خرج ولم يعد " مع الاعتذار لنزار الزين "

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    خرج ولم يعد " مع الاعتذار لنزار الزين "

    خرج ولم يعد
    رأى فيما يرى النائمُ حلماً أفزَعه , فأيقظه مهموماً مغموما وهو بغِنىً عن
    هذا الهَمْ وهذا الغَمْ .
    هكذا هي أحلامُ الظهيرة , تخطُف الأضواء لِتَبَاينها وقعأ ووتيرةً عن أحلام
    المساء . فحلم الظهيرة لهُ شفافية خاصّة , تكاد تُلامس الحقيقة في أغلب
    الأحيان .
    زوجته لم تزل بالمطبخ تغسل الأطباق والمواعين بعد ان أنْهَيا مراسمِ تناول
    وجبة الغذاء الدسمة .
    طغى ضجيج طرقعة قُبقابها وشخللة الأساور الذهبية المُتراصَّة حول زَندَيْهَا
    على صفاء ذهنه , ومحاولته استرجاع الحلم الذي عصف به وهو نائم .
    قَصَمَتْ ظهره هذهِ السيَّدة . إقبالها على الطعام بشراهة وإفراط , سرعان
    ما ظهر أثره في الدهن الذي اكتنز به جسدها . إنها مُحترفة طبخ وصرف
    فقط , ولا تُتقن سواهُما .
    في حين يكِدُّ صاحبنا المسكين صباحاً ومساءاً من اجل تلبية طلباتها
    والإذعان لرغباتها التي أخَذتْ بطريقها كل مُدَّخراته المادية والعاطفية,
    إلى أن أصبح عظمةً خاوية بلا نخاع يُغَذِّيها وبلا لحمٍ يكسوها .
    حتى بات ترميم ما أفسد , حلم يود تحقيقه .
    فَأيقن أن لا فائدة من تكرار شكواه . وسيستمر في نزواته وغزواته خارج
    البيت مُتعَلِّلاً بالشيطان وما يدُسهُ له من سمْ داخل قطع الحلوى .
    لكنه وبقرارة نفسه , غير راضي عن سلوكه خارج البيت وكأنه شخصان
    في جسد واحد .
    تراه في البيت متجهما . يقل في الكلام والإنصات لحد البكم . يروم السكينة
    والَتَبلُّد لِحَدْ العجز . في حين تجده في العمل وبين الأصحاب , ذاك الإنسان
    خفيف الظل والمصغي حتى لأتفه الأمور . يفيض نشاطاً وحيوية لحد الإسراف
    والبذخ .
    عَملَ جاهداً كي يُبْقي صفحته بيضاء ناصعة , لكنه وَهَنَ, فتلوثَ ببقعٍ كَدَّرتْ
    صَفْوَ حياته . فكان لا بُدّ من محوها أو فتح صفحة جديدة . حتى بات مسكونا
    بهاجس الانفصام في شخصيته .
    ربما تكون زوجته هي التي دفعته للانشطار , بسبب تفانيها بعشق المطبخ
    والطبيخ على حسابه . أو وربما بسبب تدني مستواها المعرفي , فهي لم
    ترقى يوما بلوغ الذروة في إتقان الأشياء , باستثناء المطبخ وتوابعه .
    أو بسبب إفراطها في التفاؤل ببيتوتية زوجها وصواب حدسها في عفافه من
    نزوات سن المراهقة المتأخر .
    وتمر الأيام في رتابة وصاحبنا خارج البيت ينحدر رويدا رويدا حتى لامس القاع .
    كم من محاولة أقدم عليها بإرادة صلبة لرتق الفتق بين شخصيتيه , لكن بلا
    فائدة . فبدا كَمَنْ يرغب بالإقلاع عن التدخين ولم يستطِعْ .
    حين ضاق صدره . أدار ظهره قانعا بان لكل إنسان مزاياه ونواقصه .
    وتمنى البين أن يحط فوقه كالغراب ويفَرِّق جسده عن روحه .
    حسب تقديره , ستفرغ زوجته من عَمَلها بالمطبخ خلال عشرة دقائق .
    بهذه الفترة يكونُ قد ارتدى ملابسه , وتهيَّأ للذهابِ إلى عمله المسائي .
    وقف أمام المرآة يسرِّح شعره , فانتابه شعور بالدهشة!
    وكأنَّ الحلم الذي راوده خلال نومه لم ينتهي بعد .
    إن صورته المعكوسة بالمرآة ليست له ‍‍.‍‍‍ إنَّها لشخص آخر لا يعرفه ولم
    يُشاهِدْهُ بحياته .
    غرفة النوم هذه ,غرفته, وتلك ملابسه والصورة المعلقة فوق السرير له
    والمحفظة التي بجيب بنطاله بها أوراق تخصه والهوية عليها صورته واسمه ‍!
    لكن الجسد الذي هو بداخله ليس جسده .
    لطَمَ خَدّيّهَ ليتيقن إن هو بالواقع ام بالخيال . ثم صرخ في جوفه قائلا :
    ــ ربي, ماذا أفعل ؟ إن رأتني زوجتي الآن فسوف تملأ الدنيا صراخا
    ونفضح على آخر الزمن ؟ رجلٌ غريب بغرفة النوم ! يا فرحَتي !
    سوف أنسَلّ خارجاً , دون أن تراني .

