الحـريـة...وطـنا
ماذا يفعل العقل في بحثه الأثير عن وطنه الأزلي الذي لا يختلف على تسميته خصم و صديق، هذا الوطن-الجوهر الذي جعل آدم و حواء يتركان الجنة و ما فيها من أجله. يقول الأديب الكبير نجيب محفوظ:" الجمال من ضمن أشواق العقل" و أنا أعتذر منه لأقول:" الحرية من أخص أشواق العقل" فالفضول و البحث عن الحرية و عن الذات و عن الآخر هو الذي جعل آدم و حواء "يهبطان" من الجنة ليعيدا الصعود إليها بحريتهما و اختيارهما المحض. إن شجرة العقل التي "أصلُها في الأرض و فرعُها في السماء"(قرآن كريم) سيصّعّدان فيها و سيُُدمي أقدامهما طولُ الطريق و هما مشدودان الواحد إلى الآخر بحكم تعادلية القطبين، يتسلقان البوصلة التي لا تعترف إلا بالشمال.
البحث عن الحرية هو الذي هبط بآدم و زوجه و في هذه الرحلة المؤلمة صعودا و نزولا يحاول الاثنان في حركة عشواء التعرف على موطنهما الذي أضاعاه و البحث عن سرّ الوجود و هناك تعثّرا بعتبات الشرق و الغرب و استعادهما الفلامنكو الغاضبُ الحزينُ أوجاعَ جلجامش فيما كانت الصحراء تغصّ برملها الذي تشعّب و أورق أشجارَ حرف تحرس طريق القوافل النوبية من ذئاب الحاضرة.
هنالِك أحرق الاسفلتُ أقدامهما و شهِِدا أبخرة سُفُنٍ تقطع لحم المحيط و ترميه للقرش. طارا نحو سلالة الكتابة الأولى تحدّثُهم كوامن النفس بارتواء الظمإ من قطرة بِغَيْمة فلم يجِدوا سوى دماء خاثرة كزيت أحمر لا يمحوه اغتسال.
تقول حواء: "كم عُمركَ الآن؟"
يقول آدم: "كيف أدري يا حواء. زمن الجنة غير زمن الأرض".
تقول حواء: "ها قد صرتَ غريبا عنّي، ما هذا الذي تتحدث عنه؟ هذه الكلمة لا أعرفها من قبل".
يقول آدم: "الأرض يا حواء كأنها خرائط متراكبة كلّما سرتُ خطوة تعثرتُ و سقطتُ و عاودت النهوض. سماءات مختلفة و لغات و شرق و غرب و حضارات قديمة لكنها لا تبيد. الكل يتعملق في أرض الحاضر فكأنّ لا ماضي أبدا و لا مستقبل".
تقول حوّاء في نفسها:" ماذا أفعل و قد أكلتُ من الشجرة، آدم لم يعد لي و لا الجنّة، إنه شقي و أنا لا أفهمه (فلا يخرجنّكما من الجنّة فتشقى -قرآن كريم) فيسمعها آدم فيقول: "هل ستتركينني أكمِلُ الطريقَ وحدي؟"
تقول حواء:" يا آدم، أنت وطنُك العقلُ و انا وطني العاطفة فأحِبَّ أخاكَ."
يقول آدم: "كيف أحب دون أن افهم؟ أنا أريد أن أفهم !"
تقول حواء:" لاشيء يجدي فاُتخذْ لنفسك زوجا أخرى"
يقول آدم:" أنتِ زوج نفسي فرافقيني و سآمر الطيور أن تغني لك طيلة رحلتنا. أنتِ تُحبّين الطيور "
تقول حواء:"لا يهون عليّ أن أتركك وحيدا، سأهوّئ منافذ حُزنِكَ. أسنِد رأسك على رُكبتي و نَم قليلا"
يُغمض آدم عينيه فتَأنَسُ حواء و يأخذها دِفْءُ جسده فتنامُ، عندها تنفتح عَيْنَاآدم حمراوين من التعب و يأخذ عصاهُ و يواصل سيْرَه و هو يُمنّي النفس بالعودة و لكن تمرُّ الشهور و لا يعودُ و تضَعُ حوّاءُ رضيعين من الإنس فتستعيدُ جنّتها بعد أن تقضي العمر في تربيتهما و يبقى آدم هائما على وجهه يلاحق العقلَ يتناسل فيه الصّدى و تُغريه آثارُ سنابِكِ الخيل لا تُؤدّي لِمَكان.
هام آدمُ طويلا و لكنّه صار ثلاثة. صارت خطواتُهُ أوثقَ و صار لهُ ظهر في مكان ما من الأرض و كلمة "الأب" تُحيلُهُ على كلمة "الربّ" الذي ينشد الصعود إليه.
لم يعُد آدم وحيدا و لكنّه وصل في رحلته إلى زمن الحديد بعد أن وهن العظم و اُبْيَضّ المفرقُ و اُنطفأ الإيروس و لم يبق إلا العقل متبجّحا بأنّه سيضحك أخيرا، عندها سأل آدم ربّهُ أن يُطْلِعَهُ على حال اُبْنَيْهِ فرأى أنّهُما يقتتِلان من أجل الحُرّية و من أجل حُبّ الربّ.
صاحَ آدم:" إنّها بُؤرة السِرّ، يا ربّ عَلِّّم قابيل كيف يُواري سوءة أخيه"
صاحت حواء من أعلى سماء:" يا قابيل، أحِبَّ أخاكَ"
[align=justify]
فَهِِم آدمُ الدرسَ حينها و نادى:" يا صاحِبَ الموت!"
[/align][align=justify]
[/align]
تعليق