04/ كتاب المجذوب : شوقي بن حاج
تبعا للمجاذيب الثلاثة ....والرماد الدافيء المتروك لإشعال جذوة الحرف...
كان بيت المجذوب الجد والحفيد قد تداعى للرماد...وعيناها الواسعتان كانتا أمامه تتسعان للحيرة والحزن...تتلظيان أمام حريق قد مر...
سقطت منها دمعة أثيرية فوق الرماد...
تشكل بالريح والروح والبوح إلى " المجذوب " ...
تجمدت في ذهول...
وقف إليها وهي تنظره, يبدو عليه الذهول أكثر منها وقال " هذه حال الدنيا, تبادلنا عوالمنا, كنت ملاكا نورانيا وها الآن أنت بشر يدمع, أما أنا فكنت بشرا تصهد أجوافه بك والآن مجرد خيال يوشوش بأنفاس الرماد "
الريح لا تزال تبعثر وتنثر البوح حين سمعت الصدى الصوتي يقول:" إذهبي إلى السوق...فهناك المجذوب..."
***
انهمك في تصليح الحذاء برتابة, وانهمكت دوائر ذاكرته في ممارسة تسلطها...هي هكذا تنتهز أقل المنافذ للولوج, دون استئذان من الأحذية المرتبة عن حسن نية زمنية..تذكر أيام الطفولة والدراسة, حين قال له جليسه : أنت لا ترى أنت ميت !
حينها وقد مرت سنين عديدة, ذهبت لأمك وسألتها:
- هل أنا ميت ؟
عاتبتك: آه يا ولدي من تفوه بذلك ؟ أنت حي أنت حي...
وكأنك أبصرت من بلورات دموعك دموعها المنسكبة ثم أضافت: أنت أفضل الجميع لأنك الأول في الإمتحانات...
قلت لها : وما فائدة ذلك وأنا لا أرى يا أمي ؟
ضمتك إليها وكانت رائحة السخاب القرنفلي تتضوع...لاتزال تتذكر ذلك الدفء وتلك الرائحة...
تطايرت ذاكرته فوق السقف القرميدي الذي فوقه مباشرة ...وفي لحظة رن هاتفك الجوال وميزت بين دقات الحذاء القادم إليك ودقات قلبك وبوق سيارة البيجو 404 ...أوقفت الهاتف ووقفت كل الدقات والرنات...وتوقفت أمامك صاحبة الحذاء الذي سمعته قبل لحظات ...ومن خلال الدقات استطعت أن
تسبر بعض تفاصيلها الداخلية ... كانت تمشي بمؤخرة قدمها ثم تضغط على كافة مساحة أسفل القدم يعني -حسب علمتك التجربة-أنها امرأة ذات تفكير عميق حساسة تميل إلى الأحاسيس المعقلنة ... أما خطواتها المتباطئة فيعني أنها إنسانية متأنية في كل شيء لا تعطي أحكاما إلا بعد تحليلها جيدا أما تباعد الخطوات فهي بالتأكيد تنظر للأشياء بشمولية ...الأكيد أن عينيها واسعتان وقلبها لا يتسع إلا لرجل واحد...
تقدمت إليه لتصليح حذائها... تلمسه جيدا وقال لها حذاؤك من صنع ايطالي بجلد الفيل تصليحه لا يتطلب الكثير... تنبهت أنه " إسكافيء أعمى " لكنه خبير بالأحذية سألته كيف عرفت ذالك؟
الشواف يشوف من قاع القصعة *0* والغربال يشوفو منو قع الناس (01)
- قالت : ولكنك أعمى؟
شافوني أكحل مغلف يحسبوني ما في ذخيرة
وأنا كي لكتاب مؤلف منافعي كثيرة (02)
أكتشفت أن الرباعيات هي للمجذوب الذي تبحث عنه في السوق أخبرته أنها باحثة في التاريخ وعلم الاجتماع والأنثرو بيولوجيا وأنها تبحث عن "المجذوب ..."
