[align=center]
الغربة والحنين في حب صقلية ؛ للشاعر ابن حمديس الصقليّ :
[frame="7 80"][align=center](لأول مرة في عالم الشابكة)[/align][/frame]
يرتبط الحنين ارتباطا وثيقا بالغربة في الشعر العربي ، فعندما يبتعد الإنسان عن مكان ما، يشعر بحنين إليه، ويشتاق لكل ما فيه…
وهذا ما حصل مع شاعرنا ابن حمديس الذي فجر سنين غربته بأشعار ينضح فيها الحب والحنين.
ظل مغتربا طوال حياته ، لم يتخذ لنفسه وطنا على الرغم من طول بعده عنه ... إنه شاعر الاغتراب والحنين الدائم إلى الوطن (عبد الجبار بن حمديس الصقلي ) .
تلقى ابن حمديس ضياع الوطن تلقياً يتفق مع نفسيته ؛ فقد اجتمعت عوامل كثيرة على أن تحرم ابن حمديس كل عزاء بعد ما غلبه اليأس من العودة إلى وطنه الأم .
ويبكي الشاعر ابن حمديس ما أصاب شعبه وبلاده بعد اغتصاب أرضه من قبل العدو النورماندي ، فهوى وطنه بين ليلة وضحاها، وتفرق الناس كل في مكان، وأصبح مأواهم العراء والخيام البالية، ومرت السنوات وتلتها الأعوام وهم في الغربة، والوطن ينتظر الغياب ولكن لا حياة لمن تنادي، فأصبحوا ذكرى تمر في البال كلما ذرفت العين مدامعها.
ولد شاعرنا عام 1055م من أصل عربي ، وكان مولده في مدينة سرقوسة الواقعة على الساحل الشرقي من جزيرة صقلية الايطالية ، وقد كانت آنذاك عربية خالصة !!
وبداية نلقي الضوء على حياة هذا الشاعر المنكوب الحزين ..
فمن هو ابن حمديس !!؟
ابن حَمْدِيس (00-527ه 00-1133م) :
عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي، أبو محمد: شاعر مبدع. ولد وتعلم ف بجزيرة صقلية، ورحل إلى الأندلس سنة 471هـ ، فمدح المعتمد بن عباد، فأجزل له عطاياه. وانتقل إلى أفريقية سنة 484هـ ، فمدح صاحبها يحيى بن تميم الصنهاجي، ثم ابنه علياً، فابنه الحسن، سنة 516هـ .
وتوفى بجزيرة ميورقة، عن نحو 80 عاماً.
وله "ديوان شعري مطبوع مشهور" .
أربعة وعشرون عاماً في صقلية - تلك هي كل الفترة التي عاشها ابن حمديس في وطنه، على التحقيق، أما إذا شئنا المجاز قلنا إنه عاش كل حياته في ذلك الوطن - أي في ظل الأعوام التي وعي ذكرياتها وأحداثها. وقد كانت تلك السنون هي عصر الشباب، وفي ذلك العهد تكونت النواة الأولى لشاعريته فشعره في صقلية إبان الصبا هو شعر الفارس المحارب الذي يلتفت إلى آلات الحرب والسفن الحربية ويعتز بالقوة ويحب فيكون حبه عارماً وشهواته فاتكة، ويتردد بين عنف الحرب، ورقة الحب. وهذا ما نلمسه في قصيدة له من ذلك العهد مطلعها :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/23.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ليَ قلب من جامد الصخر أقسى = وهو من رقة الـنـسـيم أرق[/poem]
وفي القصائد التي كانت في عهد الرجاء نجده يفتخر بقومه "بني الثغر" الذين يغذي فطيمهم من حلب الأوداج، ويثنى على شجاعتهم وحربهم للروم في البر والبحر، ونكاية سفنهم ونفطها المحرق في أعدائهم، ويقر لعدوه بالقوة شأن الفارس الذي لا يفخر فخراً كاذباً:
