ميّزت السرديات الحديثة بين الكاتب الحقيقي والرواي، فعدّت الأول معطى خارجياً أي خارج النص الروائي في حين عدّت الثاني معطى نصياً له إشارات لغوية تدل عليه وتؤشر موقعه وأسلوبه بوصفه مكوناً روائياً ينتج المبنى الروائي (ويروي الحكاية أو يخبر عنها سواءً أكانت حقيقية أم متخيلة)( )، لأننا في الأدب الروائي (لا نكون أبداً إزاء أحداث أو وقائع وإنما بازاء أحداث تقدم على نحو معين)( ) فقد يختار الراوي (الخطاب المباشر أو الخطاب المحكي وقد يختار التتالي الزمني أو الانقلابات الزمنية فلا وجود لقصة بدون سارد ـ راوي)( ).
إن التحليل المحايث للنصوص الروائية أفضى إلى أن الراوي ما هو إلا (دور مبتكر مبني من طرف الكاتب)( )، أي أنه قناع( ) يرتديه الكاتب ليكون الوسيط بينه وبين القارئ ويتوسل به للانتقال من العالم الحقيقي الذي يعيشه إلى العالم الخيالي الذي يتمناه ويصفه داخل العمل الروائي وبذلك فإنه يعكس (التمييز الذي عاشه الكاتب بين الوجود اليومي والوجود الآخر الذي يعد به نشاطه الخيالي ويسمح بحدوثه)( ).
ـ 2 ـ
يعود الاهتمام بالراوي إلى هنري جيمس في ملاحظاته حول رواياته محاولاً أن يضبط شكلاً روائياً خاصاً لأن الرواية بلا شكل تبدو كقطعة حلوى سائلة( ) ولا يمكن ضبطها إلا بالشكل.
دعا جيمس في ملاحظاته هذه إلى مسرحة الحدث وأن ينظر الراوي إلى عالمه الروائي من عل( ) ولا يتدخل بشكل مباشر في الكون الروائي المتخيل وهو أول من أطلق على أسلوب سرد الراوي (وجهة النظر)( ).
لقد ثارت هذه الملاحظات الرغبة التجريبية لدى الروائيين الأمر الذي أفضى إلى استقلال الرواية بوصفها شكلاً أدبياً مستقلاً عن السرد التاريخي والأسطوري والحكائي. استدعى هذا الشكل الجديد دراسات وبحوثاً نقدية تحاول أن تلاحق هذا الشكل الروائي وتدرسه انطلاقاً من منظومة اصطلاحية جديدة كزاوية النظر أو وجهة النظر وتيار الوعي أو تيار الشعور وأن النقد الجديد قد استعار مصطلحاته هذه من علم النفس.
لعل أهم هذه الدراسات هي دراسة برسي لوبوك (صنعة الرواية) الذي أكد فيه رأيه حول صنعة الرواية وأسلوب بنائها الذي ينطلق من أن (مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب في صنعة الرواية محكوماً بالسؤال عن وجهة النظر ـ السؤال عن علاقة راوية القصة بها)( ). لقد حدد لوبوك ثلاثة مستويات من العلاقة بين الراوي ومرويته وهي( ): ـ
1 ـ وجهة النظر الشاملة: ويكون فيها الراوي عليماً بكل شيء.
2 ـ وجهة النظر المشهدية: ويكون فيها الراوي غائباً والأحداث تقدم مباشرة.
3 ـ وجهة النظر المتعددة: وفيها تقدم وجهات نظر متعددة لحدث واحد.
بعد ثلاثين سنة من لوبوك جاء فريدمان ليطور منظومة لوبوك إلى منظومة أخرى من علاقة الراوي بما يرويه محدداً إياها بثمانية مستويات بحسب درجة الموضوعية التي تسمح بها هذه العلاقة وهي: ـ
1 ـ المعرفة الكلية: وفيها تكون معرفة الراوي غير محددة ويتدخل بشكل مباشر ويتمثل ذلك بالروايات الكلاسيكية بصورة عامة ومنها روايات ديكنز مثلاً.
