلها ....ولم تكتحل ..
أو : هذا المدى ...وبعده كل مدى
هنا هناك .... لا مفر لا مفر
وتكرار ( المدى ) ، ( خطى ) ، ( جراح ) فيه وجع الترديد الذي لا ينثني عن بيان تلو بيان ، لكسب المتلقي إلى دائرة المشاركة .والتكرار – كما نلاحظ – سمة بارزة من معالم الشعر الحديث ، وهو إذا وظف كان مبعثًا للدرامية ولتواصل النسق المعبَّر عنه .
تبدأ القصيدة بماضوية زمنية ، وكأن الراوي الشاعر يقدم تقريرًا عما كان ، لكنه ألفى نفسه ينتقل إلى المضارعة ليعني أن استمرار الحالة واستشرافها هما المنظور أو المآل .
وتساهم الراء الساكنة في بدايات السرد لتضفي شيئًا من التوتر ، حتى إذا وصل إلى ( لا مفر ، لا مفر ) أطلت قافية صوتية أخرى تحمل هي الأخرى قافية مقيدة : رياحْ ، صباحْ ، جراحْ ، ولكن الحاء تتصل بأعماق المخارج الصوتية ، وكأنها ولولة على حزن .
كانت هذه القراءة تحاول أن تستكشف جمالية النص من خلال تأويل له علاقة بالذات الفلسطينية أو الفردية أو حتى العامة ، فبنية العمل الأدبي وبنية الإدراك هما اللذان يخلقان المعنى عادة ، والفهم لا يتحقق إلا بطرح الأسئلة والاستمرار في طرحها بما يدعو إلى إعادة القراءة ، وحتى يكون ما أسماه آيزر " أفق الانتظار " – بمعنى أن العمل الأدبي يسعى باستمرار إلى مخالفة المعايير التي نحملها في موضوع ما ، وعملية الاختلاف تنتج معنى جماليًا ، ذلك لأنها تتم من خلال الذات المتلقية أيضًا ، وعليه فإن ياوس يرى أن عملية فهم النص تكون بتدوين فعل أفق الانتظار الذي يطل علينا إثر كل قراءة . ( للتوسع راجع - ناظم خضر : الأصول المعرفية لنظرية التلقي ، دار الشروق ، عمان – 1997 ، ص 152 – 154 . )
ولعل النص الذي يروعك - هو ذلك الذي يدعوك للعودة إليه مرة بعد المرة ليكون ثمة أفق انتظار وتوقعات ، وليكون بحث عن المستجد ، وفهم آخر للنص ، سواء بتكرار جو الإحباط – كما يشيع في ملامحها – أو في تحفيز التفاؤل من خلال دفعه ليخرج من اختناقه ومن صحرائه .
للشاعر لطفي زغلول
بقلم : د . فاروق مواسي
القصيدة :
هذا المدى
هذا المدى
صحراءُ ...لم يزرْ لياليها القمرْ
كادتْ تصيرُ كهلـةً
ولم يُقبّلها المطــرْ
لم تكتحلْ عيونــُها
بفارسٍ ينزل في أحضانها
يطفئ بعضَ الجمــرِ في أشجانها
لا شيءَ ..ما وراءَ ليلِ الاغترابِ ..
منتظرْ
تثاءبتْ رمالُهــا من الضجــرْ
وفي جحيــمِـها الحجـَرْ
على عنادهِ انتــحرْ
صحراءُ حطّتْ عندها
قوافــلُ الرحـيـلْ
كل اتــجاهٍ بعدَ هذا الشــطّ
مستحيــلْ
هذا المدى ...وبعده كلُّ مــدى
وهم ومستحيـــلْ
هنا هناك ... لا مفرَّ لا مفرّْ
هذا المــدى
تكسّرتْ في تيهــِهِ
أجنحـــةُ المسافريــنَ في الرّؤى
إلى غــدٍ ...على ضفافِ شمسِــهِ
تنتحرُ الرّيــاحْ
وبعدَ ليــلٍ نهــشَــتْ أنيابُــهُ
الخُطـــى على طول المـــدى
لم يولَدِ الصبـــاحْ
خطًــى تموتُ ...
وخطًــى تولَدُ في المجهـــولْ
قد تهربُ الأيـــامُ من أيامـــها
ومن صديدِ قيدِهـــا
تنتفضُ الفصـــولْ
ولم تزلْ تشربُ من ...