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/24.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ومتخذي قمص الحديد مـلابـسـاً = إذا نكل الأبطال في الحرب اقدموا
كأنهم خاضـوا سـرابـاً بـقـعة = ترى للدبا فيها عيونـاً عـلـيهـم
صبرنا بهم صبر الكرام ولم يسـغ = لنا الشهد غلا بعد ما ساغ علـقـم [/poem]
وفي كل قصيدة من هذه القصائد "خاتمة حنين" إلى الوطن هي اضعف في القصيدة من حيث النفسية:
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/25.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أحن إلى أرضى التي في ترابها = مفاصلُ من أهلي بلين وأعظـمُ
كما حن في قيد الدجى بمضـلة = إلى وطن عوْدٌ من الشوق يرزمُ[/poem]
ولم يكن حال العرب في صقلية ينبئ بخير في منتصف القرن الحادي عشر والأعوام التالية ، فقد سقطت مدن الجزيرة كلها في أيدي النورمان في عام 1092 ، أي بعد ولادة ابن حمديس بسبع وثلاثين سنة ، وكان سكان الجزيرة من العرب قد انقسموا إلى فريقين : منهم من انتظم في صفوف اتخذها النازحون أوطانا جديدة ، أما ابن حمديس فقد يمم شطر الأندلس ، فذهب إلى إشبيلية تحديدا ، وكانت الأندلس آنذاك مجزأة يحكمها ملوك الطوائف ، وكان حاكم اشبيلية (المعتمد بن عباد) ، وهو رجل تمثل في شخصه رجل السياسة والشاعر والأديب ، ولم يكن غريبا
– والحال كذلك- أن يزدحم قصره بشعراء ذلك العصر وأدبائه ، وحسبنا أن نذكر منهم ابن زيدون ، والحجاج ، وابن وهبون ..
سعد ابن حمديس بالحياة في اشبيلية ، وتكونت له صحبة من الشعراء ممن كان يعج بهم بلاط المعتمد ، وقد وجد ابن حمديس في ذلك كله امتدادا لحياة رغيدة كان يحياها في وطنه – صقلية- بعد أن ارتضى العيش في كنف المعتمد ، فأحبه ، وامتدحه ، وعدد مآثره ، وأثنى على جهاده وشجاعته ، ووجد فيه رجل الدولة ، الذي تمنى أن يقترن به اسمه ، أما اشبيلية ، فلم تكن لتقل عن جمالها ، وطبيعتها الساحرة ، وحضارتها عن مدينته ، التي ولد فيها سرقوسة ، فلئن توافرت له مثل هذه الظروف ، فقد أوشك أن يطمئن إلى وطن بديل ، لم يكن من شأن الأيام الجميلة أن تدوم ، فلقد فاجأت الشاعر أحداث جسام تغير معها وجه الدنيا ، وتغيرت معها أيضاً نظرته إلى الحياة والناس ، فالأخبار الواردة من صقلية تنبئ بأن المقاومة قد بدأت تضعف على الرغم من البسالة التي أبداها المدافعون عن الجزيرة بقيادة (ابن عبد الصقلي) ، وأن احتمال استيلاء النورمان على بلاده بات مرجحا ، ولكن القائد ابن عباد غرق في إحدى المعارك البحرية ، وسقطت صقلية ، فتجرع ابن حمديس بسقوطها كأسا ظل يستشعر مرارتها على مر الأيام .وإن سقوط صقلية بعد إخفاق الأمير ابن عباد في سرقوسة ونوطس ووقوع الجزيرة في يد النورمان خلق ابن حمديس خلقاً جديداً، ولم تستطع تلك الهجرة أن تنسيه صقلية، فظل يحن إليها طوال حياته، إلى أن حانت وفاته بعيدا مهجرا .