    خرج من الشقة ومن العمارة على أطراف أصابعه كراقص بالية , يتَلَفَّتُ يميناً
    ويساراً كلص شارد . عبر الشارع وسار بغيرِ هُدىً مُندّساً بين السابلة .
    حتى وجد نفسه أمام المستشفى حيث يعمل .
    دخل بوابته واتجه نحو مكتبه .
    اعترضه المُراسل بعد أن حدجه بنظرة ثاقبة ثم قال :
    ــ مَنْ تُريد يا أستاذ ؟ الموظف المسئول لم يحضر بعد , انتظره هنا .
    طبعاً , لم يخطر ببال المراسل أن الشخص الذي أمامه هو نفسه الموظف
    المسئول عن المكتب الذي أبعده عنه . كيف سيميزه والملامح غير الملامح
    والسحنة ليست هي السحنة ؟
    لم ينبس صاحبنا. حنى رأسه امتثالا , وتحرك حركة توحي بالانصراف .
    وقف أمام مكتب مدير المستشفى حائرا . هل يدخل ويكشف له الأمر ؟
    استدار عائدا من حيث أتى وهو يهمس بسرِّه :
    ــ لا , سيظنني معتوه ويزج بي إلى مصَحْ المجانين .

    عاد إلى الشارع وهو بحيرة أشد من حيرته داخل المستشفى .
    همس بسرِّه ثانية :
    ــ هل أرجع إلى البيت وانقل حيرتي لزوجتي وأناقشها بالأمر ؟ فربما تقتنع
    بكلامي ونهتدي إلى حَلْ ؟ كلا , لا أستطيع , سوف ادخل معها في حوار عقيم ,
    وربما تستدعي البوليس . ربي , ماذا افعل ؟ لقد تعبتُ , وتورمت قدماي من
    السير على غير هدى هائما على وجهي كفاقدي الذاكرة . حسنا , سوف
    أجلسُ بهذا المقهى وأحتسي الشاي , علَّني ألَمْلِمْ أفكاري المُبعثرة فتقودني
    إلى صواب الفكر والحَلْ .
    جاءه النادل بكوب الشاي , فاندلق قليلاً منهُ وهو يضعهُ فوق الطاولة التي
    أمامه . اعتذر, بعد أن مسح الشاي المسكوب ووضع ورقة من
    جريدة قديمة تحت الكوب .
    أخذ كوب الشاي بيده وبدأ يرشف , وقعَتْ عينه على صورة شخص بالجريدة
    التي وضعها النادل تحت الكوب مكتوب تحتها "
    خرج ولم يعد " .
    إنها صورة الشخص الذي رآه بالمرآة , صورته هو الآن .
    رفع الجريدة عن الطاولة وبحث عن عنوان يهتدي به , فلم يجدْ .
    دفع للنادل حسابه وانصرف على عجل , إلى أين ؟ لا يدري .
    كم َ من الوقت قد مرّ وهو على هذه الحال ؟ وهل يجرؤ بالإفصاح لأي
    احد عَمَّا يجري له ؟
    نام بالمساجد وفوق الأرصفة كالمُتشردين .
    استيقظ ذاتَ صباح , وكان ملتحفا بورق الصُحُفْ كما تعَود , فسَقطَتْ عينه
    على صورته الحقيقة بأحد أركان الجريدة ومكتوب تحتها"
    خرج ولم يعد
    " .
    نهض واقفا وهو يرتجف من هول الصدمة , ثم هتف بنبرة صارمة :
    ــ يجب إنهاء هذه االهلوسات وان احسم الأمر فوراً . كي أعود لبيتي وأسرتي .
    فانا مُتَيَقِّنْ ولدي إحساس أني قد عُدْتُ لسابق عهدي وشكلي الآن .