2 ـ المعرفة الكلية المحايدة: وفيها لا يتدخل الراوي بشكل مباشر عن طريق ضمير الغائب وقد استخدم نجيب محفوظ هذا المستوى في رواياته الواقعية.
3 ـ الأنا كشاهد: وتكون الرواية هنا بضمير الغائب حيث يتخلى الراوي عن شخصيته وهنا تروى الحكاية من نواحٍ متعددة ويتجلى ذلك في رواية (مرنتفعات وذرنج) لأميليبرونتي مثلاً.
4 ـ الأنا كمشارك: وهنا يتساوى الراوي مع الشخصية الرئيسية ومن أمثال ذلك رواية السراب لنجيب محفوظ.
5 ـ المعرفة الكلية المتعددة الزوايا، تقدم الحكاية مباشرة كما عاشتها الشخصيات أي كما تعاش في وعيهم، كما في الرواية الرباعية الاسكندرانية للورانس داريل و (ميرامار) لنجيب محفوظ و (خمسة أصوات) لغائب طعمة مزبان.
6 ـ المعرفة الكلية الأحادية الزاوية: يقتصر الراوي هنا على وعي شخصية واحدة كروايات نجيب محفوظ: اللص والكلاب والطريق و (الوجه الآخر) لفؤاد التكرلي.
7 ـ الصيغة الدرامية المشهدية: لا تعرض هنا إلا أفعال أو أقوال الشخصيات المشاركة في الرواية وليس أفكارها أو مشاعرها كرواية همنغواي لمن تقرع الأجراس.
8 ـ الكاميرا: الهدف هو نقل قطعة من الحياة، كما حدثت بدون تغيير أو انتقاء وهي في ظني لا تختلف كثيراعن السابقة (××).
يتجلى التمييز بين الكاتب والراوي بوضوح مع وايين بوث الذي قدم ثلاثة مستويات من العلاقة بين الراوي ومرويته( ) وهي: ـ
1 ـ الكاتب الضمني: هو الذات الثانية للكاتب وهنا تكون الرواية أشبه بسيرة ذاتية للكاتب، ولكن عبر كاتب ضمني داخل النص.
2 ـ الراوي غير المعروف: الراوي هنا غير ممسرح داخل النص.
3 ـ الراوي الممسرح أو المعروف: هنا يكون الراوي ممسرحاً داخل النص.
تعدّ هذه الدراسات بمثابة الإرهاصات الأولى التي بدأت مع النقد الأنكلو ـ أمريكي( ) وتنتظم فيها منظومة اصطلاحية تنطوي تحتها ألفاظ مثل زاوية النظر أو وجهة النظر.
إلاَّ أنه يلاحظ أن هنالك خلطاً واضحاً في استعمال هذا المصطلح فإنه يطلق على موقع الراوي وأسلوبه في حين أنه ينبغي أن يستخدم مصطلح خاص لكل حالة وهذا ما أشرته المرحلة الثانية.
لعلّ المرحلة الثانية في البحث السردي حول الراوي أكثر وضوحاً في التمييز بين الموقع والأسلوب ولا سيما مع جينيت وتودوروف، إلا أن هذه المرحلة كانت قد بدأت مع جان بويون في كتابه (الزمن والرواية)( ).
لقد استنتج بويون ثلاث علاقات بين الراوي ومرويته انطلاقاً من علاقة الراوي بالشخصيات الروائية بحسب كمية المعلومات لكل من الراوي وشخصياته وهي( ).
1 ـ الراوي يعرف أكثر من الشخصية وهو ما يسمى بالرؤية المجاوزة.
2 ـ الراوي يساوي الشخصية أو الرؤية المصاحبة.
3 ـ الراوي يعرف أقل من الشخصية وهي الرؤية الخارجية كما يطلق عليها بعض النقاد.
انطلقت السردية الحديثة من بويون في دراستها للراوي لتنبثق معها منظومة اصطلاحية جديدة تخص الراوي وهي (التبئير ـ الصوت ـ المسافة ـ الصيغة) ويبدو أنها استعارت هذه المصطلحات من السرد الشفاهي في محاولة منها لضبط البنى السردية بشكل عام وإيجاد هيكل سردي يشتغل على الحكاية الشعبية والسيرة الذاتية والرواية والفلم كما ذكرنا في التمهيد.