كان ابن حمديس سرقوسي الأصل، وربما لم يكن يزيد عمره، حين سقطت بلرم، عن سبعة عشر عاماً. وفي هذه السن الباكرة شهد صقلية تضيع من أيدي المسلمين بلداً آخر، وشهد ما هو أبعد اثراً من ذلك في نفسه، فقد حضر طرفاً من وقفة وطنه وعناده للنورمان مع ابن عباد، واشترك هو نفسه في الدفاع عن ذلك الوطن، فهو يحدثنا عن المعارك البحرية التي كان يخوضها أهل بلده فيقول في إغراقهم لسفن الأعداء :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/47.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
صَببنا عليها ضربنا من صَوَارم = فغاضت بها من أسرها القلب أنفس
ونحن بنو الثغر الذين سيوفهمْ = ذكورٌ بأبكار المنايا تعرسُ
فمن عزمنا هنديةُ الضرب تنتضى = ومن زَندنا ناريةُ البأس تقبسُ[/poem]
اتضح ذلك في شعره وضوحاً بيناً ، فهو لا يكف عن ذكر الوطن أيا كانت المناسبة التي يتحدث فيها ، والأبيات التالية – وهي من قصيدة نظمها وهو مشرف على الستين من عمره- دليل على ذلك الحنين والوجد الخالدين :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/43.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قضت في الصبا النفس أوطارها = وأبلغها الشيب أنــــــذارها
نعم وأجيلت قـــــــداح الهــــوى = عليها فقسّمن أعـــــشارها
وما غرس الدهـــــــــر في تربة = غراسا ولم يجــــن أثمارها
ذكرت صقــــــــلية والأســـــــى = يهيج للنفــــس تــــذكارها
ومنزلة للتصابــــــي خلـــــــــت = وكان بنو الظرف عمارها
ولولا ملوحــــة مــــــاء البكـــا = حسبت دموعي أنهارهـــا
فلا تعظمــــــن لديـــــك الذنوب = فما زال ربك غـفـــــارها[/poem]
يقول الدكتور (إحسان عباس)في كتابه : ( العرب في صقلية ) :
[ وفي هذه القصيدة يريد ابن حمديس أن يجمع أمامنا أجزاء ذكريات قديمة ، فليس من الغريب إذا جمعها مبعثره ، لأن ذاكرته تقفز من منظر إلى آخر ، وإنما يوحد بين هذه المناظر أنها مستمدة من الماضي ومن صقلية] .
فهي من وحي الذاكرة ، أو من تداعيات الماضي ، ومن شأن هذه التداعيات أن تقف عند كل تذكار وقفة تطول ، أو تقصر ، وقفة تنفث فيه حياة بما تحشد له من صور موحية نابضة .
فلا بأس إذاً من تعدد الوقفات ، فالشاعر يهدف من ورائها إلى رسم صورة عامة لمغاني الشباب ومجالس الأنس في وطن غابت عن ناظره محاسنه ، ولم يعد له أمل في أن تحضن عيناه ربوعه ومجاليه ، فالراجح أن ابن حمديس ، وقد نظم هذه القصيدة ، وهو مشرف على الستين ، وكان قد ترك الخمر من جملة ما ترك من متع الشباب ، وفي ذلك يقول :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/46.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فرغت من الشباب فلست أرنو = إلى لهو فيشغلني الرحيـــق
ولا أنا في صقليـــــة غلامــــا = فتلزمني لكل هوى حقـــوق
ليالي تعمل الأفـــراح كأســــي = فمالي غير ريق الكأس ريق
تجنبت الغــــواية عن رشــــاد = كما يتجنب الكذب الصــدوق
وإن كانت صبابات التصابـــي = يلوح لها على كلمي بـروق[/poem]
هي إذا حنين طاغ ٍ إلى شباب ضائع ، ووطن مفقود ، وذكريات تجمع بينهما على بعد العهد ، على أن ابن حمديس يصر مؤكدا على أن ما ورد في القصيدة إن هو إلا (صبابات التصابي ) وإن لاحت على الكلام بروق !!
