استلهام التراث لدى شعراء جنوب مصرأ . د : قرشي عباس دندراوى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمود الأزهري
    عضو أساسي
    • 14-06-2009
    • 593

    استلهام التراث لدى شعراء جنوب مصرأ . د : قرشي عباس دندراوى

    استلهام التراث لدى شعراء جنوب مصرأ . د : قرشي عباس دندراوى
    جامعة جنوب الوادى - آداب قنا

    عديدة هى الدراسات والمؤلفات التى دارت حول قضايا التراث وإشكالية النهضة فى الخطاب العربي المعاصر ، التى كشفت - فى جزء منها - عن حقيقة أزمة المثقف العربي ، وثقافتنا فى ضوء التاريخ ، بل وأهمية الثقافة ، وبوصف الحداثة إعادة تأسيس جديد للتراث (1) .

    وكم من الدراسات والمباحث ، نظرية وتطبيقية ، تلك التى عالجت استلهام التراث أو استدعاءه فى شعرنا العربي الحديث والمعاصر خاصة ، وقد مست التناصات الدينية والأدبية والتاريخية والشعبية فى نصوص المبدعين ابتغاء معرفة جدلية النص المزاح والنص الحال، ومعرفة حركية التفاعلات الثقافية والفكرية ، إحلالاً وإزاحة وترسيباً وتسريباً فى نص المبدع .

    ولقد رأيت أن ألج هذه الدراسة التى تمس أكثر الشعراء وأصحاب النصوص لأول مرة دون تقديم توطئة نظرية حول أهمية استلهام التراث أو تفاعل الذوات " فى نصوص المبدعين ، مفترضين أن النص الأدبي الجنوبي أصبح مجموع أنساق التفاعلات الثقافية والفكرية والاجتماعية الماضوية والحاضرة .

    إن الدراسة تهدف - فى جوهرها - معرفة حجم الخطاب التراثي لدى شعراء الجنوب ، وتلم بقدرة الشاعر الجنوبي فى امتصاص نصه لنصوص دينية وأدبية وتاريخية ، وتجيب على قلق كثير من مجيدى شعراء الجنوب لتحقيق قارىء واستجابة ، مثلما حققها نفر من أبناء الجنوب - على صعيد خارطة الأمة - مثل أمل دنقل .

    وقد اضطرت الدراسة إلى التوسع فى عدد الدواوين الشعرية، التى تجاوزت الخمسين ديواناً ، راعت أن تمثل نتاج الجنوبيين من أسوان إلى أسيوط ،وكان اختيارها اختياراً عشوائياً من مجموع مئات الدواوين الجنوبية المهجورة : عواداً وضيوفاً وضيفاناً .

    ودواوين الدراسة منها ما هو للرائد الذى رضى عنه قدامة بن جعفر أو حتى تلامذة العقاد ، ومنها ما هو للمكابدين والمعروفين من شعراء الجنوب ، ومنها ما هو للذين يتخطون الأدوار الأولى فى ناطحة الشعر العربي التى تُرى وقد اخترقتها طائرات طلبة الفوضى والعولمة.

    إن الدراسة لا تصدر أحكاماً حول تصنيف الشعراء أو معرفة " طبقات فحولتهم " أو "فحولة" " الضّليل " المادية لا الشعرية فيتجه القارىء إلى " علقمة " جديد يحدث فيه لذة النص - بمعناه العام -، ومن ثم يكيل " العنَّين " الاتهام للدهر العربى المفرك!! ، ويتيه فى صحراء العصر مُخدَّراً بسراب حلم ، مردداً طلليته الجديدة " الشعر مات ... العصر عصر الرواية ... الرواية ماتت ... القارىء / المتلقى مات .... حتى بائع تذاكر شباك " غرامه / حمامه " مات .

