الغالية
كانت إمارات الجزع بادية على وجه السيدة "غالية" التي جلست في غرفتها على كرسي بالقرب من النافذة المطلة على الساحة المركزية للقرية، كانت ترقب الوضع في الساحة بعينين شاع فيهما القلق والتوجس والخوف وهي لا تفتأ تردد: "الله يستر".
بدأ السكان يتجمعون.. عقارب الساعة تقترب حثيثا من الثالثة عصرا، ومع تكاثر السكان كانت نبضات قلبها تزداد..بدأ جبينها ينز خيوطا مالحة، تنزلق نحو عينيها، فتقوم بمسحها بين الفينة والأخرى مخلفة حرقةً في عينيها. لم يستوعب المكان جمهور المتوافدين الذين أخذوا يتوزعون على الشوارع المتفرعة من الساحة.. وعدد من الشباب كانوا يحملون العلم بعزيمة وكبرياء، والسيدة غالية لا تكاد تستقر فوق كرسيها، وهي ترقب الوضع بقلق شديد.. ألقت نظرة على الساعة المعلقة على الحائط.. خمس دقائق فقط تفصل الجمهور عن ساعة الانطلاق، فازداد توترها وانزعاجها، وقفت أخذت تجوب غرفتها بخطوات عصبية، شاهدت من نافذتها ذلك الانتشار المكثف للجيش، قالت لنفسها: "لن يمر هذا اليوم على خير، إن الشباب متحمسون ولن يرحمهم العسكر.. دعهم يعيشون يا رب ولتكن الشهادة لي".
أزفت الساعة وانطلقت المسيرة.. احتارت السيدة غالية في أمرها... وعادت تحدث نفسها: "ماذا يمكنني أن أقدم؟ ماذا يمكن لمن هي في مثل سني أن تفعل؟.. لن أترك الأولاد فريسة للعسكر مهما كلفني الأمر.. إني أرى الشر في عيون الجنود".
وبحركة تنم عن قرار مفاجئ فيه تصميم، غادرت الغرفة. توجهت إلى المخزن، لحظات حتى خرجت تحمل كيساً منتفخاً ثمّ انسابت بين الجموع المحتشدة، اعتقد العسكر بأن إرادة السكان على سفح الجبل كالمياه المتجمدة فوقه من الصقيع، ما أن يمسها لهيب ظهرهم حتى تذوب كما تذيب أشعة الشمس الذهبية الثلوج لتجري مياهها رقراقة نحو البحيرة، ولكن الأهل الرافضين للهوية الغازية استمدوا صلابتهم وقوة إرادتهم من شموخ الجبل وصخوره الصلبة. نشروا بينهم بعضا من اشتروهم لعلهم يحدثون شرخا في الإرادة الجماعية، قالوا: "إن المياه عندما تدخل بين الشقوق ستعمل على سرعة إذابة الثلج"، ولكن الأهالي ازدادوا لحمة ولفظوا المندسين، وجاء الرد قاسياً: "إن من يخرج عن الإجماع يدفن كالجيفة.. بدون صلاة، وبدون مشاركة حتى أقرب المقربين إليه في جنازته". وأعلنت الصبايا رفضهن الاقتران بالخارجين عن الإجماع.."هذا يحمل هويتهم بعيد السامعين، بصقة لا يستحق نظرة". من فترة ماتت عجوز غُرر بها فلم يقم لها عزاء رغم عمرها المديد، ومات واحد ممن انزلقوا مستغلا كبر سنه فقام بدفنه أحد أبنائه ورفضت الأسرة حتى إلقاء نظرة الوداع الأخير عليه أو تقبل التعازي فيه.
بدأ الجمهور يصرخ بصوت هادر: "مش ناقصنا هوية هويتنا عربية سورية" و "يا عروبة ثوري ثوري، الجولان عربي سوري".
