الحلقة الأولى
من الانفتاح إلى المغامرة
التَّناص الشِّعري بين خلات أحمد و نارين عمر
صبري رسول
ربما جمعتني صدفة محضة بمجموعة الشاعرة الكردية خلات أحمد (مذكرات زهرة الأكاليبتوس) قبل سنتين، فقرأتها، وانبهرتُ أمام نصوصها الممتدّة من فتنة السّرد إلى شعرية النّص، وبها قرأتُ طفولتي ومرحلة الصّبا من خلال سيرة نهرٍ موشّحٍ بالحزن مثلي، وقبل شهرٍ من تاريخ كتابة هذه الدّراسة أهدتْني الشاعرة نارين عمر مجموعتها(حيثُ الصّمتُ يحتضر) وعند قراءتي لها استحضرتني قصائد خلات أحمد التي نسيتُ تفاصيلها، كوني لا أهتمُّ بالشعر كناقد، وعند رجوعي إلى المجموعة كان التّتاصُ بادياً للقارئ العادي، هذا ما دفعني إلى هذه المقاربة التّناصية.
التَّناص من حيث المفهوم والنّشأة
قد تكون الباحثة جوليا كريستفيا هي أول من توصلت إلى استقراء مصطلح التّناص (Interextualité) عام 1969 من خلال دراسة عن دوستويفيسكي لأستاذها باختين في كتابه (فلسفة اللغة )، وعرّفته في دراستها (ثورة اللغة الشعرية- la revolution du langage poetique) من حيث المعنى بأنه مجموع العلاقات القائمة بين نصٍّ أدبي ونصوص أخرى. وترى بعد عدة تطبيقات إجرائية بأنّه كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى(1) .
تنطلق جوليا كرستيفا من منطلق رفضها لفكرة " النّص المغلق" الذي روّج له الشكلانيون الرّوس، ثمّ تأتي كرسيتفا في كتابها " نظرية المجموع " بعد نضوج رؤيتها للمصطلح فتقول : إننا نطلق مصطلح التّناص على التّداخل النّصي الذي يحدث داخل النّص الواحد، بالنسبة للذات العارفة فإنّ التّناص هو المفهوم الوحيد الذي سيكون المؤشر على الطريقة التي بواسطتها، يقرأ نصّ التّاريخ ويتداخل معه.(2)
وبناءً على مفهوم هذا المصطلح لدى كرستيفا ومن خلال تكراره في مجمل دراساتها الإجرائية على النّصوص الفرنسية، يمكن تحديد بعض من خصائصه: التَّناص هو مجال تقاطع وتلاقٍ وتداخل واندماج وتحاور مجموعة من النّصوص. والتناص شرط ضروري لكلّ نصّ، وعندما يقوم نصّ ما باستدعاء واستحضار نصوص أخرى فأنه ينقلها من سياقها الأصلي ويطرحها في سياقٍ جديد، وهو ما عبرت عنه كرستيفا بـ " الهدم والبناء " أو " النفي والإثبات " المتزامنين .(3)
أما النّاقد الفرنسي جيرار جينيت فقد حدَّد أصنافاً للتَّناص وهي الاستشهاد، والسّرقة، والنَّص الموازي، الوصف النّصي والنصيّة الواسعة، والنّصية الجامعة (4).
ويرى رولان بارت النَّص بأنَّه السطح الظاهريّ للنتاج الأدبي، نسيج الكلمات المنظومة في التأليف، والمنسقة بحيث تفرض شكلاً ثابتاً ووحيداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً .(5)
والنَّص عبارة عن إنتاجية يشارك فيها مع المؤلف في إنتاجه كلٌّ قارئ، وإذا ما اطمأن بارت إلى وجود القارئ المنتج للنّص والمؤلف الذَّائب في صياغة النص، وجد سبيلاً لهذا النص ليدخل في علاقة مع نصوص أخرى، تثمر في إنتاج دلالته، وهذا ما استقر على تسميته بـ " التناص"، .
فالكلام كلُّهُ، سالفُه وحاضرُه يصبُّ في النّصّ ، ولكن ليس وفق طريق متدرجة معلومة ، ولا بمحاكاة إرادية، وإنما- وفق طرق متشعبة ـ تمنح النص وضع الإنتاجية، وليس إعادة الإنتاج(6) . ولا ننسى أنّ بارت ينظر إلى النّص بوصفه " نسيجاً " يربط بين اللغة والأفكار.
