الموتى يعودون للحياة احيانا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سيد محمود الحاج
    أديب وكاتب
    • 12-05-2009
    • 29

    الموتى يعودون للحياة احيانا

    الموتي يعودون للحياة أحيانا ....!!!


    وقفت تقتلني الحيرة وقد راحت كل محاولاتي هدرا اطالع في كل الجهات وفي علم الله وحده متي يأتي من يعينني في الخروج من ذلك المأزق وانا في

    تلك الفلاة المنقطعة... عقارب الساعة تقارب العاشرة صباحا وبرغم ذلك مازالت رياح الشتاء الباردة النشطة

    تسفع وجهي واطرافي بذرات الرمال الخشنة وعيناي في غدو ورواح فيما بين السيارة الغارزة في الرمال وبين

    الأفق علّني أري أحدا من السابلة او ان تمر مركبة عابرة يمكن ان استنجد بها... لمت نفسي علي تشتت ذهني

    وعدم التركيز اثناء القيادة فقد كنت مشغولا ً بالتفكير في امور كثيرة يتوجب علي ّ انجازها قبل انتهاء اجازتي

    السنوية التي كان قد مضي عليها حتي تلك الساعة مايقارب نصفها.. ولولا ذلك لما وقعت في هذا المأزق الذي

    كان يمكن تفاديه بكل يسر وبعدة طرق... ليتني استجبت لما اقترحه اخي وانتظرته حتي انتهاء دوام عمله ليكون

    رفيقا ً لي في هذه الرحلة لكني كنت في عجلة من امري و وددت الأستفادة من كل ساعة من ساعات الأيام القليلة

    المتبقية.... وها انا الآن في صحراء لا يطرقها طارق وقد ابدد من هذه الساعات التي وددت ادخارها الكثير قبل

    ان يأتي من يمد لي يد العون للخروج من هذه المحنة... كنت اقود منذ اكثر من ساعة و يلزمني وقت اكثر بقليل

    من ذلك لأصل الي القرية التي يعيش فيها عمي والتي تقع في الطرف الأقصي من تلك الفلاة المترامية الأطراف

    وبالتالي لم يكن في امكاني موصلة السير راجلا ً سوي للوراء او للأمام فالمسافة شاسعة والطريق وعر.. عتامير

    ازهارها الأشواك والحجارة وفراشاتها العقارب وعصافيرها الحيّات....أما كان من الأفضل لعمي هذا لو كان

    مستقرا ً في قريتنا الأكبر حجما والأكثر قربا ً لكان قد كفاني عنت هذا المشوار.. ما الذي يعجبه في بسابس جدباء

    قاحلة كأنها جوف العير...قفار يتجسد البؤس علي كل معلم من معالمها !!... ما اكثر النساء في قريتنا..ألم يجد من

    بينهن من كانت توفر علينا كل هذه المشقة وكل هذا العناء !!؟.... ولكنه ظل يتكبّد مثل هذا لسنوات طوال دون ان

    يشكو يوما او يتذمر ففي كل مرة اعود فيها للوطن في اجازتي السنوية كان يأتي لزيارتي فور تلقيه نبأ وصولي

    ولا يؤخر فرضا ً في اي مناسبة من مثل ذلك...يأتي وخلف مطيته يربط كبشا او عنبلوكا ويندر ان يأتي بغير ذلك

    اذن فأن تكلفي هذا العناء لأجل زيارته قبل سفري ليس جميلا ً من الجمائل بقدر ماهو فرض وواجب ينبغي علي ّ تأديته.

    مضت ساعتان من الزمان دون ان يأتي منجد او معين ولا أحسب ان احدا سيأتي في مثل ذلك الوقت فأذا كان ثمة

    رعاة فلا يتوقع ظهورهم قبل المغيب بوقت قليل في طريق عودتهم من المرعي هذا اذا كان هنالك رعاة

    بالفعل في ذلك النطاق... ازدادت حدة قلقي وخشيت ان تمر الساعات و يدركني المغيب وانا في هذا المكان القفر


    الموحش... علي ّ ان ابحث جاهدا عن مخرج قبل ذلك.. دنوت من السيارة الغارزة في الرمال وفتحت بابها في