    ومن نافلة القول فى هذا التصدير نذكر أننا استبعدنا جملة من الأعمال والتجارب الإبداعية ، فضلاً عن جميع أبناء الجنوب الكبار أمثال صلاح عبد الصبور ومحمود حسن اسماعيل ومهران السيد وأمل دنقل ، استبعدنا أعمال " آل النجمى " الشعرية وعلى رأسها أعمال محمد حسن النجمى والد الشاعر والصحفى كمال النجمى الذى كان يلقب على حد تعبير شكيب أرسلان شاعر العروبة والإسلام وقد نال أحد باحثى كلية الآداب بقنا (د. مجدى عبد المجيد) - درجة الدكتوراة فيه، ولا تزال مجلداته الشعرية ، ومعى نسخة مصورة منها ، تنتظر النشر فى حين يقوم قطاع وسط وجنوب الصعيد ، وهو مشكور فيما يقدم،ينشر فى تسعين صفحة ما لا يزيد عن أربعمائة لفظة لفتى من أبناء الوادى الجديد ، الذى حرق كل من عنده " دم "ومن ليس عنده بها وبعنوان " ديوانه " : " حروف ملتهبة ".

    وقد استبعدنا - كذلك - تجربة فتى من قنا أصدر مجموعة من الدواوين ( وائل عبد الوهاب ) لأن الفتى وهو شاعر وباحث نابغة، قد امتص النص العربي القديم، بل وما يجىء غريباً فى ألفاظ العربية إلى الحد الذى طالبه أحد الصحفيين المستنقدين - إن جاز التعبير - أن يترك " عربيته " لكى لا تدهس القراء ..

    واستبعدنا كذلك تجربة كتبها شاعران شابان تحت عنوان " أوقفنا فقلنا " بوصفها نصاً واحداً لهما معاً ، واعرضا عن ذكر اسميهما ( محمد عبد الحميد ، محمود الكريشابي ) من غلاف الديوان ، وتواريا تحت اسم " السموألان " ، بين يدى الكتاب الأول منها ، حيث أن التجربة من الخصوصية والخصوبة والثراء فى استلهام التراث بمكان ، أفسدها تباين المشارب الفنية لكل واحد منهما .

    وقد يلتمس لى الذين لم تأت أعمالهم فى هذه الدراسة ، وقد كان الاختيار عشوائياً كما قلت فإننى وضعت نفسى معهم بما لى من مساهمات شعرية معهم ، أملاً أن نلتقيهم فى مكان آخر يضاف إلى الأماكن الأخرى التى قابلت فيها نفراً من شعراء الصعيد وقد غضب منى أكثرهم .

    (1)

    أ- صورة الجنوب كما يراه شعراؤه :

    درج شعراء الجنوب الرواد ، وجل التقليديين من أبنائهم ، إلى رسم صورة متخيلة حالمة لممر النيل " الثعبانى " الذى يتكدس فيه وحوله وبه أبناء الصعيد ، منتجين صدى من ملامح أفلاطونية لشخصية مكانهم الفاضل وفردوسهم المثال ، أو صورة تتناص بنتاج شعراء الطبيعة القدامى أو بنصوص شعراء " الحضارة الريفية " أمثال الهمشرى من المعاصرين .

    وقد دفعهم إلى ذلك دفعاً ، فضلاً من التأثر بالموروث السابق، إيجاد صورة تستشرف أحلامهم فى إقامة مجتمع ريفى يعادل - نقضاً - هذا الإفراط الشطط الذى أبان عنه الشيخ يوسف " الشربينى "فى كتابه" هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف " .

    ويدفعهم - كذلك - أو يدفع المغتربين عنه خاصة فى أقاليم " شمالية " أو خارج مصر مؤقتاً أو هجرة تمسكهم بالمكان المثال حيث مفردات الصفاء والنقاء والبراءة والنخوة والعادات الحميدة كما نراه - مثلاً - فى دواوين صاحب " الجدول الحالم " ، أو ما يجعل أبا الفضل بدران - مثلاً - يعادل قريته بالمدن العالمية فى أوربا وأمريكا فى قصيدته " من ذاكرة المدن " ، وهى قصيدة عبارة عن فقرات شعرية تحمل كل فقرة عنوان عاصمة أو مدينة عالمية وضع فيها بدران اسم قريته قرينا بـ " بون- باريس- لندن- ونيويورك ... إلخ (2) .

