سوق اللبن الفائزة بالجائزة الأولى فى مسابقة الجمهورية ( 1 )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    سوق اللبن الفائزة بالجائزة الأولى فى مسابقة الجمهورية ( 1 )

    سوق اللبن
    رواية






    تأليف
    ربيع عقب البا ب





    إهداء
    كل الذين يحلمون بذهاب قاهريهم إلى الجحيم
    لأنهم لايملكون نفس الأسلحة
    لا يملكون سوى الحلم والغناء
    وإلى
    رء وف سالم



    ربيع عقب الباب
    سوق اللبن - فى يوليو
    1989


    مواجدة

    بداية قد تتشابه بعض الأحداث في هذه الرواية بأحداث حدثت وتحدث بالفعل ؛ وليس معنى هذا أن الرواية تذهب إلى هذه الأحداث ، أو هذه الشخوص ، وتؤرخ لها ؛ إنما هي رواية متخيلة بقدر وجود هذا التشابه ، ومرجع ذلك بالتأكيد ، هذه المدينة المركبة والمربكة 00 تلكم التلة " سوق اللبن " التي تنام فى حضن النهر كأميرة متوجة ، يلتاذ بها الخلق – فلاحون وتجار وعمال قاعات النسيج اليدوي المسكونون بالعفاريت والحكايات ، ويذوب فى فدان بركتهم العرب النازحين من غزة والعريش وفلسطين المحتلة ، والغجر الذين لا نعرف 00 وإلى الآن 00 من أين جاءوا ؟رغم أنهم يتحدثون نفس اللغة 00ولهم نفس الملامح 00ونفس السيقان!!
    قل هى مدينة غامضة غموض تاريخ أجدادنا الفراعين ، طيبة مثل قلوب أهلها ، شريرة فى انغماسها فى ردغة الرضى والخنوع ، قديسة فى عشقها لله ، فاجرة حين تسفر عن وجه غير وجهها 00 وهى إلى جانب هذا ساحرة متمردة 00 مسحورة 00 قاسية حنون 0 دومة الصغار ، وقمحة الكبار ، وقرة عين العسس ، ومسخهم الذى يحاولون منذ روعها طلعت حرب باشا ، وحولها إلى ثكنة للفقراء ، رهينة رضى 00أو نقمة مديريه ؛ حتى تظل مدينة رخيصة مهانة 00 ذليلة قذرة تعلو على أكتافها المدن اللقيطة – المدن البغيضة – وتظل مسبحة العباد 00خبيرة الأمس * ، ومرتع اللصوص وحاملى السيوف وركائز الخيام و المدى !!
    هى مبكى الأبدان ، يتفجر نهر عرق عمالها ليلا ونهارا ، فى العنابر التى تؤدى رقصها الوحشى دون توقف ؛ لتمتلىء خزائن السادة الجدد، وتنتفخ أرصدتهم ، وحدود ضياعهم !!
    طوبى لك يامدينتى 00 كم من حقير رفعته فى السماء 00 كم من عاشق امتصصت دماءه 00 حولته لنتف 00 خرقة تنتظر إيزيس كي ترتاح روحه 00 وتستقر 00وحورس لينفخ فيها روح الحياة 00ومحمد بن عبدالله ليعلو بها قمم النضال !!
    طوبى لنا 00 نحن المسكونين بعشقها 00 مدينتى 00 محلتى الكبرى


    1

    ياعينى عليك يا إبراهيم 00
    مالك نصيب
    فى توبة
    معلق فى نفس الرحى
    00 الطاحونة00 الساقية
    والظلم داء أنت برىء منه 00 إنهم يقتلون القتيل
    ويحملون نعشه
    00 قادرون 00 مالهم كثير 00
    وإذا ماخابت معهم مرة
    00 أصابوا الثانية 00
    لا حل سوى الرحيل 00 نعم 00 هو ملاذك
    وحبل نجاتك
    00 لتترك لهم كل شىء 00
    البيت والغيط
    ترحل عن دار أبيك
    00 وتكون معى 00 هنا 00
    فى المصنع 00سامعنى يا إبراهيم
    ياخويا 00








    انهارت كتلة الطين ، اندفع فأر ، خاض فى ماء الترعة إلى الضفة الأخرى ، أحدث هياجا دام دقيقتين ، عاد كل شيء إلى سكونه المعتاد 0
    يتماسك إبراهيم لئلا يحط فى ماء الترعة ، ينهش الانتظار صدره ،يتمنى لو ينتهي المشوار على خير ، يحس شيئا يتحرك داخل عباءته ، يتجمد ، يتوجس خيفة ؛ كأن ثعبانا بداخله ، وقد كان ؛ يتمتم ببعض التعاويذ والتعازيم ، تعلمها من شيخه ، أخذ العهد على يده ،يمد قبضته دفعة واحدة ، بسرعة يردها ، وبأقصى ما تستطيع ذراعه ، فيرتطم الثعبان بالضفة الأخرى ، يتفصد العرق من بدنه غزيرا ، تقشعر جوارحه ،تهتز ،تخترق بدنه لفحة هواء طرية ، يشم رائحة البارلوف، مختلطة برائحة عطن الترعة،يتحسس وجهه ، الرائحة تفرى أنفه ، يعطس برغمه ، يدفن رأسه فى حشائش الترعة القصيرة ، تدوم به الأصوات ، يأتيه صوت والده القوى :" عمر الناس دول جبابرة، من زمان ، من أيام المرحومة ستك ، وهمه بيستغلونى ، ويعملوا فيه اللى همه عايزينه "0


    أنصت كثيرا لعبدالواحد ، دائما ما كان يردد نفس الحديث ، كلما أحس ببعد ولده عنه ، صبحه وظهره ، ليله ونهاره ، حديث لا ينقطع عن هؤلاء الناس ، كم الإهانات ، كلما لاحت لهم الفرصة 0مرة يسخرونه للفحت ، مرة حف ريشة قناة ، مرة سقى وحرث ، و نهاية جده الحاج سيد كانت على أيديهم ، وموته كمدا وحزنا 0
    استمر صوت الشيخ عبد الواحد يسرى داخله ، كان هو ، ورجاؤه المعتاد له بتركه يربى الولدين،والابتعاد عن الفلاحة ،عن كل ما يرتبط بها من عداوات :" أنا زهقت يابه من العيشة ومن اللى عايشنها "0
    يهاجمه الشيخ ، يضغط أنفه الضخم :" تكون الأرض عندنا ، وندى عرقنا لغيرنا ، أنت عايز تفضحنا "0
    يسمع صدى ضحكاته الباكية فى وجه أبيه :" أرض إيه يابه ، الأرض اللى بتسدد إيجارها بالعافية ، مفيش منها فايدة ، وملقيناش منها غير عداوة الناس وحقدهم ، ماهو على إيدك يابه، يدوب شويةالحبوب اللى بنطلع بيهم ،وياريت بيكفوا "0

    بلا حيلة يستدير الشيخ ، شاعرا بثقل الوطأة ، والإشفاق على ولده الكبير ، يشمخ به أمام الجميع ، ويباهى ، لا يكتفي بهذا ، ينهى الحديث :" أخوك الصغير وحيد ، وطرى على الشقي ، لما يخلص عبد المنعم الجهادية ، ابقي إعمل اللى أنت عايزه "0
    يستشعر إبراهيم ما تحمله الكلمات من ملوحة ، من يتحدث إليه ليس هو الشيخ عبد الواحد ، فما كان ليسمح بكل ما دار من حديث ،ينسحب من أمامه ، شاعرا بحجم الكارثة ، وما فعلت أيام سجنه بأبيه !!

    فجأة تجيش نفس إبراهيم ،يدوى صوت داخله :" ياشيخ عبدالواحد ، ادعى لى ياشيخ ، ادعى لى يابه "0 يجهش باكيا ، ضفائر الشجرة تقبل وجه الماء الراكد تسر إليه بما عجز عن كشفه ، من بين دموعه يمتد بصره طويلا ، طويلا فى الفراغ ، لاشيء غير الظلام ، ينبش فيه عن شبحين أو ثلاثة ، والطريق أمامه خالية ، خاوية كالحة 0

    فى البر الآخر كان هيكل يتحرك ، يتقدم ،كان طويلا ،يشق طريقه ،يتجه نحوه مباشرة ،كان إبراهيم فى مكانه ، الهواجس والنداء والاحتمالات ، صورة الشيخ عبد الواحد تملأ روحه 0 هل أبصره الشبح ؟ لا يتوقف ، يقصده هو 00نعم يقصده0
    يرتجف قلبه ، ينزلق فى بطنه ، يتداخل ، يتداخل 0 الشبح يدنو ، يدنو ، يصبح قبالته تماما ، يتماسك إبراهيم ، يعود لقلبه صلابته المفتقدة ، يخمن ما يبدر منه ، يحط الشبح في ماء الترعة 0 لم يتمكن إبراهيم من قراءة ملامحه 0 كانت قامته المديدة ما يجتذب انتباهه ، كان فى طول يوسف ، الكتفان ، الهيكل ، الحركة 0 لو يتمكن من تفرسه ، رؤية ملامحه ، لو يناديه :"يوسف 00يوسف ، واد يا يوسف "0

    لم تغادره ، لو فعل ربما ضيع كل شيء ، نعم ، ليصمت الآن ، يتابع ما يتم ، يتحرك الشبح مبتعدا فى محاذاة الترعة ، يختفي عن ناظريه 0 يوسف !! ليته يوسف ، هكذا كان يتفاعل ، ويئن ، يحلق في صفصافة الظلمة !


    لم تبدأ العداوة مع موت أو اختفاء يوسف ، بل تضرب أظافرها في التاريخ ، نعم قبل مولده ، مع جده الكبير حين جاء الشراكسة ، احتلوا الأرض ، جعلوا شوكة البيومى القوقازي الأصل في السماء ، وحطت بهم إلى الحضيض !!

    يتمرد على أحضانها فجأة ، يفر من جذوتها ، كانت تبثه مالم يقدر على تعليله من دفء وحماية ، يقبل عليها ، يمطرها تقبيلا ، يربت على فروعها المرتخية الحنون ، يسترضيها بعد هروبه ، يالها من امرأة فاقت كل النساء ، كانت عطشى لدموعه الرطبة الساخنة ، ارتشفتها ، أوجعته عشقا ، يسلم لها نفسه ، يذوب ، يذوب ، يتسمع لهاث أنفاسها ، كانت تنبأه بأوزير ،جذعها يفرز سائلا سخنا ، له رائحة الدموع ، وطعم بكارة الأنثى ،تلهج الحديث كأن نصلا تكلم ، فأدمى "انتشلته ، عشقته قبل الذبح ، جاءوا به تابوتا ، فأدخلته فى سرتى ، ووصلته بحبل سرى ، ارتحلت ، جابت كل المدن إليها ، وهززت هلع إيزيس فاساقط بددا !!"0
    همس :" كانت سنديانة !!
    ترقرقت ،اختلج الجسد الرطب :" كنت أنا ، أنا هى ، وحيدة في البيد أزهر ، استوى نخلا وتوتا ، عنبا 0 كان مبتليا ، فتلهفنى ، كنت على حافة الظمأ أترنح ، روى أوردتي ، حملني وردا ويعاسيب ، سفرا ، يقيني الموت ، يدخلني الوقت الريان ، فصرت الخلد ، اغتسل بمائي ، نم ، وحذار من هذا البئر ، يا ابن آدم ، وأوزير ، فما يحوى غير الموت !!
    التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 26-03-2010, 22:36. سبب آخر: خطأ فى العنوان
    sigpic
  • محمد سلطان
    أديب وكاتب
    • 18-01-2009
    • 4442

    #2
    ((فى البر الآخر كان هيكل يتحرك ، يتقدم ،كان طويلا ،يشق طريقه ،يتجه نحوه مباشرة ،كان إبراهيم فى مكانه ، الهواجس والنداء والاحتمالات ، صورة الشيخ عبد الواحد تملأ روحه 0 هل أبصره الشبح ؟ لا يتوقف ، يقصده هو 00نعم يقصده0
    يرتجف قلبه ، ينزلق فى بطنه ، يتداخل ، يتداخل 0 الشبح يدنو ، يدنو ، يصبح قبالته تماما ، يتماسك إبراهيم ، يعود لقلبه صلابته المفتقدة ، يخمن ما يبدر منه ، يحط الشبح في ماء الترعة 0 لم يتمكن إبراهيم من قراءة ملامحه 0 كانت قامته المديدة ما يجتذب انتباهه ، كان فى طول يوسف ، الكتفان ، الهيكل ، الحركة 0 لو يتمكن من تفرسه ، رؤية ملامحه ، لو يناديه :"يوسف 00يوسف ، واد يا يوسف "0))


    الأستاذ المبدع و الأديب
    ربيع عقب الباب

    اشكر الظروف التى جمعتنى و جمعت أوصالى هنا كى ألتقى بكى يوما كانت شمسه رقراقة كالماء و حانية

    ألف ألف مبروك على تسلمك للجائزة بالأمس ..

    عودة للرواية : جميل هذا الجزء المقطتف .. كل ما جاء ينطق ببكارة النفس و فطرية الأمكنة .. إبراهيم و الشيخ عبد الواحد حتى الآن لا أحكم عليهما جدلاً بأنهما يسكنان قريتى , لا بل يسكنان كل قرى الصعيد و بحرى .. لغة هادئة متماسكة سلسة مناسبة للحكي الروائى ((على حد علمى بالروائى فأنا لم أشتغل عليه كثيراً)) .. بالفعل ثمة نفس هادئة و شعور بالحنين إلى المسارح التى لعبت عليها الأدوار القروية بجسارة خُلِقت من جبروت الظروف و هم الحياة .. محلتك الكبرى بمكياجها فى ذلك الوقت أعتقد أنها كانت كل الريف و كل القرى .. السكك الزراعية و طرق المواشى و الأنفار , كل شئ له نفس رائحة الحياة الفطرية البرئية هنالك فالحكي .. حتى رائحة الروث أثناء وهن الشمس وقت رواحها لأوادها بالخارج .. سطورك سيدى تنضح رائحة ما أشمها و أحاول تلمسها ..
    سأنتظرك ربيع وههنا مقعدى أحجزه .. فهنا سأتعلم ما أنا أبحث عنه .. تحياتى لك ربيع عقب الباب . ومبروك عليك الفوز الساحق ..
    صفحتي على فيس بوك
    https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

    تعليق

    • هادي زاهر
      أديب وكاتب
      • 30-08-2008
      • 824

      #3
      تعليق

      اخي الكاتب العزيز ربيع عقب الباب
      لقد اعتدنا ان تكون البداية تمهيدية إلى حد ما، ولكنها عندك تأتي مشوقة منذ البداية، لقد جاء الوصف زاخراً وسريعاً مما جعلني اركض لمعرفة ما هو قادم
      محبتي
      هادي زاهر
      " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة محمد ابراهيم سلطان مشاهدة المشاركة
        ((فى البر الآخر كان هيكل يتحرك ، يتقدم ،كان طويلا ،يشق طريقه ،يتجه نحوه مباشرة ،كان إبراهيم فى مكانه ، الهواجس والنداء والاحتمالات ، صورة الشيخ عبد الواحد تملأ روحه 0 هل أبصره الشبح ؟ لا يتوقف ، يقصده هو 00نعم يقصده0
        يرتجف قلبه ، ينزلق فى بطنه ، يتداخل ، يتداخل 0 الشبح يدنو ، يدنو ، يصبح قبالته تماما ، يتماسك إبراهيم ، يعود لقلبه صلابته المفتقدة ، يخمن ما يبدر منه ، يحط الشبح في ماء الترعة 0 لم يتمكن إبراهيم من قراءة ملامحه 0 كانت قامته المديدة ما يجتذب انتباهه ، كان فى طول يوسف ، الكتفان ، الهيكل ، الحركة 0 لو يتمكن من تفرسه ، رؤية ملامحه ، لو يناديه :"يوسف 00يوسف ، واد يا يوسف "0))


        الأستاذ المبدع و الأديب
        ربيع عقب الباب

        اشكر الظروف التى جمعتنى و جمعت أوصالى هنا كى ألتقى بكى يوما كانت شمسه رقراقة كالماء و حانية

        ألف ألف مبروك على تسلمك للجائزة بالأمس ..

