يرى صلاح عبد الصبور " أن الأديب إنسان اجتماعي واع منفعل بالحياة، ثم هو من بعد ذلك معبر دافع ناشط في مجاله الكلامي" . ويقصد ب"اجتماعي" أن يعيش الأديب واقعه بصراعاته الحقيقية لا أن يتخيله من خلال نماذج عالية من الأدب الواقعي أو من خلال نظرية فلسفية جاهزة. وحينما يعيش هذا الواقع ويستوعبه، إذ ذاك فقط لا يحرم شرف المحاولة في قداستها وعمقها.
بهذا التصور الذي يجعل من الواقع قواما على الواقعية كما يوحي بذلك تعبير صلاح عبد الصبور" الحياة أولا...! " لم ينطلق هذا الشاعر من أي تصور نظري جاهز، وإنما حاول فهم واقعه وتحديد أسئلته الجوهرية الذاتية والاجتماعية بغية البحث لها عن أجوبة ممكنة، مؤمنا في ذلك بأن الأفكار المجردة أو الاهتمام السياسي المحدد لا يستطيعان أن يشكلا عملا فنيا دون الاستناد إلى قيم جمالية بلاغية . فكيف تعامل عبد الصبور مع هذا الواقع، وكيف أصبح واقعيا؟
مفهـوم الشعـر: "الشعر صوت إنسان يتكلم مستعينا بمختلف القيم الفنية لكي يكون أصفى وأنقى من صوت غيره من الناس، فهو يستعين بالموسيقى والإيقاع والصورة والذهن والخيال. وكل هذه الأشياء مجتمعة تجعل لصوته هذه الفاعلية التي يستطيع بها في كلماته أن ينقل قدرا من الحقيقة الإنسانية التي يحسها هو منطبعة عليه إلى غيره من الناس" .
نستخلص من هذا التعريف ثلاث خصائص تحدد ماهية الشعر:
ـ الشعر صوت إنسان يتكلم.
ـ نقل الحقيقة الإنسانية التي يحسها الشاعر إلى الناس.
ـ توسل قيم وأدوات فنية لكي يكون الشعر أصفى وأنقى.
1:
الشعر صوت إنسان يتكلم:
لا يقصد صلاح عبد الصبور هنا الصوت بمفهومه الفيزيقي المقابل للصمت، وإلا سيكون شيئا تافها ومبتذلا. إذ كل ما يفوه به الإنسان هو صوت، وإنما يقصد صوتا متميزا له معنى متميز يصدر عن إنسان يتكلم. والكلام ضد الثرثرة، فعامة الناس لا تتكلم وإنما تثرثر، وفي ثرثرتها تتناقل أفكارا مشتركة عامة تحجب الحقيقة الإنسانية الوجودية وتتجاهلها. أما الشاعر بوصفه إنسانا واعيا بذاته وبوجوده، فيحس هذه الحقيقة وينقلها إلى غيره من الناس.
.2 :
عن أي حقيقة إنسانية يتحدث صلاح عبد الصبور؟ يرى هذا الشاعر متأثرا بالفلسفات الميتافيزيقية عامة، والوجودية منها بشكل خاص أن "الوجود هو المعطى الأول للإنسان" ، وهو مهدد بالعدم . وبين الوجود والعدم، بين منبع النهر ومصبه، يعيش هذا الإنسان حياة مليئة بالشرور والآلام " خالية من الحرية إلا تحت مستوى الضرورة" ، الشيء الذي يحول الأرض إلى جحيم، وحياة الإنسان إلى عذاب. وقد سعى الإنسان منذ القديم إلى إعطاء معنى لحياته متوسلا الدين والفلسفة والفن "فالنبي والشاعر والفيلسوف ـ إذن ـ أصوات شرعية، وشرعيتها تشمل كل ألوان الحياة الإنسانية بغية تنظيمها وتخليصها من فوضاها وتنافرها. ومجال رؤيتهم هو الظاهرة الإنسانية في زمانها الذي هو الديمومة، وفي مكانها الذي هو الكون، وفي حركتها التي هي التاريخ" .