    وقد يتمثل هذا الأمر بوصفه استبكاء على ضياع المكان ( المحلى ) كما نراه عند الشاعر السكندرى ، النوبي الأصل محمد عبد الرحيم إدريس " فى ديوانه " ظلال النخيل " فيكتب - وهو من تلبّس وقريته قصيدته " مصرع نخلة " - القصائد كقصيدته " ربيع القرى " ليهديها إلى " قريته التى لا تشارك القرى فى استقبال عبد الربيع بالخضرة والزهور " وكان ذلك بعد تعلية خزان أسوان الثالثة ، فما باله حين غدت قراهم تتنفس تحت عشرات الأمتار من المياه بعد إنشاء السد العالى الذى أضاعها إلى الأبد ، وأضاع " طائر البتشون " معها فى نظرهم (3)



    ويدفعهم - كذلك - أو يدفع المغتربين عنه خاصة فى أقاليم " شمالية " أو خارج مصر مؤقتاً أو هجرة تمسكهم بالمكان المثال حيث مفردات الصفاء والنقاء والبراءة والنخوة والعادات الحميدة كما نراه - مثلاً - فى دواوين صاحب " الجدول الحالم " ، أو ما يجعل أبا الفضل بدران - مثلاً - يعادل قريته بالمدن العالمية فى أوربا وأمريكا فى قصيدته " من ذاكرة المدن " ، وهى قصيدة عبارة عن فقرات شعرية تحمل كل فقرة عنوان عاصمة أو مدينة عالمية وضع فيها بدران اسم قريته قرينا بـ " بون- باريس- لندن- ونيويورك ... إلخ (2) .

    وقد يتمثل هذا الأمر بوصفه استبكاء على ضياع المكان ( المحلى ) كما نراه عند الشاعر السكندرى ، النوبي الأصل محمد عبد الرحيم إدريس " فى ديوانه " ظلال النخيل " فيكتب - وهو من تلبّس وقريته قصيدته " مصرع نخلة " - القصائد كقصيدته " ربيع القرى " ليهديها إلى " قريته التى لا تشارك القرى فى استقبال عبد الربيع بالخضرة والزهور " وكان ذلك بعد تعلية خزان أسوان الثالثة ، فما باله حين غدت قراهم تتنفس تحت عشرات الأمتار من المياه بعد إنشاء السد العالى الذى أضاعها إلى الأبد ، وأضاع " طائر البتشون " معها فى نظرهم (3) .

    وتشى بعض عناوين الجنوبيين بهذا العالم مثل "نزيف النخيل - ظلال النخيل - ظلال الرؤى - على صفاف البرتقال - مجنون هذا البحر - حكايتى مع القمر - قمر لنافذة الظلام - زهرة الخريف - نبت الحزن - الجدول الحالم - طائر البتشون - خطرات وقطرات - القطرة الأولى من الصبح - النوارس تحكى غربتها - وغداً تحترق النوارس - الحياة فى توابيت الذاكرة - قصائد جنوبية لامرأة لا جنوبية ولا ..... إلخ .

    ما بين صورة مصطفى رجب حينما خاطب طه حسين قائلاً:

    "أتيتك من جنات الصعيد / أفر إليك من الجهل والخوف فراً، فما زال قومى فى الريف يخشون بأس الرغيف / وبأس الطبيب ، وبأس العريف ، وبأس المدرسْ . وما زال شيخ الطريقة يشفى العليل ويروى الغليل ، ويحكى حكايا عن الفيل والنمل والخنفساء ، ومازال قومى حول الربابة ينتفخون ... ". (4)

    وصورة أحمد منصور نفادى فى قصيدته "مراشف الذكرى"



    فهل يا دوح باقية




    مغانينا على العهد





    وهل لا زال متكى الـ




    أليف بمجلس الود





    فأحيانا نرى جمعاً




    وأحيانا أرى وحدى





    أراجع سورة الأعراف




    والأنفال والرعد





    بظل شجيرة قامت




    بعيداً أيا بعد





    هروباً من مشاكسة




    وإقبالاً على الجد





    فسوط الشيخ اللهوب




    وصفعة كفه تردى ...(5)










