سوق اللبن
رواية
تأليف
ربيع عقب البا ب
إهداء
كل الذين يحلمون بذهاب قاهريهم إلى الجحيم
لأنهم لايملكون نفس الأسلحة
لا يملكون سوى الحلم والغناء
وإلى
رء وف سالم
ربيع عقب الباب
سوق اللبن - فى يوليو
1989
مواجدة
بداية قد تتشابه بعض الأحداث في هذه الرواية بأحداث حدثت وتحدث بالفعل ؛ وليس معنى هذا أن الرواية تذهب إلى هذه الأحداث ، أو هذه الشخوص ، وتؤرخ لها ؛ إنما هي رواية متخيلة بقدر وجود هذا التشابه ، ومرجع ذلك بالتأكيد ، هذه المدينة المركبة والمربكة 00 تلكم التلة " سوق اللبن " التي تنام فى حضن النهر كأميرة متوجة ، يلتاذ بها الخلق – فلاحون وتجار وعمال قاعات النسيج اليدوي المسكونون بالعفاريت والحكايات ، ويذوب فى فدان بركتهم العرب النازحين من غزة والعريش وفلسطين المحتلة ، والغجر الذين لا نعرف 00 وإلى الآن 00 من أين جاءوا ؟رغم أنهم يتحدثون نفس اللغة 00ولهم نفس الملامح 00ونفس السيقان!!
قل هى مدينة غامضة غموض تاريخ أجدادنا الفراعين ، طيبة مثل قلوب أهلها ، شريرة فى انغماسها فى ردغة الرضى والخنوع ، قديسة فى عشقها لله ، فاجرة حين تسفر عن وجه غير وجهها 00 وهى إلى جانب هذا ساحرة متمردة 00 مسحورة 00 قاسية حنون 0 دومة الصغار ، وقمحة الكبار ، وقرة عين العسس ، ومسخهم الذى يحاولون منذ روعها طلعت حرب باشا ، وحولها إلى ثكنة للفقراء ، رهينة رضى 00أو نقمة مديريه ؛ حتى تظل مدينة رخيصة مهانة 00 ذليلة قذرة تعلو على أكتافها المدن اللقيطة – المدن البغيضة – وتظل مسبحة العباد 00خبيرة الأمس * ، ومرتع اللصوص وحاملى السيوف وركائز الخيام و المدى !!
هى مبكى الأبدان ، يتفجر نهر عرق عمالها ليلا ونهارا ، فى العنابر التى تؤدى رقصها الوحشى دون توقف ؛ لتمتلىء خزائن السادة الجدد، وتنتفخ أرصدتهم ، وحدود ضياعهم !!
طوبى لك يامدينتى 00 كم من حقير رفعته فى السماء 00 كم من عاشق امتصصت دماءه 00 حولته لنتف 00 خرقة تنتظر إيزيس كي ترتاح روحه 00 وتستقر 00وحورس لينفخ فيها روح الحياة 00ومحمد بن عبدالله ليعلو بها قمم النضال !!
طوبى لنا 00 نحن المسكونين بعشقها 00 مدينتى 00 محلتى الكبرى
1
ياعينى عليك يا إبراهيم 00
مالك نصيب
فى توبة
معلق فى نفس الرحى
00 الطاحونة00 الساقية
والظلم داء أنت برىء منه 00 إنهم يقتلون القتيل
ويحملون نعشه
00 قادرون 00 مالهم كثير 00
وإذا ماخابت معهم مرة
00 أصابوا الثانية 00
لا حل سوى الرحيل 00 نعم 00 هو ملاذك
وحبل نجاتك
00 لتترك لهم كل شىء 00
البيت والغيط
ترحل عن دار أبيك
00 وتكون معى 00 هنا 00
فى المصنع 00سامعنى يا إبراهيم
ياخويا 00
انهارت كتلة الطين ، اندفع فأر ، خاض فى ماء الترعة إلى الضفة الأخرى ، أحدث هياجا دام دقيقتين ، عاد كل شيء إلى سكونه المعتاد 0
يتماسك إبراهيم لئلا يحط فى ماء الترعة ، ينهش الانتظار صدره ،يتمنى لو ينتهي المشوار على خير ، يحس شيئا يتحرك داخل عباءته ، يتجمد ، يتوجس خيفة ؛ كأن ثعبانا بداخله ، وقد كان ؛ يتمتم ببعض التعاويذ والتعازيم ، تعلمها من شيخه ، أخذ العهد على يده ،يمد قبضته دفعة واحدة ، بسرعة يردها ، وبأقصى ما تستطيع ذراعه ، فيرتطم الثعبان بالضفة الأخرى ، يتفصد العرق من بدنه غزيرا ، تقشعر جوارحه ،تهتز ،تخترق بدنه لفحة هواء طرية ، يشم رائحة البارلوف، مختلطة برائحة عطن الترعة،يتحسس وجهه ، الرائحة تفرى أنفه ، يعطس برغمه ، يدفن رأسه فى حشائش الترعة القصيرة ، تدوم به الأصوات ، يأتيه صوت والده القوى :" عمر الناس دول جبابرة، من زمان ، من أيام المرحومة ستك ، وهمه بيستغلونى ، ويعملوا فيه اللى همه عايزينه "0