لقد نجحت السرديات في إيجاد بنية سردية عامة تتكون من الراوي والمروي والمروي له، إلا أن هذا التعميم لا يلغي كل بنية سردية لأن آلية اشتغال كل مكون روائي تختلف من بنية إلى أخرى، فالراوي مثلاً في السيرة الشعبية غيره في الرواية لأن المسافة في الأولى تبتعد في حين أنها تقترب في الرواية وقد يتماهى الراوي مع مرويته.
انطلقت السردية الحديثة من هذا الارتباط بين العالم السردي والخصوصية الروائية لتميز بشكل واضح بين من يتكلم ومن يرى. لقد كان هنالك (خلط مزعج بين الصيغة والصوت بمعنى بين السؤال من هي الشخصية التي تتحكم وجهة نظرها بالمنظور السردي وبين السؤال من السارد أو لنقل من يرى ومن يتحدث)( ) يضع جيرارد جينيت هنا حداً للخلط بين زاوية نظر الراوي البصرية وأسلوب سرده.
لقد حدد جينيت في كتابه (خطاب السرد) ثلاثة مستويات من العلاقة بين الراوي ومرويته وهي( ):
1 ـ التبئير في درجة الصفر أو اللاتبئير الذي نجده في السرد التقليدي.
2 ـ التبئير الداخلي سواءً أكان داخلياً أم متحولاً أم متعدداً.
3 ـ التبئير المحايد الذي لا يمكن فيه التعرف على دخائل الشخصيات.
إنَّ هذه المستويات تتكامل مع تقسيمات بويون فلا نجد خلافاً واضحاً بينها. ويتفق تودوروف مع جينيت في التمييز الواضح بين الموقع وأسلوب السرد فقد ميز تودوروف بين أنماط ومظاهر السرد التي تتعلق ب(الكيفية التي تمَّ بها إدراك القصة من طرف الراوي)( ) أي مجموعة العمليات الزمانية والمكانية وتموضعات الراوي بالنسبة للأحداث كي يحصل على المعلومة القصصية الخام ليقوم بعد ذلك بإعادة إنتاجها وتكوين عالم قصصي مقدم بصيغ فنية مستخدماً الأنماط الفنية السردية التي (تتعلق بالكيفية التي يعرض لنا بها الراوي القصة ويقدمها لنا)( ).
يقترب الناقد الروسي أوسبنسكي من تودوروف ويقدم أربعة مستويات لعلاقة الراوي بمرويته وهي( ):
1 ـ وجهة النظر الإيديولوجية وتتعلق بالرؤى والأفكار المبرزة في الرواية، أي وجهة النظر الأساسية التقويمية التي تحكم العمل الأدبي ويتجلى ذلك من الناحية الفنية بسيادة صوت واحد في الرواية أو عدة أصوات وهنا تقترب كثيراً من وجهة النظر الثانية.
2 ـ وجهة النظر النفسية( ): يرتبط هذا المستوى من الصياغة بالواسطة التي تقدم من خلالها المادة القصصية، أيْ هل تنطلق من وعي ذاتي أم وعي موضوعي.
3 ـ وجهة النظر التعبيرية: هو الأسلوب الذي تعبر الشخصية من خلاله عن نفسها ويتضح ذلك في كيفية نقل الحوار وهنا يكون السرد مباشراً أو غير مباشر.
تمثل هذه المستويات الثلاثة أنماط السرد على النحو الذي ذهب إليه تودوروف في حين تمثل الرابعة مظاهر السرد.
4 ـ وجهة النظر على مستوى الزمان والمكان وهنا ندرس تنقلات الراوي الزمانية والمكانية.
ويرى أوسبنسكي أن موقع الراوي ينتج خطابه السردي أو وجهة نظره (فقد يعد هذا الموقع موقعاً أيديولوجياً أو تقويمياً وقد يعدها موقعاً زمانياً أو مكانياً لمن يصف الأحداث، أي الراوي الذي يبين موقعه في أحداثه زمانياً ومكانياً وقد تدرس من ناحية الخصائص الادراكيّة أو تدرس في معناها الخالص)( ).