    وبين صورة الجنوب كما صورها جميل عبد الرحمن مستحثاً أبناء الجنوب بقوله ( انطقوا النيل فيكم وصبوا هديره / اشربوه إلى شعركم ثم لبوا خريره / أرفضوا أن يحاصركم بأسكم فى زنازينه الضارية / اشعلوا الوزن والقافية / واستردوا ملامحكم فالجنوب هو الخصب / الجنوب البقاء البقاء / الجنوب الشعل / الجنوب المثل " .....

    ما بين هذا وبين ذاك ويتشكل المكان من صناعة " عروش التفرد " على حد تعبير عبد الستار سليم ، تلك العروش التى " تصنع بابا من الغانيات .

    وتصنع فوق جبين المعابد .

    تاجاً لوجهين ما استيقظا . (6)

    وربما نام هذان الوجهان فى قطار " محمود مغربي " الكسيح حينما قال / - أيها الفوضوى / أما زال بينى وبينك / ما بين هذا الشمال / وذاك الجنوب / وهذا القطار الكسيح " . (7)

    ترى هل عنى ذلك الفوضوى - وجلهم كذلك - بالقطار الكسيح - إياباً وذهاباً - شعرنا العربي الذى يرتجز - هنا للأسف - بين أعواد القصب ، وبينه .

    وبين تصدير " السكر " مساحات من مرارة الوصول وقدرة من علموا الإنسانية الزراعة بمفهومها الوسيع حقيقة ومجازاً.


    ب- ثقافة الشعراء بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر :

    فى ضوء نتاج الجنوبين الشعرى ، بدءاً من عناوين بعض الدواوين والقصائد والاقتباسات التى وردت فيها والحواشى التى ذيلها الشعراء عليها،يتبين لنا مقدار ما أراد الشعراء الجنوبيون تأكيده من الوقوف على الثقافة العربية ، مسترفدين تراثها الدينى والأدبي والتاريخى والشعبي ، وكذلك التأثر بالثقافة الإنسانية عبر عصورها الممتدة .

    وإذا كان هذا البحث يبَّين حقيقة وعى الشعراء بالتراث العربي ، وقدرتهم على امتصاص نصوصه لتتناص مع نصهم الشعرى فإلى أى مدى كان تأثرهم بروافد الفكر الإنسانى وثقافته وإبداعه ، بل إلى أى حد كان إلمامهم بثقافات الآخر .

    الأمر اللافت للنظر أن كثيراً من الرواد كانوا يجيدون أكثر من لغة غير العربية ، فالشاعر محمد عبد الرحيم إدريس ، يذكر فى ديوانه " ظلال النخيل " أن قصيدته " العودة إلى الموطن " قصيدة ترجمها عن " لا مرتين " وقصيدته " الينبوع " ترجمها عن الشاعر الفرنسي " تيوفيل جوتيه" ، وقصيدة الطفل ترجمها عن الشاعر الفرنسي فيكتور هوجو (8) ، وكذلك يترجم الشاعر محمد عبد العزيز عويضة أشعاراً لشكسبير ، أوردها فى ديوانه الحصار والفرار ، ويكتب أبياتاً عما تسمى محنة " كير كجورد " الفلسوف الوجودى .... (9) ، وغيرهم مما سترى يسترفدون تراث الهندية والصينية أو الأغريقية .

    إلى أى حد مثَّل ذلك نصاً مزاحاً إلى نصهم الحال .؟!

    إلى أى حد يتواجه النص التراثي والمبدع والنص الشعرى أمام القارىء؟!أو أى حد يكون حال النص الشعرى أمام النص التراثي والقارىء؟!هل ترانى حينما أقرأ لأحد شبان الجنوب وهو يقول :
    ( أفلاطون - ابن حزم - طاغور - هل تقبلونى فرداً/ فى مدينة الأغبياء / حذوت حذوكم/ وكنت صدى صوتكم/ والنهاية معتوه مخبون ملعون) (10) .