    محاولة يائسة لتحريكها... أدرت المحرك وضغطت علي دواسة البنزين بقوة مغيرا عاكس السرعة الي الخلف

    مثيرا عاصفة من الغبار ثم اعود احاول التقدم الي الأمام ولكن كان كل ذلك دون طائل اذ تنتهي كل محاولة

    بتوقف المحرك عن الدوران ومضيت اكرر المحاولة تلو المحاولة حتي استنفدت طاقة البطارية ولم يعد من الممكن ادارة المحرك مرة اخري فأصبحت

    امام مشكلتين... مشكلة العجلات الغارزة في الرمال ومشكلة البطارية التي لم تعد قادرة علي توليد الطاقة اللازمة

    لأدارة المحرك بعد ان نفد معينها . ربّاه كيف الخروج من هذه الورطة !!؟ هل اعود الي الوراء علي قدمي ّ عبر

    تلك العتامير التي خلفتها من ورائي تاركا السيارة في عهدة الرمال وذلك الخلاء أم أواصل السير الي الأمام علي

    امل ان اجد من يساندني في امري !!؟ ... ترجلت صافعا باب السيارة بقوة وانا اكيل لها السباب واللعنات كأنها

    هي المسؤولة عن ما انا فيه وكأنها تعي وتفهم مااقول ومضيت اسير علي غير هدي ربما لأكثر من نصف ساعة

    ولما فطنت الي انني ابتعدت كثيرا عن مكاني ذاك استدرت عائدا وقد عزمت علي ان اعود الي قريتي سيراً

    علي الأقدام عبر تلك الفيافي وليكن ما يكن...قد اضطر الي السير لثلاث او اربع ساعات او ربما اكثر من ذلك

    وسيحل الظلام قبل ان اصل لكن لم يكن من سبيل آخر.. كانت الفكرة بأن امضي في ماعزمت عليه واعود من

    بعد وفي معيتي مجموعة من الشباب مستعينين بسيارة اخري لأنتشال سيارتي من بحر الرمال الذي غاصت فيه

    ومن ثم دفعها ليدور محركها... ولكن حين مضيت الي حيث توجد العربة رأيت لدهشتي من علي البعد رجلا يقف

    بجانبها وظهره علي صندوقها وكأنه ينتظر مقدمي... كان في هيئة الرعاة يرتدي العراقي والسروال وعلي رأسه

    طاقية بيضاء.. مسحت علي عيني ّ للتأكد من ان ما أراه هو شخص بالفعل وليس خيالا ً.. تساءلت في نفسي وانا

    اجرجر الخطي ناحيته.. من اين أتي هذا الرجل ياتري !! فلو كان من الرعاة لكان في صحبة اغنامه ولو كان

    عابر سبيل لكنت رأيت مطيته حمارا كان ام جملا.. ولكن لا شيء يقف بجانبه.. ألقيت عليه التحية فردها في

    صوت اقرب الي الهمس ورأسه صوب الأرض دون ان اتمكن من رؤية وجهه.. أحسست بشيء من الخوف

    وعدم الأطمئنان فربما كان معتوها او قاطع طريق ! .. تحسبت لذلك واحتطت لأي مباغتة او تصرف قد يحدث

    من جانبه. ودون ان ينبس بكلمة حشر نفسه تحت السيارة ومضي يزيح الرمل من خلف الأطارين الأماميين

    بكل اناة ثم لم يلبث ان حرر جسده من ذلك الوضع وانسل بذات الهدوء وهو يشير علي بتشغيل المحرك. ولما

    كنت علي يقين من ان المحرك لن يدور بسبب ضعف البطارية فقد تلكأت في ذلك وكنت علي وشك ان اقول له

    ان ذلك لن يجدي لكنه بدا كمن قرأ ماكان يدور في ذهني فكرر الطلب في ثقة وتحت وطأة ذلك الشعور

    الذي كان يخالجني ساعتها لم أشا ان اعصي له امرا وكم كانت دهشتي كبيرة حين استجاب المحرك للأمر دون

    ان يبدي تمردا …. " ارجع..ارجع لي وراء ".. هكذا جاءني الصوت الواهن وبكل سهولة ويسر تحررت