    دخل الجامع وفي نِيَّتِه التوبة الصادقة عن كل هفوة مارسها عن قصد بحق نفسه ,
    وحق أسرته . توضأَ وعينه على المرآة فرأى نفسه على صورتها الأصلية .
    حمد ربه وبدأ بالصلاة .
    وفي طريق عودته , وحين اقترب من منزله , رأى زوجته ترنوه من النافذة مهللة
    بقدومه . لوح لها بيده . فما كان منها إلا أن أغرقت الحي بالزغاريد .
    في يوم وقد كان القمر بدرا يُهدي نورهُ نحو المزارع والأراضي الفضاء
    ونحو الأزقة ونحو البيوت والحارات مُخترقاً غرف النوم دون إستإذان .
    كاشفا مستورها والمفضوح منها , غير آبه لعائق قد يمنعه من الانتشار
    والتوضع بأي مكان يختاره . فالنوافذ مشرعة والأبدان مُتحررة في مثل هذا
    الوقت من فصل الصيف .
    استيقظ صاحبنا على صوت المؤذن الداعي لصلاة الفجر .
    هَمَّ محاولاً النهوض . وقد كانت المرآة التي أمامه تعكس نور القمر المنتشر
    ضيائه بجميع أركان غرفة النوم . شاهد زوجته وهي غاطة في نوم عميق
    بجانبه , وقد انحسر الغطاء عن جسدها مُبرِزاً مفاتن كان غافلاً عنها من
    زمن . تبادر إلى ذهنه أن هناك عيون متطفلة تتلصَّص .
    فمد يده نحو غطاء السرير محاولاً سترها وهو لم يزل ينظر بالمرآة .
    فراعه ُما رأى . يبدو أن الكابوس قد عاودهُ .
    انهُ ليس هو . وصورته المعكوسة بالمرآة ليست له .
    تململت ْزوجته وهو يحاول تغطيتها . بحلق بها فازدادَ دهشة .
    إنها ليست زوجته . عاد للنظر بالمرآة مرة أخرى .
    لم يتغير شيء.
    هو ليس هو .
    وزوجته ليست زوجته .
    استيقظت ْ الزوجة , وهو بحالٍ من الذهول الغرائبي . صرخت في وجهه
    غير آبهة للعواقب :
    ــ ما بالك يا رجل ؟ هل أنت يَقِظْ أم انك تحلم ؟ ولماذا تحرك رأسك هكذا ؟
    استقامت فوق سريرها وهي تنظر نحو زوجها ونحو المرآة .
    فأصابها الذهول ذاته . ربما رأت في نفسها وفي زوجها ما رآهُ هو .
    ركن الزوجان جنبا إلى جنب صامتان . وجعلت المرأة تختلس النظر
    إلى الرجل حتى خرقت الصمت قائلة :
    ــ مَنْ أنتَ ؟

    فهز رأسه وانتفض مبتعدا عن المرأة قائلا :
    ــ بل مَن أنتِ ؟
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    الزميل القدير
    فوزي سليم بيترو
    مساء الخير زميلي
    نص جميل
    فكرة رائعة
    سرد حلو
    أعجبني النص بتلك الرؤية والمتغيرات
    قد لا نعرف أنفسنا أحيانا حين نتغير كثيرا
    أحداث القصة مشوقة جدا خاصة منذ التبدل ولحد النهاية
    ودي ومحبتي لك
    أعتذر منك زميلي لأني لم أهنيك بالعيد وأنت ربما تعرف أني ومنذ احتل وطني لم أفعلها وحتى تحرير العراق فعليا
    مساء الفل والورد لأهلي جميعا وسنة سلام ومودة بحول الله علينا وعليكم