كان الصوت قوياً هادراً وحاداً ليسمع الصم والبكم إلاّ العروبة التي لم تعد تسمع أو ترى إذ واصلت سباتها العميق السحيق المقيت المميت، لقد استرخت وخلدت إلى الراحة، وتركت الهضبة أسيرة مع شقيقها الأقصى المبارك، فأدرك السكان أن عليهم أن يكونوا الحراس الأمنيين عليها، وإن قدرهم أن يقوموا بالعبء عن الأمة كلها.
واشتد الحماس، فقرر الجيش أن يضع حداً لصلابة هذا الشعب الذي يدافع عن حقه المقدس، كان الغزاة يرون فيه شعباً لا قيمة له كي يستحق الحياة. قال الجنرال: "إننا لن نسمح لجيشنا الذي قهر جيوشهم مجتمعة أن تقهره تلك القلة السافلة الخارجة على قانونا المقدس"، فكانوا القاضي والجلاد، ولا راحم للضحية إلا قوة إرادتهم، وصلابة عزيمتها التي أبت أن تنكسر او تلين.
أخذ الجنود مواقعهم على السطوح العالية، كانوا كلما حاولوا أن يشرئبوا بأعناقهم ليستطلعوا الوضع تصطدم عيونهم ببريق الثلج الذي ازداد لمعاناً مع أشعة الشمس فأغشى أبصارهم عن رؤية الحق والحقيقة.
كان قائد الكتيبة يقف فوق إحدى البنايات المشرفة على الموقع يوجه تعليماته بواسطة جهازه اللاسلكي، وكان برفقته جندي واحد، قال الضابط للجندي كأنه يحدث نفسه:
"- علينا أن نكسر شوكتهم
رد الجندي في لا مبالاة أغاضت الضابط:
- طالما أنهم يصرخون في مناطق سكناهم فليصرخوا حتى تتفجر حناجرهم
قال الضابط بصوت حاول استثارة نخوة الجندي:
- انظر إلى بساتين التفاح المتناسقة، انظر إلى الأشجار المثقلة بأحمالها، ألا تشتهي أن تكون مالكاً لإحدى هذه البساتين.
- إنه فعلا منظر ساحر ناتج عن عمل منظم ودؤوب .. ولكن كيف يكون لي وأنا لا املك ثمن كيلو واحد من إنتاجه؟
نظر الضابط إلى الجندي وقال بنيرة قوية:
- إنهم يتشبثون بالأرض.. يتحدون كل تعليماتنا لهم بالكف عن الفلاحة.. نحن لا نستطيع أن نستولي على ارض مفلوحة ببساطة.. تريدها بورا ليرى العالم كيف نعيد إصلاحها.. عند هذا فقط يمكن لك أن تكون مالكا لإحداها.
- إنها أرضهم.. وهم أحرار فيما يفعلون.
- - وما ضرك لو كانت هذه الحقول لنا.. إننا نستطيع أن نشغل بها نصف الأيدي العاطلة عن العمل عندنا.. هم لا يريدون تركها ولا بيعها، وعلينا تقع مسؤولية إخراجهم منها حتى تكون لنا..
صمت الجندي فأكمل الضابط حديثه:
- ثمّ أنهم يسرقون المياه، ألا ترى الخزانات الخاصة بجمع مياه الأمطار؟!
- الأمطار تأتي من السماء، والحق فيها مشترك..
- من قال لك هذا؟ مياه الأمطار، كان من المفروض أن تجري مسرعة إلى البحيرة دون أن يعترض سبيلها احد، او تتغلغل في باطن الأرض لتجري بين الشقوق حتى تستقر فيها لنستخرجها عند الحاجة إليها.. حاجتنا نحن، لا حاجة احد أخر..
- إن الله يرسل الخيرات للجميع.