    الأطارات من قيود الرمال ودارت وكأنها علي شارع اسفلت… بدا لي وجهه عقب ذلك واضحا ً كل الوضوح.. لم يكن

    بالغريب بل كان مألوفا.. رأيته من قبل ذلك مرارا ولكن عبثا حاولت تذكر اين ومتي كان ذلك . وبعد ان ابتعدت

    بالسيارة من بحر الرمال ذاك توقفت لتقديم الشكر للرجل ومعرفة وجهته لأخذه معي في طريقي الا انني رأيته

    ينصرف مبتعدا موليا ً وجهه شطر الجهة المعاكسة لاتجاه سيري ملوحا بيده من خلفه مشيرا علي ّ بمتابعة السير

    وعدم التوقف… هممت باللحاق به واخذه الي حيث يريد مكافأة له علي صنيعه الا انه كان قد ابتعد وبدا وكأنه محمولا علي بساط ريح

    فبقيت في موضعي ذاك ارقبه الي ان تواري خلف مجموعة من الشجيرات…اندهشت حقا للطريقة التي ظهر بها

    واختفي بمثلها فقد كان كالخيال… أين مقصده ياتري في هذه الفلاة الواسعة !! …قدرت ان يكون قد ذهب للحاق

    بأغنامه التي ربما كان قد تركها في مكان ما قبل ان يأتي لنجدتي او لعله عائد الي مضرب خيام قومه في مكان ما من تلك الأصقاع ...

    انطلقت مسرعا ولكن بحذر صوب قرية عمي وصورة ذلك الرجل لا تفارق ذهني..كنت

    علي يقين من انني قد رأيته في مرات عديدة قبل ذلك بل ويكاد يكون معروفا لدي ّ لكن الذاكرة ابت ان تعينني في

    تذكر ذلك. وهكذا ظلت الصورة تتردد في ذهني في اوضاع مختلفة.. تقترب حينا وتبتعد في آخر.. تصغر وتكبر

    الي ان ثبتت عند وضع معين وبدأت تظهر وتكتمل شيئا فشيئا تماما مثلما تفعل الصورة الملتقطة بواسطة كاميرا

    فورية… نعم عرفته الآن وتأكدت من صدق حدسي… انه بائع البرسيم في سوق قريتنا..يأتي اسمه في ذاكرتي

    ثم يمضي دون ان اتمكن من الأمساك به .. لايهم ذلك فقد اتذكره في وقت آخر لكن مايهم هو ان الشخص بات

    معروفا لدي ّ…بائع البرسيم الذي كنت كثيرا ما اذهب اليه في صحبة جدي في يوم السوق لشراء البرسيم حينما

    يقفر ّ المرعي صيفا…ذات الاكتاف العريضة والوجه المستدير واثر لجرح قديم في منتصف الجبهة…وحسب

    تقديري فقد تكون آخر مرة رأيته فيها قد لاتقل عن ربع قرن من الزمان او اكثر ولكن مع ذلك لم تتغير

    هيئته ولم تأخذ السنوات التي مرت منه شيئا.. ظل كما هو . وبينما كنت منهمكا في التفكير في امر الرجل جادت

    الذاكرة بأسمه.. نعم تذكرت ذلك فأسمه (ودضياب )… اذكر ان جدي عليه رحمة الله كان يناديه كما يناديه

    الآخرون بهذا الاسم ولكن في بعض احيان سمعته يناديه بأسمه مجردا…كنت اذكر حتي اسمه المجرد اما بعد

    تلك السنوات الطوال فلا احسب بأني قادر علي تذكر ذلك… المهم انه ود ضياب بائع البرسيم..كان جدي يطيل

    الحديث معه ويذكره بين حين وآخر بالعلاقة الرحمية التي تربط بين جده لأمه ووالد جدي…"اولاد خالات في

    الحساب ".. ولا أدري ما اذا كانت هنالك علاقة بالفعل ام ان تلك كانت احدي حيل جدي لأستعطاف الرجل

    والحصول علي ربطة البرسيم بسعر اقل فأنا لم اسمع جدي يتحدث عن هذه العلاقة سوي امام هذا الرجل كلما قصده في السوق .


