أشعار محمد الريشة تملأ الرأس ولا تغذيه !

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نور عامر
    أديب وناقد ومفكر
    • 19-03-2009
    • 36

    أشعار محمد الريشة تملأ الرأس ولا تغذيه !

    أشعار محمد الريشة تملأ الرأس ولا تغذيه !

    لا أمانع أن أملأ رأسي بأشعار محمد حلمي الريشة كلما صادفتني قصيدة له في جريدة أو ديوان ، لكنني أستجيب لنداء في داخلي يلح غالبا بإفراغ ما أقرأ من هذا النتاج ظئيل الفيتامينات على المستوى الجوهري للشعر ، أي النواة القادرة على التفرهد ، والقادرة أن تقنعنا بضرورة هذا الشعر كخزين مغذي لحضارتنا مضارعا ومستقبلا .
    وإلا ما معنى أن تنطفئ جذوة الخطاب بعد مرورها وكأن شيئا لم يحدث ! .
    وإن كنت سأبدأ بالإستعانة بعلم الإشارة "سميوتيكس " فذلك لغزارة الإشارات في هذا الشعر ، الإشارة الحسية والإشارة اللغوية ، يجتاز بوساطتها ما يبعد عنه صفة المباشرة ، وتارة للتملص من واقع غير مريح . وهذا يتفق مع " فرويد " في تحليله أن الفنان أداة من أدوات الهروب من الواقع المؤلم . وترى وجهة النظر الحديثة بأن الفنانين عموما يعتمدون على مدركاتهم الحسية أكثر من اعتمادهم على التعابير المجردة .
    والإشارة في الشعر والفن لها مردود إيجابي لكن بشروط كأن تحقق البعد الثالث والبعد الرابع ، العمق والزمن . وإن كانت عند الريشة حققت شيئا من هذا ، إلا أنها لم ترتبط دائما ارتباطا وثيقا بوظيفة النص التركيبية ، بقدر ما خدمت عملية الإنجاز ، لكن ببراعة نسبية ، وهذه البراعة في الصنعة تحفزنا على إجراء حركة عقلية قد تكشف عن أجزاء وعقد ارتباط خفية في النص ، كما في المنهج التفكيكي الذي يدفعنا في بعض أشعار الريشة أن نلتفت الى المعاني ، المعنى المباشر والمعنى المضمر . وهذا يجرنا بالضرورة الى التأويل الإفتراضي .