        عودة للرواية : جميل هذا الجزء المقطتف .. كل ما جاء ينطق ببكارة النفس و فطرية الأمكنة .. إبراهيم و الشيخ عبد الواحد حتى الآن لا أحكم عليهما جدلاً بأنهما يسكنان قريتى , لا بل يسكنان كل قرى الصعيد و بحرى .. لغة هادئة متماسكة سلسة مناسبة للحكي الروائى ((على حد علمى بالروائى فأنا لم أشتغل عليه كثيراً)) .. بالفعل ثمة نفس هادئة و شعور بالحنين إلى المسارح التى لعبت عليها الأدوار القروية بجسارة خُلِقت من جبروت الظروف و هم الحياة .. محلتك الكبرى بمكياجها فى ذلك الوقت أعتقد أنها كانت كل الريف و كل القرى .. السكك الزراعية و طرق المواشى و الأنفار , كل شئ له نفس رائحة الحياة الفطرية البرئية هنالك فالحكي .. حتى رائحة الروث أثناء وهن الشمس وقت رواحها لأوادها بالخارج .. سطورك سيدى تنضح رائحة ما أشمها و أحاول تلمسها ..
        سأنتظرك ربيع وههنا مقعدى أحجزه .. فهنا سأتعلم ما أنا أبحث عنه .. تحياتى لك ربيع عقب الباب . ومبروك عليك الفوز الساحق ..
        محمد ..سرنى حديثك ..قرأته أكثر من مرة ..مازلت فى حاجة لقراءته مرات
        ربما محمد تغالى .. ربما
        و لكن حين يكون الأمر متوقفا على كتابة المخزون ، تحيرنى اللغة ،و ربما البناءأكثر .. و يظل الأمر محيرا .. حتى بعد تمزيق الكثير من الورق ، حتى نرتضى الأصلح ، و ربما وجد أحدهم أنه لم يكن الأحسن أو اللائق بها !!
        عموما لأجلك أنزلت لك الجزءالثانى
        sigpic

        تعليق

        • رشا عبادة
          عضـو الملتقى
          • 08-03-2009
          • 3346

          #5
          [align=center] لأجله فقط ستنزل الجزء الثاني يا سيدي
          إذن سأنتظر الجزء الثاني
          ولن أحجز مقعدا
          سأظل معاقبة بالوقوف الجبري على شط الترعة
          سأنتظر ثعبانا يتسلل لعبائتي
          وسأركض حينها
          أو ربما سأقفز فى الترعة
          أحيانا كنت أحسد الأطفال الذكور وأنا أراهم يخلعون ثياب المدرسة ويلقون بالحقائب المهلهلة
          ويقفزون إليها بلا قانون او ظابط
          كان أسهل أشيائهم وأكبر متعة لديهم
          أحببت انا أسضا عبق الريف
          والمقدمة الجميله أكرمتنا بها يا أستاذي
          وانت تصفها بروح شاعر عذبة
          والعنوان بحد ذاته سارق برغم طهر اللبن وبياضه
          يخطف الروح
          بداية كلملة الدسم يا أستاذي
          تحتاج لقراءة اكثر من مرة كل جزء هنا يحمل شيء ما
          والخلط ما بين الواقع والرغبة فى الإرتواء
          وربطها بحبال الحقائق الأبدية
          ما بين آدم وحواء
          وأسطورة إيزيس واوزوريس
          وبئر الخطيئة
          وأما البر
          الصور متلاحقة بشدة وبسرعة وبإبداع
          لكني سأنتظر وسأقراها وسأتفحصها أكثر
          حين أكف عن السعال وانا أقرأ
          تحياتي لك يا زارع الربيع الجميل
          كن دوما بخير
          والف مبرووك عليك يارب ديما كل أيامك نجاحات وبصحة وفرح[/align]
          " أعترف بأني لا أمتلك كل الجمال، ولكني أكره كل القبح"
          كلــنــا مــيـــدان التــحــريـــر

          تعليق

          • مجدي السماك
            أديب وقاص
            • 23-10-2007
            • 600

            #6
            سوق اللبن

            تحياتي ايها المبدع الكبير
            اذن هذه هي سوق اللبن.. التي طالما اشتقت لها.. قرأتها على نفس واحد..ولم ارتو..ولم اشبع.. هيا الى المزيد. نعم بكل صراحة اقول انها تستحق جائزة كبيرة..وفخمة..واضح انها من العيار الثقيل..هذا ما قرأته الان..ولكنني اعرفك جيدا..فمن المؤكد ان البقية اجمل او مثلها في الاقل.
            كم يعجبني الكتابة عن المسحوقين والمقهورين..فما بالك عندما يكون الكاتب مصري مثلك..بلغتك..وتمكنك..وفكرك..وقدرتك على ملاحظة ما لا يلاحظة العادي.
            اسعدني كثيرا هذا العمل..ليتك دائما تكتب عن الغلابا..بهذه الطريقة. شعرت انني امام ساحر وليس كاتبا..نعم انت تسحرنا كي نتابع..كأنك تنفخ فينا الجمال نفخا.. لتشدنا.. وتجذبنا..وتدوخنا..وتسكرنا حتى لا نفيق..رائع بكل مقياس من مقاييس الجمال..الى درجة الفتنة. وتجعلنا نحسدك.. ونحبك..ونجلك.. يا لها من مفارقة عجيبة..نحسد من نحبه في نفس الوقت.
            اذن انا في انتظار الجزء الثاني من التحفة.. والسحر.. تحفة وسحر نغبه بالتقسيط..المريح..المحبب.
            خالص تقديري وحبي واحترامي
            عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

            تعليق

            • ربيع عقب الباب
              مستشار أدبي
              طائر النورس
              • 29-07-2008
              • 25792

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة هادي زاهر مشاهدة المشاركة
              اخي الكاتب العزيز ربيع عقب الباب
              لقد اعتدنا ان تكون البداية تمهيدية إلى حد ما، ولكنها عندك تأتي مشوقة منذ البداية، لقد جاء الوصف زاخراً وسريعاً مما جعلني اركض لمعرفة ما هو قادم
              محبتي
              هادي زاهر
              أؤمن بمقولة رائعة لم تأت عرضا ، لكنها كانت بعد خبرة طويلة ، من كبارسبقوا
              الكاتب هو السطر الأول فى عمله ، فإن أفلح فى وضعه ، وسرق عين القارىء، ، كتب لعمله النجاح .. و إن كان الفشل ، فسوف يلقى العمل جانبا و لو كان عبقريا
              حتى فى المسرح الذى من المفترض أن أبدأ بتهيئة الصالة حتى تهدأ حركة الجمهور ، و تكون المتابعة متحققة ، أنا أرفض هذا ، و أبدأ من أقوى النقاط سخونة !!

              محبتى
              sigpic

              تعليق

              • عائده محمد نادر
                عضو الملتقى
                • 18-10-2008
                • 12843

                #8
                ربيع عقب الباب
                أيها الربيع الدائم الخضرة
                وكم ألف مرة مبروك أقولها لك
                من كل قلبي فرحت لك ربيع لأنك تستحق
                جاء السرد ناعما
                صحيح ربيع أحببت لغتك هنا كنت شفافا كثيراوجاء الوصف يبعث الروح بالأفكار وكأني تنشقت عبير الساقية والأشحار
                لمست لمحة الشجن تبدأ من هذا الفصل
                شجن عميق مترسخ وكأني بك قد استحضرت أرواح من مضوا معك كي تدخل أرواحهم فيه..وربما هو شجن الفلاحين الأزلي الذي لاينتهي
                سأقرأ الجزء الثاني غدا لأرى ماصار
                تحياتي لك ربيع وألف مبروك
                الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                تعليق

                • ربيع عقب الباب
                  مستشار أدبي
                  طائر النورس
                  • 29-07-2008
                  • 25792

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة رشا عبادة مشاهدة المشاركة
                  [align=center] لأجله فقط ستنزل الجزء الثاني يا سيدي
                  إذن سأنتظر الجزء الثاني
                  ولن أحجز مقعدا
                  سأظل معاقبة بالوقوف الجبري على شط الترعة
                  سأنتظر ثعبانا يتسلل لعبائتي
                  وسأركض حينها
                  أو ربما سأقفز فى الترعة
                  أحيانا كنت أحسد الأطفال الذكور وأنا أراهم يخلعون ثياب المدرسة ويلقون بالحقائب المهلهلة
                  ويقفزون إليها بلا قانون او ظابط
                  كان أسهل أشيائهم وأكبر متعة لديهم
                  أحببت انا أسضا عبق الريف
                  والمقدمة الجميله أكرمتنا بها يا أستاذي
                  وانت تصفها بروح شاعر عذبة
                  والعنوان بحد ذاته سارق برغم طهر اللبن وبياضه
                  يخطف الروح
                  بداية كلملة الدسم يا أستاذي
                  تحتاج لقراءة اكثر من مرة كل جزء هنا يحمل شيء ما
                  والخلط ما بين الواقع والرغبة فى الإرتواء
                  وربطها بحبال الحقائق الأبدية
                  ما بين آدم وحواء
                  وأسطورة إيزيس واوزوريس
                  وبئر الخطيئة
                  وأما البر
                  الصور متلاحقة بشدة وبسرعة وبإبداع
                  لكني سأنتظر وسأقراها وسأتفحصها أكثر
                  حين أكف عن السعال وانا أقرأ
                  تحياتي لك يا زارع الربيع الجميل
                  كن دوما بخير
                  والف مبرووك عليك يارب ديما كل أيامك نجاحات وبصحة وفرح[/align]
                  ما ذهبت إلى هذه ، فقط قلتها للتعجيل بنزول الجزء الثانى
                  أحسست أنى ارتكبت خطأ فادحا
                  راقنى حديثك كثيرا ، كل كلمة فيه كانت تحمل ما هو أفضل من العمل نفسه
                  أشكرك كثيرا على ذوقك و ذائقتك
                  حماك الله رشا
                  وأكرمنا فيك بما تحبين !

                  تحيتى و تقديرى
                  sigpic

                  تعليق

                  • ربيع عقب الباب
                    مستشار أدبي
                    طائر النورس
                    • 29-07-2008
                    • 25792

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة مجدي السماك مشاهدة المشاركة
                    تحياتي ايها المبدع الكبير
                    اذن هذه هي سوق اللبن.. التي طالما اشتقت لها.. قرأتها على نفس واحد..ولم ارتو..ولم اشبع.. هيا الى المزيد. نعم بكل صراحة اقول انها تستحق جائزة كبيرة..وفخمة..واضح انها من العيار الثقيل..هذا ما قرأته الان..ولكنني اعرفك جيدا..فمن المؤكد ان البقية اجمل او مثلها في الاقل.
                    كم يعجبني الكتابة عن المسحوقين والمقهورين..فما بالك عندما يكون الكاتب مصري مثلك..بلغتك..وتمكنك..وفكرك..وقدرتك على ملاحظة ما لا يلاحظة العادي.
                    اسعدني كثيرا هذا العمل..ليتك دائما تكتب عن الغلابا..بهذه الطريقة. شعرت انني امام ساحر وليس كاتبا..نعم انت تسحرنا كي نتابع..كأنك تنفخ فينا الجمال نفخا.. لتشدنا.. وتجذبنا..وتدوخنا..وتسكرنا حتى لا نفيق..رائع بكل مقياس من مقاييس الجمال..الى درجة الفتنة. وتجعلنا نحسدك.. ونحبك..ونجلك.. يا لها من مفارقة عجيبة..نحسد من نحبه في نفس الوقت.
                    اذن انا في انتظار الجزء الثاني من التحفة.. والسحر.. تحفة وسحر نغبه بالتقسيط..المريح..المحبب.
                    خالص تقديري وحبي واحترامي
                    الرائع المنحاز لى دائما
                    المبدع اليانع طويل النفس و الباع
                    أكرمتنى بحديثك
                    شكرا لك أخى النبيل

                    تحيتى و تقديرى
                    sigpic

                    تعليق

                    • ربيع عقب الباب
                      مستشار أدبي
                      طائر النورس
                      • 29-07-2008
                      • 25792

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                      ربيع عقب الباب
                      أيها الربيع الدائم الخضرة
                      وكم ألف مرة مبروك أقولها لك
                      من كل قلبي فرحت لك ربيع لأنك تستحق
                      جاء السرد ناعما
                      صحيح ربيع أحببت لغتك هنا كنت شفافا كثيراوجاء الوصف يبعث الروح بالأفكار وكأني تنشقت عبير الساقية والأشحار
                      لمست لمحة الشجن تبدأ من هذا الفصل
                      شجن عميق مترسخ وكأني بك قد استحضرت أرواح من مضوا معك كي تدخل أرواحهم فيه..وربما هو شجن الفلاحين الأزلي الذي لاينتهي
                      سأقرأ الجزء الثاني غدا لأرى ماصار
                      تحياتي لك ربيع وألف مبروك
                      السوسنة الرائعة ، و الأخت النبيلة
                      دائما ما تفيضين على صفحتى ..
                      دائما ما تقولين ما لا أتوقع
                      شكرا لك أستاذتنا الغالية

                      تحيتى و تقديرى
                      sigpic

                      تعليق

                      • محمد سلطان
                        أديب وكاتب
                        • 18-01-2009
                        • 4442

                        #12
                        لما علمت خبر وصولك الهيئة يا عروسة .. فالحناء مازلت رطبة .. لم تجف ..

                        مبروك وصولك إلى هناك و سأنتظرك بين يدي على أحر من الجمر ..

                        لنتابعها مرة ثانية , فلم أشبع منها بعد ..
                        صفحتي على فيس بوك
                        https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

                        تعليق

                        • ربيع عقب الباب
                          مستشار أدبي
                          طائر النورس
                          • 29-07-2008
                          • 25792

                          #13
                          مهرولا مذعورا أتاه رمضان ، خارقا سكون الليل ، يكاد ينكفئ بين يديه ، يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة :" عرفته ، وعرفت أراضيه يابو خليل ! ".

                          بعد المحاولات المتكررة ، طويلة الأمد لقتل إبراهيم ، أطلق رمضان خلفهم ليلة بعد أخرى ، يقتفى أثرهم ، ويقف على آخر ما يدبرون من مؤامرات ، أصبح لا يأمن جانب هؤلاء القوم ، لن يرضيهم شيء مهما كان سوى سقوطه ميتا ، تركله نعالهم .
                          الليلة الماضية تمكن رمضان بمقدرة عجيبة - وهذا ليس كثيرا ولا جديدا عليه كابن ليل قديم - من كشف شخوص القتلة المأجورين ، لتصفية إبراهيم فورا – دون إبطاء – لاعتقاد البيومية غير المشكوك فيه ، بقتله ولدهم يوسف ، المختفي قبيل اعتقاله بسنة واحدة .
                          تهدأ أنفاس رمضان ، يروح مصورا ما وقعت عليه عيناه ، ساعة زحف ملثما ، فى عقر دوارهم ، حيث استظل بشجرة ، ثم حوم فى المكان ، دار هنا وهناك ، التقطت أذناه لغوا ، وبيقظة لص مطارد استحسن موضعا ، كمن فيه !!

                          كان ليل المدينة شديد العبوس ، توارى تحت الشباك ، ألصق وجهه ، من خلال خصاصه كانوا أمامه ، بوجوههم الجهمة ، وهياكلهم الممتدة ، يلتفون حول الكبير .
                          حجرة واسعة على جدارها المقابل تناثرت الأسلحة ، كما تدلت رؤوس الضحايا من الجوارح مخيفة . يتوسط الجدار" بوستر " كبير لرجل مفتول الشارب ، تتري الملمح ، مطربش الرأس .. كان الجد الأكبر لهذه العائلة الآتية زحفا من بلدة على حدود القوقاز إبان الغزو العثماني للبلاد .

                          كان كبير أحفاده يتصدر الحجرة بوجه مهيب ، يحمل نفس الملامح ، الوجه ، العينين الحمراوين ، الشارب ، اللحية الممتدة لأسفل الصدر ؛ يفترش الأرض رجال يلتهمون طعامهم بنهم وشراهة !
                          كان صوت الرجل قويا ، يخترق الفراغ المعبد حول المنطقة ، يسرى فى ذرات الهواء – دون حدود – يشق بطن رمضان ، يهشم رئتيه ومفاصله ، ولولا حبه الخطير والمدهش لإبراهيم لولى فرارا من الهول ، من الأشباح المعربدة ، المكتظة بها الساحة ، كأنها تخرج من حنجرة البيومى الكبير ، شياطين مجنحة ، عمالقة وأقزاما ، تحمل على رؤوسها مقاطف ، وأشياء غريبة تشبه السحر فى الحواديت . كانت تمرق كالريح، مخلفة سحائب من الغبار ، ورمضان يستغيث بالله ، بآياته المحكمات ، بما علم الحكماء و المشعوذين والشياطين على حد سواء !!

                          :"يعنى نروح نتهحم على الناس فى بيوتها يارمضان ؟! ".
                          :"مفيش غير كده .. الحل التانى تقتل البيومى !! ".
                          :"البيومى .. طب إزاى ما أنت عارف اللى وراه واللى قدامه ؟ ".
                          :"خلاص خلى خالتى أم إبراهيم تبيع اللى حيلتها وأعمل زى مابيعمل ! ".
                          : ” يعنى أنت بتقفل فى وشى كل السكك .. المصيبة الشيخ عبد الواحد رأيه من رأيك ".
                          :"شفت .. مفيش حل غير ده !!".

                          عيناه تلاحقان النخلة القريبة . نال منه الأمر ، رأى أحد الضحايا معلقا ، تتدلى رأسه . السكون يرجع أنينه المكتوم ، من رأته البلدة فى ساعات القيلولة ، وفى الليالي المد لهمة !!
                          انفلت رمضان فزعا ، وقد هرئى عزمه ، انسحق هيكله ، وحين فارقه فزعه ، أحس باختناق ، بضيق رهيب يطبق على صدره ، يخنقه بلا رحمة ..بلا رحمة . كان محشورا داخل ماسورة قطرها لا يتجاوز ثلاثين سنتمترا !
                          رأى لحظة اعتدل البيومى لينهى المقابلة ، كل شيء كان هادئا ، الوحيد المضطرب رمضان نفسه ، والحنك المنتفخة تلوك طعامها ؛ كأنها تزدرد آخر زاد لها ، مشدودة الرقاب تتابع الرجل ، وهو يدفع بعضا من العملة الورقية ، يسقطها تحت قدميه . رمضان لا يتحرك ، لا يبرح مكانه ، يسدد تجاههم عينين ذابلتين ، يتفرسهم ، يحتفرهم فى رأس تسلقتها أسراب من نمل خفي . حين غادروا فرادى ، كان خلفهم خطوة بخطوة ، لم يتراجع ..عرف الموعد ، المكان ، بلدتهم . فيرتوي ظمأه ، ويركض عائدا !!


                          كان إبراهيم ينصت ، يدمدم كثور هائج ، يطيح بالأبواب والجدران . تنفجر الدماء فى وجهه ؛ هذه هي المحاولة الثالثة خلال ثلاثين يوما ، هى كل صلته بالعالم ، ولولا يقظته لأصبح فى عداد المفقودين !!
                          لايتركون له منفذا للحياة ، يعبرمن خلاله مترسما مايرتجى ،مخلفا ماتراكم من غبار وإثباط عبرسنوات محنته 0



                          يشقى لوضع يده على الرؤى ، يستنفرها ، تتأبى عليه ، كانت تتشكل بسرعة خاطفة ، تحيطه ، تطبق على أنفاسه ، أصواتها كالطنين عالية ، كأنها قفزات وحوش غامضة ، هاهى ذى تتخطفه ، تضطرب أنفاسه:"شفت كويس؟".
                          يومئ رمضان مؤكدا :" أيوه أمال !! ".
                          يتركه رمضان وهو ما يزال يحمل عبء الليلة ، متهدل الكتفين ، متأرجح الخطى ، زائغ النظرات !!

                          وحده تحيطه الأوجاع من كل جانب ، تحاصره ، تعصره عصرا ، يومض إحساس ما ، ثمة تغيير يدب داخله ، فرق بينه الآن ، وبين إبراهيم البطال ، الذى لم يكن يتورع عن فعل شيء ، وما كان ليخشى شيئا ، إبراهيم ، من رأى تلون الناس ، انقلابهم ، تنكر الأصدقاء والرفقاء ، من أكلوا ملحه ، وكانوا بمثابة العزوة والعائلة !