    كانت الساعة قد تعدت الثالثة عصرا حين وصلت الي قرية عمي وحسب الجدول الذي وضعته آنفا كان يفترض

    ان اغادر بعد ذلك بقليل في طريق العودة اما الآن فقد لا يكون في وسعي العودة قبل صباح يوم الغد واني علي

    يقين من ان عمي لن يسمح لي بالتحرك ليلا واول كلمة سوف يدلي بها حين اعتزم ذلك ستكون .."الصباح

    رباح.. ان قعدت للحول ماتقوم بخاطر زول ".

    كان عمي يضحك الي درجة انه يضطر أحيانا الي صد اللقمة عن فمه ونحن نتناول طعام الغداء.. ضحك حتي

    سالت الدموع من عينيه فيمسحها بين فينة واخري بطرف ثوبه المحمر... " قلت لي ْ لاقيت سليمان ود ضياب !!

    سليمان دا يا جنا مات قبّال عشرين واللا تلاتين سنة... بعدين حتي كان فرضنا انو حي.. لي هسع ما يتلقي فضل

    فيه حيلا ً يمرقبو عربيتن وحلانة " !!.... وامام اصراري بأن الرجل الذي رأيته هو سليمان ود ضياب بعينه لا

    غيره تزداد قهقهة عمي البشير... " انت عارف اتلقي دا واحدا ً من عرب الحسانية النزلوا وراء الباجة ...دائما

    بشوفهم في المكان القلت عليه دا... الحاجة التانية ود ضياب دا حتي لو بقيتن حي.. شن بجيبه للخلاء دا..هو من

    ناس الشقيق.. هناك رد البحر " !!.... وعلي الرغم من ان كلام عمي كان منطقيا الا انني كنت مصرا علي رأيي

    ولم اشا التنازل عن ذلك فعمي كثيرا ما يخلط بين الأمور وينسي اكثر مما يتذكر فلربما يكون ود ضياب من هذه

    النواحي... اضاف عمي الذي يبدو انه احس بعدم اقتناعي بما اورده من حقائق ..." طيب ياعمر ياولدي..انت قلت

    ود ضياب دا كان ببيع شنو !؟ ".... فأجبته بأنه كان يبيع البرسيم فأردف ..." اها مادام كان ببيع البرسيم معناه

    زول بحر... واللا داير تقول لي ْ بزرع البرسيم في العتمور دا "!!... امام هذه الحقيقة لم يتبق لي ما ادحض به

    منطق عمي علي الرغم من انني علي يقين تام بأن الشخص الذي رأيته لم يكن سوي بائع البرسيم حيّا كان ام ميتا ً

    ولكني آثرت عدم التمادي في النقاش الذي لن يوصلنا الي بر فسقت الحديث الي مناح أُخر.

    ( 2 )

    لم تمر سوي بعض ايام علي تلك الواقعة حتي جاء خالي الطاهر ذات مساء ليقول لي : " بكرة الصباح ان حيينا

    دايرنّك في مشوار عزاء.. عمنا ود المصباح مات ليه يومين والناس ديل طالبننا .. داك الليلة في وفاة حبوبتك

    آمنة جونا للعزاء لوري مليان.. اها نحن ترانا غير الجمعة الباكر دي ما عندنا طريقة تاني". وفي صباح باكر

    من اليوم المحدد كانت سيارتي الهايلوكس موديل 81 تنوء بحمل ثقيل تشق طريقا ترابيا وعرا في وجهتها الي

    قرية الشقيق التي تبعد عن قريتنا نحو نيف وثلاثين كيلومترا وآخر عهدي بها كما اذكر كان في ايام الصبا.. لا

    أدري كم من السنوات قد مرت علي ذلك لكن الذي اذكره انني كنت ضمن فريق كرة القدم التابع لقريتنا وقد ذهبنا

    في مباراة ودية بيننا وبين فريق تلك القرية واذكر انني تعرضت خلالها الي ركلة نتج عنها التواء في كاحل قدمي

    اليمني ظل يورقني لفترة طويلة اعقبت تلك المباراة.. وصلنا بعد ساعة من الزمان لأجد القرية التي رأيتها آخر