قال لها :
كسبت في الدهر معزة و جبت كلام رباعي
من ذا الي أعطاه ربي و يقول أعطاني ذراعي (03)
ثم أضاف :
عميت و صميت و خفيت بعد الرزانة
مشيت للرماد عامين نستنى فيهم السخانة (04)
اقترحت عليه أن يقرأ لها الحكم والرباعيات فلم يرفض ...
كانت تكتب بحروفها اللاهبة على جدارية شغافه, كان الصهد يصقع مواويل الرماد...
كان يحادثها نهارا وهي تسجل فقط, وفي الليل يأتيه خيالها. قال لها في حلم الليلة :
" ما لا تعرفينه يا عزيزتي أنك دوما معي وإن كان في الحلم, وما أجمله من حلم, والأجمل منه :عيناك الواسعتان...
في النهار لا أستطيع مصارحتك, أما الآن فأنت لي ما دمت أراك...
أتعرفين...في النهار لا وجود إلا لعينيك أما في الحلم, فتلتقي أعيننا دون ارتباك دون ارتواء!
في الحلم أنسج من كلماتك رباعيات القلب, أفتش بين الكلمات الهامسة عن بوح قد يكون...وأشكل منه بوحي...
آه كم هو قاس هذا الشتاء, والأقسى منه أن يغادرني حضورك الممتليء بالبهاء...آه
آه كم يعذبني هذا المتوغل في أغوار الغياب...
***
يوم الرحيل ...
بالقرب منه كان " المداح " يغني لحنا يلامس الدواخل:
"جيت نسالك و انتايا ترد جوابي ** حشمتك بالله كلمني
هذا وطنك ولا جيت براني ** يا راس بنادم لله كلمني
الباعث الوارث الخالق اللا يرى ** ما دام الدهر و الأيام ليك تدوم
ازرع فيك الروح و عيد لي كيف جرى ** حدثني باللي جازوا عليك هموم
حر انت و لا مملوك حرطاني ** يا راس المحنة لله كلمني
و لا أنت منسوب للبيت اهل السنة ** قلبك قانع بالتحرير متهني
و لا انت شاعر معاك أهل الكَانة ** زاهي في جلسة تفسير و معاني
هذا وطنك ولا جيت براني ** يا راس المحنة لله كلمني"(05)
فبقيت تستمع رفقته إلى اللحن والقصيدة إلى أن انتهى ... وانتهى معه لقاؤها... لتتحدد دقات قلبك مع دقات حذائها... سقطت منه دمعة ( لم يعرف الكاتب هل حقا دمعته أم دمعتها الأثيرية التي سقطت فوق الرماد ) أحس بضوء في عينيه أحس بالنور ... " أنا أبصر ..." جرى مهرولا باحثا عنها...لكنها كانت قد اختفت...وبقيت رائحة القرنفل...
ودَّ لو أخبرها أنه كاتب مبدع وأنه دخن من أجلها الكثير من علب السجائر ليبدع الرباعيات...
ودَّ لو اعتذر لها عن كل الرباعيات التي قالها في النساء...
تمنى أن يخبرها عن حلمه الأخير معها :
" قالت له : أنت النور...
قال لها : لكنك امرأة ترتدي الشمس..."
***
قيل : عاش هائما يبحث عن امرأة( عيناها واسعتان )...ترتدي الشمس
قيل : شوهد طيفه في كل الأمكنة والأزمنة...
قيل : بعد ان اشتهر كتاب عن المجذوب...بحث عنه المسؤولون لتكريمه وجعله شيخا للقبيلة...
قيل : إن الحجاج قد شاهدوه في أرض الحجاز...
.....................................
همسة: المجاذيب الثلاثة:
- المجنون(الدكتور/عبد العزز غوردو)
- بوح الرماد (القاصة/غفران طحان)
- آخر أوراق المجذوب(القاص الناقد/باسين بلعباس)
- (01), (02), (03), (04) : من رباعيات/ عبد الرحمان المجذوب...