لقد بلغت النفس في الصبا أوطارها ، وما أن دب الشيب في شعر الرأس منذرا بالكبر حتى ألقى السلاح ، وأعد للسلم العدة ، فإذا كانت الشيخوخة قد حرمته من تلك الملاذ ، فلا عليه ان هو تمثلها في الذكرى ، يقول :
(كنا إذا جلسنا في مجلس اللهو تدور بنا ساقية ، وقد خضبت كفيها بالحناء ، وبيدها الشراب ، فكأنها تغمس فيه ناراً !!!
ولا يقوم المجلس إلا بالأصدقاء ، وهم فتيان صدق ، تكاد الكؤوس في أيديهم تفيض نورا تبدد به ظلام الليل ، وقد كاد الحباب المتكاثر عند ارتشافها ينسج شباكا تحول بين الفقاعات ، وبين أن تفلت أو تطير !!
تلك صورة من صور اللهو أيام كنا ننعم بالشباب ، ونتفيأ ظلال الوطن ، وكنا نستمع في تلك المجالس إلى المغنيات ، وهن يداعبن الأوتار ، ونشهد الراقصة إذ تلتقط حركة ساقها نقرة الطائر ، فتهتز على وقعها في تبادل رشيق بين الحركة والنغم ..
وانظر إلى قضب الشمع الصفراء التي تتقد رؤوسها ، فتحيل النار نورا ، بل هي ترفع الظلام ، على أن لهذه الشموع آجالا ، فما أن نوقدها حتى نسلط آجالها عليها لتمحق أعمارها) :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/47.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ذكرت صقــــــــلية والأســـــــى = يهيج للنفــــس تــــذكارها
ومنزلة للتصابــــــي خلـــــــــت = وكان بنو الظرف عمارها
فإن كنت أخرجــت من جنــــــة = فإنــــي أحــــدث أخبـارها[/poem]
ويتطلع في حسرة إلى المعاهد والديار، وبعد أن كان يتحدى الكون، تحدته شعلة الحنين في صدره فإذا به يبكي كالضعيف:
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/49.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ألا في ضمان الله دارٌ بنـوطـس = ودرت عليها معصرات الهواضب
أمثلها في خاطري كـل سـاعة = وأمري لها قطر الدموع السواكب
أحن حنين (1)النيب للموطن الـذي = مغاني غوانـيه إلـيه جـواذبـي
ومن سار عن أرض ثوى قلبهُ بها = تمنى له بـالـجـسـم أوبة آيب [/poem]
وفي كل تحية وداع أو خاتمة قصيدة يغلب الحزن ذلك الرجل القوي فتتساقط الدموع من عينيه.
ومن كل ما تقدم نم وصف تلك الليلة البديعة قد هيجته ذكرى صقلية ، فأيقظت في نفسه أدق التفاصيل ، وأعذب الذكريات ، ولكن أين هو من كل ذلك !..
لقد أخرج – مثل آدم- من تلك الجنة ، ولم يبق لديه إلا أن يحدث أخبارها .
ولا يعاني الشوق إلا من يكابده، ولا يشعر بالغربة والحنين إلا من يعايشها وتجّرع لحظاتها، ولا يحس بالألم إلا من تذوق مرّ ضرباته وطعناته، لذلك لن يشعر أحد بما يقاسيه شعراء الأندلس الفردوس المفقود وأبناء فلسطين الجريحة هم صورة أخرى من غربة الشعراء عن أهلهم ووطنهم المغتصب الجريح ، وهم جمعا يعانون الغربة والحنين بعد نكبتهم.