جراحِــها الجـــِراحْ
لطفي زغلول : مدار النار والنوار ، نابلس – 2003 ، ص 39 - 40
القراءة :
قصيدة مميزة لشاعر مكثر في نتاجه ، ومعروف في مثابرته . تتسم كتبه – عامة - بالمباشرة الواعية ، فهو مدرك أهمية التوصيل للقارئ العادي ، ومن حق النقد أن يتوقف على قصيدة له مختلفة ، لعل فيها ما يشي بأسلوب آخر للشاعر ولأنفاسه ، خاصة إذا أعاد القارئ فهم العمل الأدبي من خلال استشفاف بؤرة النص ، ومن ثم توزيع الخطوط أو الخيوط في استيعاب البنية الخاصة في هذا النص .
القصيدة فيها نفس قصصي وإبداعات تتكئ على توزيع الصور لموقف أو لحالة ، والنفس القصصي من شأنه أن يرسل الدرامية مشحونة في أفعال حركية – هي السبيل إلى بدء السرد والاستمرار فيه : ، فتابع معي :
لم يزر لياليها ...ولم يقبّلها ....لم تكتحل ......تثاءبت ....تكسرت ...
نقل لنا الشاعر بكلماته ظلامًا وصحراء ، وجعل الحرمان من قبلات المطر نصيب هذه المرأة الخواء ، وتتبدى لنا المأساة في عمقها أو قمتها – سيان - ، فلا شيء هناك وراء ليل الاغتراب ، ولا انتظار لأي أمل ، ولا لبصيص نور أو لقبلة تبعث الحياة في هذا الموات .
تتشابك لغة القصيدة ودلالتها في احتدام متشيئ في بنية حكائية تسائل وتتأمل وتغضب وتثير إلى درجة استقراء القصيدة مرة تلو الأخرى ، وفي كل قراءة تتبدى معالم على حافة العدم واليباب أو - على النقيض تمامًا - دعوة للتغيير .
نقرب الكاميرا إلى الموقع : فالرمال تتثاءب ، والحجر ينتحر ، وقوافل الرحيل توقفت ، فلا مفر ولا مفر ، وكل شيء غدا وهمًا واستحالة .
ها هي أجنحة المسافرين وأحلامهم تتكسر ، وتضيع رؤى الغد ، وتنتحر الرياح على ضفاف شمس المدى – هذه الشمس التي لا تُطلع الصباح . فالصباح لا يطل ، بعد أن نهشت أنياب الليل الخطى . و الخطى تموت ( لاحظ كثافة الاستعارات وتلاحقها ) ، وتولد خطى أخرى ، ولكن الأيام في حركة هروب متواصل ، فهي تهرب من القيود التي كبلتها ، ومن صديد هذه القيود التي ولدتها الفاجعة .
صور قاتمة تعبر عنها الأفعال والأسماء وكثافة الاستعارة – كما ذكرت – فالأفعال : لم يزر ...تثاءبت ...تكسرت ...تنتحر ...نهشت ...تموت ، والأسماء : كهلة ...أشجان ...اغتراب ...رمال ...صحراء ..أنياب ..صديد ...قيد ...الجراح ...إلخ كله هذه معًا تضفي هذا الجو الأسيان الطاغي .
في المقطوعة الأولى من القصيدة كادت الصورة تكون جنسية قاصرة عن الوصول ، فالكهلة حرمت من القبلة ومن انتظار الفارس – الذي قد يطفئ بعض الجمر من أشجانها ، والذي يخلصها من ليل الاغتراب ، وتظل صورة الخصب المفقودة محورًا نتعاطف معها بقدر ما نتألم لها .
في المقطوعة الثانية نجد وصفًا لهذه الصحراء ولحالة الخواء المستبدة ، في غمرة التثاؤب والهلاك ، فحتى الحجر ينعدم في جحيم الصحراء - حيث لا مفر ، ومرة أخرى لا مفر .
أما المقطوعة الثالثة ففيها انتقال إلى المدى وإلى الحلم الذي هو كالتيه ليلَ نهار . وقد تكسرت الرؤى والأحلام ، وها هي الرياح ( تعبيرًا عن الأمل والتغيير ) تنتحر على ضفاف شمس حارقة . وكذلك فإن الليل تنهش أنيابه الخطوات وعلى طول المدى . ولا يطل الصباح في هذا الانثيال المأساوي - الصباح الذي يرمز - كما هو مفروض - للإشراق والصفاء والبداية ، ولكن هيهات !
ونصل إلى خلاصة القصيدة في المقطوعة الأخيرة ، حيث نجد الخطى كلها في حركة موت وهروب وقيود وجراح متوالية .
