بعدساعة موت
(1)
صعد على الباص متعطفا بمعطف شاحب كالموت.. منتفخا كالمأزوم.. يغرز نظره بالركاب. هذا وذاك.. واحدا واحد.. فتش عن مكان . رغم كثرة الأماكن الفارغة.. وأخيرا اختار أن يدسّ جسمه في وسط الباص، حيث يزدحم المسافرون ... جلس دون أن يحيّ أحدا .. لم يبتسم لأحد..جامد الوجه عاقدا عقدة غضب بين عينيه اللتين تدوران بسرعة في أنحاء الباص ، تبحثان عن شيء ما ..
ظل طوال الطريق مطرقا.. غائصا في بحر أفكاره تحسبه يعاتب الشارع ويتحداه ، لأنه يسير بعكس حركة الباص .. يتمتم دون أن يسمع أحد ماذا يقول...
ماذا يقول؟
أيقرأ كلاما من الكتب السماوية ؟!
أيستذكر التاريخ..؟ أم القصائد الشعرية التي تعلمها يوم كان طالبا في الثانوية، قبل سنوات ليست طويلة..
أيستعيد شريط حياته؟ أم لقاءاته الغرامية ومغامراته ونزواته، .. أو برامج حياته..
لا أحد يعرف...
وحين وقف الباص في أول محطة له.. دوّى انفجار هائل ، مزق أمعاء الباص .. فتناثرت الجثث وسالت الدماء وانتشر الموت...
لم يعثر له على اسم .., أو رقم.. أو صورة.. أو أي علاقة تدلّ على هويته..وبعد ساعة موت ، رغم أنه لم يُعثر على أي دليل يشير إلى سبب الانفجار ، إلا أن وسائل الإعلام المرئية والمكتوية والمسموعة أخذت تعلن أن " إرهابيا فجر نفسه في باص وقتل أُناسا أبرياء"
وبعد ساعة موت أخرى طلعت مجموعة تطلق على نفسها " أحباب الله "قتلت أعداء الله..!
وبعد ساعة غضب ، أظلمت السماء وأبرقت وأرعدت وأنزلت بَرَدَاً كالحجارة، أرعب الناس ، وأدخلهم بيوتهم ، فانقطعوا عن العمل وعن الصلاة وانزووا داخل علبهم يفرغون خوفهم الزائد...
***
(2)
لم يمض أكثر من أسبوع على عودة عبد الرحمن من شهر عسل من عشرة أيام.. زار فيها احلي الأماكن في متحف اللوفر وبرج إيفل باريس ونهر السين والأوبرا وغيرها.... قضى أجمل الأيام والليالي مع عروسه رقية...
كان يحسب أن أن شهر العسل لن ينتهي ، أو أنه ، على الأقل أطول من شهر عادي من ثلاثين يوما، لكنه تفاجأ لأن شهر العسل مرّ بسرعة ، وبعشرة أيام فقط، ، لا أكثر ولا أقل، ولم يزيدوا يوما واحدا .
حين عاد إلى بيته أحسّ بنوع من خيبة الأمل، وبأنه فقد شيئا جميلا، وأن الحياة شاحبة، هادئة، وهو لا يحب الهدوء، وباهتة كالمياه لا طعم ولا لون... وهو لا يحب الأشياء الباهتة...
استيقظ في الصباح على صوت حبيبته وهي تهزه بدلال :
_ صباح الخير حبيبي .. هيا استيقظ..
رد عليها وهو على حافة اليقظة
_ دعيني أنام قليلا.
وسحب الغطاء على جسمه.
_ قم كفى كسلا..حان وقت الجدِّ...صرنا عائلة عليها واجبات ومسؤوليات وديون..
_ -صباح الخير حبي، كم الساعة؟
_ الثامنة ، لم يبق أمامك سوى نصف ساعة لموعد الباص، حتى تذهب إلى الجامعة .
قام عبد الرحمن متكاسلا، مترددا ، اغتسل وتناول فطوره وهو واقف، ثم خرج مسرعا ليلحق بالباص..
كان يوزع ابتسامته على من يلتقي به في الطريق.. يحيي هذا ويبتسم لذاك.. ولكن في عينيه غمامة حزن.. وكآبة تتنافر مع حركاته .. وكان بين الحين والآخر يقف ويدير رأسه ليبعث ببسمة إلى رقية التي تقف في الشباك تودعه بنظراتها.. يتنهد ويتمتم: ويقول "للبيت وربة البيت رب يحميه".
تحرك الباص قبل وصول عبد الرحمن .. لكن السائق رآه في المرآة يركض. فوقف ينتظره حتى وصل وصعد إلى الباص، يتفحص الركاب ويبتسم للجميع ..
كانت مقاعد عديدة فارغة لكنه اختار وسط الباص ، قريبا من الباب الخلفي، أسرع النزول ...
في أول محطة توقف فيها الباص .. دوّى انفجار هائل ، مزق أمعاء الباص ، فتناثرت جثته مع الجثث المتناثرة..
وبعد ساعة موت ، ورغم أنه لم يعثر على دليل يشير إلى سبب الانفجار ، طلعت وسائل الإعلام بأنواعها تعلن أن إرهابيا فجر نفسه في باص وقتل أناسا أبرياء..