إننا نعتقد أن الاهتمام بالراوي ينبغي أن ينصرف بشكل دقيق إلى (علاقاته ووظائفه وصيغ حضوره داخل النص)( ) أي مظاهر سرده وأنماطها على حد تعبير تودوروف فضلاً عن تحالفاته مع المروي له، وذلك لشدة اتصال صورة المروي له مع الراوي
ا
إن التحليل المحايث للنصوص الروائية أفضى إلى أن الراوي ما هو إلا (دور مبتكر مبني من طرف الكاتب)( )، أي أنه قناع( ) يرتديه الكاتب ليكون الوسيط بينه وبين القارئ ويتوسل به للانتقال من العالم الحقيقي الذي يعيشه إلى العالم الخيالي الذي يتمناه ويصفه داخل العمل الروائي وبذلك فإنه يعكس (التمييز الذي عاشه الكاتب بين الوجود اليومي والوجود الآخر الذي يعد به نشاطه الخيالي ويسمح بحدوثه)( ).
ـ 2 ـ
يعود الاهتمام بالراوي إلى هنري جيمس في ملاحظاته حول رواياته محاولاً أن يضبط شكلاً روائياً خاصاً لأن الرواية بلا شكل تبدو كقطعة حلوى سائلة( ) ولا يمكن ضبطها إلا بالشكل.
دعا جيمس في ملاحظاته هذه إلى مسرحة الحدث وأن ينظر الراوي إلى عالمه الروائي من عل( ) ولا يتدخل بشكل مباشر في الكون الروائي المتخيل وهو أول من أطلق على أسلوب سرد الراوي (وجهة النظر)( ).
لقد ثارت هذه الملاحظات الرغبة التجريبية لدى الروائيين الأمر الذي أفضى إلى استقلال الرواية بوصفها شكلاً أدبياً مستقلاً عن السرد التاريخي والأسطوري والحكائي. استدعى هذا الشكل الجديد دراسات وبحوثاً نقدية تحاول أن تلاحق هذا الشكل الروائي وتدرسه انطلاقاً من منظومة اصطلاحية جديدة كزاوية النظر أو وجهة النظر وتيار الوعي أو تيار الشعور وأن النقد الجديد قد استعار مصطلحاته هذه من علم النفس.
لعل أهم هذه الدراسات هي دراسة برسي لوبوك (صنعة الرواية) الذي أكد فيه رأيه حول صنعة الرواية وأسلوب بنائها الذي ينطلق من أن (مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب في صنعة الرواية محكوماً بالسؤال عن وجهة النظر ـ السؤال عن علاقة راوية القصة بها)( ). لقد حدد لوبوك ثلاثة مستويات من العلاقة بين الراوي ومرويته وهي( ): ـ
1 ـ وجهة النظر الشاملة: ويكون فيها الراوي عليماً بكل شيء.
2 ـ وجهة النظر المشهدية: ويكون فيها الراوي غائباً والأحداث تقدم مباشرة.
3 ـ وجهة النظر المتعددة: وفيها تقدم وجهات نظر متعددة لحدث واحد.
بعد ثلاثين سنة من لوبوك جاء فريدمان ليطور منظومة لوبوك إلى منظومة أخرى من علاقة الراوي بما يرويه محدداً إياها بثمانية مستويات بحسب درجة الموضوعية التي تسمح بها هذه العلاقة وهي: ـ
1 ـ المعرفة الكلية: وفيها تكون معرفة الراوي غير محددة ويتدخل بشكل مباشر ويتمثل ذلك بالروايات الكلاسيكية بصورة عامة ومنها روايات ديكنز مثلاً.
2 ـ المعرفة الكلية المحايدة: وفيها لا يتدخل الراوي بشكل مباشر عن طريق ضمير الغائب وقد استخدم نجيب محفوظ هذا المستوى في رواياته الواقعية.
3 ـ الأنا كشاهد: وتكون الرواية هنا بضمير الغائب حيث يتخلى الراوي عن شخصيته وهنا تروى الحكاية من نواحٍ متعددة ويتجلى ذلك في رواية (مرنتفعات وذرنج) لأميليبرونتي مثلاً.