(05):مقطع من قصيدة :
للشاعر الشعبي الأخضر بن خلوف..عنوانها (يا راس بنادم) عن محاورة جمجمة..
كان بيت المجذوب الجد والحفيد قد تداعى للرماد...وعيناها الواسعتان كانتا أمامه تتسعان للحيرة والحزن...تتلظيان أمام حريق قد مر...
سقطت منها دمعة أثيرية فوق الرماد...
تشكل بالريح والروح والبوح إلى " المجذوب " ...
تجمدت في ذهول...
وقف إليها وهي تنظره, يبدو عليه الذهول أكثر منها وقال " هذه حال الدنيا, تبادلنا عوالمنا, كنت ملاكا نورانيا وها الآن أنت بشر يدمع, أما أنا فكنت بشرا تصهد أجوافه بك والآن مجرد خيال يوشوش بأنفاس الرماد "
الريح لا تزال تبعثر وتنثر البوح حين سمعت الصدى الصوتي يقول:" إذهبي إلى السوق...فهناك المجذوب..."
***
انهمك في تصليح الحذاء برتابة, وانهمكت دوائر ذاكرته في ممارسة تسلطها...هي هكذا تنتهز أقل المنافذ للولوج, دون استئذان من الأحذية المرتبة عن حسن نية زمنية..تذكر أيام الطفولة والدراسة, حين قال له جليسه : أنت لا ترى أنت ميت !
حينها وقد مرت سنين عديدة, ذهبت لأمك وسألتها:
- هل أنا ميت ؟
عاتبتك: آه يا ولدي من تفوه بذلك ؟ أنت حي أنت حي...
وكأنك أبصرت من بلورات دموعك دموعها المنسكبة ثم أضافت: أنت أفضل الجميع لأنك الأول في الإمتحانات...
قلت لها : وما فائدة ذلك وأنا لا أرى يا أمي ؟
ضمتك إليها وكانت رائحة السخاب القرنفلي تتضوع...لاتزال تتذكر ذلك الدفء وتلك الرائحة...
تطايرت ذاكرته فوق السقف القرميدي الذي فوقه مباشرة ...وفي لحظة رن هاتفك الجوال وميزت بين دقات الحذاء القادم إليك ودقات قلبك وبوق سيارة البيجو 404 ...أوقفت الهاتف ووقفت كل الدقات والرنات...وتوقفت أمامك صاحبة الحذاء الذي سمعته قبل لحظات ...ومن خلال الدقات استطعت أن
تسبر بعض تفاصيلها الداخلية ... كانت تمشي بمؤخرة قدمها ثم تضغط على كافة مساحة أسفل القدم يعني -حسب علمتك التجربة-أنها امرأة ذات تفكير عميق حساسة تميل إلى الأحاسيس المعقلنة ... أما خطواتها المتباطئة فيعني أنها إنسانية متأنية في كل شيء لا تعطي أحكاما إلا بعد تحليلها جيدا أما تباعد الخطوات فهي بالتأكيد تنظر للأشياء بشمولية ...الأكيد أن عينيها واسعتان وقلبها لا يتسع إلا لرجل واحد...
تقدمت إليه لتصليح حذائها... تلمسه جيدا وقال لها حذاؤك من صنع ايطالي بجلد الفيل تصليحه لا يتطلب الكثير... تنبهت أنه " إسكافيء أعمى " لكنه خبير بالأحذية سألته كيف عرفت ذالك؟
الشواف يشوف من قاع القصعة *0* والغربال يشوفو منو قع الناس (01)
- قالت : ولكنك أعمى؟
شافوني أكحل مغلف يحسبوني ما في ذخيرة
وأنا كي لكتاب مؤلف منافعي كثيرة (02)
أكتشفت أن الرباعيات هي للمجذوب الذي تبحث عنه في السوق أخبرته أنها باحثة في التاريخ وعلم الاجتماع والأنثرو بيولوجيا وأنها تبحث عن "المجذوب ..."
