[align=center][frame="1 80"]الجهـة اليسرى
من تجليات غرفة الإنعاش
بقلم محمد نديم

( رسمت معلمته يوما ما ،سمكة فوق السبورة السوداء،مبينة عليها كل تفاصيل جسدها وزعانفها , وطالبت التلاميذ أن يرسموها وبدقة شديدة ، وانتظرت منهم الأخطاء، ليطل وجهها المتجعد غضبا ،فوق وجوههم المشرقة بالخوف ، ،ثم تنهال على أكفهم الصغيرة بعصاها الغليظة.
سرح الحرفوش الصغير بخاطره وهو ينظر للسمكة المرسومة بالطباشير ، ترى كيف يكون طعمها؟ وفقد انتباهه إلى الدرس ، فكانت العصا ثقيلة الوقع على أصابعه الصغيرة ، وعندما بكى لجدته كي تطبخ له سمكة، وعدته خيرا . )
**********
على صدر الشاشة ،ذات الوجه المتجعد غضبا ،المعلمة البنية اللون ، تلقى بيانا باسم دولتها العظمى عن ضرورة ممارسة الديمقراطية بين سكان (النجوع) المتخلفة ، أولئك الذين يجب أن يرسموا الأطعمة، ولا يحق لهم أن يتذوقوها، لأنهم ببساطة لا يمكنهم ،بل لا يحق لهم ذلك.
**********
( عندما مد الحرفوش الصغير يده في درج طاولته , وأخرج شيئا من الحلوى ، وهم بالتقامها ، لمحته المعلمة . و قامت الدنيا ولم تقعد.تجعد وجه المعلمة كليمونة جافة ،وبرزت عيناها كجمرتين, وانهالت على وجهه صفعا وعلى مسامعه سبا وقذفا. حاول دفع الصفعات بيده الصغيرة ، فما كان منها إلا أن اتهمته بالسفالة وقلة الأدب،لأنه حاول التعدي عليها !!! ، فتكالبت عليه باقي المعلمات ، وانهالت عليه العصا ).
**********
أمام شاشة التلفاز المفعمة بالضجيج والنار والأشلاء، لا طعم للأشياء في فمي , أنفاسي ألملمها بصعوبة كأشلاء ممزقة.وكوب الشاي يرتعش في يدي.
(منذ ذلك اليوم ، تعلم الحرفوش الصغير فن السكوت ، وتجرُعَ مرارة النظر إلى الحلوى التي بين يديه دون أن يجرؤ على لمسها.)
**********
على صدر الشاشة , كان وجه المعلمة يزداد تجعدا ،وهي تلقى بيانا باسم دولتها العظمى ،عن مكافحة المكافحين ، الذين يرفعون أيديهم لرد الصفعات ، صرخت في بيانها : إرهابيون ، رسمت بالعصا الغليظة علامة X على نقطة فوق خارطة كبيرة ، وأصدرت أمرها لطائرات حديثة وصواريخ عابرة كي تنهمرحممها فوق هذه النقطة بدقة شديدة، فتمزق أحلام البسطاء.
( حين يشذ بفكره قليلا ، كان الحرفوش الصغير يمرح في رياض من خياله الطفولي البريء ، وكان يصحو دائما على رأس العصا الغليظة ،تشير نحوه أن : قـِفْ ، ومد كفيك الصغيرتين ,وتناول وجبتك اليومية من العقاب ، لشرودك عن الدرس ولو قليلا.)
أمام شاشة التلفاز، كان قطار الضجيج والنار والألم يتتابع أمام عيني ، وكان طعم الحلوى أكثر مرارة.وفي يدي ،كان جهاز التحكم عن بعد، حاولت تغيير وجه الشاشة إلى شيء آخر فلم أتمكن ، اختلطت الصور بين إعلانات الحلوى ووجوه الأطفال وأجسادهم الممزقة . داخل الشاشة وبين تفاصيل الخير،ألمح ابنتي ذات الضفيرتين ، خرجت لتوها لشراء بعض الحلوى ،لقد تأخرت كثيرا ، ومازال أمامها الكثير من الواجب المدرسي كي تتمه ، افترسني القلق ، فقلب معلمتها قاس كعصاها.
**********
.قطار الضجيج واللهب والدماء ، يركض في كياني اضغط أزرار جهاز التحكم الآلي فإذا بي داخل جهاز التلفاز أركض بين القطيع الذي يحركه الفزع، في تفاصيل الخبر ، باحثا عن ابنتي في كل اتجاه.مراسلو محطات التلفاز وسط الجموع يحذرون من انفجار وشيك ، أو غارة جديدة متوقعة ، أو قصف آخر محتمل.
الشوارع تغص بكلاب مسعورة سوداء ، ومعلمين يمسكون هراوات غليظة،وحشود من المهرجين , والمعدمين ,ولابسي الأقنعة، ومطربي الأغاني الهابطة،والقوادين، والراقصات، وحاملي الكئوس والبيارق ،والمباخر، وباقات الشوك والورود ،والأسلحة البيضاء ،والشموع السوداء المفخخة ،وبائعي الأطعمة الفاسدة والأدوية المنتهية الصلاحية والحارات تغض بالجنازات.