                          بدا كشبح خرافي ، مارد من عصور ، ارتمت فى حضانة التاريخ . تطاولت عباءته ، امتلأت بالهواء ، أصبحت كجناحي طائر الرخ ، تلذعه بصوتها الحاد ، تعوق سيره المجنح مبعثرة هيكله فى الفضاء الشاسع ، يحس بنفسه طائرا ، يحلق دون سيطرة ، يحد من عراك العباءة ، يخبو صوت الدوي ، يحط على تراب الطريق . جبهته ينسحق وهجها بفعل خطوط كانت تتزايد ، وتكشف عن معركة لا ينتهي أوارها !!
                          :"وهو ينفع يابه ؟".
                          :”أمال إيه اللى ينفع ياطيب .. براوة عليك يارمضان !!".
                          :"يابه .. النوبة اللى فاتت كانت سرقة .. إنما دى !!".
                          :"الناس دول قتلهم حلال .. حلال الحلال ".
                          :"أنت هاتحلل وتحرم على كيفك يابه ؟".
                          :"البادى أظلم .. وياروح مابعدك روح ".
                          :"والدين والملة ؟!!".

                          إلى هذه اللحظة كان لايزال مسيطرا على انفعالاته ، يتقدم ، وحجر أصم يثقل صدره وقلبه وأنفاسه ، أعصابه ، شفتيه الواقعتين تحت أسر إرتعاشات مضببة لا ذنب له فيها .. يخطو موغلا مع إنحدار السكة ، التى بدت ممتدة بلا انتهاء ، كسرداب عمرته العفاريت والمردة . كلت ساقاه ، تهرأت تماما ، وأصابهما وهن غريب !!

                          كان رمضان يحاذيه تماما ، يلاحق خطواته الواسعة بأنفاس متهدجة ، يحدق فى العتمة ، يتفحص الأشياء كصقر ، الأشجار المنتصبة على جانبى السكة كمؤامرة ، أبراج الحمام على مدد الشوف يسمع هديلها ، أشباح كان يحسها تتعلق بطرف جلبابه ، وكثيرا ما كادت تعرقله ، تطرحه أرضا ، همساتها جنى محموم ، هواجسها رعدة فى الصدر غير مأمونة ، ترن فى جوفه ، انسحاق التراب تحت قدميهما كان يحدث تقلصا من نوع حاد فى معدته ، رغم هذا كان يتقدم مدفوعا بقوى خفية ، يقظا لأقل حركة كلص !!

                          هدوء يقطعه عواء ذئب يأتى من بعيد ، يرخى على القرية جوا مهيبا ، يصعب اختراقه ، ونباح كلب يصاعد كلما أوغلا فى اتجاه الهدف ، الترعة السائران على مشيتها عانقت مافى السماء من نجوم شحيحة ، يدوم ماؤها ، يبقبق بما يحمل من مخلوقات .. يتعالى نقيق للضفادع متشرنقا كأنما يأتى من أراضين سبع ، وصوتها أكثر غموضا وإشعارا بالفوات .


                          كان إبراهيم جسدا سائرا ، تخلت عنه بقاياه ، تهالكت بما تعانى من هواجس ، تسرى به الأصوات ، تضيق عليه حلقاتها ، تأخذه تارة ، تدور عبر تلال وفجوات تتسع مخرجة مافى جوفها من أوجاع وعذابات ، هى كل عمره الصغير، عندما تستبيحه تتساقط دموعه على شفتيه كطفل تيتم توا !!

                          ينتشله صوت رمضان من بئره ، يربت على كتفه ، ينتبه مطلقا عينيه الجاحظتين ، يجتلى سر السكون ، وآية الليل المختلج تحت مقبرة الظلام ، يلملم نهر أفكاره ، يسارع بمغادرته ، ثقيلة مياهه ، يقفز خارجه ، ينزلق برغمه ، عطن راكد مميت ، تبوء محاولات هروبه بالخسران .
                          الطريق مشدودة إلى ساقيه ، عروق وجهه النافرة ، عرقه الغزير، الرحى عقله لا قدرة لديه على الانفلات منها ، وهو فى محاولته لسحق نوباته ، والتصدى لشطحاته ، حتى لا يضيع منه الطريق ؛ ويصبحان هدفا سهلا لأى من كان .
                          :"الرسول بعت بكتيبة من المسلمين لقتل واحد اتطاول على النبى وأمهات المسلمين !!".
                          :"كان يهودى .. يهودى مش مسلم ".
                          :"والمسلم القاتل بالأجر .. يبقى إيه ؟ سميه لو تقدر ؟!!".

                          تهوم الصور متقاطعة ، تطيح به ، يغرق فى ألوانها ، تطل من أعلى جلبابه وهيكله المشدود كالصاري ، يزأر طافحا بمايعتلج :" لم تكفهم خمس سنوات قضيتها يا إبراهيم ، تنتقل من سجن إلى آخر ، هد الجبل قوتك ، وإحساس بالظلم يلازمك ، يعتصر قلبك ليل نهار ، ويوم قلت يا حرية ، فردت ذراعيك تضمها لصدرك ، انقضت سنوات قهرك .. حاصروك ، تربصوا بك ، مصممين على استلاب ما تبقى لك من حياة 0 قلت لهم ، صرخت باكيا :" ليس أنا من فعل هذا بابنكم ، كان أخا لى ، أخا لم تلده أمى ، كيف بالله عليكم ؟ لماذا أفعل اليوم ؟ كم من الليالي نمنا فى براح الغيطان ، وكم شكا لى من إخوته ، يوسف هذا الجميل ، هرب من مطاردة النساء والصبايا ، اللاتى وصل بهن الوله إلى اختطافه ، تأبى عليهن ، كان يعشق يوسف الصديق ، فكأنه هو ، فى جماله ، فى صدقه ، فى عفته ، لم لا يكون إخوته مثل أخوة النبي ؟ حلفت على الختمة الشريفة ، برب الكون ، رب محمد ، ويوسف ، لكنهم استغشوا ثيابهم ، تطيروا بى ، كأنهم مرغمون على عدم الفهم ، كان ضميري يسترحمهم ، اتركونى أربى الولدين .. يعلم الله فجيعتي فى يوسف ، اتركوني أبحث عنه ، قلبي يحدثني بقربه ، يوسف .. يوسف !!



                          سحب الشيخ عبد الواحد سيرة الزير سالم من تحت وسادته ،صعد السلم الطيني ، بعقل شارد كان يدلف من حجرة ولده إبراهيم ،اقتحمها متقدما صوب السرير العالي ، اتكأ بآهة ، زحف على ظهر السرير المنتصب كليلة عرس لا تنفض 0
                          فتح الشباك على مصراعيه ، عبثت أصابعه بأوراق الكتاب ، شارد هو ، تنهد محدقا فى الورقة بلا ارتياح ، تمتم قارئا السطور ، قرأها أكثر من عشرين مرة ، حفظها عن ظهر قلب ، اجتلى من بين أوراقها سر وجوده ، سر بلدة بدت ظالمة وطيبة فى آن ، تنفس سهد سنين طوال ، سهدا ذكاه زمن أعرج ، بدد أصفى ما تركت أمه الحاجة حسيبة ، استعصت عليه الكلمات ، تراقصت حروفها ، دومت فى قرنية عينيه متجاوزة هيكله الساكن إلى رحاب علية .

                          رافعا الطاقية عن رأسه الأشيب يتثاءب ، ينقشع ضباب كثيف ، يمرر كفه بشدة من الأمام إلى الخلف ، وبالعكس ، يفتك بجيش من الهواجس ، يضغط الطاقية في رأسه ، يضطجع ، يهيئ جوارحه لاستقبال أمر ما . كل مشاعره مهيأة تماما لالتقاط دبيب المارة فى الحارة :" ياتري يا إبراهيم ، أكاد أموت خوفا عليك ياولدى ، شعور يفتك بى ، الدنيا ليل ، والبلد غريبة ، وسبحان الأعلم بنوايا الخلق ، ليتني وقفت فى وجهك ، ما أوغرتك ، لكنهم اكتروا عليك ، دفعوا المئات ثمنا لرأسك ، يصمّون آذانهم وعقولهم ، أنا خائف من العسكر . آه لو اكتشفوا غيبتك 0 طول عمرك تعيش فى خوف دائم ياعبد الواحد . طول عمرك . أنت سبب الضياع الناخر فى حياة ولدك ، يستنزفه قطرة قطرة ، لا تريح ولاتستريح . قعدت تشتكى وتتباكى ، تصطنع العداوات ، الخوف يأكل عمرك . تركض مكتوف اليدين فى سباق حددت معالمه أنت وحدك ، أنت القوى 0 وهن يستبيح حياتك ، يلقى بك نهبا لكلاب السكك النابحة ، لا حول ولا قوة ، يتكاثرون عليك .... إلى متى ؟ حتى آخر العمر يارجل ، أم إلى ساعة تردى فرسك على حدود الأطيان وحيدا غارقا فى دمائه ؟!

                          جمل صبرك يا ابن سلف الخوف ، آيتك مرضك ، آيتك ولدك وحزنك ، ودمدمة لا وجود لها إلا فى حروف كتاب فوق جرحك ووجعك !!

                          يختطفونني للعمل فى أراضيهم ، وأنت تراضيهم ، تفنى العمر نزفا ، يبصبصون للفدان .. والفدان أرض الخراب ، يلتهم برغمك حياة أحبائك . محروق هذا الفدان ، محروقون أصحابه فى عفن النتن المتكلسة به أسنانهم ، والروث رائحة تدمى وجودهم الميت كعجيبة أثرية !

                          شرفي ولن أفرط فيه ما حييت . الولد يضيع بسببك يا عبد ، ابنك البكري أحمر ، لا يطيق الإهانة كما تطيق وتستعذب وصولا لجنان عدن ، وعدت بها مع جيرانك الطيبين ، ورب الجنان ما أمرك . يا عبد الواحد لاتقل هو ابتلاء من الله، هذا ابتلاء رأسك !!
                          ابنك مشمول بحماية أولاد الليل ، ليله نهاره ، نوره ظلامه ، راحته سهاده ، خوفه حارسه ، يقتل الزرع ، يقلع السواقي - هو الرقيق – لأجل ماذا يا عبد ؟ يسمم دوابا ما أساءت إليه ، ما رأى منها غير الطاعة واللبن والعسل والمصروف !
                          صحيح هابه الجميع ، لكن إلى متى ؟ انكمشوا كالفئران فى جحورهم ، لكن عند أول فرصة تلوح لهم .....ماالنتيجة ياعبد ؟ زحلقت الطاقية ، طرطرتها كمارق مراهق ، شمخت بأنفك عاليا ، علا صوتك فى الزمام كله . هل هذا كل ما تريد ؟ يا لفداحة الثمن الذى تدفع و يدفعون .
                          رهن أكذوبة صدقتها تعيش ، ماعدت تسرح إلى الغيط ، لا تبرح المقهى ، ولا يفارقك الزناتى خليفة ، زيرك ، عنترة عبس المزعوم ، ضحية القبيلة ، راعيها وحالب صباحاتها ".

                          يزحف الليل ، يتوغل سادرا لايني ، يطوى الحارات ، الدنيا فى الخارج بوشاحه المهيب ، تناهت إلى أذنيه أصوات حوافر الخيل ، فى دقات منتظمة ، تلسع البازلت من بعيد .
                          يدس يده فى جيب صديرته ، يلتقط علبة النشوق ، يخطف التلفيعة من فوق دائر السرير ، يعمم رأسه ، يلثم وجهه تماما ، ينزع غطاء العلبة ، يشرع فى التنشق ، تصدر عنه عطسات مدوية ، كأنه حشا عفريت بأنفه !!


                          مشهد تلو مشهد .. مشاهد ، رؤى تترى .. تتوارد ، تحيق كمؤامرة ، تشل تفكيره .. صفير الحرس يدق ألف مسمار فى رأسه ، تعابير ولديه الصغيرين ، ضحكاتهما ، أنفاسهما المحروم لفحها ، لحية الشيخ المسنونة تداعب وجهه كالسنط ، تستنجده بكل ما تستطيعه من قدرة ، ومالها من حق عليه ، تفرى إرادته ، تذوبها ، المأمور ، زوجة المأمور ، ابنة المأمور .. سندريللا حواديت لا تتحقق ، هاهي تغلق عليه الطريق ، تتعلق به ، يجرى ، يجرى من أمامها ، تلاحقه ، يتخلص من حضنها السخن ، هو الفلاح المذنب ، يمتنع عن الخدمة ، يجلد ، يجدها فى انتظاره ، هذه المرة عارية تماما ، ياربى ، أين المخرج ، ترغمه ، أخيرا يلطمها ، يلطمها وكفى ، ليحدث ما يحدث ، تستعر حدة الموقف .!

                          توهجت جذوة .. بكى ، بكى كطفل ، للدموع سحرها .. بردتها ، ابتردت نارها ، انطفأت ، بكى . نفرت منه ، صرخت ، طوحته بكل ما وقعت عليه أصابعها .
                          جفاء وصد واشمئزاز ، استمر لأيام 0 خطت بين أصابعه المبللة بماء التنظيف ، ركلت جردل الخدمة ، قالت : تعالى يا إبراهيم !!
                          لم يتردد ، توجس . كانت فى جمال ملك ، لم يره ، بل حدسه ، فى خفته ، جماله ، شفافيته . بشت فى وجهه ، جالسته لساعات ، أنصتت إليه . حكى كثيرا عن نفسه ، عن بلدته ، عن شقاوته ، عن أهله ، عن ثريا ، عن عداواته . بعدها ترقى ، لم يقرب جردل البلاط ، وقطعة الخيش ، أصبح سائسها الخاص ، ما أن تراه حتى تتهلل ، تلقى بنفسها على صدره :" عم إبراهيم كم أحبك ، لتكن عم إبراهيم .. لتكن أى شىء !! ".


                          يكتمل المشهد تماما ، تبهت صور ، تصاعد صور أخرى ، أشد قسوة ، هاهم رفقاء البرش ، أخوة الشقاوة والتهور ، والأحلام المجهضة .
                          تتراجع الصورة ليعلو دبيب رتيب ، وهمهمة ، صهيل معهود ، فارسا الليل ، عليهما مهابة ووقار متفرد :" يا إبراهيم .. يا إبراهيم ". يدلى خيط المخلاة .. المخلاة تحمل دفتر المراقبة الليلية ، ثم وهو نصف نائم ، يبص عليهما ، يبتدرهما بالتحية ، خانهما السمع ، يصران بما لهما من خبرة على سماع صوته ، كأنهما يحملان فى أذنيهما بصمة ، يوقعان فى الدفتر ، ينطلقان من حيث جاءا .. الصمت المطبق يحيطهما ، الشوارع خواء حتى من الكلاب الضالة !
                          يسّاقط على فراشه ساخطا مكرها ، يستعيد النعاس الهارب ، يلتزق بالحائط هربا ؛ كي لا ترى ثريا ندى عينيه ، يستدعى النوم ، يتأبى عليه .. هيهات يرجع المسلوب سهلا . تلاحقه هي ، تدخل فى لحمه قائلة :" رفعت الدفتر ؟ " .
                          مجرد لملمة حنون ، إعلان عن رغبة ، فى وقت يكون فى أمس الحاجة لرفيق ، يغتصبه من أفكاره وأوجاعه .. وما أحلى الرفيق . انهار فيها ، غرق وجهه بين نهديها ، ترابطت قطعه المفككة ، ذاب فى حلاوة وجمال اللحظة رغم كون سؤالها كان من قبيل الحيطة واليقظة ، فهي لم تنس بعد تلك الليلة الليلاء حين ترك الدفتر ، تركه فى الهواء ، فحلق فى أرض الله بجناحي عفريت ، كان ذلك بعد أيام من انقضاء سجنه ، وكان يروى ظمأ روحه ، يزيل البلادة ، يغتسل بماء العشق المباح ، يطّهر بعرقها السيال ، وحنانها المعتق لسنين مرت كنحت موجع .

                          كانت لصقه وكان بين طراوتها ، يبثها شكواه ودموعه وتشوقه ، بعد جفاف امتد لسنوات لصقه ، تلثم شكواه ، دموعه ، تشوقه ، تغسل صدأ وصـديد أيام جدباء بنهرها الكنوز ، تبذل حتى ثمالتها ، ما لديها من قطرات العشق 0
                          هاما فى فلك اللحظة ، حلق عصفور من عصفوريه المحاصرين بالأحلام الملونة ، زقزق ، خانته أجنحة عارية إلا من زغب خفيف ، حط مرتطما بأرض الحجرة الغافية . شرد النجم عن الفلك ، لملم عريه ، أضواءه ؛ ينتشل الصغير المداهم بالأحلام الفذة .
                          يحين الوقت ، تتصاعد دقات منتظمة على أحجار البازلت من بعيد ، تخفت الدقات على تراب الشارع ، يرتفع صوت أحد الفارسين :" ياإبراهيم " .
                          كمن لسعته جذوة ، تخلص من أحضانها ، تركها محمومة تتلظى ، أطل من الشباك ، عار لا يستره سوى طرف لحافه :" أيوه .. أيوه يافندم .. أيوه موجود ".
                          يدلى المخلاة ، يتصنع المرح . موقد على وشك التشظى ، بسرعة كانا ينطلقان فى ركبهما القابض كآلهة الموت !

                          رأى فيهما ليلتها وارد المقابر- حارس المقابر- الذى هاجم جده لثلاث ليال . كان يمتطى جوادا ضامرا ، له ارتفاع مئذنة ، يدرع بالفضة ، بقبضته سيف من عظام الموتى !

                          ارتمى إبراهيم بقهره فى حضن ثريا الشاغر ، نسى سحب المخلاة ، تركها معلقة . بعد وقت رفرفا ، تهدلت أجنحة الطير المحلقة خفيفة .. خفيفة ، ذاب الكون حبا ، شف ، تلاشت كل حركة أو همسة .
                          انفجر الشارع فى نفس الليلة بناس كثيرين ، تصّاعد هديرهم عاليا :" تنتخبوا مين ؟ ".
                          فى قوة وعنف تتجاوب جموعهم :" شيشينى .. شيشينى ".
                          من أمامهم يرددون :" سبلة .. سبلة ".
                          دب عراك ، احتدم بين الفريقين ، قاده فتوة الحى على حجر ورجاله . ورغم الاستغاثات ، وأصوات عصى كانت ترن فى صحون الدور ، ظل مستلقيا ، يتابع زوجته ، وهى تطارد النوم .. ويطاردها ، ولم تسبح فى بحره إلا بعد الأذان الثالث للفجر ، المتردد من مئذنة الشوافعية !
                          لما صحت ، فوجئت ثريا بالمخلاة مدلاة ، لم تزل ، الدفترلا وجود له . ماتت بحثا ، لفت حول الدور ، سألت الجيران صغيرا وكبيرا ، خائفة منه تبكى ، تعيد دورة البحث ، لا جديد ، ماخشيت منه حدث ، لم يصل غضبه عند حد ، هاج ، ثار ، صب جام غضبه على رأسها ، ورؤوس أهلها ، حمل فأسا ، جرى خلفها ، ولولا أمه وبسيمة أخته لانتهى الأمر بمأساة لا يعلمها إلا الله !