إن الظواهر الإنسانية التي تحدث عنها صلاح عبد الصبور ليست ظواهر مجردة، لا ولا هي مستقاة من واقع آخر غير واقعه المصري الذي يعيشه يوميا بانتصاراته وانكساراته، ويرفض عكس ذلك . يقول :" لو سألت أحدهم وهو آمن مبتهج النفس ـ لماذا أنت واقعي؟ ـ لأجاب : لأن المسرح للأدب الواقعي ... وأنا أحب التمثيل. ولو سألته: هل استبصرت بكفاح العامة في سبيل امتلاك الحياة؟ قال: وما حاجتي وقد قرأت لفلان وفلان ...
،، أما نحن ، فقد ألقينا بقلوبنا في المعركة، معركة أحباب الحياة، وثملنا بانتصاراتها وبكينا انكسارها. وكان شعرنا سكرنا وبكاءنا، ولا علينا من النماذج والتقاليد...إننا نتنفس الحياة بشغف ومرارة ونهدم ونبني ونبشر ونجدف، وقد يمسنا الشعر بجناحه فنلتهب" .
واضح من هذا القول أن الشاعر والفيلسوف والنبي لا ينظرون إلى الواقع نظرة أحادية، وإنما ينظرون إليه نظرة شمولية كلية يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، والواقعي والميتافيزيقي، والحياة والموت، والأمل واليأس ...وهذه النظرة راجعة إلى أن العالم ناقص، وكل من هؤلاء يحمل بين جوانبه شهوة لإصلاحه، لكن الشك والقلق يلازمهم، الشيء الذي يسم حياتهم بالقلق واليأس الأبديين، إلا أنه ليس يأسا أو قلقا تشاؤميا، إنه يأس ناتج عن إحساس بالمسؤولية ووعي بها .
وقد سعت كل الديانات القديمة، أرضية كانت أم سماوية، وكذا الفلسفات المادية والمثالية إلى البحث عن حل لهذه المعضلة الوجودية. وقد تبنى صلاح عبد الصبور في المرحلة الأولى من حياته الفنية موقفا ماديا محضا، ـ وهي المرحلة التي تهمنا في هذا البحث ـ فأنكر وجود الله متأثرا بصرخة نيتشه الإلحادية المرعبة، ورأى في المادية الجدلية موقفا فكريا متماسكا قادرا على تحقيق الكمال في المجتمع. إلا أن تواتر الأحداث العالمية في الستينيات خصوصا في أوربا الشرقية، وصعود خروتشوف إلى السلطة، وفضحه لكل جرائم الستالينية، حطم أسطورة الشيوعية والمادية والواقعية في فكر صلاح. فرفض هذا الموقف، كما رفض كل علاقة ميكانيكية بين الفن والواقع لأنها تؤدي إلى أخطاء جمالية فادحة تتلخص في
ـ استخدام مفهوم الانحطاط الشامل في النقد الماركسي وهو مفهوم لا يراعي الاستقلال النسبي للأبنية الفوقية.
ـ اختزال الفن في بعده الأيديولوجي، وتهميش خصوصياته الفنية.
ـ عدم مراعاة خصوصيات المعرفة بوصفها معرفة نوعية بموضوعها ولغتها.
وقد وجد هذا الشاعر الحائر بعد تخليه عن الماركسية في الدين إجابة مقنعة متأثرا في ذلك بكيركجارد، فأصبح يرى جدوى الحياة في العودة بالإنسان إلى نقائه وصفائه الأول، أي العودة به إلى الله نقيا كما صدر عنه. ولن يتأتى له ذلك إلا بتحقيق ثلاث فضائل إنسانية كبرى عانى صلاح كثيرا من غيابها في حياته ومجتمعه هي: الصدق والحرية والعدالة .
وللوصول إلى هذه الحقيقة الإنسانية والتعبير عنها ونقلها إلى الآخرين يمر الشاعر كالمتصوف بمراحل ثلاث :
ـ مرحلة الوارد: وهي مرحلة إشراقية يقتنص فيها الذهن خاطرة أو رؤيا فتستغرق قلبه كليا.
ـ مرحلة الفعل الذي يلي الوارد وينبع منه، ويتحقق بالتأمل والتحديق في الذات الممتلئة بالرؤى والمعارف والخواطر قصد اكتشاف الحقيقة والتعبير عنها برموز لغوية.
ـ مرحلة العودة، وهي مرحلـة يعود فيهــا الإنسان إلى ذاتـه ليعيـد قـراءة ما اكتشف وما فعل. وهي مرحلة وعي كامل تتشكل فيه القصيدة تشكيلا فنيا. .
