خرج ولم يعد
رأى فيما يرى النائمُ حلماً أفزَعه , فأيقظه مهموماً مغموما وهو بغِنىً عن
هذا الهَمْ وهذا الغَمْ .
هكذا هي أحلامُ الظهيرة , تخطُف الأضواء لِتَبَاينها وقعأ ووتيرةً عن أحلام
المساء . فحلم الظهيرة لهُ شفافية خاصّة , تكاد تُلامس الحقيقة في أغلب
الأحيان .
زوجته لم تزل بالمطبخ تغسل الأطباق والمواعين بعد ان أنْهَيا مراسمِ تناول
وجبة الغذاء الدسمة .
طغى ضجيج طرقعة قُبقابها وشخللة الأساور الذهبية المُتراصَّة حول زَندَيْهَا
على صفاء ذهنه , ومحاولته استرجاع الحلم الذي عصف به وهو نائم .
قَصَمَتْ ظهره هذهِ السيَّدة . إقبالها على الطعام بشراهة وإفراط , سرعان
ما ظهر أثره في الدهن الذي اكتنز به جسدها . إنها مُحترفة طبخ وصرف
فقط , ولا تُتقن سواهُما .
في حين يكِدُّ صاحبنا المسكين صباحاً ومساءاً من اجل تلبية طلباتها
والإذعان لرغباتها التي أخَذتْ بطريقها كل مُدَّخراته المادية والعاطفية,
إلى أن أصبح عظمةً خاوية بلا نخاع يُغَذِّيها وبلا لحمٍ يكسوها .
حتى بات ترميم ما أفسد , حلم يود تحقيقه .
فَأيقن أن لا فائدة من تكرار شكواه . وسيستمر في نزواته وغزواته خارج
البيت مُتعَلِّلاً بالشيطان وما يدُسهُ له من سمْ داخل قطع الحلوى .
لكنه وبقرارة نفسه , غير راضي عن سلوكه خارج البيت وكأنه شخصان
في جسد واحد .
تراه في البيت متجهما . يقل في الكلام والإنصات لحد البكم . يروم السكينة
والَتَبلُّد لِحَدْ العجز . في حين تجده في العمل وبين الأصحاب , ذاك الإنسان
خفيف الظل والمصغي حتى لأتفه الأمور . يفيض نشاطاً وحيوية لحد الإسراف
والبذخ .
عَملَ جاهداً كي يُبْقي صفحته بيضاء ناصعة , لكنه وَهَنَ, فتلوثَ ببقعٍ كَدَّرتْ
صَفْوَ حياته . فكان لا بُدّ من محوها أو فتح صفحة جديدة . حتى بات مسكونا
بهاجس الانفصام في شخصيته .
ربما تكون زوجته هي التي دفعته للانشطار , بسبب تفانيها بعشق المطبخ
والطبيخ على حسابه . أو وربما بسبب تدني مستواها المعرفي , فهي لم
ترقى يوما بلوغ الذروة في إتقان الأشياء , باستثناء المطبخ وتوابعه .
أو بسبب إفراطها في التفاؤل ببيتوتية زوجها وصواب حدسها في عفافه من
نزوات سن المراهقة المتأخر .
وتمر الأيام في رتابة وصاحبنا خارج البيت ينحدر رويدا رويدا حتى لامس القاع .
كم من محاولة أقدم عليها بإرادة صلبة لرتق الفتق بين شخصيتيه , لكن بلا
فائدة . فبدا كَمَنْ يرغب بالإقلاع عن التدخين ولم يستطِعْ .
حين ضاق صدره . أدار ظهره قانعا بان لكل إنسان مزاياه ونواقصه .
وتمنى البين أن يحط فوقه كالغراب ويفَرِّق جسده عن روحه .
حسب تقديره , ستفرغ زوجته من عَمَلها بالمطبخ خلال عشرة دقائق .
بهذه الفترة يكونُ قد ارتدى ملابسه , وتهيَّأ للذهابِ إلى عمله المسائي .
وقف أمام المرآة يسرِّح شعره , فانتابه شعور بالدهشة!
وكأنَّ الحلم الذي راوده خلال نومه لم ينتهي بعد .
إن صورته المعكوسة بالمرآة ليست له . إنَّها لشخص آخر لا يعرفه ولم
يُشاهِدْهُ بحياته .
غرفة النوم هذه ,غرفته, وتلك ملابسه والصورة المعلقة فوق السرير له
والمحفظة التي بجيب بنطاله بها أوراق تخصه والهوية عليها صورته واسمه !
لكن الجسد الذي هو بداخله ليس جسده .