                          لم يكن أمامه سوى المضى فورا صوب البندر كقاتل مداهم ، على عكس ما توقع ، مر الأمر على خير ، وصرف له دفتر جديد بشكل غير رسمى ، مرفقا به توبيخات للباشجاويش بركات :" على الله ماتكونش مصيبة وقعت إمبارح ، هاتطبل فوق دماغك ، ودماغ أهلك ".


                          فى مواجهته يركضان ، عيناهما الصغيرتان تغلقان معالم الليل الجاثم ، تجتذبانه إلى الخلف ، والعودة من حيث أتى ، يقاوم ، يعدو بهمة ؛ العينان تنزفان دموعهما حارة ، أربع حبات كبيرة .. كبيرة ، ثقيلة ثقل أوجاعه . حائرا يتوقف كأنه ضل طريقه ، يحدق فى العتمة ، يجثو على ركبتيه كهرم حط به الدهر . العينان تحاصرانه ، تغلقان عليه المنافذ .. كل المنافذ المتاحة .
                          فجأة يكتشف رمضان سيره وحيدا ، يصيبه ذعر ، يلتفت غير مصدق ، يهوم فى فراغ دامس ، يعاود التقهقر .. خطوات ويتحسس وجه إبراهيم ، يحط إلى جانبه ، يرى تلألؤ دموعه فى محارة العينين ، يجذبه متسائلا :"جرى إيه ياإبراهيم ؟ " .
                          بقوة يحتضنه ، يرفعه عن الأرض ، لا شيء إلا دموعه وانكبابه :"إبراهيم فيه إيه ؟".
                          يتمتم :" بلاش يا رمضان .. بلاش ".
                          يؤزه رمضان أزا ، يخلعه من بعضه :" خلاص .. نسيبهم يغدروك ، مش همه اللى نويين على الشر ، أنت بتدافع عن نفسك ، عن عيالك ، عن بيتك ".
                          أخيرا يترابط قلبه ، يخطو :" يللا بينا ".

                          بلا ظل سعيا ، المشهد ظلامي قاس ، وصور مخيلته أكثر ظلامية ، لا تنقطع ، يتطوح منهكا من وطأة حصارها ، يرى ليلة قبضوا عليه ، وأعدوا له التهمة ، واقتادوه إلى سجنه محكوما عليه بخمس سنوات أشغال شاقة .

                          كان الموعد بعد العشاء فى قرية عياش ، ارتدى أحسن ماعنده : الجلباب الصوف ، الحذاء الأجلاسيه ذا الأستيك المطاط ، الذى اشتراه من أول اتفاق عقده كابن ليل ، رفع الطربوش الأحمر على رأسه ، غادر الدار بأعجوبة .. كل من الدار كان على يقين بذهابه لعروس غير ثريا !
                          دنا من مكان المقابلة ، أحاطت به قوة كبيرة ، ناور للجرى والفرار ، طار على الطريق .. طائرا يجاهد للخلاص من الشرك ، تعثر فى جلبابه .. حط طائره أرضا ، حجل برغمه ، استجمع تماسكه ، علا طائرا ؛ لكن جبلا بشريا يحط فوقه ، لا يذكر..هل خارت قواه تحت وطأة الضرب أم كبلوه بالسلاسل ؟ أتوا ببهيمتين من إحدى الدور ، وأرغموه على سحبهما 0

                          يزوم المشهد يغرقه . ينغزه رمضان بقوة . يتراجع المشهد ، يتضاءل ، يفيق تائها ، يدور حول نفسه ، يطوح رأسه ، يخلصها من حملها . يدنو رمضان ، تصبح أنفاسه فى أذنه ، يهمس :" اللى باقى نص كيلو ياإبراهيم !!".
                          يتحشرج صوته ، يبتلع ريقه :" أنت متأكد ؟ ".
                          تجيئه طبعا :" أنا متأكد "قاطعة ، وكانت تعنى :" قف أنت ، ودعنى أتقدم ".
                          بقوة يشد على ذراع رمضان ، يفلته من بين يديه :" زى ما اتفقنا ، أنا هنا فى ريشة الترعة ، بص للمكان كويس ، ماتخلينيش استنه كتير !!".
                          أحاطه ثم أفلته :"ربنا يستر !!".



                          متداخلا فى بعضه ينط إبراهيم ، تحت شجرة شعر البنت ، يختفى . تتدلى فروعها فى ماء الترعة كضفائر أنثى ، وكانت الأرض مبتلة تحت قدميه ، تكاد كتل الطين تسقط به ، يتساند قابضا على جذع الشجرة جيدا ، يتحسس كطائر كي لا يحدث صوتا ، يهدىء من روعه ، يربت جيب صديرته : الغدارة ، المطواة فى جيب السروال ، يطمئن عليهما . تنشع فى كيانه رطوبة الترعة ، تسرى فى كل جسده . يرتجف ، يتمطى بحذر . تخترقه سحابة من خوف !

                          يعانى من رحى ثقيلة : جميع من ساءلتموهما ياإبراهيم كانوا يستديرون مرتعبين ، مطلقين سيقانهم للعتمة ، ما تأكدتما من جنسهم ، إنسا أم جنّا ، كثيرون ، لم يصيبكما اليأس ، إصرار غريب ينزع خطاكما ، ينقلها ، حتى نجحتما فى استدراج عجوز :" تقصدوا شيخ البلد ؟ " .
                          لسع صوتها سكون الليل ، هرأ وقاره ، هتك الغوامض .. السواتر ، أزاحت الرهبة بعيدا عن كاهليكما .. أفلتت أشباحها الساكنة ، قبضت البلدة بأكفها ، لتقرأ ، تحسب الخطوات ، الوئيدة ، المهرولة ، الراكضة ، والحاجلة 0
                          تملكك اشمئزاز ، مقت مستطير ، رأيت الخيانة مجسدة ، خطوت بعيدا .. تلاحقك أنت . تتمنى ألا تصلا ، تعودا من حيث جئتما دون إتمام المهمة . الأحداق تحاصرك : الأولاد ، ثريا ، وعين فى اتساع تنور تفرز وهجا جهنميا ..كلها تغلق عليك المدى ، تتملك جوارحك .
                          :"أنت ها تحلل وتحرم بمزاجك يابه ؟".
                          :"البادى أظلم يا ولدى !!".
                          :"يبقى نستنه لما يجوا لحد هنا ".
                          :"غلط .. لازم بعيد .. وجوا أرضهم .. إنما تبنى حياتك كلها على صدفة .. تبقى مغفل ".

                          تتفرسك العجوز ، خلفت رمضان ، قتلها هاجس ما ، كلما استدرتَ استدارتْ ، خطوتَ خطتْ ، سكنتَ مطّتْ رقبتها ، لولا رمضان لفتكت بك ، وسقطتَ أرضا ، حفنةُ تراب نثرها فى وجهها ، وأصوات زفيف ورفيف ، أطارتْ صوابها ، فانفلتت فى الليل ، ثم أعقبتها أصوات زوبعة مباغتة !!

                          شق صوت الحاجب ، فى محكمة المديرية ، الصمت من حوله :" محكمة !".
                          ارتبكت القاعة ، همت فورا . الحارس ينخزه من خلف ، يخلعه عن مقعده ، فزع مرغما تحت الوخزات :" عندك حاجة عايز تقولها ياإبراهيم ؟ ".

                          يتابع الاتهام ، يلوح تجاهه ، يحس بكراهيته له ؛ لم يره إلا الآن ، تكاد أصابعه تفقأ عينيه ، يردد :" هذا المجرم الماثل ........".

                          يهدأ ليثور من جديد ، تنتفخ أوداجه ، وهو على عدائه له ، و لا يدرى لم ، كان الاستغراب و الدهشة ، الانفعال المقمع ، و أيضا الخجل حد الموت من نظرات القاعة !

                          انتهى ليقف محاميه الهمام – على حد مرارته – ارتجف متهندما ، ضغط كتفيه كمسند مقعد ، خطا ، نفخ صدره ، تدحرج كقتيل ، افتر فمه عن ابتسامة شاردة ، دنا من المنصة ، قلّب الأوراق بين يديه ، أحسه يتلعثم ؛ كأنه ماعرف بعد ، عمن يترافع .. يتكلم !!
                          هاهو ذا يتأتىء ، تنتابه حمى من نشاط ، كبهلوان اكتشف فجأة ، أن الجمهور لم يضحك بعد ، ينبرى سائلا مرة شهود الإثبات ، مرة شهود نفى النفى .
                          قال إبراهيم للقاضى حين كرر سؤاله :" وإيه فايدة الكلام يا سيادة القاضى ، ما أنتوا عارفين كل حاجة ".

                          يلامس وجه صغيره إبراهيم ، من بين القضبان ، يضاحكه ، يزقزق طائره مفعما ، ترف بسمة مثل طلعة صبح على وجه الصغير ، يتمنى لو حطم الحواجز ، وعانقه ، يتوه فى وجه ثريا الشاحب المختلج بدموعها الغالية ، تهتز ضلوعها بما يتكور فيها ، البطن تمتد إلى الأمام .. هاهو ذا ولده الثانى فى بطنها ، يتكور ، يتقلب ، يحصى الأيام كى يخرج ، كما يحصى أبوه ، وكل بأمر الله موفى .. يبكى ، يبكى طويلا !!

                          خبطه الحارس ، نطق القاضي بالحكم ، ألم لا يحتمل ، ينشط فى كتفه . يدوى صوت نبوية - أمه – فى القاعة :" ياظلمة .. ابنى ماعملش حاجة وحشة ، ابنى نضيف ، حسبى الله ونعم الوكيل فيكم ".
                          تنحى القماطة عن رأسها ، فترتمى خصلات شعرها على كتفيها ، تصيح :" كنست عليكم المنسوب ، يتشردوا ولادكم زى ماشردتم ولدى .. يتشردكوا ولادكن يا ظلمة ". و انهارت مولولة، دون توقف !

                          حزينا باكيا ينسحب الحى ، بلدته كلها ، غير مصدقين ماحدث ، ولو حدسه بعضهم من قبل .. بينما تبوخ سعادة رقصت هياكل البيومية منذ قليل ، سرعان ما تتكسر ، كأنهم ودوا دائما ، لو التف حبل المشنقة حول رقبة إبراهيم !!


                          نبوية فى المندرة الأرضية ، نهب الخوف والفزع ، تهز جذعها ، تسّاقط قنافذها ، تعود لانتشارها من جديد ، فى رأسها ، صدرها ، أطرافها ، عجيزتها ، تسبح فى دمها . تحفن من الأرض ، تنثر على رأسها : يارب .. استرها يارب .. الولد الحيلة والسبيلة ، أول ماشافت العين ، وتفجر له صدرى شلالا من الدفء والحنان ، زرعة نبتت فأحيت فىّ مالم أكتشف أمره عمرى ، منه كان استواء حبل بطنى ، اخضلاله ، يانعا ببركة ربى ، فخطف العين الحسود ، أجبرها على عد أنفاسنا .
                          أروح لمين يا قلبى ؟
                          السلطة بحارها ياما..
                          سكتها غيط ندامة
                          ومناحه مغرقانه
                          وبر الخيبة طايل
                          وشطه بدمى سايل
                          يا إبراهيم يانضرى
                          فرد اليمام حط متعافى
                          نصب الشبك صياد
                          مشدود ، ومتعافى
                          رجع الحبيب مكسور
                          قهران ومتعافى
                          شايل حمول ياما
                          عرق الجميل كافى
                          دمه مسقى القنانى
                          لفين تودى 0وتوافى
                          أروح لمين ياروحى ؟
                          وأطبتى راحوا
                          القهر ليل نوحى
                          وايش بيسوى براحه
                          أروح لمين ياسندى ؟
                          البلوة حشت كبدى
                          وحمول تجيب وتودى
                          وإمته يرجع ولدى ؟
                          ياهم قلبى عليك ، تشيل الهموم ، لا تقول الآه ، وغراب البين صوته فارد فى الفضا ، خراب ممدود ، طبل فى الحشا ، قتال فراقك ياضنى عينى ! ياترى يازين الرجال 00ياهلترى !!
                          سوف يتسبب فى موتى ناقصة عمر ، آمنى يانبوية ، آمنى بالله ، الرجل يوالس على الولد ، لا ينخ سكوته ، أين اختفى ولدى ؟ أمسكت فى زمارة حلقه : ابنى فين ياعبد ؟ أنت عارف .. أنت سبب كل البلاوى ، لن ترتاح ..وترجع عما فى رأسك ، حتى تحدفه فى مصيبة ثانية . فالح أنت فى الملالية :" جماعة البيومى سوا ، جماعة البيومى عملوا.


                          الطريق صعيبة ، صعيبة على الغلابة 0 كل هذا بسبب الفدان ، يغور الفدان وأصحابه ، ماقيمته بدون رجل ياعبد ؟ ترد كمبرد : والله لو راحوا العيال كلهم عشانه " تكور شفتيها تحاكيه" !!

                          زلزلت فرائصها حين علا صوت أجش :" يا إبراهيم ". شعرت كأن شيئا سقط داخلها ، من أعلى لأسفل ، تماسكت ، جرت متهالكة تجاه دورة المياه ، خرجت بغثيان قاهر ، أرهفت أذنيها ، أسنانها تصرف وتدمدم 0
                          جاءتها عطسات عبدالواحد ، ورده بصوت لم تصدقه:" اتفضلوا ".
                          عاد نفس الصوت الأجش :" مالك الليلة يا إبراهيم ؟ ".
                          من بين عطساته :" أبدا سلامتك ياحضرة الصول .. دول شوية برد ".
                          همهم الفرس :" لا .. ألف سلامة يا بوخليل .. تصبح على خير ، ابقى غطى نفسك كويس ، اطمن مش هانعدى عليك تانى ".
                          انطلقا فى طريقهما لا يلويان على شيء ، الفرسان يتهاديان ، يلذعان أحجار البازلت الحديثة العهد عند قمة الشارع .


                          هرعت نبوية إلى دورة المياه ، أرهقت صبرا ، تدحرجت خارجة ، ابتليت ، نطت إلى دورة المياه ثانية ، ابتلاها إنهاك ، حارت ماذا تفعل ؟ هداها تفكيرها إلى دس جلباب فى سروالها ، انطرحت على الأرض بوجه شاحب ، وعينين واهنتين تراقب وجه ثريا المخطوف ، وتربت على كتفها بين الحين والحين !!


                          نحا التلفيعة جانبا ، تنهد بارتياح ، مسح عرقه الغزير ، طوح علبة النشوق كمن يتخلص من جريمة ، دعك أنفه المجدور ، أزاح حرقة قرن شطة ، غاص فى ساعة نكده حين هاجموا الدار ، أهلكه الضابط ضربا ، قذفه بكل قوته ، ارتطم بالجدار، ارتد إليه ، كلّ سيادته ، أدى المهمة عنه جنديان ، تغيم الدنيا فى عينيه، تسود تماما ، الجنديان يستميتان : " رد على حضرة الظابط كويس يابن ......... ".
                          شهق بشدة ، أسرع بإيقاف جندييه ، توقفوا ، صرخت نبوية ، أطبقت على رقبة الضابط بأظافرها :" عايزين تموتوا الراجل يا ظلمة ".
                          الضربات تستأنف :" قول فين ابنك يا راجل ؟ ".
                          للضربات طعم الموت ، ورائحة الدماء ، يداخله إحساس بالموت ، أتكون هذه اللحظات هى آخر ما يربطه بالحياة :" لا أعرف ".

                          كانوا يعرفون أين إبراهيم ، ما وقع له . غاب عبدالواحد عن وعيه . توقفا مخافة تمكن المرأة من رئيسهما ، حملوه إلى العربة ، صاح الضابط : " عشان تعرف تربى ابنك كويس يابن الكلب ".

                          كانت ثريا أعلى الدار، أقبلت ، صرخت ، لطمت وجهها ، ولولت بعلو صوتها :" غيتونا يا خلق أهوه ".
                          صوب الضابط نظرات متعالية : " مين البنت دى ؟ " .
                          تولت نبوية :" دى مرات ابنى ، وده عيّله ".
                          سهم الضابط : " ابقوا ربوه كويس ، وبلاش يطلع شقى زى أبوه ! ".
                          مستميتة تعلقت ثريا فى الشيخ المحمول ، تمنعهم من مبارحة الدار ، لكن محاولاتها باءت بالفشل !!

                          تهيأ عبد الواحد لمغادرة الحجرة ، تخلص من أنفاسه المكتومة ، تحرك نازلا ، اتجه إلى خارجها ، انتابته هواجس شتى ، توقف حائرا ، لف حول نفسه محدقا فى الفتيل الخافت ، تراقصت صورته على الجدار ، طالت أذناه بشكل شنيع ، دعكهما بعنف ، دبدبت الشياطين على رأسه ، هتف :" هل هو فى ضائقة ؟ الخوف يفتك بى ، يعتصرنى .. استعذ بالله يا عبدالواحد ، هو فى الطريق ، يطوى السكة الطويلة ، تحتضن موكبه الأشجار ، تخفيه عن أشباح الليل المخيفة ، سوف يأتى الآن مستريح البال ، اتئد ياعبدالواحد !!

                          خر عبد الواحد ساجدا ، أفرغ كل ما يعتمل فى صدره ، بللت دموعه أرض الحجرة ، رواها من فيض خوفه . هاتف يهيب به :" قم ياعبدالواحد .. الطائر الليلي طار ، مقهورا مضى ، تأسره هزائم أخرى ".
                          فزع عبد الواحد قائما ، اختلج كيانه تحت وهج الجلالة :" الله حى .. الله حى ".


                          على الأرض سقط ، كل شيء يتحرك ، يتخبط فى دوامة صاعقة ، كانت حلقاتها تتسع ، تتسع ، تتلاشى . أفاق ، حانت منه التفاتة إلى الخلف ، أبصر إبراهيم وجمال الصغيرين ملتصقين ، يشخصان إليه برعب ، ودموعهما تغسل وجهيهما ، نط واقفا ، بش فى وجهيهما ، حملهما على صدره ، طبع قبلة على وجه كل منهما ، خطا خارجا .. والفزع قط برِّىٌّ ينهش ملامح الطفلين !!