    مرة قبل عقدين مضيا كأنها ترس متصلب في عجلة الزمان...كما هي..ذات البؤس والكآبة ولا ادري ماالذي كان

    سيكون عليه حالها لولا انها واقعة علي ضفة النيل..بدا لي ان الزمن فيها ظل مربوطا الي ساق شجرة او الي وتد كما

    تربط دابة او ماعزة فلا تبارح موضعها الا بمقدار مايسمح به الحبل الذي يربطها وما أقصره ... لم أرَ شيئا جديدا

    سوي مبني ً بدأ وكأنه باقة ورد ملقاة وسط مقبرة قديمة مهجورة بينما بدت القرية بأكملها امام مرآه وكأنها لحن

    نشاز في سمفونية تراجيدية..هل ياتري نصّبوا للشقيق واليا ًيخصها دون غيرها ! ليس ذلك ببعيد فالأرض باتت

    تنبت الولاة اكثر من انباتها العشب ..قد يكون منشأة اوناديا تبرع ببنائه احد المحسنين وعلي ذكرذلك لاحت امامي

    وجوه بعض لاعبي فريق كوكب الشقيق ولا أدري اي كوكب هذا الذي ينتمي الي شقيق وليس شقا حتي.... كان

    زمانا جميلا... خلف.. جادين...ود البر...شاقوق حارس المرمي... ود الحنان وعبدالخالق الذي ربطتني به صداقة

    منذ ايام الدراسة في المدرسة الوسطي والذي كان اول من وقع عليه بصري في دار العزاء...سنوات طوال حالت

    بيننا... جلست علي مقربة منه نتجاذب اطراف الحديث ونستذكر العديد من الأحداث والمواقف وزملاء الدراسة

    ونستحث ذكريات ذلك الزمان الجميل .. وجاء شاقوق حارس المرمي يشاركنا الحديث..مازال يتحدث علي

    سجيته ويتأتيء كثيرا اثناء الحديث... علمت انه استقر في احدي قري الجزيرة بعد زواجه هنالك ولا يأتي الا في المناسبات .

    ( 3 )

    نادي شاقوق علي احد الصبية يطلب منه جمع الأكواب الفارغة وقبل ان يباشر الصبي فعل ذلك بادره

    بالسؤال وهو يركز نظراته عليه : " انت قطع شك من الضياباب .. انا في الشبه اصلي مابتغالط "!! فأومأ الصبي

    برأسه ايجابا وتدخل عبدالخالق يؤكد صحة توقعات شاقوق :" فعلا ً ياهو من الضياباب.. . دا ود عبدالرحيم ود

    سليمان ودضياب "... وعلي صدي الاسم تذكرت ماجري لي قبل ايام في الطريق الي قرية عمي في البادية

    وذلك الرجل الذي ظهر من حيث لا أدري وانقذني من ذلك المأزق... اذن فعمي كان علي حق ولم يخلط بين

    الأمور كما توقعت فلا صلة بين ود ضياب بائع البرسيم وبين تلك البسابس الماحلة.. نعم وكما قال عمي فأن

    ذلك الرجل قد يكون من اؤلئك الرحّل. ألتفت عبدالخالق الي الصبي الذي كان مشغولا بجمع الأكواب يسأله عن

    صحة ابيه وهل تحسنت عما كانت عليه في اليومين السابقين وقبل ان يدلي الصبي بأفادته تدخل شاقوق مستفسراً

    ليعلم ان والد الصبي طريح الفراش منذ اشهر وقد اجريت له أكثر من عملية دون ان تتحسن صحته. انتهزت

    مناسبة الحديث عن ود ضياب لأسال عبدالخالق ما اذا كان عبدالرحيم هذا ابن سليمان ود ضياب بائع البرسيم في

    سوق قريتنا قديما فأجاب بما وافق ظني ..." بس ياهو ذاتو..بالله لي هسع بتتذكره..الله يرحمه ويرحم الجميع..دا

    مات من زمن طويل "!! .