لطَمَ خَدّيّهَ ليتيقن إن هو بالواقع ام بالخيال . ثم صرخ في جوفه قائلا :
ــ ربي, ماذا أفعل ؟ إن رأتني زوجتي الآن فسوف تملأ الدنيا صراخا
ونفضح على آخر الزمن ؟ رجلٌ غريب بغرفة النوم ! يا فرحَتي !
سوف أنسَلّ خارجاً , دون أن تراني .
خرج من الشقة ومن العمارة على أطراف أصابعه كراقص بالية , يتَلَفَّتُ يميناً
ويساراً كلص شارد . عبر الشارع وسار بغيرِ هُدىً مُندّساً بين السابلة .
حتى وجد نفسه أمام المستشفى حيث يعمل .
دخل بوابته واتجه نحو مكتبه .
اعترضه المُراسل بعد أن حدجه بنظرة ثاقبة ثم قال :
ــ مَنْ تُريد يا أستاذ ؟ الموظف المسئول لم يحضر بعد , انتظره هنا .
طبعاً , لم يخطر ببال المراسل أن الشخص الذي أمامه هو نفسه الموظف
المسئول عن المكتب الذي أبعده عنه . كيف سيميزه والملامح غير الملامح
والسحنة ليست هي السحنة ؟
لم ينبس صاحبنا. حنى رأسه امتثالا , وتحرك حركة توحي بالانصراف .
وقف أمام مكتب مدير المستشفى حائرا . هل يدخل ويكشف له الأمر ؟
استدار عائدا من حيث أتى وهو يهمس بسرِّه :
ــ لا , سيظنني معتوه ويزج بي إلى مصَحْ المجانين .
عاد إلى الشارع وهو بحيرة أشد من حيرته داخل المستشفى .
همس بسرِّه ثانية :
ــ هل أرجع إلى البيت وانقل حيرتي لزوجتي وأناقشها بالأمر ؟ فربما تقتنع
بكلامي ونهتدي إلى حَلْ ؟ كلا , لا أستطيع , سوف ادخل معها في حوار عقيم ,
وربما تستدعي البوليس . ربي , ماذا افعل ؟ لقد تعبتُ , وتورمت قدماي من
السير على غير هدى هائما على وجهي كفاقدي الذاكرة . حسنا , سوف
أجلسُ بهذا المقهى وأحتسي الشاي , علَّني ألَمْلِمْ أفكاري المُبعثرة فتقودني
إلى صواب الفكر والحَلْ .
جاءه النادل بكوب الشاي , فاندلق قليلاً منهُ وهو يضعهُ فوق الطاولة التي
أمامه . اعتذر, بعد أن مسح الشاي المسكوب ووضع ورقة من
جريدة قديمة تحت الكوب .
أخذ كوب الشاي بيده وبدأ يرشف , وقعَتْ عينه على صورة شخص بالجريدة
التي وضعها النادل تحت الكوب مكتوب تحتها " خرج ولم يعد " .
إنها صورة الشخص الذي رآه بالمرآة , صورته هو الآن .
رفع الجريدة عن الطاولة وبحث عن عنوان يهتدي به , فلم يجدْ .
دفع للنادل حسابه وانصرف على عجل , إلى أين ؟ لا يدري .
كم َ من الوقت قد مرّ وهو على هذه الحال ؟ وهل يجرؤ بالإفصاح لأي
احد عَمَّا يجري له ؟
نام بالمساجد وفوق الأرصفة كالمُتشردين .
استيقظ ذاتَ صباح , وكان ملتحفا بورق الصُحُفْ كما تعَود , فسَقطَتْ عينه
على صورته الحقيقة بأحد أركان الجريدة ومكتوب تحتها" خرج ولم يعد " .
نهض واقفا وهو يرتجف من هول الصدمة , ثم هتف بنبرة صارمة :
ــ يجب إنهاء هذه االهلوسات وان احسم الأمر فوراً . كي أعود لبيتي وأسرتي .
فانا مُتَيَقِّنْ ولدي إحساس أني قد عُدْتُ لسابق عهدي وشكلي الآن .
دخل الجامع وفي نِيَّتِه التوبة الصادقة عن كل هفوة مارسها عن قصد بحق نفسه ,
وحق أسرته . توضأَ وعينه على المرآة فرأى نفسه على صورتها الأصلية .
حمد ربه وبدأ بالصلاة .
وفي طريق عودته , وحين اقترب من منزله , رأى زوجته ترنوه من النافذة مهللة
بقدومه . لوح لها بيده . فما كان منها إلا أن أغرقت الحي بالزغاريد .