4 ـ الأنا كمشارك: وهنا يتساوى الراوي مع الشخصية الرئيسية ومن أمثال ذلك رواية السراب لنجيب محفوظ.
5 ـ المعرفة الكلية المتعددة الزوايا، تقدم الحكاية مباشرة كما عاشتها الشخصيات أي كما تعاش في وعيهم، كما في الرواية الرباعية الاسكندرانية للورانس داريل و (ميرامار) لنجيب محفوظ و (خمسة أصوات) لغائب طعمة مزبان.
6 ـ المعرفة الكلية الأحادية الزاوية: يقتصر الراوي هنا على وعي شخصية واحدة كروايات نجيب محفوظ: اللص والكلاب والطريق و (الوجه الآخر) لفؤاد التكرلي.
7 ـ الصيغة الدرامية المشهدية: لا تعرض هنا إلا أفعال أو أقوال الشخصيات المشاركة في الرواية وليس أفكارها أو مشاعرها كرواية همنغواي لمن تقرع الأجراس.
8 ـ الكاميرا: الهدف هو نقل قطعة من الحياة، كما حدثت بدون تغيير أو انتقاء وهي في ظني لا تختلف كثيراعن السابقة (××).
يتجلى التمييز بين الكاتب والراوي بوضوح مع وايين بوث الذي قدم ثلاثة مستويات من العلاقة بين الراوي ومرويته( ) وهي: ـ
1 ـ الكاتب الضمني: هو الذات الثانية للكاتب وهنا تكون الرواية أشبه بسيرة ذاتية للكاتب، ولكن عبر كاتب ضمني داخل النص.
2 ـ الراوي غير المعروف: الراوي هنا غير ممسرح داخل النص.
3 ـ الراوي الممسرح أو المعروف: هنا يكون الراوي ممسرحاً داخل النص.
تعدّ هذه الدراسات بمثابة الإرهاصات الأولى التي بدأت مع النقد الأنكلو ـ أمريكي( ) وتنتظم فيها منظومة اصطلاحية تنطوي تحتها ألفاظ مثل زاوية النظر أو وجهة النظر.
إلاَّ أنه يلاحظ أن هنالك خلطاً واضحاً في استعمال هذا المصطلح فإنه يطلق على موقع الراوي وأسلوبه في حين أنه ينبغي أن يستخدم مصطلح خاص لكل حالة وهذا ما أشرته المرحلة الثانية.
لعلّ المرحلة الثانية في البحث السردي حول الراوي أكثر وضوحاً في التمييز بين الموقع والأسلوب ولا سيما مع جينيت وتودوروف، إلا أن هذه المرحلة كانت قد بدأت مع جان بويون في كتابه (الزمن والرواية)( ).
لقد استنتج بويون ثلاث علاقات بين الراوي ومرويته انطلاقاً من علاقة الراوي بالشخصيات الروائية بحسب كمية المعلومات لكل من الراوي وشخصياته وهي( ).
1 ـ الراوي يعرف أكثر من الشخصية وهو ما يسمى بالرؤية المجاوزة.
2 ـ الراوي يساوي الشخصية أو الرؤية المصاحبة.
3 ـ الراوي يعرف أقل من الشخصية وهي الرؤية الخارجية كما يطلق عليها بعض النقاد.
انطلقت السردية الحديثة من بويون في دراستها للراوي لتنبثق معها منظومة اصطلاحية جديدة تخص الراوي وهي (التبئير ـ الصوت ـ المسافة ـ الصيغة) ويبدو أنها استعارت هذه المصطلحات من السرد الشفاهي في محاولة منها لضبط البنى السردية بشكل عام وإيجاد هيكل سردي يشتغل على الحكاية الشعبية والسيرة الذاتية والرواية والفلم كما ذكرنا في التمهيد.
لقد نجحت السرديات في إيجاد بنية سردية عامة تتكون من الراوي والمروي والمروي له، إلا أن هذا التعميم لا يلغي كل بنية سردية لأن آلية اشتغال كل مكون روائي تختلف من بنية إلى أخرى، فالراوي مثلاً في السيرة الشعبية غيره في الرواية لأن المسافة في الأولى تبتعد في حين أنها تقترب في الرواية وقد يتماهى الراوي مع مرويته.