    وقبل ان نغادر دار العزاء عائدين الي قريتنا ذهبت في رفقة شاقوق الذي مضي لمعاودة عبدالرحيم ودضياب منذ ان علم
    بمرضه فمنزله كان علي مقربة من دار العزاء وجاء يلحق بنا صديقي عبدالخالق.. وعلي الرغم من انه لا

    توجد سابق معرفة بيني وبين الرجل الا انني احسست وكأن شيئا يدفعني لزيارته.. مضينا نسير علي مهل وطيلة

    سيرنا ما انفك عبدالخالق يحكي لشاقوق عن الظروف الصعبة التي يمر بها عبدالرحيم ومعاناته الطويلة مع

    المرض وعسر حاله..." حتي الكارو الكانت ياها اكل عيشو وعيش وليداتو باعها..والله معلم الله عديل..البوكلو

    للوليدات ماعنده...والمشكلة ناس الحلة زي ما انت شائف كلهم واقعين .. الواحد فيهم رزق اليوم باليوم.. يوم في

    ويومين مافي.. لا زراعة بقت نافعة لا غيرها نافع.. بس قول ربك يصلح الحال "!!.

    ( 4 )

    الحال يغني عن السؤال !!... كان في استقبالنا في دار عبدالرحيم ود ضياب السيد/ الفقر في ابهي حلله..هاشا باشا

    ولأول مرة اسمع له صوتا ً بهذه الحدة... كان مثل ذلك الصوت الذي نحدثه بالنفخ بوضع افقي علي عنق زجاجة

    فارغة او كالذي يحدث عند اصطدام ريح الشتاء ليلا بسلك النافذة.. و رأيته من بعد ذلك عيانا بيانا

    متجسدا في فناء الدار وعلي الجدران وعلي وجوه الأطفال واجسادهم... استملك كل شيء وطغي علي كل شيء

    فلا تري في الدار شيئا سواه.. احتل مكان جميع الأشياء حتي مربط الحمار كان خاويا الا من كومة بعر لا أدري

    ان كانت معدة للبيع ام لترميم بعضا من الجدران المتهالكة !! .. وعلي عنقريب بال ٍ استعيض عن احدي أرجله

    برصّة من الطوب الأحمر يرقد صاحب الدار وهو يحاول جاهدا تعديل وضعه لملاقاتنا.. ارتددت الي الوراء

    بحركة لا ارادية حين رأيت وجهه.. ليس من فرق بينه وبين وجه ذلك الرجل الذي كان له الفضل في اخراج

    سيارتي حين غرزت في الرمال.. الوجه المستدير ومسحة الحزن التي تشوبه.. تطابق تام بين الوجهين..ساورني

    ذات الأحساس بالدهشة وسرت قشعريرة في كافة جسدي ولا انكر حقيقة شعوري بالخوف ايضا. جلس شاقوق و

    عبدالخالق علي العنقريب المقابل له بينما جلست انا علي الكرسي الوحيد علي مقربة منهما وبينما مضيا يبادلانه

    الحديث ويسألانه عن حاله وصحته جلست صامتا مأخوذا بحال الرجل ومدي البؤس الذي يعيش فيه..تأثرت

    كثيرا ولشد ما آلمني ان يجتمع الأثنان ...الفقر المدقع والمرض...عجبا لأمر هذه الحياة ومسار الحظ فيها..أناس

    يموتون بالتخمة.. يبنون القصور والفلل ويغتنون السيارات الفارهة ويمتلكون المزارع لا لأجل نتاجها ولكن

    لتكون مسرحا لنزواتهم وشهواتهم.. يبعثرون ويبعزقون الأموال هنا وهناك ولما لا يجدون ما يفعلونه بها يلعبون بها علي

    الموائد الخضراء.. وبعضهم يكنز المال ويحرم نفسه نعمة التمتع به ويظل لاهثا طوال عمره وراء جمعه

    وتكديسه دون ان يهدأ له بال وفجأة وعلي غير مايتوقع يذهب من الدنيا خالي الوفاض لايحمل فلسا من جملة

    ملايينه... اموال تكتنز من قبل اشخاص يعدون علي اصابع اليد يكفيهم القليل الأقل منها لعيش حياة رغدة وتوفير

    العيش الكريم لآلاف سواهم ولكن مع ذلك تظل رهينة خزائنهم حتي بعد موتهم وعلي مقربة منهم يرقد مثل