أنصت كثيرا لعبدالواحد ، دائما ما كان يردد نفس الحديث ، كلما أحس ببعد ولده عنه ، صبحه وظهره ، ليله ونهاره ، حديث لا ينقطع عن هؤلاء الناس ، كم الإهانات ، كلما لاحت لهم الفرصة 0مرة يسخرونه للفحت ، مرة حف ريشة قناة ، مرة سقى وحرث ، و نهاية جده الحاج سيد كانت على أيديهم ، وموته كمدا وحزنا 0
استمر صوت الشيخ عبد الواحد يسرى داخله ، كان هو ، ورجاؤه المعتاد له بتركه يربى الولدين،والابتعاد عن الفلاحة ،عن كل ما يرتبط بها من عداوات :" أنا زهقت يابه من العيشة ومن اللى عايشنها "0
يهاجمه الشيخ ، يضغط أنفه الضخم :" تكون الأرض عندنا ، وندى عرقنا لغيرنا ، أنت عايز تفضحنا "0
يسمع صدى ضحكاته الباكية فى وجه أبيه :" أرض إيه يابه ، الأرض اللى بتسدد إيجارها بالعافية ، مفيش منها فايدة ، وملقيناش منها غير عداوة الناس وحقدهم ، ماهو على إيدك يابه، يدوب شويةالحبوب اللى بنطلع بيهم ،وياريت بيكفوا "0
بلا حيلة يستدير الشيخ ، شاعرا بثقل الوطأة ، والإشفاق على ولده الكبير ، يشمخ به أمام الجميع ، ويباهى ، لا يكتفي بهذا ، ينهى الحديث :" أخوك الصغير وحيد ، وطرى على الشقي ، لما يخلص عبد المنعم الجهادية ، ابقي إعمل اللى أنت عايزه "0
يستشعر إبراهيم ما تحمله الكلمات من ملوحة ، من يتحدث إليه ليس هو الشيخ عبد الواحد ، فما كان ليسمح بكل ما دار من حديث ،ينسحب من أمامه ، شاعرا بحجم الكارثة ، وما فعلت أيام سجنه بأبيه !!
فجأة تجيش نفس إبراهيم ،يدوى صوت داخله :" ياشيخ عبدالواحد ، ادعى لى ياشيخ ، ادعى لى يابه "0 يجهش باكيا ، ضفائر الشجرة تقبل وجه الماء الراكد تسر إليه بما عجز عن كشفه ، من بين دموعه يمتد بصره طويلا ، طويلا فى الفراغ ، لاشيء غير الظلام ، ينبش فيه عن شبحين أو ثلاثة ، والطريق أمامه خالية ، خاوية كالحة 0
فى البر الآخر كان هيكل يتحرك ، يتقدم ،كان طويلا ،يشق طريقه ،يتجه نحوه مباشرة ،كان إبراهيم فى مكانه ، الهواجس والنداء والاحتمالات ، صورة الشيخ عبد الواحد تملأ روحه 0 هل أبصره الشبح ؟ لا يتوقف ، يقصده هو 00نعم يقصده0
يرتجف قلبه ، ينزلق فى بطنه ، يتداخل ، يتداخل 0 الشبح يدنو ، يدنو ، يصبح قبالته تماما ، يتماسك إبراهيم ، يعود لقلبه صلابته المفتقدة ، يخمن ما يبدر منه ، يحط الشبح في ماء الترعة 0 لم يتمكن إبراهيم من قراءة ملامحه 0 كانت قامته المديدة ما يجتذب انتباهه ، كان فى طول يوسف ، الكتفان ، الهيكل ، الحركة 0 لو يتمكن من تفرسه ، رؤية ملامحه ، لو يناديه :"يوسف 00يوسف ، واد يا يوسف "0
لم تغادره ، لو فعل ربما ضيع كل شيء ، نعم ، ليصمت الآن ، يتابع ما يتم ، يتحرك الشبح مبتعدا فى محاذاة الترعة ، يختفي عن ناظريه 0 يوسف !! ليته يوسف ، هكذا كان يتفاعل ، ويئن ، يحلق في صفصافة الظلمة !