واضح من هذا التصور أن الموقف المادي والموقف الديني الصوفي ما هما إلا إجابتان ضمن إجابات ممكنة لنفس السؤال الوجودي المستنبط من الواقع المعيش الذي عاشه صلاح عبد الصبور. فالواقع المصري ومن خلاله الواقع الإنساني لم يتغير، لذلك لم تتغير الأسئلة التي يثيرها. وما يمكن أن يتغير مرات متعددة، هو نظرتنا إلى هذا الواقع وما نقترحه من حلول لإشكالاته وإجابات على أسئلته.
.3: اللغة الشعرية أو الوسائل الفنية التي يتوسلها الشعر لكي يكون أصفى وأنقى: يكاد الإجماع يحصل على رفض قوانين اللغة الشعرية القديمة وأعرافها. إلا أن أسباب هذا الرفض ودوافعه والبدائل التي تقترح تتعدد بتعدد الشعراء. فمنهم من يدفع باللغة إلى أقصى درجات التجريب التي قد تصل إلى الفوضوية، وهم غالبا من أصحاب الثقافة الفرنسية، كما سبق أن رأينا. ومنهم من يدفع بها إلى أقصى درجات البساطة، وهم غالبا الذين تأثروا بإليوت. وبين هؤلاء وأولئك نجد شعراء يوفقون بينهما لإيجاد لغة ثالثة لا هي بلغة الحديث اليومي ولا هي بلغة التجريب.
ويعد صلاح عبد الصبور من بين الذين قرأوا إليوت وتأثروا بجسارته اللغوية، وقدرته على تكييف كلمات الحديث اليومي وتطويعها قصد إدراجه في السياق الشعري. ويرجع هذا التأثر إلى طبيعة اللغة العربية التي تحولت على الرغم من غناها المعجمي الدال على المدركات الحسية والوجدانية، بعد خمسمئة سنة من التخلف الحضاري إلى لغة موحشة غريبة " لا تصلح للاستعمال بحكم الذوق الفني" ، الشيء الذي حولها إلى لغة فقيرة. وقد زاد من فقرها تعفف اللغة الشعرية من استخدام الألفاظ المتداولة حتى ولو كانت فصيحة بدعوى سوقيتها.
وقد دعا صلاح عبد الصبور إلى تجاوز هذه النظرة، والتصرف في اللغة بوصفها كنزا كما تصرف فيها القدماء دون تمييز بين المتداول وغير المتداول. واستخدام أي لفظ منها ما دام صالحا للتعبير عما يراد قوله. ولن يتم ذلك في نظره إلا بمعاودة النظر في التراث العربي قصد إدراك غناه، وترويض الألفاظ الجديدة لإدخالها في السياق الشعري.
وقد تعرضت محاولاته الشعرية في هذا السياق لانتقادات كثير من النقاد بدعوى التفاهة والركاكة، يقول في رده على الناقد كاظم جواد :" ما هذا يا سيد كاظم ... يا سيدي المادي الجدلي ... لا تمزق القصيدة، وأدرك الصورة كلية ينصلح موقفك، وسأضع منظارك فوق عيني وأناقش البيت (1) : وشربت...ألم تشرب قط؟ ألم تستعمل العرب المضرية والقحطانية هذا اللفظ، وما الفرق بين الشاي والخمر والماء والمرق، أليست كلها مما يشرب ؟ لقد قاس إليوت حياته بملاعق القهوة.
،، حمدا لله أنني لم استعمل ملعقة أو فنجانا وإلا كانت كارثة وعم التصايح، وما أظنك تنكر أن الجار والمجرور( في الطريق ) استعملا في الشعر ألوف المرات" .
: توظيف الأسطورة: ينظر صلاح عبد الصبور إلى الأسطورة بوصفها "تعبيرا عن الذات الإنسانية في وحدتها وجوهرها" . ويتوسلها بالإضافة إلى تقنيات أخرى كالثقافة الشعبية والتاريخ للتخلص من الجزئية والظرفية، والارتقاء بشعره إلى مستوى المطلق، وإضفاء نبرة موضوعية عليه. إلا أن معظم الشعراء في نظره أساؤوا استخدامها لاكتفائهم بمحاكاة الشعر الأوربي. في حين أن الأسطورة ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي وسيلة لتعميق النص وفتحه على تجارب إنسانية غير شخصية. وهذا يقتضي تفكيكها إلى عناصرها الأولية، وانتقاء ما هو صالح للتوظيف دون أن يكون بارزا على السطح الظاهري للقصيدة. وبغير هذه الطريقة يتحول النص إلى ركام من المعارف تفتقر إلى شروح وهوامش واطلاع واسع على حقول معرفية متعددة لفهمها.