                          ساهمة ، ينتهبها القلق والأرق ، يفعمها البكاء على رجلها العائد من غيابه الطويل ، بعد شتات خلفه لثلاث سنوات ونصف ، من سجن إلى آخر ، لا تجد مستقرا ، ولا تراه إلا للحظات وجيزة ، بقلق تحوم ، كانت لحظة عصيبة ، حين رأته يحمل المقطف حزينا ؛ انخلع قلبها ، وهالها عظم الجبل ، كبيرا ممتدا أبصرته لا ينتهى ، توجست ، أأتوا به إلى هنا لقتله ؟ هذا الجبل يلزم نقله أضعاف عمره ، أعمار من معه من مساجين لا حصر لهم .
                          تمنت لو خطفت المقطف ، شاركته شقاوة هذه الحياة . بدا من خلف الأسلاك ضعيفا ، واهنا ، بأصابعه يخترق الأسلاك سعيا إليهم ، تجذبه ، تلثم أصابعه المشدودة ، تعتصرها ، تتشممها .
                          كم كان بعيدا ، وكم كانت فرحته حلوة عذبة حين طالع وجه جمال الصغير ، وبص فى وجهه طويلا ، بصوت متهدج :" خليك سند لأخوك ".
                          تفرسه مرة أخرى ، سرعان ماأبعد وجهه الممتلئ بالدموع ، جاشت نفسه ، حين شم رائحة اليتم فى عينيهما ، وذاب كيانه ، احتوته رجفة فى حجم زوبعة ، لف جسده هامسا :" خلى بالك منهم ، اوعى حد يزعلهم ، اوعى ".


                          طفا مشهد ، سبحت فى ضبابة الرؤية ، أفلح فى الصعود ، اتضحت معالمه ، الوقت ليل داخلى ، المكان حجرة نومها ، زوم أوت ، مشهد عام على الحجرة ، إبراهيم الصغير فى فرشته ، ثريا بين أحضان إبراهيم ، تدنو الكاميرا من وجهه ، تظهر التعابير حالة صراع ، يصحو ، يبسمل ، تصحو ، بسم الله الرحمن الرحيم : " الشر بره وبعيد يا خويا .. خير ".
                          يمط وجهه ، يتشمم شيئا :" أنا شامم ريحة رجل غريبة تحت الشباك ".
                          سكت برهة ، تراجع : " دول اتنين ، ولا كلمة أنت سامعة ".
                          بمهارة مذهلة انبرى يحدد طول الشبحين ، وزنهما ، عدد الخطوات ، نوع السلاح الذى يحملانه :" هاهما منطلقان فى اتجاه غيط الذرة فى نهاية الشارع ، الفجر على وشك :" يعرفون وقت خروجى لصلاة الجماعة !

                          يخطو واضعا إصبعه على شفتيه ، يصعد السلم الخشبى ، يستلقى على بطنه بين القش والحطب ، الليل يأسر الدنيا بأغلاله ، تلحق به ، يبادرها متثاقلا بذراعه على جسدها ، تلتصق بالقش :" همه فى غيط الذرة .. إياك تقومى على حيلك ، أنا هاحاول أنزل وراهم بأى شكل ، وساعة ما أكون وراهم ، تدوسى على زر الكشاف .. تستنى لما أديكى إشارة .أنت فاهمة ؟ أي حركة غلط تقضى علينا ! ".
                          يتلبسها الخوف كشيطان ، يزحف عبر جسدها . على بطنه .. كان إبراهيم يتحرك عابرا سطح دار الخالة نجية إلى سطح دار عيد ، إلى سطح دارالنوسانى ، تعلق بالتوتة الكبيرة دون صوت إلا وجيب قلبها ، وأنفاسها المقهورة .

                          يختفى فجأة ، يظهر فجأة .. كم مرة حطت بكفها على شفتيها ، الصرخة تعوى كمغص قاتل فى جوفها..كادت تصيح :" ارجع" وقت حط على سطح دار الخالة نجية .. زلع المش تسد الطريق .. لو اصطدم بها شوت رجليه .
                          كان مشوارا طويلا ، وكان مصرا ، خطواته الطائرة تدبدب فى صدرها وضلوعها ، حتى جاءت اللحظة الحاسمة ، ملوحا بحدها اللامع كان يحرك المطواة .

                          كان خلفهما مضيئا كنجم قضبى ، وأطلقت نور الكشاف ، فرأت رجلين فارعين يحملان سلاحيهما ، تماما كما وصفهما إبراهيم ، ورغم بعدها حددت ملامحهما ، أمرهما بإلقاء السلاح ، وهى ترتعد بقسوة .. ألقيا سلاحيهما مرتعدين ، أمرهما بالتحرك .. أصبحت بيده إحدى البندقيتين ، دفعهما إلى نزع ثيابهما ، استعطفاه ، كشر بغيظ ، أصر على تجريدهما ، ما ترك لهما سوى السروالين ، ربطهما سويا ، الأذرع الأربعة ، ربطهما هكذا ظهرا لظهر .

                          كانت أدركته ، لم تأبه بالدم ولا الألم .. حيث وقعت ليلتها من آخر ثلاث درجات فى السلم ، فانغرز مسمار فى راحة يدها ، مازال إلى الآن ينزف دما .. قادهما إلى دار البيومى الكبيرة ، ألقى بأسلحتهما فى وجه الكبير وعائلته ، وضحكته ترن فى حقول الليل الساكنة ، وتسرى شيطانية الوقع !!

                          عاد فتوضأ ، وانفلت مدركا الفجر الطالع . فى الصبح تجمع الخلق أمام الدار ، يهيبون به ، ويحرضونه على العداوة ، كأنه مخلصهم ورجلهم الوحيد ، ما من مخلوق فى الناحية إلا وناله الأذى ، بات مسكونا بالهم والوجع من البيومى وعائلته ، فما أن علموا من بشير الغفير بالأمر حتى هزهم الفرح ، وعلا وجوههم الرضا !

                          انتشلها صوت جمال من تحليقها ، ففتحت أبوابها للطيور ، أقلعت بعيدا ، حملت الأولاد ، وخصت الشيخ بنظرة غضب وملام ، واندفعت بهما إلى أعلى كسيرة الفؤاد :" تصبحوا على خير ".

                          عبرت باب حجرتها هائجة المشاعر ، فاضت ، بكاء متواصل لا ينتهى ، نقمة إلى حد الاختناق ، نقمة على أمها وأبيها الذين كانا سببا لما هى فيه من وجع وألم وخوف وتهرؤ وشقاوة ، فحين غزتهم أم إبراهيم خاطبة لها ، فرحا فرحا طفوليا ، ووافقا قبل أن يكلفا نفسيهما عناء السؤال عنه !!

                          كانت وقتها تلهو مع قريناتها ،فى تراب الحارة ترسم أحلاما بيض، وتحجل حولها فى افتتان ، وهى تحتضن عروستها ، المحشوة بالقطن ، مدت عينيها ببراءة ، هرعت واقفة فرحة تتمسح فى جلباب خالتها ، وهى تجيب سؤال الغازيات عطفتهم المعزولة :" ماعندناش بنات للجواز ياست .. مايكونش قصدك المضروبة دى .. دى زى ما أنت شايفة !!".
                          عاينت الخالة حيرتهن ، فرحبت بهن ، وأفسحت لهن الطريق لاستكمال الغزو ، بل دفعتهن أمامها ، وهى تنادى بصوت غليظ ككارثة كونية على أم ثريا :" يا ألف خطوة عزيزة .. يا ألف نهار أبيض .. يا أهلا وسهلا ".

                          فاتت سنة ، وهى غريرة مانزل عليها حيض الفائرات بعد ، ترى أمامها شابا حلوا .. جميلا كحلم ، ماله شبيه فيمن ترى من رجال فى معزلهم ، قالوا : " هذا عريسك ياثريا ، من أول البلدة جاء ، حط عندك دون بنات حواء ، فرحت به ، حملته على صدرها ليلا ونهارا ، تهننه ، تحكى له الحكايات ، تمطره بالقبلات الرائعة ، تلمه بين أحضانها فى الليل ، ليدفء لياليها الباردة !!

                          دائما كان هناك ، على العلواية ، صقرا جميلا ، يرسل نظراته سهاما نافذة ، تسرى فى كيانها ، تدغدغه إلى حد التفتت ، يرقب حركاتها ، ترفل كغزال أهيف ، تنطلق فى بحر الخضرة حول أمها ، بخديها الموردين ، وجهها المستدير ، وعودها الفارع النحيف .

                          كان انتظاره جميلا ، أجمل من انتظاره أن تكون بين رموش عينيه لساعات طوال ، وعندما يصيبه الضيق ، يطلق من بين شفتيه عصفورا مزقزقا ، بلحن شجى ، حزين ، يخفى وراءه سرا وجرحا بالغ العمق !!
                          جذب انتباهها صبره الطويل ، وإصراره المجدول من القنب العصى ، حتى عندما تصبح هدفا لإغراء أحد الشبان ، فقط كان ينسحب فى هدوء ، فتضيق بأمها ، وبالغيط ، وكل شىء ، وتهم بالركض خلفه ، فتحول أمها بينها ، بل تقيدها ، بأن تضع رجلها أسفل ساقيها :"عايزه تفضحينا ".
                          لكم حزنت ، وأكلت قلبها اللوعة ؛ لتركها هكذا نهبة للمتطفلين الخاطبين ودها ، لكنها تنتظر حتى يأتى ، فتتوارى عن ناظريه ، وهى أكثر شوقا وحنانا إليه !!

                          كثيرة هى ، عدد مرات قطعه الطريق عليها ، يستوقفها فى ثبات ، ترخى أهدابها ، تسكن روعة قلبها ، حين يتكلم تساقط ، تخونها قدماها ، لا تجد لسانا وشفاة ، تصبح طائرا يروم عشه ، يخلى بينها ، يتركها تمضى !!
                          فى المرة الأخيرة حرم عليها السروح إلى الغيط نهائيا ، عرفت كم يحبها ،لم تعد تلك الغريرة الطفلة ، بالفعل لم تر الغيط من هذا النهار حتى أصبحت فى داره .


                          ليلة دخلتها كانت ليلة مشهودة، أقاموا زفة تليق بابنة السلطان . خمس بدل استبدلتها ، العوالم من كل صنف ولون ، حملة المشاعل يتقدمونها ، ضاربوا الدفوف يملئون الدنيا صخبا .. زفة من الشون لصندفا لسوق السلطان .. للوراقة .. منها دارت فى أحياء .. حارات سوق اللبن .. حارة حارة .. عطفة عطفة .. على مزلقاناته المترامية يتهادى الموكب .. على مزلقان الشريف .. الديبة .. لف تجاه العمرية .. اخترق الميدان الفسيح ثانية ، اتخذ طريقه فى اتجاه الشوافعية .. هذه الأماكن أحبتها ، عشقت ترابها ، إنحداراتها ، أسماءها .. كانت لا تعنى شيئا عندها ، وكانت تشعرها بالغربة ، سرعان ماتغذى نبوية حبها ؛ تحكى لها الغرائب والحكايات الدامية عن المزلقانات ، التل سوق اللبن ، عن البحر الذى يأخذه بين ذراعيه كعقد من الفضة الذائبة يطوق عنق الأميرة الساحرة ، تحكى لها عن العرب النور القادمين من بعيد ، الغجر ، متى احتضوا النهر ، فاحتضنهم ، تناثروا حول التل ، عن ثيابهم الغريبة ، لهجاتهم الأشد غرابة ، أنصتت ، سمعت كأنها لم تعش من قبل فى هذه البلدة ، بلدة أخرى عرفت هنا فى سوق اللبن ، وأناس آخرون ، لم تر مثيلهم !!

                          كان الناس أمما ، يرش الملح لا يرى وجه الأرض ، والجميل يتورد وجهه ، يصير فى لون الطربوش ، طربوشه المحبب لديه ، ضحكته لها طعم النعناع ، ندية على القلب ، تزيل خوفها ، تطرد هاجس الاحتمال والظن ، يصل إلى أذنيها ، كان يشتهى الزواج بأخرى ، تكتئب ، تنال منها الغيرة كأن سكينا مسمومة تخترق قلبها ، سرعان ماابتردت ، تعود لصوابها ، تكتفى بما أحاطها من حب واهتمام ، تسعى قدر طاقتها لتبرئه من علله الماضية ، لم يكن يدرى مايدور فى عالمها ، كان يشهد حزنها فيظنه تعبا وإرهاقا ليس إلا ، وحين يستوى لديه الفهم ، يعرف طبيعة ماكان يقلقها ؛ حكت لها إحدى الجارات إلى أى حد قاسى من جراء الأخرى ؛ يوم ذهب لخطبتها أغلقوا فى وجهه الطريق ، باعوه خمسة أفدنة مااستطاع شراءها ؛ هام على وجهه ، أعلن الحرب على أهلها ، ظل لشهور لائذا بالغيطان ، آخر الأمر وجدوه منهارا ، ووجهه يحاصر دار الخطيبة غالية الثمن ، وهى تزف لولد من أولاد البيومى نكاية فيه . كان صامتا لا ينبس بكلمة ، هذه الطفلة لا تفهم شيئا .. لا تدرك إلا ماهمست به أمها ليلة دخل عليها ، وظلت تعلمها إياه إسبوعا برمته . كم كان وضعها مضحكا ؛ تتقنفذ فى ركن السرير ، تصطدم بجبهته المقطبة ، تنزوى كقطة ، ينام تاركها ، تبكى دون سبب أو ربما لعجزها عن أى فعل ، يحنو عليها ، يلمها فى صدره ، يستولد النار بين حناياها ، تشتعل ، ياقوتا تشتعل ، يتلظى ، تغوص فى بحره الوسيع ، تغرق فى عرقه المخدر ، تتعلق به هائمة ندية ، خافضة الجفن فى خفر ، تسافر عبر بلاد بعيدة دون قلاع ، ولا تحط على شاطىء قريب سوى صدره العريض !!


                          خائفة ، تتساءل عن مشواره المفاجىء ، لم استدعى كل هذا الكذب من أبيه ، اللعب الخطر مع الحكومة ، ترحل فى الاحتمالات والظنون ، غربان سود تنعق حولها ، تنتفض ، تفزع ، تتمتم :" افرض وقع المحظور يا إبراهيم ؟ ماذا نفعل ؟ كيف ترحل دون كلمة.. تتحدث معى ، تكشف عن وجهتك .. إلى أين ؟ ياقرة العين .. ألست زوجتك .. حبيبتك .. أم عيالك ؟ ذقت الهوان معك يوما بيوم ساعة بساعة .. من وقت محنتك إلى ساعتى هذه ،وأنا راضية بقسمتى ونصيبى ! " .


                          صدح طائر الليل فى سماء باهتة ، تلاطمت ظنونها ، صد النوم عنها ، انبعث داخلها غناء كالبكاء :" لملم ياطير السما أحزانى .. أوصلها لمحبوبى السارح فى حلكة الطريق والظنون ، كافرا بالرقاد بين ذراعى ، قلبى المقهور بعذابات الفراق يكتوى بنار السبى والمداهمة .. اصدح ياطير السما ، رف بجناحيك وجهه الحبيب ، وشوشه بكلماتى الحبيسة .. الود ودى أحطه بين رموش عيني ، أتكحل عليه ، أداريه ، فلا تنظرنه الحبيبة أو البعيدة ، يحلم ببيت من الحجارة ، بيت صغير .. نظيف ، تغمره الكهربا ، تجعل ليله ظهرا ، يكون فيه وسع لأولاد .. لعشرة أولاد ، عندما يكبرون يكون لكل واحد بيت مثله تماما .. نظيفا ولامعا ، ليس به زريبة للبهائم ، لا منامة على سطح فرن ، يكون مجرد عامل فى مصنع ، يخرج مع بزوغ الشمس ، يرجع مع الغروب .. لا يهم بكم يعمل ، يكون سيد الدار هو ، نعم يعود كل يوم ، يلم الأولاد ، يحكى لهم حواديته ، حواديت جدته الفانية .. حواديت عمره الخاصة .. أحلامه .. يتعلم منهم الحساب والقراءة ، كل ماعجز عن تعلمه !!

                          تلبسين ياثريا أجمل الثياب ، تصبحين أميرة ، يكون كل عملك البيت والأولاد ، أنت تروحين منى ، تموتين تعبا فى البيت والغيط والزريبة ، أشم رائحتها فى ثياب نومك ، فى لمس أصابعك ، أكون بندريا ياثريا ، ألا سحقا للبيت والغيط .. شفت فيلا المأمور أيام الشقاء ، لامعة كالمرآة .. لامعة ونظيفة ، تفوح منها رائحة العطر ، شفت زوجة المأمور جميلة .. سنيورة ، ليست أجمل منك يابنت .. بل أنت الأجمل ، لولا المرمطة والشقى ، الحياة القاسية .. نعم ياثريا .. أولادهم لايلامسون تراب الأرض .. نعم .. يغادر المأمور فى الضحى ، ويرجع فى المساء .. مرتين .. آخر الشهر يأتيه راتبه .. راتب كبير له حرية التصرف فيه ياثريا .. لا يخاف أحدا ، لا يتعمد لبس الأسود ليلا ونهارا ، ليس من عداوات فظة يخاف احتمالاتها .. أنا .. أنا ماذا ؟ مجرد ولد كبير فى نظرهم .. مهما كبرت ، يستخلص مصروفه من أمه بطلوع الضرس ، ليس له حق الاعتراض أو التذمر .. الأولاد يكبرون .. يكبرون ياثريا .. رأيت أولاد خالتى الصغار ، الواحد منهم يطلب بعينه ، يصبح مصروفه فى جيبه .. يفعل به مايشاء وقتما يشاء .. لكننى فشلت .. فشلت ياثريا !! هل أنا أقل من هؤلاء ؟ أنا المعلق طول النهار والليل فى الأرض ، أشقى .. أزرع ، أنقى ، أرعى ، أحصد .. لا أجد شيئا .. أول السنة هو آخرها .. أعلاها مثل أسفلها مثل أوسطها .. كلها سواء .. كنت أحلم بسيادة نفسى ، انسقت فى الطريق الخطأ ، وجدتنى إبن ليل .. أفعل مثلما يفعل أولاد الليل ، أنا ياثريا .. أنا أقلع السواقى و الزرع ، أسمم المواشى ؛ لأجل ماذا ؟ قروش معدودة ، أغتال الأحلام ، أعرى المستور ، أهدم البيوت العامرة .. أنا لم أقتل .. لم أقتل .. لم أفكر يوما فى قتل أحد .. البيومى القاتل الظالم لم أفكر فى قتله .. لكن أليس قلع الزرع قتل ؟ تسميم المواشى .. هدم البيوت ؟ قالت وهى تتلعثم ، بكى .. لم يكن لأجل شىء سوى خلق مهابة فى نفوس الجميع .. كل الجيران .. البلدة . أصرف من جيبى لأجل سراب عجيب ، معنى مرهون بقدرتى على استكمال أركانه ، السباحة فى بحره حتى النهاية ، لكن هيهات حاولت ، هابنى الجميع نعم ، صغرت تلك الهياكل ، تضاءلت تماما .. كان يسحرنى ياثريا .. نفس الوجوه ، كانت تنحيك عن الطريق .. بل ترميك قذفا .. نفس الحناجر ، كانت تشق صدرك .. الرجال العماليق تهرب .. تنأى عن طريقى .. تتزلف إلى .. ضحكت من تصاريف القدر .. ضحكت .. بكيت .. بكيت الإنسان فى وفيهم .. طلبوا منى خوض التجربة حتى نهايتها ، بكل حروفها .. توقفت .. انكمشت الحياة فى ناظريا ، غاضت تلك البهجة داخلى .. كان على قتل شاب صغير .. قتل إنسان .. لا تقولي كان تردد منى أبدا ، كان خوفا .. كان .. تذكرى كل الاحتمالات .. ما كان بداخلى خارج نطاق هذه الاحتمالات جميعا .. أنا لم أفكر مطلقا فى هذا الأمر .. رفضت .. رفضت ليس حبا للضحية ، وربما كان !!

