أضواء في ليل جنين
(1)
- نفذت رصاصات الرجال .
كان لعبارته دوي القنبلة في الوجوه الصارمة المتحفزة …
كصاعقة هبطت على الرؤوس فتجهمت واستحال لونها أحمر كلون الدم الذي يلوث الموجودات … ولأن الظلام كان يغطي كل شيء من حولهم فلم يكن بالإمكان رؤية القشعريرة التي زحفت فوق جلودهم … أو الذهول الذي سيطر على حواسهم ، أو الألم الذي تبدى في محياهم ..
تنحنح أحد الرجال قاطعاً الصمت المطبق على المكان ، وقال :-
- أنا تبقت معي رصاصتان .
وقال آخر :-
- أنا تبقت معي ثلاث رصاصات ..
وقال القائد :-
- وأنا رصاصة واحدة
أما باقي الرجال فقد صمتوا ووضعوا سلاحهم جانباً ..
دار (أبو الهيثم) بنظره في وجوه الرجال وقال :-
- ثقتي بالله تخبرني أننا لمنتصرون ..
قال أحدهم في تردد :-
- لقد نفذ الطعام .
- تعودنا طعم العلقم وأحببنا مذاق الزعتر واستسغنا طعم مياه الأمطار ، يمكننا أن نصمد أكثر.
قال آخر :-
- نفذت رصاصاتنا .
قال (أبو الهيثم) :-
- لكن عزيمتنا لم تنفذ بعد ، وإيماننا لم ينفذ بعد ، وثقتنا بالله لن تنفذ أبداً .ليس المهم أن نخرجهم ، يكفي أن نعيقهم قليلاً ، أن نخيفهم فلا ينالوا من المخيم إلا فوق جثثنا ..
أخبركم يا رجال أننا بإذن الله لمنتصرون .
وكأن لعبارته وقع السحر على نفوسهم ..فقد دبت الحياة في الأجساد المنهكة ..
واستحال اليأس أملاً ..فاعتدل الرجال ، لملموا أسمالهم وسلاحهم وانطلقوا نحو الرصاص الذي يزأر في الخارج .
(2)
عند أطراف المخيم كانت الدبابات في كل مكان ، تحيط البيوت وتطوقها وتوجه مدافعها نحو المنازل التي انهارت وفوق بقاياها تزحف جرافاتهم ..
صرخات النساء والأطفال تمزق سكون الليل …
أطفال فقدوا آباءهم في خضم المعركة ... نساءٍ وجدن أنفسهن دون مأوى أو لباسٍ يقيهن برودة الشتاء .
وبين الأطفال الملتاعين مضى يشق طريقه (هيثم ) ..
عيناه الصغيرتان تدوران في أرجاء المكان .. يعبر فوق مظاريف الرصاص الفارغة فتؤلمه قدماه الحافيتان ، لكنه لا يتأوه … عيناه تعلقت بامرأة جلست في ناصية الشارع …فاندفع يجري …يعبر المسافة بينهما ركضاً يهتف من أعماقه :-
- أمي ….
لكن المرأة ترفع رأسها الذي لوثته الدماء فيقف (هيثم)
يطرق رأسه ويبتعد …
ذهبت أمك يا (هيثم) ….
ذهبت ولن تعود …
انهار فوقها المنزل اثر قصفه …
والموتى لا يعودون يا (هيثم) …
الطيبون منهم للجنات يذهبون ..
تذكر كلمات والده فعصف القهر بكيانه .. والغضب بعروقه ..
لكنه عرف أين يذهب فانطلق يسابق ظله يعدو نحو مصير مجهول ..
(3)
في مكمنهم … ربض الرجال ينتظرون … خلف البيوت المنهارة انتشروا ، تسلحوا بالأسلحة البيضاء وبالهراوات وبما تبقى من رصاصاتٍ أخيرة .
مال أحد الرجال على (أبو الهيثم) وقال :-
- اقتربوا كثيراً فبعد دقائق قليلة ستدخل الحارة وحداتهم الخاصة .. فلا تستطيع الدبابات التوغل في هذا الحطام ..
وأشار بيده الى البيوت المهدمة التي سدت الطريق إلى الحارة ..
قال (أبو الهيثم) في ألم :
- هذه آخر الحصون المتبقية يجب أن نوقفهم وإلا خسرنا كل شيء .
قال الرجل :-
- أنت قلتها وعلمتها لنا أبا الهيثم .. سننتصر بإذن الله .
قال (أبو الهيثم) :-
- فقط أطلب منكم أن تتركوا لي قائدهم رصاصتي الأخيرة سأفرغها في رأسه .
قال الرجل :-
- لك هذا أبا الهيثم .
أطلق أحد الرجال صيحة مميزة فصمتوا جميعاً .. وربضوا يراقبون القوة الخاصة التي أخذت تنتشر في المكان وجنودها يتلفتون حولهم ، ويرتجفون .