لقد قدمت لكم بعضا من صور الغربة والحنين، ولكن يبقى ما خفي أكبر وأعظم، فمع كل لحظة تكبر الغربة وتزداد أنات الحنين، فالوطن ما يزال مسلوبا، والساعات تسير وتسير.[/align]
الغربة والحنين في حب صقلية ؛ للشاعر ابن حمديس الصقليّ :
[frame="7 80"][align=center](لأول مرة في عالم الشابكة)[/align][/frame]
يرتبط الحنين ارتباطا وثيقا بالغربة في الشعر العربي ، فعندما يبتعد الإنسان عن مكان ما، يشعر بحنين إليه، ويشتاق لكل ما فيه…
وهذا ما حصل مع شاعرنا ابن حمديس الذي فجر سنين غربته بأشعار ينضح فيها الحب والحنين.
ظل مغتربا طوال حياته ، لم يتخذ لنفسه وطنا على الرغم من طول بعده عنه ... إنه شاعر الاغتراب والحنين الدائم إلى الوطن (عبد الجبار بن حمديس الصقلي ) .
تلقى ابن حمديس ضياع الوطن تلقياً يتفق مع نفسيته ؛ فقد اجتمعت عوامل كثيرة على أن تحرم ابن حمديس كل عزاء بعد ما غلبه اليأس من العودة إلى وطنه الأم .
ويبكي الشاعر ابن حمديس ما أصاب شعبه وبلاده بعد اغتصاب أرضه من قبل العدو النورماندي ، فهوى وطنه بين ليلة وضحاها، وتفرق الناس كل في مكان، وأصبح مأواهم العراء والخيام البالية، ومرت السنوات وتلتها الأعوام وهم في الغربة، والوطن ينتظر الغياب ولكن لا حياة لمن تنادي، فأصبحوا ذكرى تمر في البال كلما ذرفت العين مدامعها.
ولد شاعرنا عام 1055م من أصل عربي ، وكان مولده في مدينة سرقوسة الواقعة على الساحل الشرقي من جزيرة صقلية الايطالية ، وقد كانت آنذاك عربية خالصة !!
وبداية نلقي الضوء على حياة هذا الشاعر المنكوب الحزين ..
فمن هو ابن حمديس !!؟
ابن حَمْدِيس (00-527ه 00-1133م) :
عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي، أبو محمد: شاعر مبدع. ولد وتعلم ف بجزيرة صقلية، ورحل إلى الأندلس سنة 471هـ ، فمدح المعتمد بن عباد، فأجزل له عطاياه. وانتقل إلى أفريقية سنة 484هـ ، فمدح صاحبها يحيى بن تميم الصنهاجي، ثم ابنه علياً، فابنه الحسن، سنة 516هـ .
وتوفى بجزيرة ميورقة، عن نحو 80 عاماً.
وله "ديوان شعري مطبوع مشهور" .
أربعة وعشرون عاماً في صقلية - تلك هي كل الفترة التي عاشها ابن حمديس في وطنه، على التحقيق، أما إذا شئنا المجاز قلنا إنه عاش كل حياته في ذلك الوطن - أي في ظل الأعوام التي وعي ذكرياتها وأحداثها. وقد كانت تلك السنون هي عصر الشباب، وفي ذلك العهد تكونت النواة الأولى لشاعريته فشعره في صقلية إبان الصبا هو شعر الفارس المحارب الذي يلتفت إلى آلات الحرب والسفن الحربية ويعتز بالقوة ويحب فيكون حبه عارماً وشهواته فاتكة، ويتردد بين عنف الحرب، ورقة الحب. وهذا ما نلمسه في قصيدة له من ذلك العهد مطلعها :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/23.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ليَ قلب من جامد الصخر أقسى = وهو من رقة الـنـسـيم أرق[/poem]
وفي القصائد التي كانت في عهد الرجاء نجده يفتخر بقومه "بني الثغر" الذين يغذي فطيمهم من حلب الأوداج، ويثنى على شجاعتهم وحربهم للروم في البر والبحر، ونكاية سفنهم ونفطها المحرق في أعدائهم، ويقر لعدوه بالقوة شأن الفارس الذي لا يفخر فخراً كاذباً:
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/24.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ومتخذي قمص الحديد مـلابـسـاً = إذا نكل الأبطال في الحرب اقدموا
كأنهم خاضـوا سـرابـاً بـقـعة = ترى للدبا فيها عيونـاً عـلـيهـم
صبرنا بهم صبر الكرام ولم يسـغ = لنا الشهد غلا بعد ما ساغ علـقـم [/poem]
وفي كل قصيدة من هذه القصائد "خاتمة حنين" إلى الوطن هي اضعف في القصيدة من حيث النفسية:
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/25.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أحن إلى أرضى التي في ترابها = مفاصلُ من أهلي بلين وأعظـمُ
كما حن في قيد الدجى بمضـلة = إلى وطن عوْدٌ من الشوق يرزمُ[/poem]
ولم يكن حال العرب في صقلية ينبئ بخير في منتصف القرن الحادي عشر والأعوام التالية ، فقد سقطت مدن الجزيرة كلها في أيدي النورمان في عام 1092 ، أي بعد ولادة ابن حمديس بسبع وثلاثين سنة ، وكان سكان الجزيرة من العرب قد انقسموا إلى فريقين : منهم من انتظم في صفوف اتخذها النازحون أوطانا جديدة ، أما ابن حمديس فقد يمم شطر الأندلس ، فذهب إلى إشبيلية تحديدا ، وكانت الأندلس آنذاك مجزأة يحكمها ملوك الطوائف ، وكان حاكم اشبيلية (المعتمد بن عباد) ، وهو رجل تمثل في شخصه رجل السياسة والشاعر والأديب ، ولم يكن غريبا
– والحال كذلك- أن يزدحم قصره بشعراء ذلك العصر وأدبائه ، وحسبنا أن نذكر منهم ابن زيدون ، والحجاج ، وابن وهبون ..
سعد ابن حمديس بالحياة في اشبيلية ، وتكونت له صحبة من الشعراء ممن كان يعج بهم بلاط المعتمد ، وقد وجد ابن حمديس في ذلك كله امتدادا لحياة رغيدة كان يحياها في وطنه – صقلية- بعد أن ارتضى العيش في كنف المعتمد ، فأحبه ، وامتدحه ، وعدد مآثره ، وأثنى على جهاده وشجاعته ، ووجد فيه رجل الدولة ، الذي تمنى أن يقترن به اسمه ، أما اشبيلية ، فلم تكن لتقل عن جمالها ، وطبيعتها الساحرة ، وحضارتها عن مدينته ، التي ولد فيها سرقوسة ، فلئن توافرت له مثل هذه الظروف ، فقد أوشك أن يطمئن إلى وطن بديل ، لم يكن من شأن الأيام الجميلة أن تدوم ، فلقد فاجأت الشاعر أحداث جسام تغير معها وجه الدنيا ، وتغيرت معها أيضاً نظرته إلى الحياة والناس ، فالأخبار الواردة من صقلية تنبئ بأن المقاومة قد بدأت تضعف على الرغم من البسالة التي أبداها المدافعون عن الجزيرة بقيادة (ابن عبد الصقلي) ، وأن احتمال استيلاء النورمان على بلاده بات مرجحا ، ولكن القائد ابن عباد غرق في إحدى المعارك البحرية ، وسقطت صقلية ، فتجرع ابن حمديس بسقوطها كأسا ظل يستشعر مرارتها على مر الأيام .وإن سقوط صقلية بعد إخفاق الأمير ابن عباد في سرقوسة ونوطس ووقوع الجزيرة في يد النورمان خلق ابن حمديس خلقاً جديداً، ولم تستطع تلك الهجرة أن تنسيه صقلية، فظل يحن إليها طوال حياته، إلى أن حانت وفاته بعيدا مهجرا .