                          كانت القشة .. اعتبرونى عدوا لهم .. خرقت قانونهم .. دبروا ما وسعهم .. نفذوا مؤامرتهم .. ماكنت أحسبه حبا ورجولة كان كيدا وجريمة ".

                          " مازلت ياطائرى محلقا ، تسلك طريقا بدأتها منذ أول العمر ، إلى مدى لا أعرف له نهاية .. أكنت تضحك علي أنا الغريرة .. الهبلة ؟ هذه الحجرة .. حجرتى الحزينة .. كل مافيها ، غارق فى الظلمة مثلى ، أحسها مشوقة إليك ، تنفض الغيم عن كاهلها .. تكتحل عيناها برؤياك ، الإطمئنان إليك لتخلد إلى السكينة ، لن تغادرها ، تعافها مثلما أنت الآن !!
                          أنت سرى المرهون بعمرى الماضى والقادم ، أنت شبع البطن ، فلذة الكبد ، أبو العيال .. أولاد بطنى ، أتوا رائعين فى روعتك ، موشومين بنفس الحسن .. نفس الطيبة الحبيسة ، التى لا تترك لها حرية الانطلاق .. بل تذبحها ، تصفى دمها ؛ حتى لا تعيش بضعفك الجميل ".




                          تهادى رمضان متثاقلا ، التف قنفذه ، سكنت أنفاسه .. سكنت بعض الشىء ، هواجسه بددت كل ماحاوله ، تبص من رأسه ، تطاير بها ، لملمها ، حطها فى جيبه ، تتسلل ، تخرج ، تحيط به ، تطارده ، لايعيرها التفاتا ، تعلو أصواتها ، يخنقها واحدة واحدة ، تعوى ، يقتلعها نباح كلب ، تختفى تماما ، يفلح فى فرض سيطرة محكمة على مشاعر الخوف ، تشن حملاتها عليه بين لحظة وأخرى ، بالفعل يتمكن من التحكم فى نبرات صوته ، إرهاص كل الأفكار المحبطة ، راح بين الفينة والأخرى يحيط رفيقه ، يطارد أفكاره ، يحدث ارتباكا .. تشويشا على مخيلة الرجل ، حينا يقدم له
                          sigpic

                          تعليق

                          • ربيع عقب الباب
                            مستشار أدبي
                            طائر النورس
                            • 29-07-2008
                            • 25792

                            #14
                            حينا يقدم له سيجارة ، حينا يدخل معه فى حديث لاينقطع ، ينقطع هو عن المواصلة ، عيناه تسددان نظراتهما إلى الهيكل الممدود ، الممتلىء .. نفس السحنة ، عاينها فى الدوار ليلة رجاه إبراهيم باقتفاء أثر البيومى :" وللا يارمضان .. أنا شامم ريحة رجل غريبة فى البلد الليلة ".
                            البندقية على كتفه ، صوته الأجش ينهك تماسك رمضان :" شرفتنا يا أخينا .. نورت بلدنا ".
                            :" الله يشرف مقدارك ياشيخ البلد .. البلد منورة بناسها ".

                            يستشعر عنكبوتا عنيدا يتحين الخاطرة لنسج خيوطه حول رقبته ، يرقبه بجانب عينيه ، يعاود اختلاس النظر قارئا ملامحه بصعوبة ، مارأى شيئا ملفتا للنظر ،إحساسا بالرضى شاهده ، كان يغمرصدره ، أسقط حسابات قاسية فرضها على نبضات وحركات الرجل !!
                            سرعان مايجتذبه الليل بظلامه الدامس ، يحصى عدد الأشجار المنتصبة ككتل من الأشباح على شاطىء الترعة ، يصاعد صوت إبراهيم داخله :" رمضان أنا شامم ريحة رجل غريبة فى البلد ".
                            بسرعة كان يحوم حول دوار البيومى ، أية مصادفة جعلته يرى بعيني رأسه خيوط المؤامرة عيانا بيانا .كان شيخ هذه البلدة السائر إلى جانبه الآن ، ومعه رجلان .. رآهما فى وكر الشيخ هذا المساء . لكم أشفق على إبراهيم من طول الانتظار ، حين أقسم شيخ البلد بالطلاق على العشاء والمبيت لديهم ، ولم يكتف بهذا بل غالى فى الأمر ، أصدر قسما آخر .. بهدوء كان رمضان يردد:" كله إلادا .. نتعشى ماشى ؛ عشان يبقى عيش وملح .. لكن حكاية البيات دى .. أنت سيد العارفين .. الستورى حلو ".

                            عاد شيخ البلد لنصب شباكه ، أكثر من الحديث ، كلما أغلق رمضان له دائرة ، عاد وفتح أخرى – دون ملل – كأنما يلمس قلب الحقيقة :" قلت لى اسم الكريم إيه ؟ ".
                            بيقظة ويسر :" محسوبك المرسى أبو وردة .. جرى إيه ياشيخ البلد لحقت تنسى ؟ ".
                            يهز شيخ البلد رأسه ، كأنه يتلقى جوابها ، هو نفس الاسم ، سمعه فى الوكر ، نفس الاسم :" عاشت الأسامى .. والله شرفت بلدنا الليلة دى يامعلم مرسى ".
                            :"....................................".
                            :" ومين اللى دلك علينا بقى ياسى مرسى ؟ ".
                            كابن ليل قديم يمزق خيوط الشيخ ، يقضى على عناكبه تماما
                            :" بس أحلفك بالنبى ماتجيب سيرتى قدامه ".
                            :" دا لازم عزيز عليك قوى !! ".
                            :" دى عشرة عمر ياكبير .. من سنتين كنت فى قبلى .. فى فرشوط بأزورواحد حبيبى ".
                            :"أجدع ناس .. لازم ولا بد تكون قابلت الواد يحي ولد أبو العينين الفرشوطى ؟ ".
                            :" لا والله ياشيخ .. الكدب خيبة .. أنا سمعت بس عن ........... والجدع المعرفة ده قال لى أما عندكم واحد فى بحرى إنما إيه .. ودلنى عليك " .
                            يعاود رمضان الخوف ، يبتلعه ، تتصلب حنجرته ، هل أجاد المناورة ؟ هل كان مرتبكا ؟ ابتعد عن المكان المحدد .. أعطى إشارة ما استجاب لها إبراهيم ، أشعل سيجارة ـ اختنق بدخانها ، كح .. كح عدة مرات .. ربما خانه التوقيت .. يحدد المكان ثانية .
                            شيخ البلد كثير الظنون ، مازال مصمما على مواصلة الطريق إلى خارج البلدة ، يحاول إثناءه عن عزمه بدهاء .. الشيخ يستجيب للشرك ، يصر على الرفقة !!

                            أبدا لا ينسى – مهما حاول – ماقدمه له إبراهيم من حماية ورعاية فاقت المتوقع ، ساعة تخلى عنه الأصحاب والأقارب بما فيهم والده ، دافع عنه أمام الجميع ، بنفس الصلابة كان يحارب معركته ، حمل سلاحه فى وجه الجميع ، ظل ليال طوال يحرسه ، وحين أحس منهم الغدر أطلق رصاص بندقيته ، وصوته يزلزل الأفئدة ، ويتوعدهم واحدا واحدا .
                            خرج رمضان من التجربة القاسية مصمما على النأى بنفسه بعيدا ، هجر الفلاحة ، أولاد الليل ، دار العائلة ، تخلص من كل ماضيه ، عمل فى مصنع ، لم يبق من حياته القديمة سوى صداقته لإبراهيم ، وملازمته له ؛ أقسم بينه وبين نفسه على تخليص إبراهيم من هذه الأعباء ، والعيش فى الظل ، بعيدا عن العداوات والموت ، والعمل معه فى نفس المصنع !!

                            كان الهدوء شاملا ، تبدده أصوات الليل ، كانت ترخى عليه رهبة ومهابة ، يصعب اختراقها .. كانا تجاوزا إبراهيم ، لمح من مخبئه شبح رمضان ، ميزه ، سمع كحيحه المتفق عليه ، انسحب من كمونه الشقى ، لملم أعصابه المتهالكة ، دلف منهما بحذر.. العتمة مالها عيون .. تغتال عشاقها مهما كانوا .. ليس من صريخ ابن يومين يوحد الله !!

                            طار إبراهيم بخفة ورشاقة .. من الخلف :العرق ، والأسئلة ، الخوف الرهيب متشعب الرؤى . كان صدر إبراهيم السنديان .. طرق لاينتهى .. لا تراجع . شد قبضته على المطواة ، بسرعة كانت تخترق بدن الضحية ، القبضة الأخرى تتكتم الفم ، أخرج المطواة ، رشقها فى نفس الموضع ، لفها بقوة وغيظ عجيب . كان ابن اللحظة ، ضغط ، نزعها ، رشقها .
                            رمضان يلف لفاعه حول العنق المكتنزة ، يضغط . إبراهيم يسدد الطعنات . تواجهه عيون الدم حارة .. ساخنة . فجأة يخترقه رعب مباغت . يتراجع خطوة . تعلو حدة الفزع . يفيق من تأثير مخدر ، يتراجع . عيناه حبتا جمر ، قلبه جناحا طائر. يدركه رمضان ، يشد على ساعده .. لايستجيب . يزغده بقوة :" انتهى ، قبل ماننتهى احنا .. يللا ".


                            قال أحد الخفراء :" خدونى معاكم يابا محمد ".
                            طالع بعينين ذئبيتين رمضان .. تكوينه الجسمانى .. نهره .
                            :" مفيش داعى .. البلد أمان ، وأدينى بامشى اللقمة ".

                            اقتربا من الترعة الواسعة .. فصلا الرأس عن البدن .. ألقيا الثياب للترعة ، اندفعت خلف صاحبها .. غسلا أيديهما .. وجهيهما .. اغتسلا جيدا .


                            بعيدا كانت سيارة فى انتظارهما .. ركباها .. انطلقت بهما كريح . فجأة تعلوها غمامة .. الغمامة مترامية .. تماوجت خطوطها السوداء ، غاصت فى بدن إبراهيم ، اختفت ، وزها الأبيض الرائق .. ياربى .. تحمل على متنها قلوبا شافة ، حباها الله بالرفقة ! ولو اكتشفاها ؛ لأدارت رأسيهما ، ابتلتهما بالوهج والرهج ، ركبوا حصان الريح ، سلكوا أفلاكا عبر مجرات لا تعرف لها سككا ؛ فهى بلا عودة .. يقول السلاك :" وسنديانة لها قوام شعر البنت .. ونهر شحيح لا يحوى سوى الموت ".


                            شجر الطريق خيالات ، يعشش فى أبدانها الوهم والفناء ، ينشب أظافره فى الأبدان ، وصوت منشد يقبل من بعيد .. بعيد :" ياساكنا فى براح الحاجة .. رواك ، رواك قهرك بالدماء ، ولم تزل تسمع فؤادك صارخا حرقة الظمأ ، أنت انتويت ؛ فانتهيت ، فياترى ، أبصرت قلبا قد من حمأ . لا الدم شاربا حزنك ، والطريق ثقال من مداميك الحجر . الرأس فى طى الخفاء جبارة الوهج ، تقريك قرب المنتهى ، وتدمدم . ياعاشقا للطواحين ، ترمى سهامك ، واحدا تلو آخر ما أدمى ؛ فهل ياترى أحياك ؟
                            الليل وشردة الآهة ، أنفاسك المغلولة . و لا سكة تبدت ، لا حبل يوصل للمدى خطوك ، والأشجار مواويل وأوهام ، والبئر سرك ، ضمير يلفظ الأنفاس فى وهن . عريان تبحث عن غطاء .. عن جدار .. عن كفن ، تعبرك طير الفلا مسبحة ، فتخلعك . الهم فى يستخفى ، والطريق أشباح ومواويل وقطرة ندى ، والقلب يرشح دما فى عباءتك ..آه على الإنسان حين يصير صرة .. رمة ، تعافها كلاب الغيط ، تلقطها الغربان وجوارح الفلا .. لا توبة صدقت ، ولا صلاة ولا صوم .. ولا .

                            روح تهسهس للحياة أم تسلم أمرها كف القضا .. لا كان طريقك ياولد ، ولا كانت حكايتك المنتهى والمبتدى .. ألقيت روحك فى الفلاوات ، تتخطفك الجوارح فى الأماسى والنهارات الزنيمة ، والطريق موصولة بهمة ساعديك ، الطريق موصولة بهمة ساعديك ، وزوجة المأمور توصى عليك سيدها ، تربت على ذراعيك .. ربنا موجود ، قادر ، يحميك ولا يحميك .. حسب المشيئة لذات الله تخلص أمرك .. وكفى .

                            التوبة جرح ملم ، وآهة وجع تدمى الروح ، أو كنت بريئا حين صعرت خدك يمتطيه السيد معتليا صهوة فرسه ؟ يرفسك بسن حذائه ، فتحط منطرحا على قفاك ، تضحك كى لا تبكى ، تزفك القيروانة إلى حيث الجدار ككلب ، تأكل الأيام من لحمك ، وهى – بنت الأصول – توصيك بالولد خيرا .

                            تبكى وحيد قهرك .. وتدور عجلة الأيام دورتها السرمدية على كل كائن . أيام من الطل نقشت فى ضلوعك وشمها ، و البرش محتم لجوعك الأزلى ، أنت والجدران للأسى والعلقم .. تشرب بول الفرس حتى الألق ، ويصهل فيك كلافا وخادما أليفا ، والسيدة الجميلة توصيك بالولدين .
                            هناك عين خلف نافذة تشدو على نورها عبرات :" ياساكنا بطن العروق .. نتىء الجرح ، أضواه العفن .. ماكنت يوسفها ، فما كان سيدها لدى الباب حين غلقته .. ماكنت يوسفها حين قدت قميصك من دبر ومن قبل ، وقالت : هيت لك .. وأنت فى بحر التيه خذلان .. تصفع الأرض بدموعك الذليلة :افتحى الباب .. عشان خاطر ربنا ".
                            قالت :" ما جزاء من أراد بأهلك عفة ونقاء" تكون عبدا أو كلافا ، مدموغا ومرقوما .. يالحريتك.


                            كان عرقه غزيرا ، وعقله سابحا فى أفلاك بعيدة ، ينصت بأذنيه ، العين أصابها العيار ، تتفرس فى ملامح القاتل المقتول .
                            :" شوف ياشيخ البلد .. مفيش داعى للمماطلة !! ".
                            :" أنا مش باماطل ياحاج .. هات كمان خمسين جنيه ".
                            :" وهيه الدنيا هاتطير .. خلص تاخد باقى أتعابك ".
                            :" ياحاج أنا معايا أنفار .. خمسين جنيه مش فلوس ".
                            :" أمرك ياسيدى .. والله ماأنى كاسفك .. البيت آخر بيت على الشمال .. نهاية العطفة بعد دكر التوت وغيط الدرة .. اتكل على الله ".

                            تمايل رمضان متثاقلا على كتف إبراهيم ، يحاصره بنظرات فاحصة .. ما وجد بجانبه سوى كائن غارق مكبل ، يرتجف هلعا ، فأدرك مدى حاجته للخروج عن هذه الحال غير المطمئنة ، وتمكينه من إزاحة الصمت المميت :" ياعينى عليك يا إبراهيم .. مالك نصيب فى توبة ، معلق فى نفس الطاحونة ، وهم أناس قادرون ، يقتلون القتيل ، ويمشون فى جنازته ، أموالهم كثيرة ، وإذا ماخابت معهم مرة ، أصابت الثانية .. أحسن حاجة يترك لهم الفلاحة ، يبعد عن دار أبيه .. عن هذا الأب ، سوف يتسبب فى هلاكك .. صحيح أنك فعلت أشياء كثيرة ، لكن القتل لا أظن .. كانت يده ترتعش الليلة .. الرجل جامد كصخرة وهو تائه فى ملكوت الله ".

                            السائق يتوخى الحذر ، يتفادى مطبات سكة من فرط عمقها تؤرجح السيارة بقوة ،كأنها تعانى مغصا حادا .
                            فتك رمضان بقلاع الرهبة ، أشعل سيجارة ، دفع بواحدة لإبراهيم وأخرى للسائق .. تلامس الكفان .. أحس بحجم مايعانى ، باردا كالثلج كان جسد إبراهيم ، حدق فى وجهه ملسوعا ، طمأنه ، أخرجه من حصاره المميت .

                            عينا إبراهيم فضة الماء الذائبة ، فى هلال القمرالباهت ، الخارج من حصاره متأخرا ، فى بحر عينيه كانت رؤى تتراجع ، ثم تندفع . كل شيء تجسد فيه .. منذ سنوات كان عائدا من الغيط ، وحيدا جسورا، ينقل خطواته عبرليل بلدته المحبوبة ، وحين كان عليه عبور كوبرى الوسطى إذا بامرأة جميلة تتوسط الكويرى ، أمامها طشت غسيل . كانت تمشط شعرها الممتد إلى ماء الترعة ، وتغنى بصوت رخيم أغنية كان يتذكرها لزمن ، وظل يرددها كلما حن إلى وجهها الجميل ، نسيها ، لم يعد يتذكر كلماتها ، وعندما وقعت عيناه على سعدية الغجرية ، كان يغنيها محلقا !