نظر الضابط إلى الجندي وقد ملا الغضب وجهه وهو يقول بصوت زاجر:
- علينا أن نتسلل إلى أعماقهم ونتوغل فيها لنستلى منها شعورهم بالانتماء. هنا فقط يمكن أن ننسيهم لغتهم... تاريخهم ... ثقافتهم، في هذه اللحظة يمكن أن نسحب الأرض من تحت أقدامهم ليعيشوا في فراغ، حتى يصبحوا كالخاتم في إصبعنا.. تماما كما فعلنا مع الأغلبية مما سبقوهم في الجليل والكرمل، فنحن قادرون على إجادة هذه اللعبة، لأننا أحق بالأرض وبالمال منهم.
قلب الجندي شفتيه وهز رأسه يمنة ويسرة وقال بصوت ينم عن عدم اقتناع:
" – ولم كل هذا؟ فلنعش وندع الآخرين يعيشون.. فهناك متسع للجميع..
فصرخ الضابط في وجهه وهو يقول في توبيخ وحدة:
- أنت لا يمكن أن تكون منا، لقد أفسدتك أفكارك اليسارية، أنت يساري بشع واليساريون ليسوا منا، نحن مع اخترع الأفكار اليسارية لنلهيهم بها عن أهدافنا، أنت حشرة.. وسوف يأتي اليوم الذي تسحقون فيه.
ولم يتوقف هياج الضابط إلا عندما اشتد صوت الصراخ عند السكان فحوّل ناظريه الى أسفل، رفع الجهاز وأخذ يوزع تعليماته على الجنود المتواجدين على السطوح بصوت فيه حدة: "القوا القنابل المسيلة للدموع"، وانهالت القنابل كالمطر في كل الاتجاهات، تراجع الجمهور قليلاً ولكنه سرعان ما عاد يتجمع مما أثار استغرابهم، قال لنفسه: "من أية طينة هؤلاء البشر؟"، أمعن النظر فشاهد "غالية" وهي تحمل كيسا ونخرج منه رؤوسا صغيرة بدأت بتوزيعها على الجمهور، احمر وجهه، وقال لنفسه وقد ظهرت عليه إمارات الارتباك الشديد: "لقد قالت لنا القيادة العامة إن الظروف الدولية ليست مواتية لارتكاب مذبحة أخرى في هذه الفترة ولكن قد نكون مضطرين.. ما العمل؟!
أمعن النظر أكثر فشاهد الجمهور وهم يأخذون بكسر الرؤوس ثمّ يقومون بعصرها في اتجاه عيونهم، فتنهد الصعداء / إن ما تقوم بتوزيعه تلك السيد ليس قنابل يدوية، رفع منظره الذي يتدلى على صدره بكلتا يديه ونظر، ثمّ أعاد المنظار إلى مكانه وهو يبتسم ابتسامة مكسورة، وقال لنفسه وهو يهز برأسه: "يبدو أنها توزع رؤوس بصل" ثمّ قلب شفتيه وعاد يسأل نفسه: " بصل ؟! أه هذه العجوز تريد أن تقهر إرادتنا".
اتصل بالقيادة العامة وأعلمهم بالأمر، قالوا له انتظر قليلا، وما هي إلا لحظات حتى جاءه الرد إن البصل يبطل مفعول الغاز المسيل للدموع، فتساءل وما العمل؟ فجاء الرد سريعا: " اطرحوها قتيلة".
قال الضابط للجندي وهو يشير بإصبعه نحو السيدة:
- انظر إلى هناك، إلى تلك السيدة التي تقوم بتوزيع البصل، أتشاهدها؟
- أين؟
- هناك
- انه فاتح للشهية، إنني أراها.. ولكن لماذا توزع البصل؟
- دعك من ذلك الآن سوف اشرح لك الأمر لاحقا، أتأكدت من مشاهدتها؟
- إني أراها بدون استعمال بندقية القنص.