أما مارك أنجينو الذي يستبعد إجماع النّقاد على كلمة واحدة في مفهوم التّناص يرى أنَّ كل نصٍّ يتعايش بطريقة من الطرق مع نصوص أخرى(7) .
فالنّص بوصفه إنتاجاً، بتعبير بارت، لا يعيش بمفرده، وهو، بمثابة الثمرة التي تنتجها شجرة راسخة الجذور، تستمدُّ نسغها من عملية التّركيب الضوئي التي تقوم بها الأوراق، مع الارتواء عن طريق الجذور. إذاً ، أكثر من سبب يساهم في إنتاج الثمرة، والنّص كذلك الأمر، يساهم في إنتاجه، إضافة إلى الموهبة وروح الإبداع، كلُّ القراءات السابقة، التي هي الأساس المعرفي لدى الإنسان، مع ما يراه ويسمعه، ويحسُّ به. لكن تلك القراءات السابقة قد تؤثّر في النّص، المولود الجديد، بوعيٍّ من الكاتب، فيقوم بتضمين نصّه بعض التعبيرات، متناثرةً، أو شيئاً من المعاني، في صياغاتٍ جديدة؛ وقد يتسرّب النّصُ القديمُ في ثنايا المولود الجديد، بدون وعيٍّ من الكاتب، بوصفه فعلاً لا شعورياً، يفرضُ نفسه على الكاتب، فحضوره يكون طاغياً، بينما يكون غياب الوعي عميقاً. وهذا ما أشار إليه شولز وسمّاه بالنّص المتداخل الذي هو: نص يتسرب إلى داخل نص آخر، ليجسد المدلولات، سواء وعى الكاتب بذلك أم لم يعِ (8) .
هل هذا التداخل بين النصين يكون بوعيٍّ من الكاتب؟ أم بدون وعيٍّ منه؟ (يقول الغذامي عن نص القصيبي في تداخله مع نص الأعشى: ليست المسألة عملية واعية، ولا هي احتذاء ومجاراة وإنما هي أعمق من ذلك وأبلغ بما أنها فعل حتمي ذو طبيعة تلقائية لا شعورية، وفعل نصوصي وليست فعلاً بشرياً، أي أن الكاتب ليس في حالة حضور وتقرير، بل الحضور والفعل هو للنص وحده مع النصوص الأخرى السابقة عليه. (9)
ويقابل هذا المفهوم عند دريدا فكرة التكرارية التي تلغي الحدود بين النصوص ومن ثم تمهد الطريق لتداخلها. هكذا تعدَّدت المفاهيم والرؤى حول هذا المفهوم تناسباً مع المذاهب والنظريات النقدية كالبنيوية، والسيميولوجية، والتفكيكية.
المصادر والمراجع
1 - (أحمد الزعبي، ، التناص نظرياً وتطبيقياً ، مؤسسةعمون للنشر والتوزيع ، الأردن ، ط2 ، 2000 ، ص 12)
2 –أخذا عن : محمد وهابي " مفهوم التناص عند جوليا كرستيفا" علامات في النقد " ــ النادي الأدبي بجدة ــ ج54 ــ م 14 شوال1425 هــ ديسمبر2004م .
3 –المصدر نفسه
4 - (محمد بنيس ، الشعرالعربي الحديث بنياته وإبدالاتها ، ج 3 : الشعر المعاصر، درا توبقال ، المغرب،ط1، 1990)
5 - رولان بارت : " نظرية النص ، بحث مترجم ضمن كتاب " آفاق التناصية..المفهوم
والمنظور " ـ ترجمة د. محمد خير البقاعي، 30، الهيئة المصرية العام للكتاب ـ 1988م
6 - ( نظرية النّص ).
7 - مارك أنجينو ، " التناصية ... بحث في انبثاق حقل مفهومي وانتشاره " ، 79 ، ضمن كتاب " آفاق التناصية " ، مرجع سابق 0
8 - (د 0 عبد الله الغذامي : " الخطيئة والتكفير 00 من البنيوية إلى التشريحية " ، 35 ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ط4 998 م
9 – المصدر نفسه.
تعليق