في يوم وقد كان القمر بدرا يُهدي نورهُ نحو المزارع والأراضي الفضاء
ونحو الأزقة ونحو البيوت والحارات مُخترقاً غرف النوم دون إستإذان .
كاشفا مستورها والمفضوح منها , غير آبه لعائق قد يمنعه من الانتشار
والتوضع بأي مكان يختاره . فالنوافذ مشرعة والأبدان مُتحررة في مثل هذا
الوقت من فصل الصيف .
استيقظ صاحبنا على صوت المؤذن الداعي لصلاة الفجر .
هَمَّ محاولاً النهوض . وقد كانت المرآة التي أمامه تعكس نور القمر المنتشر
ضيائه بجميع أركان غرفة النوم . شاهد زوجته وهي غاطة في نوم عميق
بجانبه , وقد انحسر الغطاء عن جسدها مُبرِزاً مفاتن كان غافلاً عنها من
زمن . تبادر إلى ذهنه أن هناك عيون متطفلة تتلصَّص .
فمد يده نحو غطاء السرير محاولاً سترها وهو لم يزل ينظر بالمرآة .
فراعه ُما رأى . يبدو أن الكابوس قد عاودهُ .
انهُ ليس هو . وصورته المعكوسة بالمرآة ليست له .
تململت ْزوجته وهو يحاول تغطيتها . بحلق بها فازدادَ دهشة .
إنها ليست زوجته . عاد للنظر بالمرآة مرة أخرى .
لم يتغير شيء.
هو ليس هو .
وزوجته ليست زوجته .
استيقظت ْ الزوجة , وهو بحالٍ من الذهول الغرائبي . صرخت في وجهه
غير آبهة للعواقب :
ــ ما بالك يا رجل ؟ هل أنت يَقِظْ أم انك تحلم ؟ ولماذا تحرك رأسك هكذا ؟
استقامت فوق سريرها وهي تنظر نحو زوجها ونحو المرآة .
فأصابها الذهول ذاته . ربما رأت في نفسها وفي زوجها ما رآهُ هو .
ركن الزوجان جنبا إلى جنب صامتان . وجعلت المرأة تختلس النظر
إلى الرجل حتى خرقت الصمت قائلة :
ــ مَنْ أنتَ ؟
فهز رأسه وانتفض مبتعدا عن المرأة قائلا :
ــ بل مَن أنتِ ؟
رأى فيما يرى النائمُ حلماً أفزَعه , فأيقظه مهموماً مغموما وهو بغِنىً عن
هذا الهَمْ وهذا الغَمْ .
هكذا هي أحلامُ الظهيرة , تخطُف الأضواء لِتَبَاينها وقعأ ووتيرةً عن أحلام
المساء . فحلم الظهيرة لهُ شفافية خاصّة , تكاد تُلامس الحقيقة في أغلب
الأحيان .
زوجته لم تزل بالمطبخ تغسل الأطباق والمواعين بعد ان أنْهَيا مراسمِ تناول
وجبة الغذاء الدسمة .
طغى ضجيج طرقعة قُبقابها وشخللة الأساور الذهبية المُتراصَّة حول زَندَيْهَا
على صفاء ذهنه , ومحاولته استرجاع الحلم الذي عصف به وهو نائم .
قَصَمَتْ ظهره هذهِ السيَّدة . إقبالها على الطعام بشراهة وإفراط , سرعان
ما ظهر أثره في الدهن الذي اكتنز به جسدها . إنها مُحترفة طبخ وصرف
فقط , ولا تُتقن سواهُما .
في حين يكِدُّ صاحبنا المسكين صباحاً ومساءاً من اجل تلبية طلباتها
والإذعان لرغباتها التي أخَذتْ بطريقها كل مُدَّخراته المادية والعاطفية,
إلى أن أصبح عظمةً خاوية بلا نخاع يُغَذِّيها وبلا لحمٍ يكسوها .
حتى بات ترميم ما أفسد , حلم يود تحقيقه .
فَأيقن أن لا فائدة من تكرار شكواه . وسيستمر في نزواته وغزواته خارج
البيت مُتعَلِّلاً بالشيطان وما يدُسهُ له من سمْ داخل قطع الحلوى .
لكنه وبقرارة نفسه , غير راضي عن سلوكه خارج البيت وكأنه شخصان
في جسد واحد .
تراه في البيت متجهما . يقل في الكلام والإنصات لحد البكم . يروم السكينة
والَتَبلُّد لِحَدْ العجز . في حين تجده في العمل وبين الأصحاب , ذاك الإنسان
خفيف الظل والمصغي حتى لأتفه الأمور . يفيض نشاطاً وحيوية لحد الإسراف
والبذخ .