                            ليلتها .. تجمد إبراهيم فى مكانه،هاجمته الوساوس والشياطين ، حانت منه التفاتة إليها ، قهقهت بصوت دوى فى أصقاع الغيطان ، تجاوبت معها نسمات الهواء ، انجذب ، دنا منها ، قشعريرة دبدبت فى كيانه ، كان مسروقا مسحورا ، فجأة قذفت بنفسها فى ماء الترعة ، انشطر الماء متطايرا ، لاطم وجهه ، نادته مستغيثة ، طار لإغاثتها ، خاض فى ماء الترعة البارد ، وراءها يخوض ، يعوم .. تناديه .. يندفع بعزمه .. يندفع وهى تبتعد ؛كأن تيارا يسحبها ، يتقدم كوحش ، أصبح تحت كوبرى الرحيمى ، توقف ، أبصر عمودا من نور خالص يصاعد وسط الترعة ، وصوت متناغم يناديه :" تعالى يا إبراهيم .. تعالى ".
                            لم تكن لديه قدرة على المقاومة ، هشًّا كان ، خاض مسلوب الرأس غير مدرك ، رغم استبسال عبدالواحد فى رده إلى صوابه :" دى شيطانة يابن الكلب .. ارجع ياوله .. ارجع ياإبراهيم ".
                            تاه وسط نور فى زهوة الألق ،لايدرى من أين يأتيه الصوت .. كان جميلا ، مألوفا لحبيب أو قريب :" تعالى يا إبراهيم .. تعالى تعالى ".


                            غاب عن وعيه .. بعد وقت طويل أفاق نصف إفاقة ، رأى نفسه بين يدى الأمباشى " عبدالمولى " فى مقهى " زكى "،يجرعه الماء المحلى بالسكر،ثم يتجه إلى السمارسائلا إياهم ،كانوا غائبين عن الوعى وسط دخان كثيف ، تملأه رائحة الحشيش والأفيون .
                            أفاقوالزبد يتكور على جانبى فمه ، يتطوح ،يصدر أصواتا.. استيقظ على أصوات الساهرين الصاخبة، التى كانت تسخر ممايفعل ، وتسدد نحوه سهامها الصدئة :" حد فيكم يعرف الجدع ده ؟ ما تردوا ياولاد الكلب ؟ ".

                            اختلط فى رأسه كل شىء .. أصحيح رأى السيدة ؟ عمود النور وهجا، لمّه بين نهر ضيائه ، ثم أفلته من مصير لا يعلمه إلا الله ؟ أألقت بنفسها فى الترعة ؟ أكانت تمشط شعرها حقا ؟

                            تحامل على نفسه بفعل نظرات السخرية ، وجر هيكله المتهالك ، عابرا باب المقهى ، عبدالمولى يرقبه ، يتابع سيره الغريب ،ملك ضل طريقه ، هكذا قال الدركى حين راح يحكى فى المقهى عن الواقعة .

                            عندما انهار أمام الدار ، كانت ماتزال تستلب روحه ، من فرقت الماء كمهرجان .. جميلة إلى حد القتل ، قدر ماوعاه ، حتى وهو بين أحضانها بعد سنوات طويلة بدءا من هذه الليلة ، تتركه على حد الجنون ، حائرا يلهث خلفها مشوقا بعد إنفلاتها من بين أصابعه .. أخيرا هرول عبدالمولى طارقا الباب العتيق !!


                            السيارة تلتهم الطريق ، تخب فى مطباته العميقة ، الأشجار أشباح غامضة تترى ، تهاجمه ، تسلخ وجهه ، تعبره ، بين لحظة وأخرى يتجاذب رمضان طرفا من كلمات موجزة مع السائق ،مخرجا إياه من شروده حتى لا يأكله الطريق ، يسلمه لكابوس الغفلة ، فيروحون كما راحت ضحيتهم الليلة !!

                            إبراهيم تائه فى انفعالات وشتات لا حدود له :" ياالله .. زهقت .. وزهقت روحى خلاص .. العيشة لا نعيشها مثل خلق الله ..لا شيء .. كلام رمضان معقول .. من الصبح أكون فى المصنع .. أبعد عن غول الفلاحة قبل مايموتنى .. إبراهيم عمره الآن خمس سنوات ، بعد سنة يروح المدرسة ، يكون فى حاجة إلى مصروف يومى ، ملابس ، وأشياء أخرى . أريده ضابطا كبيرا . أنا مازلت أمد يدى لأمى لآخذ مصروفى كأى طفل ، أأنتظر حتى أمد يدى مرتين ، واحدة لى و الأخرى لولدى ؟
                            الأرض فدان ملك وفدانان بالإيجار ، لولا سوء الطالع لنابنا نصيب فى أرض الإصلاح ، لكن خيبة الأمل ركبت جمل ، لا شيء يبقى ، كله يذهب لأصحاب الملك . لن تسير الأمور كثيرا على هذا الشكل ؛ فالصغير يصير كبيرا !!

                            كان العمال مسخرتنا ، ومن وقت ظهور هذا الرجل يكثرون ، أصبحت لهم قيمة ، يوم كان يوزع أرض الإصلاح لم يكن غير عبدالهادى الصغير ، والبنات ، أما عبدالمنعم فكان مأسورا ، أسره اليهود .. يللا ..عليه العوض ومنه العوض .
                            لولا هذا الجبار ماخرجت من سجنى ، على يده كانت نهاية محنتى .أحبه كثيرا . كل شىء يتغير إلا نحن فلاحى المدينة البائسة . الحقدكماهو ، الفقر يطول نابه كل الناس ، الناس كماهم موتى ، والرأس فى حجر رمضان براقة جاحظة ، تحدق فى ، تزغر لى ، تبكى ، يالدموعها ، يالعينيها .. فى اتساع عالمى كله !!

                            يعلو صوت طائر ، يهوم ، يملك خيوط الهالة النورانية العجيبة ،يرف بعيدا ، يسرع ، يصبح على أبواب المدينة ، يسقط شيئا ، يبتعد ، فجأة كان دخان يصاعد ونار تستوى ..وعربة تبحث لها عن طريق. النار تمتد ألسنتها ، تمتد عبر بيوت المدينة ، الرعب يفترس كل شىء .. الوجوه ، الأبدان ، الأشلاء ، حتى الطيور فى السماء ، لم يبق على شىء .. أيضا طيور النار نفسها !!





                            اعتلت نبوية السرير بألم ووهن ،حدة الخوف تشتد وتسرى مغصا فى كيانها بأكمله ، تجاهد مقاومة ، تستبسل لإحباط روعة قلبها الممزق على ولدها . أسندت رأسها على شباك السرير مستجلبة النعاس ، أرخت جفنيها ، فزعت ، جلست الأربعاء تعدد بوجع جامح محدقة فى ظلام الحجرة !!
                            تتشكل أمامها الشياطين ، الخيالات . تشكلها لمبة الجاز الموضوعة فى كوة الحائط :" أقول لك ، بع الفدان ياعبد ، اشتر فى مكان ثان ، بعه ، كلها أرض الله . تهب فى وجهى كمالو كنت ستفتك بى ، وتقول فى وحشية : أبيع إرث أمى ياخاسرة ، تريدين خرابها ، والقعود على تلها ، أفرط فى عضم التربة . لا .. بع أولادى ، وشتتهم ياعبد على السكك ، يتربصهم الموت فى كل خطوة . الخلق الجبانة قادرة ماتهد قواهم ، كسروا نفس الولد ، الأول دفعوه لحضن أولاد الليل . إبراهيم الطيب يصاحب قتالين القتلا . ولم يكتفوا . رضى بالهم والهم مارضى به ، حتى أولاد الليل غدروا به مع البيومى ، باعوه رخيصا . الكل يحاصرك يانبوية ، الغربان فى كل السكك ، الجوارح أتت على ماتركه أبوك حين هج منها وهو يصرخ :" دى بلد ملعونة ماليش فيها رزق " مضى ولا نعرف له طريقا حتى الآن ، حيا كان أم ميتا ، تركك مع أمك الغلبانة لأعمام قساة القلوب ، وأخ جاحد .
                            ياقلب أمك ماتهنيت بشبابك ، قدرك ملازمك . لطمونى وراءه ثلاث سنوات ونصف .وحزن قلبى عليك كبير . عبد المنعم فى الجهادية ، والثانى فى السجن . واحد يقع عليه السجن ، والثانى قالوا أسير ، أخذه اليهود . غلب حمارى ياناس .. جريت على السكك طيرة مذبوحة ، ألالى على الاثنين ، إبراهيم و عبدالمنعم ، يانور عيونى مليت النواح ، والثالث غلبان .. غلبان يانظرى ، يسرح بالبهائم ، ليس له فى الثور و لا فى الطحين .
                            آه ياقلبى من ضنا قلبى ، ياترى فى أى مكان أنت ؟ رجعت ، رجعت ياحبيبى ، كل الأحبة تشوف رجعتك .
                            قالوا :" أبو زعبل ضربته الطائرات ، جريت على قدمى ، ابنى ، أشوف ابنى ، كبيرى ، أبى إبراهيم . نذرت لك النذور ، قلت لها :" يا أم العواجز ، ياطاهرة ، ياأخت الشهيد ، يرجع سالما . أمانة عليك ،دستتين شمع وحصرتين ،ونابت لأحبابك والمريدين ، من قوتنا ، عبدالمنعم .. يرجع عبدالمنعم .
                            لكن الأوان لم يأن بعد . اخزى الشيطان يابنت . البنات .. آه ..ذهبن للبخت المائل ، واحدة خابت وتعثرت ، دخلت بيت الندامة والصدامة ، ناحت على بابها بومة الشؤم ، جاءتنى مطلقة لأجل ملعقة زبدة فى الطبيخ ، والثانية قالوا جابت البنات ،ومابها عيب ، السعد هرب من بيتها ، جابت بنات والبنات سعد ، من تلد البنات تلد الرجال . جاءتنى باليمين الثقيل تبكى . رمى عليها اليمين عديم الدين والمروءة . ولدت بنتا ، مافهم الغبى ، بطنها حفظت للرسول الكريم نوره.والبنت .. من كنت تريدها استكثروها عليك ياضنايا ، حرموهاعليك، ماقدرنا على مهرها ، كسروا نفسك وأنت مازلت صغيرا . خوف أهلها من ناحية ، والفقر الذكر من الناحية الأخرى . قلت لك :" صحبة الشر لن تجنى من ورائها سوى الشر . تقول لى : " يا أمى الناس تخاف و لا تختشيش ، الناس بيحقدوا عليه كأنى نهبت ورثهم ، لو سيبناهم على هواهم ، وماشافوش العين الحمرا هاياكلونا أكل "
                            ورجعت يانظرى ..قلت : ربنا قبل منه ، هاهو يصلى الفرض حاضرا وجماعة ، إبراهيم عاد أحسن من الأول ، أحسن وأزهى ، ذراعه العفية ستملأ الدار خيرا وبركة .
                            بعت لأجلك كل غال ، بعت فرشى ، نحاسى ، ذهبى ، كل ماكان فى جرابى ،و حتى لو بعت جلبابى ؛ فقط ترجع لأمك .. رجع .. يا أم العواجز يا أخت الشهيد الطاهر ، وحق رأسه الغالية تنجيه ، وتقضى عنه !!
                            استعادت ذاكرتها تلك ، مرة سعت فيها لزيارة ولدها ، لم تجده فى المكان المقصود ، قالوا : لو أسرعت للحقت به ، رحل إلى معتقل ......". خلعت طرحتها السوداء ناظرة إلى السماء ، غاصت فى بحرها ، غاصت ، قابلت الملائك والنيبين والشهداء ، غاصت فرأت وجه الله الكريم ؛ تكفل بها . ترجوه يقف معها ، يدلها على مكان ولدها ، أى شىء كريه وقع له أو منه ؛ ليس بمعقول ترحيله مرتين خلال طلعة شمس . نذرت الزيارة لأم هاشم ، تقرأ الفاتحة فى المقام الجليل ، وعثرت عليه ، اطمأن قلبها تماما .
                            حين عودتها كان التعب والإنهاك نالا منها ، أكلا كعوب قدميها . زوجة إبراهيم لاتقل عنها تعبا ، اتجهتا فورا صوب باب الحديد ، ركبتاقطار الليل ، نامتا . زوجة الإبن ألقمت ثديها لجمال الصغير ، وغطت فى نوم عميق .
                            دفعة واحدة أضاءت كشافات رجال المباحث العربة المظلمة . الملامح جهمة قاسية . اقتربوا من السيدتين كجوارح قانصة ، انهالوا عليهما ضربا وركلا .كاد الطفل يلقى حتفه . اندفعوا بهما خارج العربة ، فوتوا عليهما القطار . يالها من مفاجأة قاتلة ، كانت ثيابهما غارقة فى دماء طازجة .انفلت ترابط نبوية ، حطت على الأرض ، حاولوا زحزحتها مااستطاعوا . بكاء وعويل ولطم وبكاء لطفل كأنه يأتى من بطن الأرض !!
                            شريط من الأحدا ث يمر أمام عينى نبوية . إبراهيم ، اللف طول النهار . وجوه كثيرة ، طرق كثيرة ، كلام ، أخيرا وصل المشهد إلى النذر ، بكت غفلتها ، ترجت أم العواجز ألا تغضب منها . لم تقصد عدم الوفاء . يارب .. استرحمت ، دعت بقلب يقطر دما ؛ ولولا انكشاف أمر القاتل لما رجعتا إلى بلدتيهما هذه الليلة !!
                            أخرجها قلق الشيخ عبدالواحد من وجعها وسيل ذكرياتها المقبض . من الجامع إلى دورة المياه بالدار ، كان فى رواح وغدو لايهدأ ، من ساعة رآه رؤيا العين وهو مشغوف القلب ، منقبض الصدر . كان بلا أصدقاء ، لكم أحب فى هذه اللحظة لو كان له صديق أو رفيق طريق ، أين أنت ياحسيبة ؟ نادى أمه ، توجعت نبوية ، بكت ، زعق ، الولد ضاع .. الولد وأمام عينى . يارب .. ليته مارآه لقر واستكان ، أيموت أمام عينيه وهو عاجز عن فعل شىء . لم يكن ضعيفا ، كان مستضعفا لكبيره .. مات الحاج سيد والده بسبب موقف مشابه تماما ، ليلة عاد من الغيط ورأى ولده الأكبر ملقى على عتبة الدار هامد الأنفاس ، وكتل من اللحم النيىء تطل من فمه . الباب كان مواربا ، بينما الحاجة حسيبة زوجته تنخل الدقيق فى صحن الدار ، والنعاس يطارد عينيها ، هتف كبركان ينفجر : أللا وانخلى يام راضى ، أللا وانخلى يام راضى ".
                            كان راضى قويا مشدود القامة مثل إبراهيم تماما ، فى صفاء وجهه واعتداده وأنفته كان . كان من العسير تقبل الأمر هكذا ، بكل بساطة ، يعرف تماما من دبر الأمر ، وأنهى حياة ولده .. قتلوه ، وضعوا اللحم فى جوفه .. نعم ، ثم وضعوا جثته حيث رآها الحاج سيد .
                            فى ليلة واحدة تحول الحاج سيد إلى مجرد كائن يتحرك كما تمشى طيور البطريق ، يفتك به الحزن ، ويضنيه الوجد ، ونظرات السخرية والاستخفاف والشفقة . غزا بلوعته المقابر سعيا إلى ولده ، حط بالقرب من مقبرته . دموعه لا تنقطع ، وجع لا يحتمل ، ذهاب لا رجوع منه ، هلوسة مع قتيل تمثل أمامه ، تراب يعلو رأسه .. ساعات طوال ، لايبرح المكان . أخيرا أفلح الناس فى حمله ، وهو فاقد الوعى ، حالوا بينه وبين دخول المقابر ، لكن أحدا منهم مااستطاع الصمود فى وجهه ، غزا المقابر ثانية ، بينما الناس جميعا تترحم عليه :" إنا لله وإنا إليه لراجعون ".
                            يظل الحاج سيد على هذه الحال حتى يدركه الفجر ، يكون قد تحول إلى شبح . جأة يصبح داخل داره . فى مرة بينما كان مقتحما كعادته إذا بفارس عملاق يرتدى لباس الحرب الحديدية ، يقبض على سيف جبار ، ويركب فرسا عملاقا ، وإذا بالفارس يغلق عليه الطريق ، يندفع مطارده ، والحاج سيد يزحف منسحقا ، الفارس يندفع ،والرجل لهول مايتم تلبد فى مكانه ، هنا يشفق الفارس ، يقول بصوت معدنى
                            :" ماذا تريد ياسيد ؟
                            تلعثم الرجل ، أسقط فى يده ، غير مصدق مايتم ، رد بصوت واهن :" ولدى .. أشوف ولدى " .
                            دمدم الفارس ، هتف بصوت مهيب :" ألا تعرف .. الزيارة ممنوعة فى هذا الوقت ؟ ارحل يارجل ".
                            توسل كثيرا ، بكى بين يديه ، أخيرا سمح له شريطة ألا يعاود الكرة . لم يستطع الحاج سيد الوفاء بماقطع على نفسه ، ومثلما حدث فى المرة الأولى حدث فى الثانية ،وكانت الثالثة هى الحاسمة . منعه الفارس ، حال بينه وبين الدخول ، طارده بلا هوادة ، لم يتركه إلا منهارا تماما ،يهلوس ويخترف وهو بين يدى ملك الموت !!

                            كان عبدالواحد صغيرا ، لم يكن ليدرك كل مايقال ، لكنه رأى والده ويديه عاطلتين ، ترتعشان بشكل هستيرى حتى أطلقوا عليه " المرعوشة " ،ولم يعمر كثيرا فقد وافته منيته بسبب هذه الحادثة الأليمة !!