قال لها :
كسبت في الدهر معزة و جبت كلام رباعي
من ذا الي أعطاه ربي و يقول أعطاني ذراعي (03)
ثم أضاف :
عميت و صميت و خفيت بعد الرزانة
مشيت للرماد عامين نستنى فيهم السخانة (04)
اقترحت عليه أن يقرأ لها الحكم والرباعيات فلم يرفض ...
كانت تكتب بحروفها اللاهبة على جدارية شغافه, كان الصهد يصقع مواويل الرماد...
كان يحادثها نهارا وهي تسجل فقط, وفي الليل يأتيه خيالها. قال لها في حلم الليلة :
" ما لا تعرفينه يا عزيزتي أنك دوما معي وإن كان في الحلم, وما أجمله من حلم, والأجمل منه :عيناك الواسعتان...
في النهار لا أستطيع مصارحتك, أما الآن فأنت لي ما دمت أراك...
أتعرفين...في النهار لا وجود إلا لعينيك أما في الحلم, فتلتقي أعيننا دون ارتباك دون ارتواء!
في الحلم أنسج من كلماتك رباعيات القلب, أفتش بين الكلمات الهامسة عن بوح قد يكون...وأشكل منه بوحي...
آه كم هو قاس هذا الشتاء, والأقسى منه أن يغادرني حضورك الممتليء بالبهاء...آه
آه كم يعذبني هذا المتوغل في أغوار الغياب...
***
يوم الرحيل ...
بالقرب منه كان " المداح " يغني لحنا يلامس الدواخل:
"جيت نسالك و انتايا ترد جوابي ** حشمتك بالله كلمني
هذا وطنك ولا جيت براني ** يا راس بنادم لله كلمني
الباعث الوارث الخالق اللا يرى ** ما دام الدهر و الأيام ليك تدوم
ازرع فيك الروح و عيد لي كيف جرى ** حدثني باللي جازوا عليك هموم
حر انت و لا مملوك حرطاني ** يا راس المحنة لله كلمني
و لا أنت منسوب للبيت اهل السنة ** قلبك قانع بالتحرير متهني
و لا انت شاعر معاك أهل الكَانة ** زاهي في جلسة تفسير و معاني
هذا وطنك ولا جيت براني ** يا راس المحنة لله كلمني"(05)
فبقيت تستمع رفقته إلى اللحن والقصيدة إلى أن انتهى ... وانتهى معه لقاؤها... لتتحدد دقات قلبك مع دقات حذائها... سقطت منه دمعة ( لم يعرف الكاتب هل حقا دمعته أم دمعتها الأثيرية التي سقطت فوق الرماد ) أحس بضوء في عينيه أحس بالنور ... " أنا أبصر ..." جرى مهرولا باحثا عنها...لكنها كانت قد اختفت...وبقيت رائحة القرنفل...
ودَّ لو أخبرها أنه كاتب مبدع وأنه دخن من أجلها الكثير من علب السجائر ليبدع الرباعيات...
ودَّ لو اعتذر لها عن كل الرباعيات التي قالها في النساء...
تمنى أن يخبرها عن حلمه الأخير معها :
" قالت له : أنت النور...
قال لها : لكنك امرأة ترتدي الشمس..."
***
قيل : عاش هائما يبحث عن امرأة( عيناها واسعتان )...ترتدي الشمس
قيل : شوهد طيفه في كل الأمكنة والأزمنة...
قيل : بعد ان اشتهر كتاب عن المجذوب...بحث عنه المسؤولون لتكريمه وجعله شيخا للقبيلة...
قيل : إن الحجاج قد شاهدوه في أرض الحجاز...
.....................................
همسة: المجاذيب الثلاثة:
- المجنون(الدكتور/عبد العزز غوردو)
- بوح الرماد (القاصة/غفران طحان)
- آخر أوراق المجذوب(القاص الناقد/باسين بلعباس)
- (01), (02), (03), (04) : من رباعيات/ عبد الرحمان المجذوب...
(05):مقطع من قصيدة :
للشاعر الشعبي الأخضر بن خلوف..عنوانها (يا راس بنادم) عن محاورة جمجمة..
تعليق