
خيال لوحــــــــــــــة
أغمض عينيه ينشد راحة قد تاهت ،إنه السهد تشبث بأجفانه،اعتدل في نومه ،أشعل سيجارة راح يمتص معها انفعالات تزامنت معه حديثاً.
التفت حيث زوجته ذات العود الهزيل وهي تغطُّ في نومٍ عميق وموسيقى مشروخة تنبعث من صدرها الواهن,وعلى مقربة منها ولديه الصغيرين اللذين تقرفصا فوق سجادة مهترئة وبضع هلاهيل ممزقة تغطي جسديهما النحيل الذي يكاد يخلو من شحوم تتراكم على أجساد أقرانهم.
في زاوية قريبة هناك يقبع مصباح يتوهج بقليل من نور ودخان يكسو بها ظلام الغرفة الكئيبة,والتي تجاورها شبه غرفة تفوح من جدرانها المتكسرة رائحة الدهان والزيوت ,تلك الغرفة التي يمارس فيها رزق عيشه,لم تبخل عليه الحياة من عطائها فمنحته موهبة الرسم ,تلك التي تسمو معها روحه وتروي عطشه.
كان يرسم الطبيعة العذراء بغنجها ودلالها ,وابتسامة الأطفال البريئة ,ونظرة العجائز الموحية للخلجات الإنسانية,لكن تلك الغرفة كانت تتكدس باللوحات المتفاوتة الأحجام ,يبدو أن ما يأخذه مقابل رسوماته لم تكن تفِ ما يقيم أود أسرته,فالطلب عليها نادر.
مرّة قال له صديق: (حاول أن ترسم ما يريده الناس..)علقّ قائلاً: (وما يريده الناس؟) ردّ الصديق:- (بورتريه نسائي تمثل الجمال بوجوههن أو بحركة من أجسادهن تبرز مفاتنهن أو ....) لم يدعه يكمل قاطعه: مبادئي أنزه من ذلك, تركه وذهب.
في مساءٍ شتوي لبس معطفًاً بالياً ولفح نصف وجهه بلفةٍ صوفية ثقيلة في ساعةِ الغسق للدفء ، الساعة التي يُحب فيها الخروج ليُخفي بؤسه الجسدي والنفسي .
راح يتجول حول المدينة ..تعبٌ أجفل قدميه ,جلس على مقعدٍ في رصيفٍ كان يمشي عليه.
وفيما كان تائهاً مرّ فتى ًفي الثالثة عشر من عمره تقريبا ً, رمى بأدواته أمامه ، جلس على كرسيه الصغير الذي تعلوه طبقات من السواد كالمتراكم على وجهه ويديه.
قام بأداء الماهر في صنعته واضعاً قدمي الرجل على قوائم ٍحديدية ,ومن ثم راح ينفض حذاءه بكمي معطفه الممزق وبعدها أخرج دهاناً أسوداً وفرشاة مهترئة ليبدأ عمله.
علامات ضيقٍ تناثرت على وجهه ,سرعان ما اختفت حين لمس بضعة قروش داخل جيب سترته عندما اشتهى سيجارة متغضنة تواجدت منذ الأمس ، لحظات هي, رأى الفتى يُخرج ورقة ملفوفة بعناية , يلتفت يُمنةً ويُسرة كالخائف من عيون متربصة تتوق لاصطياده, اقترب منه وطلب فضّ الورقة هامساً :- انظر إلى هذه اللوحة يا سيدي, هذه رسمة لأحد الفنانين هناك في ذاك الحي نقوم ببيعها مقابل عشرون درهماً ,هل تشتريها يا سيدي؟)
نظر الرجل إلى اللوحة فإذا هي صورة لامرأة شبه عارية متقنة الرسم والألوان ,امتعض وهمّ بالوقوف ,لكنه تراجع صامتاً لبرهة..
قال :-(كم تأخذون منه مقابل ذلك؟) قال الفتى:- (إذا بعنا عشرة منها نأخذ خمسة دراهم),تردد في إلقاء سؤال آخر :-(وهل يكسب كثيراً ؟) أجاب الفتى وضحكة صفراء تعلو ابتسامته: (بالطبع يكسب كثيراً..فهناك العديد من الأشخاص يتهافتون لإقتنائها ويطلبون المزيد..احسبها وسترى !!)
انتهى الفتى من عمله واختفى بعد أن أخذ أجرة عمله..تاركاً وراءه خيالات تجوب أفق جامحة نحو تفكير بدأ يحسب كم سيكسب هو إذا رسم عشرة لوحات من ذلك النوع!!!
استقر التساؤل داخله,فاجأه صوت بوق سيارة كادت تدهسه أفاق إغفاءته ,تمتم يقول :أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
*
تعليق