- أريد الإصابة في رأسها المفلطحة
- إنها لا تشكل أي خطر علينا
- نفذ فورا
- فلتطلق النار أنت
- قيمك وفلسفتك الشخصية اتركها في بيتكم خارج الإطار العسكري، انك هنا في ساحة معركة فإما نحن او هم
- لا لن أطلق النار عليها.. إنها عجوز تذكرني بجدتي هناك
- لا تناقش ونفذ فورا
- لن أطلق النار طالما أن الأمر لا يشكل خطرا على حياتنا
- إني آمرك.. لاحظ انك ترفض التعليمات الصادرة إليك
- التعليمات التي تلقيناها قبل الحملة واضحة، وهي تقول "ممنوع إطلاق النار طالما أن الأمر لا يشكل أي خطر علينا"
- هذا للاستهلاك الإعلامي، إن أوامري الآن تلغي كل التعليمات السابقة.
لاذ الجندي بالصمت، فأكمل الضابط أمره في حدة:
- سوف يكلفك رفضك غاليا.. سوف تقدم إلى محكمة عسكرية
ولكن الجندي هز كتفيه معلنا عن لا مبالاته.. فصوّب الضابط بندقيته إلى رأس السيدة، وأطلق النار، فتدفق الدم المقدس على الثرى الذي ما زال يميل إلى السواد من فعل بركان تفجر في عهود غابرة.
امتزج الدم بالثرى ليزيد من قدسيتها، تتفجر بركان الغضب في النفوس، مما دفع الضابط إلى رفع جهازه وأمر جنوده بالانسحاب قائلا بصوت لم يخل من رنة خوف: "انسحبوا بسرعة.. إنهم مجانين.. قد يهجمون علينا ولو كلفهم ذلك الكثير من القتلى.."
اخذ الجنود يقفزون عن السطوح مهرولين.. وتحدث الضابط إلى الجمهور الهائج بواسطة مكبر الصوت قال وهو ينسحب بظهره: "إن قتيلة واحدة فقط سقطت فاحمدوا الله.. إننا في مناطق أخرى نحصد حصدا.
وبعد لحظات علا صوت مكبرات الصوت في القرى القريبة والبعيدة ينعي الشهيدة الغالية.
كانت إمارات الجزع بادية على وجه السيدة "غالية" التي جلست في غرفتها على كرسي بالقرب من النافذة المطلة على الساحة المركزية للقرية، كانت ترقب الوضع في الساحة بعينين شاع فيهما القلق والتوجس والخوف وهي لا تفتأ تردد: "الله يستر".
بدأ السكان يتجمعون.. عقارب الساعة تقترب حثيثا من الثالثة عصرا، ومع تكاثر السكان كانت نبضات قلبها تزداد..بدأ جبينها ينز خيوطا مالحة، تنزلق نحو عينيها، فتقوم بمسحها بين الفينة والأخرى مخلفة حرقةً في عينيها. لم يستوعب المكان جمهور المتوافدين الذين أخذوا يتوزعون على الشوارع المتفرعة من الساحة.. وعدد من الشباب كانوا يحملون العلم بعزيمة وكبرياء، والسيدة غالية لا تكاد تستقر فوق كرسيها، وهي ترقب الوضع بقلق شديد.. ألقت نظرة على الساعة المعلقة على الحائط.. خمس دقائق فقط تفصل الجمهور عن ساعة الانطلاق، فازداد توترها وانزعاجها، وقفت أخذت تجوب غرفتها بخطوات عصبية، شاهدت من نافذتها ذلك الانتشار المكثف للجيش، قالت لنفسها: "لن يمر هذا اليوم على خير، إن الشباب متحمسون ولن يرحمهم العسكر.. دعهم يعيشون يا رب ولتكن الشهادة لي".
أزفت الساعة وانطلقت المسيرة.. احتارت السيدة غالية في أمرها... وعادت تحدث نفسها: "ماذا يمكنني أن أقدم؟ ماذا يمكن لمن هي في مثل سني أن تفعل؟.. لن أترك الأولاد فريسة للعسكر مهما كلفني الأمر.. إني أرى الشر في عيون الجنود".