لم تبدأ العداوة مع موت أو اختفاء يوسف ، بل تضرب أظافرها في التاريخ ، نعم قبل مولده ، مع جده الكبير حين جاء الشراكسة ، احتلوا الأرض ، جعلوا شوكة البيومى القوقازي الأصل في السماء ، وحطت بهم إلى الحضيض !!
يتمرد على أحضانها فجأة ، يفر من جذوتها ، كانت تبثه مالم يقدر على تعليله من دفء وحماية ، يقبل عليها ، يمطرها تقبيلا ، يربت على فروعها المرتخية الحنون ، يسترضيها بعد هروبه ، يالها من امرأة فاقت كل النساء ، كانت عطشى لدموعه الرطبة الساخنة ، ارتشفتها ، أوجعته عشقا ، يسلم لها نفسه ، يذوب ، يذوب ، يتسمع لهاث أنفاسها ، كانت تنبأه بأوزير ،جذعها يفرز سائلا سخنا ، له رائحة الدموع ، وطعم بكارة الأنثى ،تلهج الحديث كأن نصلا تكلم ، فأدمى "انتشلته ، عشقته قبل الذبح ، جاءوا به تابوتا ، فأدخلته فى سرتى ، ووصلته بحبل سرى ، ارتحلت ، جابت كل المدن إليها ، وهززت هلع إيزيس فاساقط بددا !!"0
همس :" كانت سنديانة !!
ترقرقت ،اختلج الجسد الرطب :" كنت أنا ، أنا هى ، وحيدة في البيد أزهر ، استوى نخلا وتوتا ، عنبا 0 كان مبتليا ، فتلهفنى ، كنت على حافة الظمأ أترنح ، روى أوردتي ، حملني وردا ويعاسيب ، سفرا ، يقيني الموت ، يدخلني الوقت الريان ، فصرت الخلد ، اغتسل بمائي ، نم ، وحذار من هذا البئر ، يا ابن آدم ، وأوزير ، فما يحوى غير الموت !!
رواية
تأليف
ربيع عقب البا ب
إهداء
كل الذين يحلمون بذهاب قاهريهم إلى الجحيم
لأنهم لايملكون نفس الأسلحة
لا يملكون سوى الحلم والغناء
وإلى
رء وف سالم
ربيع عقب الباب
سوق اللبن - فى يوليو
1989
مواجدة
بداية قد تتشابه بعض الأحداث في هذه الرواية بأحداث حدثت وتحدث بالفعل ؛ وليس معنى هذا أن الرواية تذهب إلى هذه الأحداث ، أو هذه الشخوص ، وتؤرخ لها ؛ إنما هي رواية متخيلة بقدر وجود هذا التشابه ، ومرجع ذلك بالتأكيد ، هذه المدينة المركبة والمربكة 00 تلكم التلة " سوق اللبن " التي تنام فى حضن النهر كأميرة متوجة ، يلتاذ بها الخلق – فلاحون وتجار وعمال قاعات النسيج اليدوي المسكونون بالعفاريت والحكايات ، ويذوب فى فدان بركتهم العرب النازحين من غزة والعريش وفلسطين المحتلة ، والغجر الذين لا نعرف 00 وإلى الآن 00 من أين جاءوا ؟رغم أنهم يتحدثون نفس اللغة 00ولهم نفس الملامح 00ونفس السيقان!!
قل هى مدينة غامضة غموض تاريخ أجدادنا الفراعين ، طيبة مثل قلوب أهلها ، شريرة فى انغماسها فى ردغة الرضى والخنوع ، قديسة فى عشقها لله ، فاجرة حين تسفر عن وجه غير وجهها 00 وهى إلى جانب هذا ساحرة متمردة 00 مسحورة 00 قاسية حنون 0 دومة الصغار ، وقمحة الكبار ، وقرة عين العسس ، ومسخهم الذى يحاولون منذ روعها طلعت حرب باشا ، وحولها إلى ثكنة للفقراء ، رهينة رضى 00أو نقمة مديريه ؛ حتى تظل مدينة رخيصة مهانة 00 ذليلة قذرة تعلو على أكتافها المدن اللقيطة – المدن البغيضة – وتظل مسبحة العباد 00خبيرة الأمس * ، ومرتع اللصوص وحاملى السيوف وركائز الخيام و المدى !!