عَملَ جاهداً كي يُبْقي صفحته بيضاء ناصعة , لكنه وَهَنَ, فتلوثَ ببقعٍ كَدَّرتْ
صَفْوَ حياته . فكان لا بُدّ من محوها أو فتح صفحة جديدة . حتى بات مسكونا
بهاجس الانفصام في شخصيته .
ربما تكون زوجته هي التي دفعته للانشطار , بسبب تفانيها بعشق المطبخ
والطبيخ على حسابه . أو وربما بسبب تدني مستواها المعرفي , فهي لم
ترقى يوما بلوغ الذروة في إتقان الأشياء , باستثناء المطبخ وتوابعه .
أو بسبب إفراطها في التفاؤل ببيتوتية زوجها وصواب حدسها في عفافه من
نزوات سن المراهقة المتأخر .
وتمر الأيام في رتابة وصاحبنا خارج البيت ينحدر رويدا رويدا حتى لامس القاع .
كم من محاولة أقدم عليها بإرادة صلبة لرتق الفتق بين شخصيتيه , لكن بلا
فائدة . فبدا كَمَنْ يرغب بالإقلاع عن التدخين ولم يستطِعْ .
حين ضاق صدره . أدار ظهره قانعا بان لكل إنسان مزاياه ونواقصه .
وتمنى البين أن يحط فوقه كالغراب ويفَرِّق جسده عن روحه .
حسب تقديره , ستفرغ زوجته من عَمَلها بالمطبخ خلال عشرة دقائق .
بهذه الفترة يكونُ قد ارتدى ملابسه , وتهيَّأ للذهابِ إلى عمله المسائي .
وقف أمام المرآة يسرِّح شعره , فانتابه شعور بالدهشة!
وكأنَّ الحلم الذي راوده خلال نومه لم ينتهي بعد .
إن صورته المعكوسة بالمرآة ليست له . إنَّها لشخص آخر لا يعرفه ولم
يُشاهِدْهُ بحياته .
غرفة النوم هذه ,غرفته, وتلك ملابسه والصورة المعلقة فوق السرير له
والمحفظة التي بجيب بنطاله بها أوراق تخصه والهوية عليها صورته واسمه !
لكن الجسد الذي هو بداخله ليس جسده .
لطَمَ خَدّيّهَ ليتيقن إن هو بالواقع ام بالخيال . ثم صرخ في جوفه قائلا :
ــ ربي, ماذا أفعل ؟ إن رأتني زوجتي الآن فسوف تملأ الدنيا صراخا
ونفضح على آخر الزمن ؟ رجلٌ غريب بغرفة النوم ! يا فرحَتي !
سوف أنسَلّ خارجاً , دون أن تراني .
خرج من الشقة ومن العمارة على أطراف أصابعه كراقص بالية , يتَلَفَّتُ يميناً
ويساراً كلص شارد . عبر الشارع وسار بغيرِ هُدىً مُندّساً بين السابلة .
حتى وجد نفسه أمام المستشفى حيث يعمل .
دخل بوابته واتجه نحو مكتبه .
اعترضه المُراسل بعد أن حدجه بنظرة ثاقبة ثم قال :
ــ مَنْ تُريد يا أستاذ ؟ الموظف المسئول لم يحضر بعد , انتظره هنا .
طبعاً , لم يخطر ببال المراسل أن الشخص الذي أمامه هو نفسه الموظف
المسئول عن المكتب الذي أبعده عنه . كيف سيميزه والملامح غير الملامح
والسحنة ليست هي السحنة ؟
لم ينبس صاحبنا. حنى رأسه امتثالا , وتحرك حركة توحي بالانصراف .
وقف أمام مكتب مدير المستشفى حائرا . هل يدخل ويكشف له الأمر ؟
استدار عائدا من حيث أتى وهو يهمس بسرِّه :
ــ لا , سيظنني معتوه ويزج بي إلى مصَحْ المجانين .
عاد إلى الشارع وهو بحيرة أشد من حيرته داخل المستشفى .
همس بسرِّه ثانية :
ــ هل أرجع إلى البيت وانقل حيرتي لزوجتي وأناقشها بالأمر ؟ فربما تقتنع
بكلامي ونهتدي إلى حَلْ ؟ كلا , لا أستطيع , سوف ادخل معها في حوار عقيم ,
وربما تستدعي البوليس . ربي , ماذا افعل ؟ لقد تعبتُ , وتورمت قدماي من
السير على غير هدى هائما على وجهي كفاقدي الذاكرة . حسنا , سوف
أجلسُ بهذا المقهى وأحتسي الشاي , علَّني ألَمْلِمْ أفكاري المُبعثرة فتقودني
إلى صواب الفكر والحَلْ .