وبحركة تنم عن قرار مفاجئ فيه تصميم، غادرت الغرفة. توجهت إلى المخزن، لحظات حتى خرجت تحمل كيساً منتفخاً ثمّ انسابت بين الجموع المحتشدة، اعتقد العسكر بأن إرادة السكان على سفح الجبل كالمياه المتجمدة فوقه من الصقيع، ما أن يمسها لهيب ظهرهم حتى تذوب كما تذيب أشعة الشمس الذهبية الثلوج لتجري مياهها رقراقة نحو البحيرة، ولكن الأهل الرافضين للهوية الغازية استمدوا صلابتهم وقوة إرادتهم من شموخ الجبل وصخوره الصلبة. نشروا بينهم بعضا من اشتروهم لعلهم يحدثون شرخا في الإرادة الجماعية، قالوا: "إن المياه عندما تدخل بين الشقوق ستعمل على سرعة إذابة الثلج"، ولكن الأهالي ازدادوا لحمة ولفظوا المندسين، وجاء الرد قاسياً: "إن من يخرج عن الإجماع يدفن كالجيفة.. بدون صلاة، وبدون مشاركة حتى أقرب المقربين إليه في جنازته". وأعلنت الصبايا رفضهن الاقتران بالخارجين عن الإجماع.."هذا يحمل هويتهم بعيد السامعين، بصقة لا يستحق نظرة". من فترة ماتت عجوز غُرر بها فلم يقم لها عزاء رغم عمرها المديد، ومات واحد ممن انزلقوا مستغلا كبر سنه فقام بدفنه أحد أبنائه ورفضت الأسرة حتى إلقاء نظرة الوداع الأخير عليه أو تقبل التعازي فيه.
بدأ الجمهور يصرخ بصوت هادر: "مش ناقصنا هوية هويتنا عربية سورية" و "يا عروبة ثوري ثوري، الجولان عربي سوري".
كان الصوت قوياً هادراً وحاداً ليسمع الصم والبكم إلاّ العروبة التي لم تعد تسمع أو ترى إذ واصلت سباتها العميق السحيق المقيت المميت، لقد استرخت وخلدت إلى الراحة، وتركت الهضبة أسيرة مع شقيقها الأقصى المبارك، فأدرك السكان أن عليهم أن يكونوا الحراس الأمنيين عليها، وإن قدرهم أن يقوموا بالعبء عن الأمة كلها.
واشتد الحماس، فقرر الجيش أن يضع حداً لصلابة هذا الشعب الذي يدافع عن حقه المقدس، كان الغزاة يرون فيه شعباً لا قيمة له كي يستحق الحياة. قال الجنرال: "إننا لن نسمح لجيشنا الذي قهر جيوشهم مجتمعة أن تقهره تلك القلة السافلة الخارجة على قانونا المقدس"، فكانوا القاضي والجلاد، ولا راحم للضحية إلا قوة إرادتهم، وصلابة عزيمتها التي أبت أن تنكسر او تلين.
أخذ الجنود مواقعهم على السطوح العالية، كانوا كلما حاولوا أن يشرئبوا بأعناقهم ليستطلعوا الوضع تصطدم عيونهم ببريق الثلج الذي ازداد لمعاناً مع أشعة الشمس فأغشى أبصارهم عن رؤية الحق والحقيقة.
كان قائد الكتيبة يقف فوق إحدى البنايات المشرفة على الموقع يوجه تعليماته بواسطة جهازه اللاسلكي، وكان برفقته جندي واحد، قال الضابط للجندي كأنه يحدث نفسه:
"- علينا أن نكسر شوكتهم
رد الجندي في لا مبالاة أغاضت الضابط:
- طالما أنهم يصرخون في مناطق سكناهم فليصرخوا حتى تتفجر حناجرهم
قال الضابط بصوت حاول استثارة نخوة الجندي:
- انظر إلى بساتين التفاح المتناسقة، انظر إلى الأشجار المثقلة بأحمالها، ألا تشتهي أن تكون مالكاً لإحدى هذه البساتين.