همس (أبو الهيثم) :-
- رصاصتي الأولى ستكون إشارة البدء .
صوب بندقيته القديمة نحو الجنود وركز فوهتها نحو رأس قائد الوحدة ، وداعبت أصابعه الزناد ، لكن صرخة من أحد الجنود أوقفته ، إذ استدار الجنود نحو الجهة المقابلة وصوبوا أسلحتهم نحو طفلٍ صغيرٍ ظهر من بين بقايا منزل مواجه .
كان الطفل يقترب ببطيء وذراعاه ترتفعان فوق رأسه .. والجنود تتوتر أيديهم فوق أسلحتهم .
صرخ الجنود في الطفل فصاح في فزع :-
- أنا …..أنا أعرف معلومات عن قائد المقاومة .
تمتم أحد الجنود :-
- أبو الهيثم
سرت همهمته بين الجنود وانتشر اسم أبو الهيثم حتى وصل إلى القائد الذي صاح في الطفل:-
- هل تعرف مكان أبو الهيثم …
أومأ الطفل برأسه إيجابا أن نعم …
فقال القائد :-
- اقترب يا فتى .
اقترب الطفل حتى أصبح أمامه …
فقال القائد :-
- لماذا تبلغ عن مكانه .
- حتى تمنحوني بعض الطعام فلم أعرف طعم الأكل منذ ثلاثة أيام وقد نفذ الطعام والمؤن .
قال القائد :-
- أحسنت يا فتى ، ماذا تعرف عن أبو الهيثم .
قال الفتى وقد أطلت الجنة من عينيه :
- أنه أبي .
وبسرعة البرق هبطت يده لتضغط زراً في حزامه … فانقض الانفجار عليهم ليضيء عتمة الليل البهيم .
ظهر الرجال من مكامنهم … وصاح أحدهم بصوتٍ كالرعد :-
- سبقك ولدك يا أبا الهيثم .
رفع أبو الهيثم سلاحه عالياً .. غير آبه بالطائرات التي تحلق فوقه استعداداً لقصفهم .
ألقى نظرة أخيرة على أشلاء ولده التي اختلطت بأشلاء المحتلين …
وصرخ بكل مشاعره المعتملة في صدره :-
- انتصرنا يا رجال .
وارتفعت صيحته في سماء المخيم .
********************************
يناير 2004
- نفذت رصاصات الرجال .
كان لعبارته دوي القنبلة في الوجوه الصارمة المتحفزة …
كصاعقة هبطت على الرؤوس فتجهمت واستحال لونها أحمر كلون الدم الذي يلوث الموجودات … ولأن الظلام كان يغطي كل شيء من حولهم فلم يكن بالإمكان رؤية القشعريرة التي زحفت فوق جلودهم … أو الذهول الذي سيطر على حواسهم ، أو الألم الذي تبدى في محياهم ..
تنحنح أحد الرجال قاطعاً الصمت المطبق على المكان ، وقال :-
- أنا تبقت معي رصاصتان .
وقال آخر :-
- أنا تبقت معي ثلاث رصاصات ..
وقال القائد :-
- وأنا رصاصة واحدة
أما باقي الرجال فقد صمتوا ووضعوا سلاحهم جانباً ..
دار (أبو الهيثم) بنظره في وجوه الرجال وقال :-
- ثقتي بالله تخبرني أننا لمنتصرون ..
قال أحدهم في تردد :-
- لقد نفذ الطعام .
- تعودنا طعم العلقم وأحببنا مذاق الزعتر واستسغنا طعم مياه الأمطار ، يمكننا أن نصمد أكثر.
قال آخر :-
- نفذت رصاصاتنا .
قال (أبو الهيثم) :-
- لكن عزيمتنا لم تنفذ بعد ، وإيماننا لم ينفذ بعد ، وثقتنا بالله لن تنفذ أبداً .ليس المهم أن نخرجهم ، يكفي أن نعيقهم قليلاً ، أن نخيفهم فلا ينالوا من المخيم إلا فوق جثثنا ..
أخبركم يا رجال أننا بإذن الله لمنتصرون .
وكأن لعبارته وقع السحر على نفوسهم ..فقد دبت الحياة في الأجساد المنهكة ..
واستحال اليأس أملاً ..فاعتدل الرجال ، لملموا أسمالهم وسلاحهم وانطلقوا نحو الرصاص الذي يزأر في الخارج .
(2)
عند أطراف المخيم كانت الدبابات في كل مكان ، تحيط البيوت وتطوقها وتوجه مدافعها نحو المنازل التي انهارت وفوق بقاياها تزحف جرافاتهم ..