: التشكيل : يستمد صلاح تصوره عن التشكيل من فن التصوير أساسا، كما يستمده من تصور نيتشه للمأساة اليونانية، فهذه المأساة كما يراها هذا الفيلسوف توازن بين الديانة الديونيزيوسية التي تقدس النشوة وتمجد اللذة، وتطلق كل القوى الحية في الإنسان ، وبين العبادة الأبولونية التي تقدس العقل وتحترم التصميم والبناء . فالقصيدة الشعرية ـ كما سبقت الإشارة ـ تفتقر بعد مرحلتي الوارد والفعل إلى تأمل واع قصد تشكيلها تشكيلا فنيا يتميز بخاصيتين اثنتين أولاهما : الذروة الشعرية: وتعد حسب صلاح " محك الكمال في بناء القصيدة" . ويختلف التشكيل باختلاف أماكن وجودها في أول القصيدة أوفي وسطها أوفي آخرها. وثانيتهما: التوازن بين العناصرالشعرية المختلفة إيقاعا وتركيبا ودلالة.
نخلص مما سبق إلى ما يلي :
* إن الواقعية في شعر صلاح عبد الصبور ليست إلا مرحلة من مراحل تطوره الشعري، ومع ذلك، فقد كان لها الأثر البالغ حتى خلال المراحل الأخرى، فقد ظل الواقع منطلق كل تجربة شعرية.
* إن إيمان الشاعر بالواقعية لم يجعله أسير مجموعة من المبادئ النظرية الجاهزة أو أسير اتجاه سياسي معين يسيره ويستظل بظله.
* لقد بدأ صلاح وجوديا وقضى مرحلة من حياته ماديا وانتهى شاعرا صوفيا، وهي مراحل متداخلة في ما بينها، إذ اعتبر البحث عن الحقيقة من مهام الفيلسوف والنبي والشاعر، لذلك يبدو من الصعب الاكتفاء بمرحلة من هذه المراحل.
بهذا التصور الذي يجعل من الواقع قواما على الواقعية كما يوحي بذلك تعبير صلاح عبد الصبور" الحياة أولا...! " لم ينطلق هذا الشاعر من أي تصور نظري جاهز، وإنما حاول فهم واقعه وتحديد أسئلته الجوهرية الذاتية والاجتماعية بغية البحث لها عن أجوبة ممكنة، مؤمنا في ذلك بأن الأفكار المجردة أو الاهتمام السياسي المحدد لا يستطيعان أن يشكلا عملا فنيا دون الاستناد إلى قيم جمالية بلاغية . فكيف تعامل عبد الصبور مع هذا الواقع، وكيف أصبح واقعيا؟
مفهـوم الشعـر: "الشعر صوت إنسان يتكلم مستعينا بمختلف القيم الفنية لكي يكون أصفى وأنقى من صوت غيره من الناس، فهو يستعين بالموسيقى والإيقاع والصورة والذهن والخيال. وكل هذه الأشياء مجتمعة تجعل لصوته هذه الفاعلية التي يستطيع بها في كلماته أن ينقل قدرا من الحقيقة الإنسانية التي يحسها هو منطبعة عليه إلى غيره من الناس" .
نستخلص من هذا التعريف ثلاث خصائص تحدد ماهية الشعر:
ـ الشعر صوت إنسان يتكلم.
ـ نقل الحقيقة الإنسانية التي يحسها الشاعر إلى الناس.
ـ توسل قيم وأدوات فنية لكي يكون الشعر أصفى وأنقى.