- إنه فعلا منظر ساحر ناتج عن عمل منظم ودؤوب .. ولكن كيف يكون لي وأنا لا املك ثمن كيلو واحد من إنتاجه؟
نظر الضابط إلى الجندي وقال بنيرة قوية:
- إنهم يتشبثون بالأرض.. يتحدون كل تعليماتنا لهم بالكف عن الفلاحة.. نحن لا نستطيع أن نستولي على ارض مفلوحة ببساطة.. تريدها بورا ليرى العالم كيف نعيد إصلاحها.. عند هذا فقط يمكن لك أن تكون مالكا لإحداها.
- إنها أرضهم.. وهم أحرار فيما يفعلون.
- - وما ضرك لو كانت هذه الحقول لنا.. إننا نستطيع أن نشغل بها نصف الأيدي العاطلة عن العمل عندنا.. هم لا يريدون تركها ولا بيعها، وعلينا تقع مسؤولية إخراجهم منها حتى تكون لنا..
صمت الجندي فأكمل الضابط حديثه:
- ثمّ أنهم يسرقون المياه، ألا ترى الخزانات الخاصة بجمع مياه الأمطار؟!
- الأمطار تأتي من السماء، والحق فيها مشترك..
- من قال لك هذا؟ مياه الأمطار، كان من المفروض أن تجري مسرعة إلى البحيرة دون أن يعترض سبيلها احد، او تتغلغل في باطن الأرض لتجري بين الشقوق حتى تستقر فيها لنستخرجها عند الحاجة إليها.. حاجتنا نحن، لا حاجة احد أخر..
- إن الله يرسل الخيرات للجميع.
نظر الضابط إلى الجندي وقد ملا الغضب وجهه وهو يقول بصوت زاجر:
- علينا أن نتسلل إلى أعماقهم ونتوغل فيها لنستلى منها شعورهم بالانتماء. هنا فقط يمكن أن ننسيهم لغتهم... تاريخهم ... ثقافتهم، في هذه اللحظة يمكن أن نسحب الأرض من تحت أقدامهم ليعيشوا في فراغ، حتى يصبحوا كالخاتم في إصبعنا.. تماما كما فعلنا مع الأغلبية مما سبقوهم في الجليل والكرمل، فنحن قادرون على إجادة هذه اللعبة، لأننا أحق بالأرض وبالمال منهم.
قلب الجندي شفتيه وهز رأسه يمنة ويسرة وقال بصوت ينم عن عدم اقتناع:
" – ولم كل هذا؟ فلنعش وندع الآخرين يعيشون.. فهناك متسع للجميع..
فصرخ الضابط في وجهه وهو يقول في توبيخ وحدة:
- أنت لا يمكن أن تكون منا، لقد أفسدتك أفكارك اليسارية، أنت يساري بشع واليساريون ليسوا منا، نحن مع اخترع الأفكار اليسارية لنلهيهم بها عن أهدافنا، أنت حشرة.. وسوف يأتي اليوم الذي تسحقون فيه.
ولم يتوقف هياج الضابط إلا عندما اشتد صوت الصراخ عند السكان فحوّل ناظريه الى أسفل، رفع الجهاز وأخذ يوزع تعليماته على الجنود المتواجدين على السطوح بصوت فيه حدة: "القوا القنابل المسيلة للدموع"، وانهالت القنابل كالمطر في كل الاتجاهات، تراجع الجمهور قليلاً ولكنه سرعان ما عاد يتجمع مما أثار استغرابهم، قال لنفسه: "من أية طينة هؤلاء البشر؟"، أمعن النظر فشاهد "غالية" وهي تحمل كيسا ونخرج منه رؤوسا صغيرة بدأت بتوزيعها على الجمهور، احمر وجهه، وقال لنفسه وقد ظهرت عليه إمارات الارتباك الشديد: "لقد قالت لنا القيادة العامة إن الظروف الدولية ليست مواتية لارتكاب مذبحة أخرى في هذه الفترة ولكن قد نكون مضطرين.. ما العمل؟!