هى مبكى الأبدان ، يتفجر نهر عرق عمالها ليلا ونهارا ، فى العنابر التى تؤدى رقصها الوحشى دون توقف ؛ لتمتلىء خزائن السادة الجدد، وتنتفخ أرصدتهم ، وحدود ضياعهم !!
طوبى لك يامدينتى 00 كم من حقير رفعته فى السماء 00 كم من عاشق امتصصت دماءه 00 حولته لنتف 00 خرقة تنتظر إيزيس كي ترتاح روحه 00 وتستقر 00وحورس لينفخ فيها روح الحياة 00ومحمد بن عبدالله ليعلو بها قمم النضال !!
طوبى لنا 00 نحن المسكونين بعشقها 00 مدينتى 00 محلتى الكبرى
1
ياعينى عليك يا إبراهيم 00
مالك نصيب
فى توبة
معلق فى نفس الرحى
00 الطاحونة00 الساقية
والظلم داء أنت برىء منه 00 إنهم يقتلون القتيل
ويحملون نعشه
00 قادرون 00 مالهم كثير 00
وإذا ماخابت معهم مرة
00 أصابوا الثانية 00
لا حل سوى الرحيل 00 نعم 00 هو ملاذك
وحبل نجاتك
00 لتترك لهم كل شىء 00
البيت والغيط
ترحل عن دار أبيك
00 وتكون معى 00 هنا 00
فى المصنع 00سامعنى يا إبراهيم
ياخويا 00
انهارت كتلة الطين ، اندفع فأر ، خاض فى ماء الترعة إلى الضفة الأخرى ، أحدث هياجا دام دقيقتين ، عاد كل شيء إلى سكونه المعتاد 0
يتماسك إبراهيم لئلا يحط فى ماء الترعة ، ينهش الانتظار صدره ،يتمنى لو ينتهي المشوار على خير ، يحس شيئا يتحرك داخل عباءته ، يتجمد ، يتوجس خيفة ؛ كأن ثعبانا بداخله ، وقد كان ؛ يتمتم ببعض التعاويذ والتعازيم ، تعلمها من شيخه ، أخذ العهد على يده ،يمد قبضته دفعة واحدة ، بسرعة يردها ، وبأقصى ما تستطيع ذراعه ، فيرتطم الثعبان بالضفة الأخرى ، يتفصد العرق من بدنه غزيرا ، تقشعر جوارحه ،تهتز ،تخترق بدنه لفحة هواء طرية ، يشم رائحة البارلوف، مختلطة برائحة عطن الترعة،يتحسس وجهه ، الرائحة تفرى أنفه ، يعطس برغمه ، يدفن رأسه فى حشائش الترعة القصيرة ، تدوم به الأصوات ، يأتيه صوت والده القوى :" عمر الناس دول جبابرة، من زمان ، من أيام المرحومة ستك ، وهمه بيستغلونى ، ويعملوا فيه اللى همه عايزينه "0
أنصت كثيرا لعبدالواحد ، دائما ما كان يردد نفس الحديث ، كلما أحس ببعد ولده عنه ، صبحه وظهره ، ليله ونهاره ، حديث لا ينقطع عن هؤلاء الناس ، كم الإهانات ، كلما لاحت لهم الفرصة 0مرة يسخرونه للفحت ، مرة حف ريشة قناة ، مرة سقى وحرث ، و نهاية جده الحاج سيد كانت على أيديهم ، وموته كمدا وحزنا 0
استمر صوت الشيخ عبد الواحد يسرى داخله ، كان هو ، ورجاؤه المعتاد له بتركه يربى الولدين،والابتعاد عن الفلاحة ،عن كل ما يرتبط بها من عداوات :" أنا زهقت يابه من العيشة ومن اللى عايشنها "0
يهاجمه الشيخ ، يضغط أنفه الضخم :" تكون الأرض عندنا ، وندى عرقنا لغيرنا ، أنت عايز تفضحنا "0
يسمع صدى ضحكاته الباكية فى وجه أبيه :" أرض إيه يابه ، الأرض اللى بتسدد إيجارها بالعافية ، مفيش منها فايدة ، وملقيناش منها غير عداوة الناس وحقدهم ، ماهو على إيدك يابه، يدوب شويةالحبوب اللى بنطلع بيهم ،وياريت بيكفوا "0
بلا حيلة يستدير الشيخ ، شاعرا بثقل الوطأة ، والإشفاق على ولده الكبير ، يشمخ به أمام الجميع ، ويباهى ، لا يكتفي بهذا ، ينهى الحديث :" أخوك الصغير وحيد ، وطرى على الشقي ، لما يخلص عبد المنعم الجهادية ، ابقي إعمل اللى أنت عايزه "0
يستشعر إبراهيم ما تحمله الكلمات من ملوحة ، من يتحدث إليه ليس هو الشيخ عبد الواحد ، فما كان ليسمح بكل ما دار من حديث ،ينسحب من أمامه ، شاعرا بحجم الكارثة ، وما فعلت أيام سجنه بأبيه !!