    أينا المعتوه المخبون الملعون : أ النص الذى رمانا به أم النص الضحية أم الأعلام التى أوردها أم القارىء .. كلا ليس القارىء .. ( لقد نفد بجلده ) .

    ماذا .. لا يمكن أن يتهرب القارىء .. يجب إغراؤه وإحداث " لذة النص" فيه فنقول له مثل هذه النصوص :




    - وأقبل وردة " فان جوخ " الشاحبة

    واستلقى على نيران " نيرودا " ..... (11)

    - شهبية بمعطف " فان جُوخ " قبل مماته . (12)

    وما لنا ، لا نحشوا "، له نصوصنا بنغمات "الزلو" " التانجو" أو أسماء من عينة "أورفيوس، ونرسيس... إلخ".

    ليس فى إيراد اسم " سبارتوكوس " عيب ، فلا شك أن أمل دنقل حقق به اصطياد " اللؤلؤة المستحيلة " فى حين أن الاسم ذاته ورد عند أبناء دنقل لؤلؤة بلاستيكية . لِمَ كان ذلك؟!

    كان ذلك عندما يُعامل بوصفه " بديل الانتحار " وليس " استرزاق " الدولار" ، وحينما كان كلمة طيبة " أصلها ثابت " وليس كلمة خبيثة اجتثها القارىء فما لها من ......

    (2)

    استلهام التراث الدينى :-

    لاشك أن التراث الدينى يمثل - عند أغلب الشعراء - مرجعاً رئيساً يلجأ إليه المبدع ، استدعاء واستلهاماً ، ليشكل بالنص المزاح ، سواء أورده على هيئته أو أعاد بناءه وتفكيكه فى نصه الحال ، جدلية يغدو بها النص الأدبي الأكثر تاثيراً فى المتلقى لما للتراث الدينى من مكانة مثال فى ذاكرة أبناء الأمة ووجدانهم .

    والصعيد مجتمع تشكله صياغاته العقيدية والروحية، وتسيطر عليه وفق ما أشرنا إليه فى معرفة مرجعيات شعراء الجنوب الثقافية ، وكما لم يجد الشاعر الرائد الذى سيأتى ذكره فى مستقبل الصفحات حٍرجاً أن ينادى الفارس المنتظر الذى يحقق العدل أو العالم الذى يشيد العلم بأنه " الـ " جودو المنتظر"، ويجعل عنوان قصيدته مسرحية بريخت المعروفة "فى انتظار جودو"، فهل تراه، وهو ذو خطاب شعرى دينى سلفى ، يسمح - مثلاً للسماح عبد الله حين يقول قصيدته " شهيد " ( ابق عينيك ما بيننا يا قتيلْ / ربما أرق اللهَ ضوؤهما مرة فى سكون السماوات / أو ربما / دلتاه على خطأ هو فى غفلة منه أنشأه فى المجرة ... " ، أو يقول " وتسللت وراء روائحها الغائبة كنبى يتشم رائحة الله / يضلله الله " (13) . أو حتى يتقبل قول الأزهرى ( محمود الأزهرى ) :

    - أوحى إلينا الله فى قرآنه

    كونوا سيوف الحق / أجناد حذرْ

    قوما يمين الله فى أيمانكم بيض الوجوه

    على المحازير صبرْ .

    إن فاز يوماً .. صهيون أشرْ . (14)

    (أ) القرآن الكريم :

    ومن البدهي أن نبدأ أول مصادر التراث الدينى التى استلهمها الشعراء وهو القرآن الكريم ، ومن البدهي - أيضاً - أن نقول أنه ما من ديوان شعرى قديماً وحديثاً ، جاء بلسان عربى مبين أو غير مبين إلا استلهم صاحبه القرآن الكريم أو استدعاه أو اقتبس منه بما جوزه الفقهاء وما لم يجز عند بعضهم على نحو ما وضح القدامى ، ومنهم السيوطى فى كتبه " الجمان " و " الحاوى " و " الاتقان " (15) .