أمعن النظر أكثر فشاهد الجمهور وهم يأخذون بكسر الرؤوس ثمّ يقومون بعصرها في اتجاه عيونهم، فتنهد الصعداء / إن ما تقوم بتوزيعه تلك السيد ليس قنابل يدوية، رفع منظره الذي يتدلى على صدره بكلتا يديه ونظر، ثمّ أعاد المنظار إلى مكانه وهو يبتسم ابتسامة مكسورة، وقال لنفسه وهو يهز برأسه: "يبدو أنها توزع رؤوس بصل" ثمّ قلب شفتيه وعاد يسأل نفسه: " بصل ؟! أه هذه العجوز تريد أن تقهر إرادتنا".
اتصل بالقيادة العامة وأعلمهم بالأمر، قالوا له انتظر قليلا، وما هي إلا لحظات حتى جاءه الرد إن البصل يبطل مفعول الغاز المسيل للدموع، فتساءل وما العمل؟ فجاء الرد سريعا: " اطرحوها قتيلة".
قال الضابط للجندي وهو يشير بإصبعه نحو السيدة:
- انظر إلى هناك، إلى تلك السيدة التي تقوم بتوزيع البصل، أتشاهدها؟
- أين؟
- هناك
- انه فاتح للشهية، إنني أراها.. ولكن لماذا توزع البصل؟
- دعك من ذلك الآن سوف اشرح لك الأمر لاحقا، أتأكدت من مشاهدتها؟
- إني أراها بدون استعمال بندقية القنص.
- أريد الإصابة في رأسها المفلطحة
- إنها لا تشكل أي خطر علينا
- نفذ فورا
- فلتطلق النار أنت
- قيمك وفلسفتك الشخصية اتركها في بيتكم خارج الإطار العسكري، انك هنا في ساحة معركة فإما نحن او هم
- لا لن أطلق النار عليها.. إنها عجوز تذكرني بجدتي هناك
- لا تناقش ونفذ فورا
- لن أطلق النار طالما أن الأمر لا يشكل خطرا على حياتنا
- إني آمرك.. لاحظ انك ترفض التعليمات الصادرة إليك
- التعليمات التي تلقيناها قبل الحملة واضحة، وهي تقول "ممنوع إطلاق النار طالما أن الأمر لا يشكل أي خطر علينا"
- هذا للاستهلاك الإعلامي، إن أوامري الآن تلغي كل التعليمات السابقة.
لاذ الجندي بالصمت، فأكمل الضابط أمره في حدة:
- سوف يكلفك رفضك غاليا.. سوف تقدم إلى محكمة عسكرية
ولكن الجندي هز كتفيه معلنا عن لا مبالاته.. فصوّب الضابط بندقيته إلى رأس السيدة، وأطلق النار، فتدفق الدم المقدس على الثرى الذي ما زال يميل إلى السواد من فعل بركان تفجر في عهود غابرة.
امتزج الدم بالثرى ليزيد من قدسيتها، تتفجر بركان الغضب في النفوس، مما دفع الضابط إلى رفع جهازه وأمر جنوده بالانسحاب قائلا بصوت لم يخل من رنة خوف: "انسحبوا بسرعة.. إنهم مجانين.. قد يهجمون علينا ولو كلفهم ذلك الكثير من القتلى.."
اخذ الجنود يقفزون عن السطوح مهرولين.. وتحدث الضابط إلى الجمهور الهائج بواسطة مكبر الصوت قال وهو ينسحب بظهره: "إن قتيلة واحدة فقط سقطت فاحمدوا الله.. إننا في مناطق أخرى نحصد حصدا.
وبعد لحظات علا صوت مكبرات الصوت في القرى القريبة والبعيدة ينعي الشهيدة الغالية.
تعليق