صرخات النساء والأطفال تمزق سكون الليل …
أطفال فقدوا آباءهم في خضم المعركة ... نساءٍ وجدن أنفسهن دون مأوى أو لباسٍ يقيهن برودة الشتاء .
وبين الأطفال الملتاعين مضى يشق طريقه (هيثم ) ..
عيناه الصغيرتان تدوران في أرجاء المكان .. يعبر فوق مظاريف الرصاص الفارغة فتؤلمه قدماه الحافيتان ، لكنه لا يتأوه … عيناه تعلقت بامرأة جلست في ناصية الشارع …فاندفع يجري …يعبر المسافة بينهما ركضاً يهتف من أعماقه :-
- أمي ….
لكن المرأة ترفع رأسها الذي لوثته الدماء فيقف (هيثم)
يطرق رأسه ويبتعد …
ذهبت أمك يا (هيثم) ….
ذهبت ولن تعود …
انهار فوقها المنزل اثر قصفه …
والموتى لا يعودون يا (هيثم) …
الطيبون منهم للجنات يذهبون ..
تذكر كلمات والده فعصف القهر بكيانه .. والغضب بعروقه ..
لكنه عرف أين يذهب فانطلق يسابق ظله يعدو نحو مصير مجهول ..
(3)
في مكمنهم … ربض الرجال ينتظرون … خلف البيوت المنهارة انتشروا ، تسلحوا بالأسلحة البيضاء وبالهراوات وبما تبقى من رصاصاتٍ أخيرة .
مال أحد الرجال على (أبو الهيثم) وقال :-
- اقتربوا كثيراً فبعد دقائق قليلة ستدخل الحارة وحداتهم الخاصة .. فلا تستطيع الدبابات التوغل في هذا الحطام ..
وأشار بيده الى البيوت المهدمة التي سدت الطريق إلى الحارة ..
قال (أبو الهيثم) في ألم :
- هذه آخر الحصون المتبقية يجب أن نوقفهم وإلا خسرنا كل شيء .
قال الرجل :-
- أنت قلتها وعلمتها لنا أبا الهيثم .. سننتصر بإذن الله .
قال (أبو الهيثم) :-
- فقط أطلب منكم أن تتركوا لي قائدهم رصاصتي الأخيرة سأفرغها في رأسه .
قال الرجل :-
- لك هذا أبا الهيثم .
أطلق أحد الرجال صيحة مميزة فصمتوا جميعاً .. وربضوا يراقبون القوة الخاصة التي أخذت تنتشر في المكان وجنودها يتلفتون حولهم ، ويرتجفون .
همس (أبو الهيثم) :-
- رصاصتي الأولى ستكون إشارة البدء .
صوب بندقيته القديمة نحو الجنود وركز فوهتها نحو رأس قائد الوحدة ، وداعبت أصابعه الزناد ، لكن صرخة من أحد الجنود أوقفته ، إذ استدار الجنود نحو الجهة المقابلة وصوبوا أسلحتهم نحو طفلٍ صغيرٍ ظهر من بين بقايا منزل مواجه .
كان الطفل يقترب ببطيء وذراعاه ترتفعان فوق رأسه .. والجنود تتوتر أيديهم فوق أسلحتهم .
صرخ الجنود في الطفل فصاح في فزع :-
- أنا …..أنا أعرف معلومات عن قائد المقاومة .
تمتم أحد الجنود :-
- أبو الهيثم
سرت همهمته بين الجنود وانتشر اسم أبو الهيثم حتى وصل إلى القائد الذي صاح في الطفل:-
- هل تعرف مكان أبو الهيثم …
أومأ الطفل برأسه إيجابا أن نعم …
فقال القائد :-
- اقترب يا فتى .
اقترب الطفل حتى أصبح أمامه …
فقال القائد :-
- لماذا تبلغ عن مكانه .
- حتى تمنحوني بعض الطعام فلم أعرف طعم الأكل منذ ثلاثة أيام وقد نفذ الطعام والمؤن .
قال القائد :-
- أحسنت يا فتى ، ماذا تعرف عن أبو الهيثم .
قال الفتى وقد أطلت الجنة من عينيه :
- أنه أبي .
وبسرعة البرق هبطت يده لتضغط زراً في حزامه … فانقض الانفجار عليهم ليضيء عتمة الليل البهيم .
ظهر الرجال من مكامنهم … وصاح أحدهم بصوتٍ كالرعد :-
- سبقك ولدك يا أبا الهيثم .
رفع أبو الهيثم سلاحه عالياً .. غير آبه بالطائرات التي تحلق فوقه استعداداً لقصفهم .
ألقى نظرة أخيرة على أشلاء ولده التي اختلطت بأشلاء المحتلين …
وصرخ بكل مشاعره المعتملة في صدره :-
- انتصرنا يا رجال .
وارتفعت صيحته في سماء المخيم .
********************************
يناير 2004
تعليق