هذا النموذج الشعري لا يمثل – كذلك - مألوفية شعر لطفي زغلول ، حيث نجد نغمة التفاؤل المباشر في خواتيم القصائد ، نحو :
الليل مهما طال ليل الساهرين
بعده النهار
وحين يروي عطش التراب
ينتصر الجرحُ على الحراب
فلم تزل تحت الرماد نار
( مدار النار والنوار ، ص 38 )
وبرغم هذا الأسى الذي يشع في اليأس والشجا الذي يبعث الشجا ، ففي تصوري أن القصيدة تحمل تفاؤلا آخر ، تفاؤلاً يضع الإنسان وجهًا لوجه أمام صحراء الواقع ، وخواء الحقيقة ، إنه نوع من البناء في الندب فوق الركام ، وكلما ازداد الغضب والألم الممض تكون إشارة وإلماع فيما وراء النص : لا بد من جو آخر وحقيقة أخرى . تشي القصيدة بذلك إيحاء ولمحًا دون أن تصرح وتصرخ .
يقول علي جعفر العلاق في مثل هذا المنحى : " إن الشعر هنا يلتهم الواقع ويغور وراء قشرته الظاهرية اللامعة بحثًا عن الجوهر الحي الراجف للحياة والإنسان والوجود " ويواصل العلاق مقولته متكئًا على ستيفن سبندر :
" لا شك أن هذه الرؤيا المتحركة لا تستسلم للعادة ولا يخدعها سطح الحياة البراني المألوف ، بل تظل مأخوذة بالخفي والكامن من معناها ، ودلالتها المدهشة ، وهذا هو امتياز الشعر "( العلاق : في حداثة النص الشعري ، دار الشروق ، عمان – 2003 ، ص 33 ) ويستطيع القارئ أن يترجم نص الشاعر إلى مثل هذه الرؤى الطموحة في استشفاف الشعر .
أما من حيث الشكل الذي يتلاحم - أو على الأقل ينعكس في القصيدة - فإننا نلحظ تموسق القصيدة في إيقاع النص عبر تكرارية ألفاظ مختلفة - كلها تؤكد هذا المضمون القاتم ، نحو :
لم يزر ...ولم يقبلها ....ولم تكتحل ..
أو : هذا المدى ...وبعده كل مدى
هنا هناك .... لا مفر لا مفر
وتكرار ( المدى ) ، ( خطى ) ، ( جراح ) فيه وجع الترديد الذي لا ينثني عن بيان تلو بيان ، لكسب المتلقي إلى دائرة المشاركة .والتكرار – كما نلاحظ – سمة بارزة من معالم الشعر الحديث ، وهو إذا وظف كان مبعثًا للدرامية ولتواصل النسق المعبَّر عنه .
تبدأ القصيدة بماضوية زمنية ، وكأن الراوي الشاعر يقدم تقريرًا عما كان ، لكنه ألفى نفسه ينتقل إلى المضارعة ليعني أن استمرار الحالة واستشرافها هما المنظور أو المآل .
وتساهم الراء الساكنة في بدايات السرد لتضفي شيئًا من التوتر ، حتى إذا وصل إلى ( لا مفر ، لا مفر ) أطلت قافية صوتية أخرى تحمل هي الأخرى قافية مقيدة : رياحْ ، صباحْ ، جراحْ ، ولكن الحاء تتصل بأعماق المخارج الصوتية ، وكأنها ولولة على حزن .
كانت هذه القراءة تحاول أن تستكشف جمالية النص من خلال تأويل له علاقة بالذات الفلسطينية أو الفردية أو حتى العامة ، فبنية العمل الأدبي وبنية الإدراك هما اللذان يخلقان المعنى عادة ، والفهم لا يتحقق إلا بطرح الأسئلة والاستمرار في طرحها بما يدعو إلى إعادة القراءة ، وحتى يكون ما أسماه آيزر " أفق الانتظار " – بمعنى أن العمل الأدبي يسعى باستمرار إلى مخالفة المعايير التي نحملها في موضوع ما ، وعملية الاختلاف تنتج معنى جماليًا ، ذلك لأنها تتم من خلال الذات المتلقية أيضًا ، وعليه فإن ياوس يرى أن عملية فهم النص تكون بتدوين فعل أفق الانتظار الذي يطل علينا إثر كل قراءة . ( للتوسع راجع - ناظم خضر : الأصول المعرفية لنظرية التلقي ، دار الشروق ، عمان – 1997 ، ص 152 – 154 . )
ولعل النص الذي يروعك - هو ذلك الذي يدعوك للعودة إليه مرة بعد المرة ليكون ثمة أفق انتظار وتوقعات ، وليكون بحث عن المستجد ، وفهم آخر للنص ، سواء بتكرار جو الإحباط – كما يشيع في ملامحها – أو في تحفيز التفاؤل من خلال دفعه ليخرج من اختناقه ومن صحرائه .
تعليق