**********
قطار اللهيب والألم والضجيج يجتاح كل ذرة في كياني ، وأنا أركض ببطء شديد متنفسا بصعوبة بالغة، الخوف يجتاحني والعرق يكاد يغرقني.تصرخ المعلمة القميئة الوجه مشيرة إلي بعصاها الغليظة : ... إرهابي أمسكوه .
حاولت التنصل من هويتي فلم أتمكن ، ألقيت بجسدي وسط الزحام ، قررت أن أهرب عائدا إلى بيتي الذي لمحته على الجهة المقابلة من خلال شاشة التلفاز،رأيت كوب الشاي ، مازال يصدر دخانا رقيقا على الطاولة في ركني المفضل أمام الجهاز الصاخب في بهو شقتي الصغيرة .لم أستطع العودة .أشعر بالاختناق والغثيان وقطار النار والألم يركض صاخبا في كياني كله , ذراعي الأيسر تكاد تُشـَل ، شعرت أن القطار يمزقها تحت عجلاته الفولاذية بلا رحمة.
**********
المعلمة ترج الشارع بصراخها : أمسكوه ، العصا الغليظة تتبعني وتقرع كتفي وظهري ، و الحلوى تتساقط من جيبي والسمكات الملونة تفرمن دفتري، ووجه جدتي مازال مبتسما في ناظري ،ويعدني خيرا!
ركض الجميع ورائي. لا مفر،لا مفر من الضغط على أزرار جهاز التحكم عن بعد ، ضغطت بشدة على كل الأزرار ، انفجرت الشمس ،وتحولت الشوارع إلى خيمة من نار وتناثرتُ مع الرعد ،والدخان، والحجارة، والأشلاء، والغبار.
**********
رأيت جدتي بملابس الممرضات ، تقترب أنفاسها الرقيقة من وجهي،وهي تدس بحنان رأس إبرة في ذراعي ، وكف رقيقة لطفلة ذات ضفائر, تمسك بعض حلوى , تحتضن بقوة كفي المرتعشة الساخنة .
وجه صديقي الحميم ، بملابس الأطباء, يظهر و يغيب، سمعته بالكاد ، وهو يطمئنني من خلال ابتسامته المضيئة ، حمد لله على سلامتك ، ويستفسرمني : أخبرني بالتفصيل كيف بدأ الألم معك في الجهة اليسرى من الصدر ؟
10 يوليو 2007 [/frame][/align]
من تجليات غرفة الإنعاش
بقلم محمد نديم

( رسمت معلمته يوما ما ،سمكة فوق السبورة السوداء،مبينة عليها كل تفاصيل جسدها وزعانفها , وطالبت التلاميذ أن يرسموها وبدقة شديدة ، وانتظرت منهم الأخطاء، ليطل وجهها المتجعد غضبا ،فوق وجوههم المشرقة بالخوف ، ،ثم تنهال على أكفهم الصغيرة بعصاها الغليظة.
سرح الحرفوش الصغير بخاطره وهو ينظر للسمكة المرسومة بالطباشير ، ترى كيف يكون طعمها؟ وفقد انتباهه إلى الدرس ، فكانت العصا ثقيلة الوقع على أصابعه الصغيرة ، وعندما بكى لجدته كي تطبخ له سمكة، وعدته خيرا . )
**********
على صدر الشاشة ،ذات الوجه المتجعد غضبا ،المعلمة البنية اللون ، تلقى بيانا باسم دولتها العظمى عن ضرورة ممارسة الديمقراطية بين سكان (النجوع) المتخلفة ، أولئك الذين يجب أن يرسموا الأطعمة، ولا يحق لهم أن يتذوقوها، لأنهم ببساطة لا يمكنهم ،بل لا يحق لهم ذلك.
**********
( عندما مد الحرفوش الصغير يده في درج طاولته , وأخرج شيئا من الحلوى ، وهم بالتقامها ، لمحته المعلمة . و قامت الدنيا ولم تقعد.تجعد وجه المعلمة كليمونة جافة ،وبرزت عيناها كجمرتين, وانهالت على وجهه صفعا وعلى مسامعه سبا وقذفا. حاول دفع الصفعات بيده الصغيرة ، فما كان منها إلا أن اتهمته بالسفالة وقلة الأدب،لأنه حاول التعدي عليها !!! ، فتكالبت عليه باقي المعلمات ، وانهالت عليه العصا ).
**********
أمام شاشة التلفاز المفعمة بالضجيج والنار والأشلاء، لا طعم للأشياء في فمي , أنفاسي ألملمها بصعوبة كأشلاء ممزقة.وكوب الشاي يرتعش في يدي.
(منذ ذلك اليوم ، تعلم الحرفوش الصغير فن السكوت ، وتجرُعَ مرارة النظر إلى الحلوى التي بين يديه دون أن يجرؤ على لمسها.)