                            ألم يأت بعد ؟
                            هكذا كان يلهث ، يقعد لبضع ثوان،يزفر قائما ، يعيد نفس المشوار إلى الجامع المغلق . الوقت يمر بطيئا ثقيلا،نبوية لا تنام ، تسدد نظرات قاسية إليه بعنق معتدلة ، يهرب من حصارها ليعود ثانية لحصارها مرغما ، يتمنى لو يستطيع مخاطبتها ، يحادثها ، ولو لقتل الوقت، لكن .....
                            تحاول قراءة مابداخله ، لا تقل عنه تشوقا إلى الكلام ، الحديث. قلبها يتوقف .. تكلم يارجل ، تكلم ، لا تخش غضبى ، يارجل ارحم ضعفىوخوفى على الولد ..... يدعك أنفه ، يتنحنح سالكا نفس المشوار ، يضغط على حبات مسبحته ، يتطلع فى بهاء دار البيومية ، يشهد هذا الألق الغريب النافذ فى عتمة الليل : لم ياجمال ؟ ياكل رجال الثورة ؟ لم ظل البهاء كماهو ؟ تعرفونه لصا ، سرق الناس ، سلب أراضيهم وأموالهم .. نلتم الرشوة ؟ أهو واحد منكم ، معدود بينكم ؟ آه ، يظل الجبروت كماهو ، هو هو ، يفرض سطوته على المدينة . كانت هذه العائلة دائما سبب مصائب تحط على رأسه ، دون رحمة .
                            عقله شارد فى بحر عمره ، يتذكر هذه العلقة فى ريشة القناة ، كان يوما مشهودا ، يحمل الواحد ، على امتداد ذراعيه يلقى به فى الترعة ، بل حمل اثنين مرة واحدة ، لا يعرف الآن كيف واتته القوة ، فى نهاية الأمر أجهزوا عليه ، كادوا يقتلونه فى التركيب ، كان منهم الخال ، وابن الخال ، حتى نسيبه أخو نبوية كان معهم ، خلفهم . أثقلوه ضربا، و لولا الجيران لدفنوه مكانه ، ساعة رفع أحدهما فأسه فى الهواء ، أطاحت ذراع جاره النادى بصاحبها ، وسحبه من بين أيديهم ، طار به وهو يسدد ماسورة البندقية إلى صدورهم !
                            :" تاخد القرشين وتبعد عننا !!".
                            :" ماأقدرشى !!".
                            :" أنت حر ، النوبة دى مرت سليمة ،ومش هاقدر أحوش العيال ، استلقى وعدك ياحلو ".
                            تكررالوعيد .. التهديد .. الضرب . لم يتزحزح ، دائماكان آخر من يسقى ، آخر من يحصد ، أول من يفحت القناة للجميع . سنوات لا عد لها ياعبدالواحد ، وأنت وحيد ، يجترىء عليك كل من هب ودب على اثنتين أو أربع .. كل ابن كلب !!
                            اعتلى عبدالواحد ظهر السحارة ، التقط من تحت الوسادة أبا الفوارس ، غاص فى بحره . عندما ضاع منهم أحد الأولاد ، يوسفهم ، اتهموا ابنى ظلما وعدوانا ، ذهبت إليهم متوسلا :" ابنى لا يعرف شيئا عن ابنكم ، ابعدوا عنه ، تكفى التلفيقة الماضية ، رمى بسببها فى السجن ، ألم تقتلوا يوسف ابنكم ، ربما قتلتموه ، ابحثوا داخلكم ؟!
                            يفرَّ صفحات الكتاب ،يشهد عنترة يرمح بأدهمه ، يدرك عبس النائمة فى المخمل والقصب ، يراه رؤيا العين ، إبراهيم فوق الأدهم ، يخترق الميدان ، يحمل الموت ، يندفع فى ثبات ، يرشق سيفه فى الباب المغلق .

                            نقرات خفيفة ، يفزع عبدالواحد ، يفتح الباب .يندفع إبراهيم تائها ، يأخذه بين جناحيه ، يجهش ، يرتج جسده ، ينتفض .

                            تفزع نبوية ، تطير . الوجه يختلج فيه ذهول وذعر ، يزحف على كل كيانه ، يخطو صاعدا السلم ، يتأرجح ، لايهتم بالوجه المتسائل . تنط ثريا ، توقد وابور الجاز ، ترفع عليه إناءً كبيرًا ، تحتضنه ، تضغط ، تهتز بقسوة ، تخلصه من ملابسه ،تهبط الدرج ، تضع الملابس فى شاروقة الفرن ، تنخلع من جذورها إلى أعلى !!

                            نبوية فزعة ، تتجه صوب الفرن ، تسحب الحمية من أعلاه ، تتمتم
                            :" بسم الله الرحمن الرحيم .. لموا قطاطكم وعيالكملحسن النار الحامية أتتكم.. طريق طريق ، بلا تعويق ، وحياة أبوبكر الصديق ..كسيحكم اشتالوه، وعماكم اسحبوه ، يوما عزناكم ، ماكنا جناكم" .

                            تراقصواأمامها ، حبات من الجمر .. تلقم الفرن ، تطعمه روثاوقشا ، ثم بعود ثقاب ، تطقطق النار ، تزغرد طربا ، يعلو اللهب ، تطعمه شيحا وبخورا وعنبرا وريحا وكافورا ، يصاعد صدرها ، ينحل كحات عاليات . الحمار فى زريبته ، يبتلى نبوية بنهيق متواصل ، لم تكن هى سببا له على كل حال !!

                            يؤذن الفجر ، تؤذن الحمى فى أوصال إبراهيم . ثريا واجفة مذعورة ، تجلب الحرام الصوف من أسفل ، تقفز الأم صاعدة ، تدنو منه ، تشق يدها الحوامة مفازة الممالك ، ترقيه ، وتسترقيه ، تتثاءب بقسوة، تنخلع خلعا ، تتمزق ، يخرج منها كائن وحشى ، الدموع تنفرط دون سيطرة .. دون سيطرة . النار تزغرد .. والطيور تحمل قطعها إلى أزقة المدينة وأحيائها ليستوى الهشيم !





                            حين دنا رمضان من شرفة الحجرة القبلية أبصر البيومى الكبير وحيدا ، يمتد ظله بفعل الضوء المنبعث من خلفه . أصابه ذعر من هول مهابته ، اتأد متماسكا ، ألقى بالرأس . انحدرت أمامه، ظل على حالته دون أدنى أثر لاضطراب أو قلق . انسحب إبراهيم ، كان يرصده عن بعد . ظل رمضان يتابع ماسيحدث ، ثباته فى مكانه يعنى هلاكه ، فجأة رأى شيئا عجيبا ، ثمة حركة للعينين فى الرأس ، بريقا ما ، كان يشع منهما ، هاهما تنغلقان ، تنفتحان ، تنزفان دماء طازجة ، انفرجت الشفتان :" من أمنك لم تخونه ، واللى يخون الموت أولى بيه ".
                            هنا بدا تماسك البيومى محض هراء ، صرخ مرتعبا :" آه .. آه .. أنت مين ؟
                            قهقه القتيل :" أنت بتنسى بسرعة قوى ياكبير " .
                            غارت الأرض برمضان ، ماتحمل مايقع أمامه ،غرقت ملابسه فى ماء بوله وعرقه ، خرَّ على الأرض بأنفاس واهنة . بحذر يخطو البيومى محاولا التسلل خارج الحجرة ، يصرخ ، يصرخ بلا عقل .حين أدركه أولاده كان يلفظ أنفاسه ، وعلامات الفزع الشنيع تكسو وجهه !!

                            كان رمضان أمامه ،ألقى بالرأس داخل حجرة البيومى ،أومأ له من بعيد ، زحف مبتعدا فى الظلام ، لم يشعر به أحد .
                            كانت الرأس بعينيها البراقتين ، شاربها الكث ، تلقى بالأشباح فى طريقه ، تتدحرج أمامه على السكة . ارتجف إبراهيم ، أجهش بعنف ،كان لإصطكاك أسنانه دوى عواميد السرير ،ترنح السقف :" يا إبراهيم .. لن يتركك الناس ، اترك هذه العيشة النكداء ، ليس من المعقول السير خلفهم ، كلما دبروا لك مصيبة . الليلة هى نهاية العالم ، لن تستطيع مسايرتهم ، واللعب معهم . المصنع أعلن عن قبول عمال جدد ، لم لا تجرب ؟ اتركهم يا إبراهيم .. اتركهم !!


                            أخذته الأم فى أحضانها ، ضغطته بقوة . ماتوقف ارتعاش جسده ، بكاؤه المرير مايزال قاسيا أليما ، نهضت عيناها الضيقتان عينا حمامة أضناهما الطواف وضيعة الصغار ، أحضرت طاسة الخضة . تكورت ثريا ،سقطت رأسها بين فخذيها . المصباح يرسم خيالها على الجدار المقابل ، ازرد وجه ثريا ، هامت عيناها فى بحر بلا قرار ، وثبت خفيفة ، جذبت جمال من فرشته ،دفعته بين أحضان أبيه ، سحبت إبراهيم – الصغير – وضعته فى الجانب الآخر ، علهما يخرجاه من حالته . علا نهيق بعيد ، تجاوب معه نهيق أقرب . عوى كلب عواء كريها . نبحت الكلاب فى إطراد . تسلم حمار الدار الخيط . تصادمت أصوات الكلاب ، تلاقت ، شكلت حالة من الفزع العنيف . درجات السلم الطينية تنهار تحت وطأة أجسادهم :" اللهم اجعله خيرا .. الشر بره وبعيد ياخويا .. دا لسه صغير " .

                            تدافعوا أمام حجرته مرتعدى الفرائص .انقطعت الأصوات تدريجيا كمابدأت ، اقتحم الأهل الحجرة ، ارتعبت ثريا من هول مااترسم على وجوههم ، سقطت على الأرض باكية ، ممتقعة الوجه ، اعتراها ذهول قابض أزاغ نبضات قلبها ، بهتت الصور أمامها . يقلبون فى إبراهيم ، يتنهدون بارتياح ، يلقون هما ثقيلا تحت أقدامهم ، استداروا ميممين شطر الباب . علت صرخات قوية ،تجاوبت نبوية معها ، دبت بالصوت الحيانى ، سرعان ما توقفت ، الصرخات تنبعث من بعيد .. بعيد عن دارها !!



                            كانت خيوط الصبح تصنع لها أخدودا عميقا فى صفحة السماء ، العصافير ترتطم بالشباك ، تشقشق فى إصرار مجهدة ، لفحة رطبة تتسرب من فجوات الحجرة !!
                            همدت كل قواه ، ماأدركه النعاس بعد . ثريا على السرير الآخر ، تنزف عيناها دما ، تشهق بألم نافذ .


                            مازالت الصرخات تتعالى ، تتواصل . يندفع أهل الحى ، يستطلعونالأمر ، تزلزل فرائصهم جميعا .. عاد أحد المستطلعين :" البيومى الكبير مات .. مات !!" .
                            رد آخر :" لا إله إلا الله .. سبحان من له الدوام " .
                            قال ثالث :"بعينى شايفه إمبارح العشا زى القضا بيبصبص للنسوان " .
                            قال رابع :" بيقولوا جاته سكتة قلبية ..لكن الخفر بيقولوا دول ولاده خنقوه عشان كان عايز يتجوز !!
                            قال خامس :" سيبك م الكلام الفارغ ده .. بيقولوا ما استحملشى الخبر .. طب ساكت " .
                            قال الرابع :" خبر إيه يافصيح ؟" .
                            أجاب :" نزع الملكية .. حكم النهاردة جمال نزع ملكية باقى البهوات!! " .




                            كان نهارا مأساويا يتشكل فى رأس إبراهيم ،تغطيه غمامة من الغبار والدخان . على غير العادة ، رأى الناس .. كل الناس منهكين ، يدورون باسطين أكف الضراعة ، رؤوسهم محنية فى وهن وحزن كالموت ، لا تفسيرله .الهواء ساكن لا روح فيه .نال اختناق حاد من الجميع ، تحللوا من كل مايقرب رقابهم ، شقت الشهقات طريقها كعدوى ، كانت أرجلهم تصطدم بكتل من فئران ميتة ، بينما الطيور - طيور من كثرتها كانت تحجب لون السحاب وضوء الشمس - كلها ترحل ، تغادر البلدة إلى غير رجعة . نعش البيومى لايجد من يحمله إلى مثواه الأخير .إبراهيم فى غيبوبة طويلة ، لا تنتهى إلا لتبدأ من جديد ، تتشكل ماتزال ، انقشعت الغمامة والغبار ، رائحة الفئران الميتة ، نعش البيومى ، لا يستطيع أحد التفريق بينها ، تصاعدت النداءات ، تقدمت الهياكل ترتدى أجولة الفل ، تمسك بأجولة أخرى ، تلملم هذه الكتل المتراصة ، تضعها آخر الأمر فى خشبة البيومى .
                            ظهرت للبيومى رأس ثانية . تقدموا بالخشبة صوب المقابر . ثلاثة أيام ينقلون جثث لا حصر لها ، مافتئت الرائحة تطاردهم ، تطارد بهائمهم . يطلقون البخور والشيح والأعشاب . الرائحة لا تنقشع . انقلبوا إلى النهر ، بفؤوسهم يفتحون أمامه الطريق ، استعصى على النهر اعتلاء الربوة . زمجرت أمواجه ، هدأت ، زمجرت ،تتحرك لبضعة أمتار ، تنحسر . الرائحة تفرى البلدة ، والموج منحسر لا ينى !!

                            اكتظت حارات وأجران البلدة بالجثث الأدمية والحيوانية ، هياكل تعانق بعضها البعض ، نتف تتطاير هنا وهناك فى هياج ، كأنه أمر الله أتاها بغتة .
                            تشمر الشمس عن نار جهنمية ، لظى ، نزاعة لكل ماهو حى ،تنال كل أخضر ويابس . انتفخت الجثث ، تطايرت أعشاب النجيل والحلفا والصبار ،تسفيها الرياح بعيدا .. بعيدا .

                            يلملمون سقط المتاع ، ينداحون مبتعدين بقدر ما أسعفتهم رهبتهم ، ينزحون فى الفراغ ، كلما دبت أرجلهم الطائرة بضع خطوات خارج البلدة ؛ حيث الخلاء سبقهم الحر ، سبقتهم رائحة الموت !!

                            حطت ثريا على هيكل إبراهيم . واقع تحت تأثير لعنة من سحر أسود ، انتشلته ، وارته فى قفتها ، حملته ، تركت لساقيها حرية الحركة ، تركض .. تركض . العرق يغسل جسدها . تزحف بين تلول الجيف .. الجيف تصرخ ، تتألم ، تنادى جوارح الطير وأكلة اللحوم ؛ لتوارى سوء تها ، تبكى وحيدة قهرها .. ثريا تبكى ، تتوقف رافعة حملها ، تضعه على الأرض بتؤدة ، تأخذ القفة بين فخذيها . العينان الواسعتان تداومان النظر فى وجهها ، عيناصقر مريض ،تحدثه ، تذهب كلماتها فى فراغ الهيكل المصفى ، ترفع عينيها متابعة نبوية . كانت تسابق الريح والحر والحرور ، بعيدا كانت ، تحمل جمال على كتف ، إبراهيم الصغير بين أصابع يدها . الحر لا يطاق . هطلت الأمطار سيولا جارفة ، الشمس قرص مستدير أرجونى ، تأخذ القمربين أحضانها ، تعبر الحدود ملقية بنفسها فى النهر ( حابى )، الليلة كانت أجمل لياليه .. ليلة زفافه !!

                            تنكفىء ثريا على القفة ، تقيها السيل ،تبكى بلا حيلة ، تتسرب الأمطار ، تفيض القفة ، يزداد حجمه ، تضحك من غرابة ماترى . عصفورة هى ، كانت فى حجم عصفورة . كان كالنهر يلاحق ولديه ، هذه جثة أمه ، هاهما .. لا أنفاس ، يثور ، يضع فمه على ثغر جمال فى قوة وإصرار ، تيقظت ضربات القلب ، انتظمت ، تراخت عضلات إبراهيم .. تراخت ، ارتمى على الأرض ، خبت أنفاسه ، ينهض جمال منتشلا أخاه !

                            صدح طائر عاليا ، رددت طيور خلفه ، علا صدحها . قرت شعاب الصدر فرحة ، تكبر .. تكبر حتى اختلج بها كيانه . أخيرا قام من حلمه الطويل ، من رقاده ؛ ليجد الأم والولدين والأب والجيران يطلون عليه بشغف وحب !!

                            تثاءب ، تمطى بملء صدره ، ترك مكانه من السرير . الأم ترقيه ، تباركه بقلب مزغرد ، الجيران يباركون شفاءه . حدق فى عينى ولديه ، احتضنهما ، رفعهما على امتداد ساعديه نحو الشمس !

                            مارد هب من قمقمه ، برشاقة هب منفلتا ، يتوق لنسمة هواء طرية ، يجتذبه حنين جارف ، يشده إلى الشارع .. الهرب الهرب .الأنفاس مبهورة ، الوجه ينضح فى حمرة قانية ، الشعر مسترسل متحرر ،يأخذ الشارع بين أحضانه معانقا ، مفعما بالحياة يسير دون توقف !!




                            2
                            ............
                            أما هنا فى حى الشوافعية
                            ؛ فالأمر مختلف تماما ، العمل كل يوم
                            .. كل ساعة ، ولا جديد
                            غير الإحساس المخادع بأنك أصبحت رجلا
                            ؛ فأنت تحول الأرض الخراب إلى جنة ،
                            تفخر بأنك صاحب هذه الزرعة العفية ،
                            أنت من أجريت المحراث حتى كل ساعداك ،
                            أنت من فجرت ينابيع الماء لفا ،
                            فى شرد القيلولة أو برد الليل ،
                            خلف الدابة ،
                            أنت من بذرت الحب و أنت ، وأنت ،
                            وبرغم ما أنت حرى به ؛
                            قد ترتفع الأصوات غاضبة
                            إذا ماطالبتهم ،
                            بثمن قرعة بوظة أو فنجان من القهوة !!
                            sigpic

                            تعليق

                            • أحمد ضحية
                              أديب وكاتب
                              • 10-05-2010
                              • 121

                              #15
                              الأستاذ الفاضل ربيع
                              تحية طيبة
                              فرغت للتو من طباعة هذا النص الرائع ورقيا .. ولكم تمنيت لو كنت قد نشرته دفعة واحدة بدلا عن هذه الأجزاء الثلاث التي تتخللها التعليقات .. على كل طبعته لأقراءه بتمهل وتأن ..
                              مودتي
                              [mark=#FFFFCC]
                              الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                              كي يسمى في القواميس بكاء ..
                              الصادق الرضي
                              [/mark]

                              تعليق

                              يعمل...
                              X