انطلقت السردية الحديثة من هذا الارتباط بين العالم السردي والخصوصية الروائية لتميز بشكل واضح بين من يتكلم ومن يرى. لقد كان هنالك (خلط مزعج بين الصيغة والصوت بمعنى بين السؤال من هي الشخصية التي تتحكم وجهة نظرها بالمنظور السردي وبين السؤال من السارد أو لنقل من يرى ومن يتحدث)( ) يضع جيرارد جينيت هنا حداً للخلط بين زاوية نظر الراوي البصرية وأسلوب سرده.
لقد حدد جينيت في كتابه (خطاب السرد) ثلاثة مستويات من العلاقة بين الراوي ومرويته وهي( ):
1 ـ التبئير في درجة الصفر أو اللاتبئير الذي نجده في السرد التقليدي.
2 ـ التبئير الداخلي سواءً أكان داخلياً أم متحولاً أم متعدداً.
3 ـ التبئير المحايد الذي لا يمكن فيه التعرف على دخائل الشخصيات.
إنَّ هذه المستويات تتكامل مع تقسيمات بويون فلا نجد خلافاً واضحاً بينها. ويتفق تودوروف مع جينيت في التمييز الواضح بين الموقع وأسلوب السرد فقد ميز تودوروف بين أنماط ومظاهر السرد التي تتعلق ب(الكيفية التي تمَّ بها إدراك القصة من طرف الراوي)( ) أي مجموعة العمليات الزمانية والمكانية وتموضعات الراوي بالنسبة للأحداث كي يحصل على المعلومة القصصية الخام ليقوم بعد ذلك بإعادة إنتاجها وتكوين عالم قصصي مقدم بصيغ فنية مستخدماً الأنماط الفنية السردية التي (تتعلق بالكيفية التي يعرض لنا بها الراوي القصة ويقدمها لنا)( ).
يقترب الناقد الروسي أوسبنسكي من تودوروف ويقدم أربعة مستويات لعلاقة الراوي بمرويته وهي( ):
1 ـ وجهة النظر الإيديولوجية وتتعلق بالرؤى والأفكار المبرزة في الرواية، أي وجهة النظر الأساسية التقويمية التي تحكم العمل الأدبي ويتجلى ذلك من الناحية الفنية بسيادة صوت واحد في الرواية أو عدة أصوات وهنا تقترب كثيراً من وجهة النظر الثانية.
2 ـ وجهة النظر النفسية( ): يرتبط هذا المستوى من الصياغة بالواسطة التي تقدم من خلالها المادة القصصية، أيْ هل تنطلق من وعي ذاتي أم وعي موضوعي.
3 ـ وجهة النظر التعبيرية: هو الأسلوب الذي تعبر الشخصية من خلاله عن نفسها ويتضح ذلك في كيفية نقل الحوار وهنا يكون السرد مباشراً أو غير مباشر.
تمثل هذه المستويات الثلاثة أنماط السرد على النحو الذي ذهب إليه تودوروف في حين تمثل الرابعة مظاهر السرد.
4 ـ وجهة النظر على مستوى الزمان والمكان وهنا ندرس تنقلات الراوي الزمانية والمكانية.
ويرى أوسبنسكي أن موقع الراوي ينتج خطابه السردي أو وجهة نظره (فقد يعد هذا الموقع موقعاً أيديولوجياً أو تقويمياً وقد يعدها موقعاً زمانياً أو مكانياً لمن يصف الأحداث، أي الراوي الذي يبين موقعه في أحداثه زمانياً ومكانياً وقد تدرس من ناحية الخصائص الادراكيّة أو تدرس في معناها الخالص)( ).
إننا نعتقد أن الاهتمام بالراوي ينبغي أن ينصرف بشكل دقيق إلى (علاقاته ووظائفه وصيغ حضوره داخل النص)( ) أي مظاهر سرده وأنماطها على حد تعبير تودوروف فضلاً عن تحالفاته مع المروي له، وذلك لشدة اتصال صورة المروي له مع الراوي
ا
تعليق