كان ابن حمديس سرقوسي الأصل، وربما لم يكن يزيد عمره، حين سقطت بلرم، عن سبعة عشر عاماً. وفي هذه السن الباكرة شهد صقلية تضيع من أيدي المسلمين بلداً آخر، وشهد ما هو أبعد اثراً من ذلك في نفسه، فقد حضر طرفاً من وقفة وطنه وعناده للنورمان مع ابن عباد، واشترك هو نفسه في الدفاع عن ذلك الوطن، فهو يحدثنا عن المعارك البحرية التي كان يخوضها أهل بلده فيقول في إغراقهم لسفن الأعداء :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/47.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
صَببنا عليها ضربنا من صَوَارم = فغاضت بها من أسرها القلب أنفس
ونحن بنو الثغر الذين سيوفهمْ = ذكورٌ بأبكار المنايا تعرسُ
فمن عزمنا هنديةُ الضرب تنتضى = ومن زَندنا ناريةُ البأس تقبسُ[/poem]
اتضح ذلك في شعره وضوحاً بيناً ، فهو لا يكف عن ذكر الوطن أيا كانت المناسبة التي يتحدث فيها ، والأبيات التالية – وهي من قصيدة نظمها وهو مشرف على الستين من عمره- دليل على ذلك الحنين والوجد الخالدين :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/43.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قضت في الصبا النفس أوطارها = وأبلغها الشيب أنــــــذارها
نعم وأجيلت قـــــــداح الهــــوى = عليها فقسّمن أعـــــشارها
وما غرس الدهـــــــــر في تربة = غراسا ولم يجــــن أثمارها
ذكرت صقــــــــلية والأســـــــى = يهيج للنفــــس تــــذكارها
ومنزلة للتصابــــــي خلـــــــــت = وكان بنو الظرف عمارها
ولولا ملوحــــة مــــــاء البكـــا = حسبت دموعي أنهارهـــا
فلا تعظمــــــن لديـــــك الذنوب = فما زال ربك غـفـــــارها[/poem]
يقول الدكتور (إحسان عباس)في كتابه : ( العرب في صقلية ) :
[ وفي هذه القصيدة يريد ابن حمديس أن يجمع أمامنا أجزاء ذكريات قديمة ، فليس من الغريب إذا جمعها مبعثره ، لأن ذاكرته تقفز من منظر إلى آخر ، وإنما يوحد بين هذه المناظر أنها مستمدة من الماضي ومن صقلية] .
فهي من وحي الذاكرة ، أو من تداعيات الماضي ، ومن شأن هذه التداعيات أن تقف عند كل تذكار وقفة تطول ، أو تقصر ، وقفة تنفث فيه حياة بما تحشد له من صور موحية نابضة .
فلا بأس إذاً من تعدد الوقفات ، فالشاعر يهدف من ورائها إلى رسم صورة عامة لمغاني الشباب ومجالس الأنس في وطن غابت عن ناظره محاسنه ، ولم يعد له أمل في أن تحضن عيناه ربوعه ومجاليه ، فالراجح أن ابن حمديس ، وقد نظم هذه القصيدة ، وهو مشرف على الستين ، وكان قد ترك الخمر من جملة ما ترك من متع الشباب ، وفي ذلك يقول :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/46.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فرغت من الشباب فلست أرنو = إلى لهو فيشغلني الرحيـــق
ولا أنا في صقليـــــة غلامــــا = فتلزمني لكل هوى حقـــوق
ليالي تعمل الأفـــراح كأســــي = فمالي غير ريق الكأس ريق
تجنبت الغــــواية عن رشــــاد = كما يتجنب الكذب الصــدوق
وإن كانت صبابات التصابـــي = يلوح لها على كلمي بـروق[/poem]
هي إذا حنين طاغ ٍ إلى شباب ضائع ، ووطن مفقود ، وذكريات تجمع بينهما على بعد العهد ، على أن ابن حمديس يصر مؤكدا على أن ما ورد في القصيدة إن هو إلا (صبابات التصابي ) وإن لاحت على الكلام بروق !!