وبعد ساعة موت وغضب وانتظار، مرت على رقية كأنها عمر لم تعد أعصابها تتسع لأحزان أكثر ، فقدت وعيها ، ونُقلت إلى المستشفى بين الحياة والموت ..[/size][/center][/b]
(1)
صعد على الباص متعطفا بمعطف شاحب كالموت.. منتفخا كالمأزوم.. يغرز نظره بالركاب. هذا وذاك.. واحدا واحد.. فتش عن مكان . رغم كثرة الأماكن الفارغة.. وأخيرا اختار أن يدسّ جسمه في وسط الباص، حيث يزدحم المسافرون ... جلس دون أن يحيّ أحدا .. لم يبتسم لأحد..جامد الوجه عاقدا عقدة غضب بين عينيه اللتين تدوران بسرعة في أنحاء الباص ، تبحثان عن شيء ما ..
ظل طوال الطريق مطرقا.. غائصا في بحر أفكاره تحسبه يعاتب الشارع ويتحداه ، لأنه يسير بعكس حركة الباص .. يتمتم دون أن يسمع أحد ماذا يقول...
ماذا يقول؟
أيقرأ كلاما من الكتب السماوية ؟!
أيستذكر التاريخ..؟ أم القصائد الشعرية التي تعلمها يوم كان طالبا في الثانوية، قبل سنوات ليست طويلة..
أيستعيد شريط حياته؟ أم لقاءاته الغرامية ومغامراته ونزواته، .. أو برامج حياته..
لا أحد يعرف...
وحين وقف الباص في أول محطة له.. دوّى انفجار هائل ، مزق أمعاء الباص .. فتناثرت الجثث وسالت الدماء وانتشر الموت...
لم يعثر له على اسم .., أو رقم.. أو صورة.. أو أي علاقة تدلّ على هويته..وبعد ساعة موت ، رغم أنه لم يُعثر على أي دليل يشير إلى سبب الانفجار ، إلا أن وسائل الإعلام المرئية والمكتوية والمسموعة أخذت تعلن أن " إرهابيا فجر نفسه في باص وقتل أُناسا أبرياء"
وبعد ساعة موت أخرى طلعت مجموعة تطلق على نفسها " أحباب الله "قتلت أعداء الله..!
وبعد ساعة غضب ، أظلمت السماء وأبرقت وأرعدت وأنزلت بَرَدَاً كالحجارة، أرعب الناس ، وأدخلهم بيوتهم ، فانقطعوا عن العمل وعن الصلاة وانزووا داخل علبهم يفرغون خوفهم الزائد...
***
(2)
لم يمض أكثر من أسبوع على عودة عبد الرحمن من شهر عسل من عشرة أيام.. زار فيها احلي الأماكن في متحف اللوفر وبرج إيفل باريس ونهر السين والأوبرا وغيرها.... قضى أجمل الأيام والليالي مع عروسه رقية...
كان يحسب أن أن شهر العسل لن ينتهي ، أو أنه ، على الأقل أطول من شهر عادي من ثلاثين يوما، لكنه تفاجأ لأن شهر العسل مرّ بسرعة ، وبعشرة أيام فقط، ، لا أكثر ولا أقل، ولم يزيدوا يوما واحدا .
حين عاد إلى بيته أحسّ بنوع من خيبة الأمل، وبأنه فقد شيئا جميلا، وأن الحياة شاحبة، هادئة، وهو لا يحب الهدوء، وباهتة كالمياه لا طعم ولا لون... وهو لا يحب الأشياء الباهتة...
استيقظ في الصباح على صوت حبيبته وهي تهزه بدلال :
_ صباح الخير حبيبي .. هيا استيقظ..
رد عليها وهو على حافة اليقظة
_ دعيني أنام قليلا.
وسحب الغطاء على جسمه.
_ قم كفى كسلا..حان وقت الجدِّ...صرنا عائلة عليها واجبات ومسؤوليات وديون..
_ -صباح الخير حبي، كم الساعة؟
_ الثامنة ، لم يبق أمامك سوى نصف ساعة لموعد الباص، حتى تذهب إلى الجامعة .
قام عبد الرحمن متكاسلا، مترددا ، اغتسل وتناول فطوره وهو واقف، ثم خرج مسرعا ليلحق بالباص..
كان يوزع ابتسامته على من يلتقي به في الطريق.. يحيي هذا ويبتسم لذاك.. ولكن في عينيه غمامة حزن.. وكآبة تتنافر مع حركاته .. وكان بين الحين والآخر يقف ويدير رأسه ليبعث ببسمة إلى رقية التي تقف في الشباك تودعه بنظراتها.. يتنهد ويتمتم: ويقول "للبيت وربة البيت رب يحميه".
تحرك الباص قبل وصول عبد الرحمن .. لكن السائق رآه في المرآة يركض. فوقف ينتظره حتى وصل وصعد إلى الباص، يتفحص الركاب ويبتسم للجميع ..
كانت مقاعد عديدة فارغة لكنه اختار وسط الباص ، قريبا من الباب الخلفي، أسرع النزول ...
في أول محطة توقف فيها الباص .. دوّى انفجار هائل ، مزق أمعاء الباص ، فتناثرت جثته مع الجثث المتناثرة..
وبعد ساعة موت ، ورغم أنه لم يعثر على دليل يشير إلى سبب الانفجار ، طلعت وسائل الإعلام بأنواعها تعلن أن إرهابيا فجر نفسه في باص وقتل أناسا أبرياء..
وبعد ساعة موت وغضب وانتظار، مرت على رقية كأنها عمر لم تعد أعصابها تتسع لأحزان أكثر ، فقدت وعيها ، ونُقلت إلى المستشفى بين الحياة والموت ..[/size][/center][/b]
تعليق