    عبدالرحيم ود ضياب يقتله الناسور و لا يملك ثمن الدواء ولا مايقيت به اطفاله فيضطر الي بيع عربة الكارو

    مصدر دخله الوحيد ومن بعدها الحمار الذي يجرها... وهل استثني نفسي !... فأنا واحد من هؤلاء... فهذه السيارة

    اتركها متوقفة لمدة عام او اكثر من ذلك لأعود استخدمها اثناء تواجدي في اجازتي السنوية لشهر او شهرين ثم

    اذا انقضت الأجازة اعيدها الي موقفها لتبقي فيه لعام آخر ومئات من حولي في حاجة لثمن الخبز وثمن الدواء...

    اين التكافل واين الأنسانية التي نتحدث عنها و اين الأشتراكية وكل تلك الشعارات الجوفاء التي نطلقها وننادي بها دون ان نطبق

    ايا ً منها... ماذا لو فعلنا ذلك ولو لمرة واحدة في العمر فتقاسمنا لقمة مع جائع او اعنا مريضا بجرعة دواء !!.

    " والله يا عبدالخالق عبدالرحيم المرض كبّره قبّال يومه.. بقي صورة من ابوه الله يرحمه !" فأضاف عبدالخالق

    مؤيدا كلام شاقوق ونحن عائدين الي دار العزاء : " فعلا بقي يشبه عمك سليمان شبه شديد .. بس ناقص الفلقة

    الفي نص الجبهة "!!.. اتسعت حدقات عينيّ ونظرت الي عبدالخالق طويلا تسود دواخلي احاسيس
    امتزجت معانيها ولذت بالصمت لوقت طويل.

    احسست وكأنني اصطنت الي خطبة سياسية لا خطبة صلاة جمعة فأظل أقاوم احساسا يدفعني بشدة لمقاطعة الأمام ذو اللحية

    المنمقة والذي بدا انه لم يدخر وسعاً في سبيل تدجين الوقار والهيبة وتطويعهما.. عينان مكتحلتان وقفطان

    فضفاض ومحاولات جادة لتضخيم الصوت يحالفها التوفيق في موقف ويجانبها في آخر..كانت الخطبة عن

    الجهاد والشهادة فعجبت كيف يجاهد الجائع والمريض واي جهاد اشد بأسا من الجهاد في سبيل لقمة العيش !! واي شهادة يدعوا اليها والشهداء آلآف من حوله يقتلهم الجوع ويحصدهم المرض !

    هل الجهاد والشهادة هما قضية الساعة حتي يسترسل الخطيب في الحديث علي ذلك النحو !!؟..لماذا

    لا تكون خطبته عن العدل والمساواة والتكافل وأكل مال الناس بغير وجه حق..أهذا أحق ام دعوة

    للجهاد والشهادة في قرية جل أهلها شهداء ومجاهدون !!؟ .

    قال شاقوق لعبدالخالق وقد مرت من امامنا سيارة جلس في مقعدها الأمامي ذلك الخطيب المستوقر

    يقودها ابنه الشاب :" هسع عليك

    الله ياعبدالخالق شيخ مصطفي دا .. الطوب المرصوص قدّام قصره دا داير بيه شنو..ماكان اوْلي يصلّح بيه حوش الجامع المتهاير دا " !! .


    سعدت كثيرا وانا أختتم قراءة الرسالة التي بعث بها اليّ صديقي عبدالخالق بعد اشهر تلت ذلك اليوم يخبرني فيها بأن

    عبدالرحيم ودضياب قد تعافي تماما بعد العملية التي اجريت له في المستشفي الخاص وعاد يعمل بعربة الكارو

    الجديدة بهمة ونشاط جديدين ويردد امام الجميع بأنه يحس وكأنه عاد للحياة من بعد الموت .

    تراءي لي بائع البرسيم من بعد..كان وجهه مشرقا ً وقد اختفت مسحة الحزن التي كانت تشوبه وبت علي يقين لا يقبل الشك مطلقا بأن الذي أتاني في ذلك اليوم لم يكن سواه … المرحوم سليمان ود ضياب.


    ( انتهت )
يعمل...
X