1:
الشعر صوت إنسان يتكلم:
لا يقصد صلاح عبد الصبور هنا الصوت بمفهومه الفيزيقي المقابل للصمت، وإلا سيكون شيئا تافها ومبتذلا. إذ كل ما يفوه به الإنسان هو صوت، وإنما يقصد صوتا متميزا له معنى متميز يصدر عن إنسان يتكلم. والكلام ضد الثرثرة، فعامة الناس لا تتكلم وإنما تثرثر، وفي ثرثرتها تتناقل أفكارا مشتركة عامة تحجب الحقيقة الإنسانية الوجودية وتتجاهلها. أما الشاعر بوصفه إنسانا واعيا بذاته وبوجوده، فيحس هذه الحقيقة وينقلها إلى غيره من الناس.
.2 :
عن أي حقيقة إنسانية يتحدث صلاح عبد الصبور؟ يرى هذا الشاعر متأثرا بالفلسفات الميتافيزيقية عامة، والوجودية منها بشكل خاص أن "الوجود هو المعطى الأول للإنسان" ، وهو مهدد بالعدم . وبين الوجود والعدم، بين منبع النهر ومصبه، يعيش هذا الإنسان حياة مليئة بالشرور والآلام " خالية من الحرية إلا تحت مستوى الضرورة" ، الشيء الذي يحول الأرض إلى جحيم، وحياة الإنسان إلى عذاب. وقد سعى الإنسان منذ القديم إلى إعطاء معنى لحياته متوسلا الدين والفلسفة والفن "فالنبي والشاعر والفيلسوف ـ إذن ـ أصوات شرعية، وشرعيتها تشمل كل ألوان الحياة الإنسانية بغية تنظيمها وتخليصها من فوضاها وتنافرها. ومجال رؤيتهم هو الظاهرة الإنسانية في زمانها الذي هو الديمومة، وفي مكانها الذي هو الكون، وفي حركتها التي هي التاريخ" .
إن الظواهر الإنسانية التي تحدث عنها صلاح عبد الصبور ليست ظواهر مجردة، لا ولا هي مستقاة من واقع آخر غير واقعه المصري الذي يعيشه يوميا بانتصاراته وانكساراته، ويرفض عكس ذلك . يقول :" لو سألت أحدهم وهو آمن مبتهج النفس ـ لماذا أنت واقعي؟ ـ لأجاب : لأن المسرح للأدب الواقعي ... وأنا أحب التمثيل. ولو سألته: هل استبصرت بكفاح العامة في سبيل امتلاك الحياة؟ قال: وما حاجتي وقد قرأت لفلان وفلان ...
،، أما نحن ، فقد ألقينا بقلوبنا في المعركة، معركة أحباب الحياة، وثملنا بانتصاراتها وبكينا انكسارها. وكان شعرنا سكرنا وبكاءنا، ولا علينا من النماذج والتقاليد...إننا نتنفس الحياة بشغف ومرارة ونهدم ونبني ونبشر ونجدف، وقد يمسنا الشعر بجناحه فنلتهب" .
واضح من هذا القول أن الشاعر والفيلسوف والنبي لا ينظرون إلى الواقع نظرة أحادية، وإنما ينظرون إليه نظرة شمولية كلية يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، والواقعي والميتافيزيقي، والحياة والموت، والأمل واليأس ...وهذه النظرة راجعة إلى أن العالم ناقص، وكل من هؤلاء يحمل بين جوانبه شهوة لإصلاحه، لكن الشك والقلق يلازمهم، الشيء الذي يسم حياتهم بالقلق واليأس الأبديين، إلا أنه ليس يأسا أو قلقا تشاؤميا، إنه يأس ناتج عن إحساس بالمسؤولية ووعي بها .
وقد سعت كل الديانات القديمة، أرضية كانت أم سماوية، وكذا الفلسفات المادية والمثالية إلى البحث عن حل لهذه المعضلة الوجودية. وقد تبنى صلاح عبد الصبور في المرحلة الأولى من حياته الفنية موقفا ماديا محضا، ـ وهي المرحلة التي تهمنا في هذا البحث ـ فأنكر وجود الله متأثرا بصرخة نيتشه الإلحادية المرعبة، ورأى في المادية الجدلية موقفا فكريا متماسكا قادرا على تحقيق الكمال في المجتمع. إلا أن تواتر الأحداث العالمية في الستينيات خصوصا في أوربا الشرقية، وصعود خروتشوف إلى السلطة، وفضحه لكل جرائم الستالينية، حطم أسطورة الشيوعية والمادية والواقعية في فكر صلاح. فرفض هذا الموقف، كما رفض كل علاقة ميكانيكية بين الفن والواقع لأنها تؤدي إلى أخطاء جمالية فادحة تتلخص في
ـ استخدام مفهوم الانحطاط الشامل في النقد الماركسي وهو مفهوم لا يراعي الاستقلال النسبي للأبنية الفوقية.