    وقد وضح الشعراء الجنوبيون التقليدون اتخاذهم القرآن مصدراً رئيساً لشعريتهم وشاعريتهم ، على نحو ما يذكر محمد أبو الفتوح - مثلاً :



    - صقلت مواهبى، علّمت نفسى




    أصول الشعر من قلب الكتاب(16)










    ومن ثم فقد وردت بعض أسماء سور فى القرآن الكريم ، كقول درويش الأسيوطى معادلاً لها دلالات التمرد والثورة ( من ترى يقرأ الانشقاق / ويتلو على الكون / من سورة الرعد / أو سورة الزلزلة / إنها البسملة ) (17)

    وما دون ذلك لم يكن لورود أسماء القرآن فى أشعارهم أية دلالة غير دلالتها القرآنية (18).

    وقد كان الرواد والتقليديون من شعراء الجنوب - بالرغم من تدين خطابهم الشعري - أقل الشعراء استلهاماً للقرآن وما جاء عند أكثرهم لا يعدو اقتباساً قرآنياً شرعياً، أى لم يغيروا - غالباً - فى لفظ النص القرآن ودلالته ، وكان أصحاب الشعر الحر ، وخاصة الشبان منهم - أكثر استلهاماً واستدعاءً .

    وباستعراض مجموع الدواوين بين يدينا ، وهى تتجاوز الخمسين ديواناً وعملاً شعرياً ، لم نظفر بما هو متوقع من الشعراء فى تعاطيهم للنص القرآن وإنما جاء الأمر إما اقتباساً ارتضاه المتشددون من الفقهاء القدامى أو اقتباساً أعاد فكه وتغييره واستبدال دلالته القرآنية إلى ما شكل به بنية فى نصه المزاح ، أو اشتهار آيات من سورتين أو ثلاثة سورة من القرآن الكريم تعاطاها أولهم حتى استسقى بها آخرهم ، بحيث مثّل مجموع الآيات أو السور أو الشخصيات المستوحاة من القرآن ما قد يعد صدمة ، وما يؤكد أن مرجعيات الجنوبين عامة تشى - بداية - إلى التعويل على التغذية الوسيطة أو الثقافة العائمة على سطح الأذن .

    ونشير أولاً - إلى أبرز النصوص لدى شعراء الجنوب ، أولها سورة "يوسف" ، فقد تداولها الشعراء مستلهمين شخصية امرأة عزيز مصر بوصفها "الشهد المر " أو خصوبة الأنثى الممكنة / المستحيلة ، ويستدعون شخصية يوسف (ص) بوصفه القادر على تأويل ما نحياه ، والمنشود فى سنوات حكومات الرمادة والمجاعة وخروج بنى يعرب من الزمكان.

    وقد دارت - بدهياً - بعض حقول سورة يوسف اللغوية كالفعل " تراود" على نحو لافت كما فى قول كريمة ثابت:

    - دهراً تراودنى الممالك عن حريقى ....... (19)

    أو كما فى قول " أبو الفضل بدران " مازجاً بين زليخا ومريم !! :

    - السماء التى راودتنى تحن إلى جذع نخلى ...(20)

    أو كما فى قول أشرف الخطيب :

    ويستدعى عبد الستار سليم صاحبى يوسف (ص) وهو يخاطب حبيبته / الوطن ، فيكون هو حين تجيئه ليلاً الذى قال له يوسف اذكرنى عند ربك :

    - حين تجيئين ليلاً

    وحين أراكِ ... أرانى أعصر خمرا .... (22)

    فى حين يتأزم حمدى مهدى إحباطاً فلا يرى نفسه قادراً على دفع ما يعانيه لأن الحياة ألقته فىالجب شيخاً كسيحاً .

    - ليس كيوسف / يأتيه الركب / يوافيه هذى السنين السمانا : (23)

    وتراه غنية عبد الرحمن بوصفها الرؤية/ العطاء نخلة مريم إن هزها العاشق/ الفارس فإنه سينعم بالوصل، وتأبى وتتأبى أن تكون هى البادئة :

    ( فإن هززت / يساقط فى راحتيك الشهد والرطب / ... فما أنا بالتى تقد القميص / من دبر (24) .