لقد بلغت النفس في الصبا أوطارها ، وما أن دب الشيب في شعر الرأس منذرا بالكبر حتى ألقى السلاح ، وأعد للسلم العدة ، فإذا كانت الشيخوخة قد حرمته من تلك الملاذ ، فلا عليه ان هو تمثلها في الذكرى ، يقول :
(كنا إذا جلسنا في مجلس اللهو تدور بنا ساقية ، وقد خضبت كفيها بالحناء ، وبيدها الشراب ، فكأنها تغمس فيه ناراً !!!
ولا يقوم المجلس إلا بالأصدقاء ، وهم فتيان صدق ، تكاد الكؤوس في أيديهم تفيض نورا تبدد به ظلام الليل ، وقد كاد الحباب المتكاثر عند ارتشافها ينسج شباكا تحول بين الفقاعات ، وبين أن تفلت أو تطير !!
تلك صورة من صور اللهو أيام كنا ننعم بالشباب ، ونتفيأ ظلال الوطن ، وكنا نستمع في تلك المجالس إلى المغنيات ، وهن يداعبن الأوتار ، ونشهد الراقصة إذ تلتقط حركة ساقها نقرة الطائر ، فتهتز على وقعها في تبادل رشيق بين الحركة والنغم ..
وانظر إلى قضب الشمع الصفراء التي تتقد رؤوسها ، فتحيل النار نورا ، بل هي ترفع الظلام ، على أن لهذه الشموع آجالا ، فما أن نوقدها حتى نسلط آجالها عليها لتمحق أعمارها) :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/47.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ذكرت صقــــــــلية والأســـــــى = يهيج للنفــــس تــــذكارها
ومنزلة للتصابــــــي خلـــــــــت = وكان بنو الظرف عمارها
فإن كنت أخرجــت من جنــــــة = فإنــــي أحــــدث أخبـارها[/poem]
ويتطلع في حسرة إلى المعاهد والديار، وبعد أن كان يتحدى الكون، تحدته شعلة الحنين في صدره فإذا به يبكي كالضعيف:
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/49.gif" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ألا في ضمان الله دارٌ بنـوطـس = ودرت عليها معصرات الهواضب
أمثلها في خاطري كـل سـاعة = وأمري لها قطر الدموع السواكب
أحن حنين (1)النيب للموطن الـذي = مغاني غوانـيه إلـيه جـواذبـي
ومن سار عن أرض ثوى قلبهُ بها = تمنى له بـالـجـسـم أوبة آيب [/poem]
وفي كل تحية وداع أو خاتمة قصيدة يغلب الحزن ذلك الرجل القوي فتتساقط الدموع من عينيه.
ومن كل ما تقدم نم وصف تلك الليلة البديعة قد هيجته ذكرى صقلية ، فأيقظت في نفسه أدق التفاصيل ، وأعذب الذكريات ، ولكن أين هو من كل ذلك !..
لقد أخرج – مثل آدم- من تلك الجنة ، ولم يبق لديه إلا أن يحدث أخبارها .
ولا يعاني الشوق إلا من يكابده، ولا يشعر بالغربة والحنين إلا من يعايشها وتجّرع لحظاتها، ولا يحس بالألم إلا من تذوق مرّ ضرباته وطعناته، لذلك لن يشعر أحد بما يقاسيه شعراء الأندلس الفردوس المفقود وأبناء فلسطين الجريحة هم صورة أخرى من غربة الشعراء عن أهلهم ووطنهم المغتصب الجريح ، وهم جمعا يعانون الغربة والحنين بعد نكبتهم.
لقد قدمت لكم بعضا من صور الغربة والحنين، ولكن يبقى ما خفي أكبر وأعظم، فمع كل لحظة تكبر الغربة وتزداد أنات الحنين، فالوطن ما يزال مسلوبا، والساعات تسير وتسير.[/align]
تعليق