ـ اختزال الفن في بعده الأيديولوجي، وتهميش خصوصياته الفنية.
ـ عدم مراعاة خصوصيات المعرفة بوصفها معرفة نوعية بموضوعها ولغتها.
وقد وجد هذا الشاعر الحائر بعد تخليه عن الماركسية في الدين إجابة مقنعة متأثرا في ذلك بكيركجارد، فأصبح يرى جدوى الحياة في العودة بالإنسان إلى نقائه وصفائه الأول، أي العودة به إلى الله نقيا كما صدر عنه. ولن يتأتى له ذلك إلا بتحقيق ثلاث فضائل إنسانية كبرى عانى صلاح كثيرا من غيابها في حياته ومجتمعه هي: الصدق والحرية والعدالة .
وللوصول إلى هذه الحقيقة الإنسانية والتعبير عنها ونقلها إلى الآخرين يمر الشاعر كالمتصوف بمراحل ثلاث :
ـ مرحلة الوارد: وهي مرحلة إشراقية يقتنص فيها الذهن خاطرة أو رؤيا فتستغرق قلبه كليا.
ـ مرحلة الفعل الذي يلي الوارد وينبع منه، ويتحقق بالتأمل والتحديق في الذات الممتلئة بالرؤى والمعارف والخواطر قصد اكتشاف الحقيقة والتعبير عنها برموز لغوية.
ـ مرحلة العودة، وهي مرحلـة يعود فيهــا الإنسان إلى ذاتـه ليعيـد قـراءة ما اكتشف وما فعل. وهي مرحلة وعي كامل تتشكل فيه القصيدة تشكيلا فنيا. .
واضح من هذا التصور أن الموقف المادي والموقف الديني الصوفي ما هما إلا إجابتان ضمن إجابات ممكنة لنفس السؤال الوجودي المستنبط من الواقع المعيش الذي عاشه صلاح عبد الصبور. فالواقع المصري ومن خلاله الواقع الإنساني لم يتغير، لذلك لم تتغير الأسئلة التي يثيرها. وما يمكن أن يتغير مرات متعددة، هو نظرتنا إلى هذا الواقع وما نقترحه من حلول لإشكالاته وإجابات على أسئلته.
.3: اللغة الشعرية أو الوسائل الفنية التي يتوسلها الشعر لكي يكون أصفى وأنقى: يكاد الإجماع يحصل على رفض قوانين اللغة الشعرية القديمة وأعرافها. إلا أن أسباب هذا الرفض ودوافعه والبدائل التي تقترح تتعدد بتعدد الشعراء. فمنهم من يدفع باللغة إلى أقصى درجات التجريب التي قد تصل إلى الفوضوية، وهم غالبا من أصحاب الثقافة الفرنسية، كما سبق أن رأينا. ومنهم من يدفع بها إلى أقصى درجات البساطة، وهم غالبا الذين تأثروا بإليوت. وبين هؤلاء وأولئك نجد شعراء يوفقون بينهما لإيجاد لغة ثالثة لا هي بلغة الحديث اليومي ولا هي بلغة التجريب.
ويعد صلاح عبد الصبور من بين الذين قرأوا إليوت وتأثروا بجسارته اللغوية، وقدرته على تكييف كلمات الحديث اليومي وتطويعها قصد إدراجه في السياق الشعري. ويرجع هذا التأثر إلى طبيعة اللغة العربية التي تحولت على الرغم من غناها المعجمي الدال على المدركات الحسية والوجدانية، بعد خمسمئة سنة من التخلف الحضاري إلى لغة موحشة غريبة " لا تصلح للاستعمال بحكم الذوق الفني" ، الشيء الذي حولها إلى لغة فقيرة. وقد زاد من فقرها تعفف اللغة الشعرية من استخدام الألفاظ المتداولة حتى ولو كانت فصيحة بدعوى سوقيتها.