جاءه النادل بكوب الشاي , فاندلق قليلاً منهُ وهو يضعهُ فوق الطاولة التي
أمامه . اعتذر, بعد أن مسح الشاي المسكوب ووضع ورقة من
جريدة قديمة تحت الكوب .
أخذ كوب الشاي بيده وبدأ يرشف , وقعَتْ عينه على صورة شخص بالجريدة
التي وضعها النادل تحت الكوب مكتوب تحتها " خرج ولم يعد " .
إنها صورة الشخص الذي رآه بالمرآة , صورته هو الآن .
رفع الجريدة عن الطاولة وبحث عن عنوان يهتدي به , فلم يجدْ .
دفع للنادل حسابه وانصرف على عجل , إلى أين ؟ لا يدري .
كم َ من الوقت قد مرّ وهو على هذه الحال ؟ وهل يجرؤ بالإفصاح لأي
احد عَمَّا يجري له ؟
نام بالمساجد وفوق الأرصفة كالمُتشردين .
استيقظ ذاتَ صباح , وكان ملتحفا بورق الصُحُفْ كما تعَود , فسَقطَتْ عينه
على صورته الحقيقة بأحد أركان الجريدة ومكتوب تحتها" خرج ولم يعد " .
نهض واقفا وهو يرتجف من هول الصدمة , ثم هتف بنبرة صارمة :
ــ يجب إنهاء هذه االهلوسات وان احسم الأمر فوراً . كي أعود لبيتي وأسرتي .
فانا مُتَيَقِّنْ ولدي إحساس أني قد عُدْتُ لسابق عهدي وشكلي الآن .
دخل الجامع وفي نِيَّتِه التوبة الصادقة عن كل هفوة مارسها عن قصد بحق نفسه ,
وحق أسرته . توضأَ وعينه على المرآة فرأى نفسه على صورتها الأصلية .
حمد ربه وبدأ بالصلاة .
وفي طريق عودته , وحين اقترب من منزله , رأى زوجته ترنوه من النافذة مهللة
بقدومه . لوح لها بيده . فما كان منها إلا أن أغرقت الحي بالزغاريد .
في يوم وقد كان القمر بدرا يُهدي نورهُ نحو المزارع والأراضي الفضاء
ونحو الأزقة ونحو البيوت والحارات مُخترقاً غرف النوم دون إستإذان .
كاشفا مستورها والمفضوح منها , غير آبه لعائق قد يمنعه من الانتشار
والتوضع بأي مكان يختاره . فالنوافذ مشرعة والأبدان مُتحررة في مثل هذا
الوقت من فصل الصيف .
استيقظ صاحبنا على صوت المؤذن الداعي لصلاة الفجر .
هَمَّ محاولاً النهوض . وقد كانت المرآة التي أمامه تعكس نور القمر المنتشر
ضيائه بجميع أركان غرفة النوم . شاهد زوجته وهي غاطة في نوم عميق
بجانبه , وقد انحسر الغطاء عن جسدها مُبرِزاً مفاتن كان غافلاً عنها من
زمن . تبادر إلى ذهنه أن هناك عيون متطفلة تتلصَّص .
فمد يده نحو غطاء السرير محاولاً سترها وهو لم يزل ينظر بالمرآة .
فراعه ُما رأى . يبدو أن الكابوس قد عاودهُ .
انهُ ليس هو . وصورته المعكوسة بالمرآة ليست له .
تململت ْزوجته وهو يحاول تغطيتها . بحلق بها فازدادَ دهشة .
إنها ليست زوجته . عاد للنظر بالمرآة مرة أخرى .
لم يتغير شيء.
هو ليس هو .
وزوجته ليست زوجته .
استيقظت ْ الزوجة , وهو بحالٍ من الذهول الغرائبي . صرخت في وجهه
غير آبهة للعواقب :
ــ ما بالك يا رجل ؟ هل أنت يَقِظْ أم انك تحلم ؟ ولماذا تحرك رأسك هكذا ؟
استقامت فوق سريرها وهي تنظر نحو زوجها ونحو المرآة .
فأصابها الذهول ذاته . ربما رأت في نفسها وفي زوجها ما رآهُ هو .
ركن الزوجان جنبا إلى جنب صامتان . وجعلت المرأة تختلس النظر
إلى الرجل حتى خرقت الصمت قائلة :
ــ مَنْ أنتَ ؟
فهز رأسه وانتفض مبتعدا عن المرأة قائلا :
ــ بل مَن أنتِ ؟
تعليق