**********
على صدر الشاشة , كان وجه المعلمة يزداد تجعدا ،وهي تلقى بيانا باسم دولتها العظمى ،عن مكافحة المكافحين ، الذين يرفعون أيديهم لرد الصفعات ، صرخت في بيانها : إرهابيون ، رسمت بالعصا الغليظة علامة X على نقطة فوق خارطة كبيرة ، وأصدرت أمرها لطائرات حديثة وصواريخ عابرة كي تنهمرحممها فوق هذه النقطة بدقة شديدة، فتمزق أحلام البسطاء.
( حين يشذ بفكره قليلا ، كان الحرفوش الصغير يمرح في رياض من خياله الطفولي البريء ، وكان يصحو دائما على رأس العصا الغليظة ،تشير نحوه أن : قـِفْ ، ومد كفيك الصغيرتين ,وتناول وجبتك اليومية من العقاب ، لشرودك عن الدرس ولو قليلا.)
أمام شاشة التلفاز، كان قطار الضجيج والنار والألم يتتابع أمام عيني ، وكان طعم الحلوى أكثر مرارة.وفي يدي ،كان جهاز التحكم عن بعد، حاولت تغيير وجه الشاشة إلى شيء آخر فلم أتمكن ، اختلطت الصور بين إعلانات الحلوى ووجوه الأطفال وأجسادهم الممزقة . داخل الشاشة وبين تفاصيل الخير،ألمح ابنتي ذات الضفيرتين ، خرجت لتوها لشراء بعض الحلوى ،لقد تأخرت كثيرا ، ومازال أمامها الكثير من الواجب المدرسي كي تتمه ، افترسني القلق ، فقلب معلمتها قاس كعصاها.
**********
.قطار الضجيج واللهب والدماء ، يركض في كياني اضغط أزرار جهاز التحكم الآلي فإذا بي داخل جهاز التلفاز أركض بين القطيع الذي يحركه الفزع، في تفاصيل الخبر ، باحثا عن ابنتي في كل اتجاه.مراسلو محطات التلفاز وسط الجموع يحذرون من انفجار وشيك ، أو غارة جديدة متوقعة ، أو قصف آخر محتمل.
الشوارع تغص بكلاب مسعورة سوداء ، ومعلمين يمسكون هراوات غليظة،وحشود من المهرجين , والمعدمين ,ولابسي الأقنعة، ومطربي الأغاني الهابطة،والقوادين، والراقصات، وحاملي الكئوس والبيارق ،والمباخر، وباقات الشوك والورود ،والأسلحة البيضاء ،والشموع السوداء المفخخة ،وبائعي الأطعمة الفاسدة والأدوية المنتهية الصلاحية والحارات تغض بالجنازات.
**********
قطار اللهيب والألم والضجيج يجتاح كل ذرة في كياني ، وأنا أركض ببطء شديد متنفسا بصعوبة بالغة، الخوف يجتاحني والعرق يكاد يغرقني.تصرخ المعلمة القميئة الوجه مشيرة إلي بعصاها الغليظة : ... إرهابي أمسكوه .
حاولت التنصل من هويتي فلم أتمكن ، ألقيت بجسدي وسط الزحام ، قررت أن أهرب عائدا إلى بيتي الذي لمحته على الجهة المقابلة من خلال شاشة التلفاز،رأيت كوب الشاي ، مازال يصدر دخانا رقيقا على الطاولة في ركني المفضل أمام الجهاز الصاخب في بهو شقتي الصغيرة .لم أستطع العودة .أشعر بالاختناق والغثيان وقطار النار والألم يركض صاخبا في كياني كله , ذراعي الأيسر تكاد تُشـَل ، شعرت أن القطار يمزقها تحت عجلاته الفولاذية بلا رحمة.
**********
المعلمة ترج الشارع بصراخها : أمسكوه ، العصا الغليظة تتبعني وتقرع كتفي وظهري ، و الحلوى تتساقط من جيبي والسمكات الملونة تفرمن دفتري، ووجه جدتي مازال مبتسما في ناظري ،ويعدني خيرا!
ركض الجميع ورائي. لا مفر،لا مفر من الضغط على أزرار جهاز التحكم عن بعد ، ضغطت بشدة على كل الأزرار ، انفجرت الشمس ،وتحولت الشوارع إلى خيمة من نار وتناثرتُ مع الرعد ،والدخان، والحجارة، والأشلاء، والغبار.
**********
رأيت جدتي بملابس الممرضات ، تقترب أنفاسها الرقيقة من وجهي،وهي تدس بحنان رأس إبرة في ذراعي ، وكف رقيقة لطفلة ذات ضفائر, تمسك بعض حلوى , تحتضن بقوة كفي المرتعشة الساخنة .
وجه صديقي الحميم ، بملابس الأطباء, يظهر و يغيب، سمعته بالكاد ، وهو يطمئنني من خلال ابتسامته المضيئة ، حمد لله على سلامتك ، ويستفسرمني : أخبرني بالتفصيل كيف بدأ الألم معك في الجهة اليسرى من الصدر ؟
10 يوليو 2007 [/frame][/align]
تعليق