وقد دعا صلاح عبد الصبور إلى تجاوز هذه النظرة، والتصرف في اللغة بوصفها كنزا كما تصرف فيها القدماء دون تمييز بين المتداول وغير المتداول. واستخدام أي لفظ منها ما دام صالحا للتعبير عما يراد قوله. ولن يتم ذلك في نظره إلا بمعاودة النظر في التراث العربي قصد إدراك غناه، وترويض الألفاظ الجديدة لإدخالها في السياق الشعري.
وقد تعرضت محاولاته الشعرية في هذا السياق لانتقادات كثير من النقاد بدعوى التفاهة والركاكة، يقول في رده على الناقد كاظم جواد :" ما هذا يا سيد كاظم ... يا سيدي المادي الجدلي ... لا تمزق القصيدة، وأدرك الصورة كلية ينصلح موقفك، وسأضع منظارك فوق عيني وأناقش البيت (1) : وشربت...ألم تشرب قط؟ ألم تستعمل العرب المضرية والقحطانية هذا اللفظ، وما الفرق بين الشاي والخمر والماء والمرق، أليست كلها مما يشرب ؟ لقد قاس إليوت حياته بملاعق القهوة.
،، حمدا لله أنني لم استعمل ملعقة أو فنجانا وإلا كانت كارثة وعم التصايح، وما أظنك تنكر أن الجار والمجرور( في الطريق ) استعملا في الشعر ألوف المرات" .
: توظيف الأسطورة: ينظر صلاح عبد الصبور إلى الأسطورة بوصفها "تعبيرا عن الذات الإنسانية في وحدتها وجوهرها" . ويتوسلها بالإضافة إلى تقنيات أخرى كالثقافة الشعبية والتاريخ للتخلص من الجزئية والظرفية، والارتقاء بشعره إلى مستوى المطلق، وإضفاء نبرة موضوعية عليه. إلا أن معظم الشعراء في نظره أساؤوا استخدامها لاكتفائهم بمحاكاة الشعر الأوربي. في حين أن الأسطورة ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي وسيلة لتعميق النص وفتحه على تجارب إنسانية غير شخصية. وهذا يقتضي تفكيكها إلى عناصرها الأولية، وانتقاء ما هو صالح للتوظيف دون أن يكون بارزا على السطح الظاهري للقصيدة. وبغير هذه الطريقة يتحول النص إلى ركام من المعارف تفتقر إلى شروح وهوامش واطلاع واسع على حقول معرفية متعددة لفهمها.
: التشكيل : يستمد صلاح تصوره عن التشكيل من فن التصوير أساسا، كما يستمده من تصور نيتشه للمأساة اليونانية، فهذه المأساة كما يراها هذا الفيلسوف توازن بين الديانة الديونيزيوسية التي تقدس النشوة وتمجد اللذة، وتطلق كل القوى الحية في الإنسان ، وبين العبادة الأبولونية التي تقدس العقل وتحترم التصميم والبناء . فالقصيدة الشعرية ـ كما سبقت الإشارة ـ تفتقر بعد مرحلتي الوارد والفعل إلى تأمل واع قصد تشكيلها تشكيلا فنيا يتميز بخاصيتين اثنتين أولاهما : الذروة الشعرية: وتعد حسب صلاح " محك الكمال في بناء القصيدة" . ويختلف التشكيل باختلاف أماكن وجودها في أول القصيدة أوفي وسطها أوفي آخرها. وثانيتهما: التوازن بين العناصرالشعرية المختلفة إيقاعا وتركيبا ودلالة.
نخلص مما سبق إلى ما يلي :
* إن الواقعية في شعر صلاح عبد الصبور ليست إلا مرحلة من مراحل تطوره الشعري، ومع ذلك، فقد كان لها الأثر البالغ حتى خلال المراحل الأخرى، فقد ظل الواقع منطلق كل تجربة شعرية.
* إن إيمان الشاعر بالواقعية لم يجعله أسير مجموعة من المبادئ النظرية الجاهزة أو أسير اتجاه سياسي معين يسيره ويستظل بظله.
* لقد بدأ صلاح وجوديا وقضى مرحلة من حياته ماديا وانتهى شاعرا صوفيا، وهي مراحل متداخلة في ما بينها، إذ اعتبر البحث عن الحقيقة من مهام الفيلسوف والنبي والشاعر، لذلك يبدو من الصعب الاكتفاء بمرحلة من هذه المراحل.
تعليق