    " نجمة ضحى أربعاء / مثلت وردة الوجد / أجمع الأمل نافذة / تتدلى لألأة بياض / صفاء غواية / ورطوبة ناي "
    يمكن أن تكون " نافذة الأمل " التفاتة عابرة نحو الشمس . ويجوز أنه التمرد على الشعور بالإغتراب . " والناي الرطبة " ليست بالضرورة اللّينة المرنة . فقد تعني نقيض الفرح ، أو نقيض ترغل الصوت الموسيقى بين الذات القلقة والمساحة المتوترة بفعل حدث ما .
    ومن هنا تبدأ العملية التفكيكية بالتعقيد لا سيما ونحن نحاول ربط المعاني بالتاريخ السلوكي والإجتماعي باعتباره من المحفزات الهامة لكتابة الشعر ، لذلك يتطلب الأمر بحثا في حياة الشاعر ، بيئته نشأته ثقافته ، كي نستطيع اثبات ما هو أصيل وقيّم ، وتهميش أو استئصال ما هو مصطنع واعتباطي . وبما أن هذه المهمة شاقة بالنسبة إليّ على الأقل أكتفيت بالتأويل كما سبق .
    والخطورة في التفكيكية أننا نستطيع هدم النص نهائيا ثم إعادة ترميمه مع حذف أجزاء منه غير مهيأة كمواد فاعلة ومجدية للسياق .
    قصيدة الريشة " لؤلؤة " من ديوانه " معجم بك " لا يظل منها بعد الترميم سوى بعض المعاني وبعض الإشارات الجيدة . انها باختصار مجرد إعادة بصيغة أخرى لأسطورة آدم وحواء ، أو بعضا من الأسطورة .
    نحس خلالها بحضور المرأة , وهذا لا جديد فيه . فالمرأة كانت ولا تزال تحتل حيزا كبيرا في معظم الشعر العربي . ولعل هذا الاهتمام بها يخفي سرا لا نفهمه تماما ، لذلك أرتاح الى نظرية " تين " الذي يرد كل القوة الإبداعية الى عامل بيولوجي غامض هو الجنس .
    هذا مجمل ما قدمته هذه القصيدة بمضمونها ومعانيها . وهنا يطرح السؤال : هل أضافت شيئا جوهريا للشعر ؟ ! أين تلك الشحنة المغذية للدماغ ، ليس على أساس احتفاله بالرونق والأصباغ ، إنما على ركيزة فسلجته " المناطق المخية الثلاثية الحسية " القادرة على التمييز بين اللمعان والإبتكار . أين الابتكار في هذا الانموذج .
    " نوم صحوة / في غشاء حلم / بستان أريكة مسكرة / تنتظر كأسينا / حتى ثمالة الخض / لندخل معا فاكهة الجنون / بشفافية برق / وأنفاس زبد / كل لون عطش / بين مدى معراجنا / يمحى بريشة ماء / مغموسة بصرخة تتعرى " .
    أنتقل الى أنموذج آخر قصيدة " حواس " . الفكرة الرئيسة فيها هي المرأة أيضا . يبدو أن الشاعر تعب على هذه القصيدة ، ويظهر هذا الجهد في انتقاء المفردات بكل عناية ، ثم الاهتمام الزائد بأن يبدو التعبير طازجا غير مسبوق . وهذا يجعلني أخمن أن الريشة حاول إسقاط القارئ في حالة إعجاب . هذا من حقه . فليعجب من يعجب. أمّا أنا فلا أنظر من الخارج ، بل اجعل النص محطات أتفحصها وأجس محتوياتها .
    " لسانك العصفور / الذي نقر غشاء حلمي " .
    إن قيمة هذا التعبير تكمن في جماليته ، لكنه يلامس الى حد ما طريقة التقليد ، إنه يذكرني بالقول المعروف .
    " الأذن تعشق قبل العين أحيانا " .
    وثمة تعبير ملفت " إشراق وجهك كان مرآة / نظرت فيها بعينين / من أملين لأراني / فكنت أنت " .

    بعد قراءة النص مباشرة لا أعرف لماذا اقتحمت مخيلتي لوحة للفنان الإسباني " غويا " ، امرأة تتطلع في مرآه مكتوب عليها " هل هذه أنا " .
    رغم التناقض في القصد بين اللوحة والنص الشعري يراودني إحساس بأن الريشة اطلع على هذه اللوحة .. لكن ليس هذا موضوعنا إنما ما حمله النص من إعلان الشاعر بأنه يكتشف حقيقة نفسه من خلال المرأة ، وانها تستقطب في حياته الحب والعاطفة والأمل . كذلك استطاع بهذا التعبير أن يحوّل الانتباه الى داخل الإنسان حيث العمق السايكولوجي . لكن هذه الصفة لم تعد استثناء لشاعر أو بضع شعراء ، بل أصبحت لازمة ومنتشرة في الأدب المعاصر .
    المقطع الأول في الانموذج التالي يكاد يقنعني بأنني مررت بما يشبهه في قراءة ما ، ومع ذلك سأعتبره غير مسبوق ، للحيطة فقط ..
    " شلالك الأسود / كاد يخفيني / لولا أن رآني / برهان لهثك " .
    تبدو مغرية بشعرها الأسود الطويل ، خاصة في إطار تحويل النحو الى بلاغة . بليغ هذا التعبير لكن مشكلته تتلخص في عدم قدرته على الإنتشار ، يبقى ضمن دائرة محدودة ، صورة بليغة وجميلة تراوح مكانها . ربما لأنها لم تجمع بين " الأنا " والشمولي هذه الميزة التي تستقطب اهتمام الجمهور .
    وبعد . لا أزعم أنني قرأت كل ما أنتجه محمد حلمي الريشة ، لكن في كل ما قرأته من هذا الشعر لم أجد قصيدة واحدة متكاملة ، أي تحمل أهم شروط الإبداع : الحساسية للمشكلات ، الطلاقة ، الأصالة ، الحداثة ، التفرد والمرونة . ومع ذلك يظل الريشة موضع احترام وتقدير كشاعر مميز ومثابر كما ونوعا .
يعمل...
X