    الممسوس

    الممسوس! أي ريح صرصر عصفت اليوم الشمس مبتورة الخيوط، وشبح القادم ينسل خفية يغطي وجهه غروب أصهب. لم أكد أعرفه لولا وشم أنزله على كفه في ليلة دهماء غاب عنها القمر، أريق فيها الكثير من دمه وحبر صبه فوق الجرح، يدمغ يده فيه ويئن مبتلعا وجعه. لم تك ملامحه تشبه ذاك الشاب الجسور الذي ملأ حيطان الشارع برسومه، وأنا صبي ألاحقه مثل ظله/
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • فوزي سليم بيترو
      مستشار أدبي
      • 03-06-2009
      • 10949

      #3
      مساء الجمال أختنا البديعة المبدعة عائدة محمد نادر
      كل الشكر لك على رفع نصي المتواضع " خرج ولم يعد "
      وإتاحة الفرصة لقرائته . النص قديم ويحتاج إلى بعض التصويبات الإملائية .
      أتمنى الخير والسعادة لكِ مع قدوم العام الجديد .
      معك حق . العيد الحقيقي هو يوم تزول الغمة عن أوطاننا ، ونحتفل بحريتها
      من هبوب رياح الغريب المتربص بنا ، ومن آثار نخر القريب المحسوب علينا
      مودتي وسلامي
      فوزي بيترو

      تعليق

      • أحمد عيسى
        أديب وكاتب
        • 30-05-2008
        • 1359

        #4
        الأستاذ العزيز الرائع : د. فوزي سليم بيترو

        هي قصة رائعة بدون أدنى شك
        هذه الرمزية الرائعة ، عن حالة الغربة التي نعيشها ، ووصول البطل الى هذه المرحلة ، التي يصبح فيها على غير شكله ، فيرى في المرآة كل شيء الا صورته هو
        وكذا وصلت زوجته لذات الحال ، ربما بسبب ما يعيشانه من حالة وحياة غريبة ، وصلوا فيها الى حد الملل
        ذكرتني في البداية بالحالة التي تحدث عنها الكثيرين في قصتي ديجافو
        وهي الحالة النقيضة للديجافو وتسمى : جايمس فو
        وتعني شعور الشخص بالاغتراب فجأة وهو في مكان مألوف ، فلا يعرف الشخص أو المكان الذي أمامه
        وربما يتساءل فجأة : ما الذي جاء بي الى هنا
        غير أنها حالة عارضة تنتهي في ثوان ، وليس لها تفسير علمي منطقي

        أحييك أستاذي على هذه الرائعة
        ” ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي
        [align=center]أمــــوتُ .. أقـــــاومْ [/align]

        تعليق

        • فوزي سليم بيترو
          مستشار أدبي
          • 03-06-2009
          • 10949

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة أحمد عيسى مشاهدة المشاركة
          الأستاذ العزيز الرائع : د. فوزي سليم بيترو

          هي قصة رائعة بدون أدنى شك
          هذه الرمزية الرائعة ، عن حالة الغربة التي نعيشها ، ووصول البطل الى هذه المرحلة ، التي يصبح فيها على غير شكله ، فيرى في المرآة كل شيء الا صورته هو
          وكذا وصلت زوجته لذات الحال ، ربما بسبب ما يعيشانه من حالة وحياة غريبة ، وصلوا فيها الى حد الملل
          ذكرتني في البداية بالحالة التي تحدث عنها الكثيرين في قصتي ديجافو
          وهي الحالة النقيضة للديجافو وتسمى : جايمس فو
          وتعني شعور الشخص بالاغتراب فجأة وهو في مكان مألوف ، فلا يعرف الشخص أو المكان الذي أمامه
          وربما يتساءل فجأة : ما الذي جاء بي الى هنا
          غير أنها حالة عارضة تنتهي في ثوان ، وليس لها تفسير علمي منطقي

          أحييك أستاذي على هذه الرائعة
          لقد أضأت سطوري المتواضعة بقرائتك أخي أحمد عيسى
          الصراع الذي يعانيه بطل " خرج ولم يعد " جعل منه إنسانا غريبا على نفسه أولا
          وعن المكان وحتى عن أقرب المقربين لديه . زوجته ، وزملاء العمل .
          ربما يكون السبب هو روتين الحياة الممل . وربما أسباب أخرى يتعلل بها ليبرر انحرافه .
          على العموم ، تبيّن أن هناك من يسير على خطاه ...
          لقد قرأت ديجافو واستمتعت بها . لكن لم تتح لي فرصة مناقشتها في الغرفة الصوتية .
          كل الشكر لك وتحياتي
          فوزي بيترو

          تعليق

          يعمل...
          X