فجأة تجيش نفس إبراهيم ،يدوى صوت داخله :" ياشيخ عبدالواحد ، ادعى لى ياشيخ ، ادعى لى يابه "0 يجهش باكيا ، ضفائر الشجرة تقبل وجه الماء الراكد تسر إليه بما عجز عن كشفه ، من بين دموعه يمتد بصره طويلا ، طويلا فى الفراغ ، لاشيء غير الظلام ، ينبش فيه عن شبحين أو ثلاثة ، والطريق أمامه خالية ، خاوية كالحة 0
فى البر الآخر كان هيكل يتحرك ، يتقدم ،كان طويلا ،يشق طريقه ،يتجه نحوه مباشرة ،كان إبراهيم فى مكانه ، الهواجس والنداء والاحتمالات ، صورة الشيخ عبد الواحد تملأ روحه 0 هل أبصره الشبح ؟ لا يتوقف ، يقصده هو 00نعم يقصده0
يرتجف قلبه ، ينزلق فى بطنه ، يتداخل ، يتداخل 0 الشبح يدنو ، يدنو ، يصبح قبالته تماما ، يتماسك إبراهيم ، يعود لقلبه صلابته المفتقدة ، يخمن ما يبدر منه ، يحط الشبح في ماء الترعة 0 لم يتمكن إبراهيم من قراءة ملامحه 0 كانت قامته المديدة ما يجتذب انتباهه ، كان فى طول يوسف ، الكتفان ، الهيكل ، الحركة 0 لو يتمكن من تفرسه ، رؤية ملامحه ، لو يناديه :"يوسف 00يوسف ، واد يا يوسف "0
لم تغادره ، لو فعل ربما ضيع كل شيء ، نعم ، ليصمت الآن ، يتابع ما يتم ، يتحرك الشبح مبتعدا فى محاذاة الترعة ، يختفي عن ناظريه 0 يوسف !! ليته يوسف ، هكذا كان يتفاعل ، ويئن ، يحلق في صفصافة الظلمة !
لم تبدأ العداوة مع موت أو اختفاء يوسف ، بل تضرب أظافرها في التاريخ ، نعم قبل مولده ، مع جده الكبير حين جاء الشراكسة ، احتلوا الأرض ، جعلوا شوكة البيومى القوقازي الأصل في السماء ، وحطت بهم إلى الحضيض !!
يتمرد على أحضانها فجأة ، يفر من جذوتها ، كانت تبثه مالم يقدر على تعليله من دفء وحماية ، يقبل عليها ، يمطرها تقبيلا ، يربت على فروعها المرتخية الحنون ، يسترضيها بعد هروبه ، يالها من امرأة فاقت كل النساء ، كانت عطشى لدموعه الرطبة الساخنة ، ارتشفتها ، أوجعته عشقا ، يسلم لها نفسه ، يذوب ، يذوب ، يتسمع لهاث أنفاسها ، كانت تنبأه بأوزير ،جذعها يفرز سائلا سخنا ، له رائحة الدموع ، وطعم بكارة الأنثى ،تلهج الحديث كأن نصلا تكلم ، فأدمى "انتشلته ، عشقته قبل الذبح ، جاءوا به تابوتا ، فأدخلته فى سرتى ، ووصلته بحبل سرى ، ارتحلت ، جابت كل المدن إليها ، وهززت هلع إيزيس فاساقط بددا !!"0
همس :" كانت سنديانة !!
ترقرقت ،اختلج الجسد الرطب :" كنت أنا ، أنا هى ، وحيدة في البيد أزهر ، استوى نخلا وتوتا ، عنبا 0 كان مبتليا ، فتلهفنى ، كنت على حافة الظمأ أترنح ، روى أوردتي ، حملني وردا ويعاسيب ، سفرا ، يقيني الموت ، يدخلني الوقت الريان ، فصرت الخلد ، اغتسل بمائي ، نم ، وحذار من هذا البئر ، يا ابن آدم ، وأوزير ، فما يحوى غير الموت !!
تعليق