    ويرى محمود الأزهرى فيها معنى صوفيا يذكرنا بمعالجة الأدب الفارسي لقصة يوسف :

    ( كم باباً غلقت امرأة عزيز الأرض / فى رأى خمسة أبواب / فى رأى آخر / سبعة / قال التلميذ كلاماً أبهم عنى / فأشار الشيخ / قال : الأبواب لها تفسير مخصوص .... إلخ .... (25) .

    وبينما يستدعيه كل من جميل عبد الرحمن وسعد قليعى وجمال عبد العزيز بدوى وعبد الناصر هلال فى مسحة تناصية هادئة فى هذه الشواهد:



    - قُدَّ القميص على عرى الفتى مزقاً




    إذ غُلَّق الباب ما قالت له استبق (26)










    - جمالك يوسفى السحر ينفذ فى شرايينى ... (27)

    - فليست حبيبة عمرك ( يوسف ) / يطل من الغيب بعد العناء / .... / وكل الشواهد / تقول بأنك واه سقيم / فتصرخ فىّ " فصبر جميل " ... (28)

    - همت سعاد هممت ، هتفت كشفت عنك غطاءك ........ (29)

    يأتى كل من أحمد أمين الشيخ وأحمد عمر باستدعاء شخصية يوسف . ليتناص النص القرآنى مع النص المستدعى إليه ليشكل نصا الشاعرين استلهاماً مقبولاً إن لم يكن جيداً . فيفرد الشيخ قصيدته " يوسف افتنا " وكأن ما بيننا وما بين زمن يوسف عليه السلام قبل أن يعيد عصر الخصوبة لم يكن .

    - أيها الصديق يوسف : افتنا

    نحن نغرق / فى محيطات الجفاف ... إلخ ... (30)

    وجاءت قصيدة أحمد عمر استلهاماً جيداً ورؤية معاصرة ضفرها من لغة سورة يوسف مثل - الشمس - القمر - الكواكب - الجب - القميص ... ويقول فى أولها :

    اقصص رؤياك على إخوتك الموتورين ..... (31)

    حتى ينتهى بالعدول عن هذا .

    حتى ينتهى بالعدول عن هذا .

    وأيضاً ومن السور القرآنية التى تداولها نفر من شعراء الجنوب استلهاماً واستدعاءً واقتباساً سورة (طه)، ومثلما شاع فى السورة السابقة فعل " تراود" تشيع هنا جملة " اخلع نعليك " فيقول أبو الفضل بدران اضطراداً لتفسير المتصوفة أن " النعل " يعنى الذات ، فيخاطب محبوبته فى قصيدته " فيض " ( ها أنا موءود فى عينيك / أتمشى تحت خيامك / أو أتجول بين الرئتين / وأبنى منتجعاً للحزن فذاك مقام الدهشة / فاخلع نعليك تجرد / وألبس رقعة ظلى / هذه السورة / فاسمع ما يوحى" (32) .

    وتراه غنية عبد الرحمن قيساً " العاشق الجمعى أو المهدى المنتظر الذى اختارته ليدخل ملكوتها وقد أعاد الجدب خصوبة والقلق سكينة ، مازجة بين رؤيتى . زليخأ يوسف والذات الألهية التى نادت موسى فى الطور:

    ( إنك قيس / قد فجرت بيدك الصخر / ألهمتهم منذ سنين / ورويت الظمأى / وهديت الحيرى / وأرحت الشيخ المسكين / ولما ارتج الجبل إليك / وقال الشوق لك هيت / حنانيك أخلع نعليك / إنى اخترتك / لتكون ظلال النرجس والتكوين " (33)

    ويقول محمود مغربي مناديا موساه أو مهديه المنتظر :

    - كل هذا الوقت/ تمكث وحدك/ اخلع نعليك/ تناثر/ فى الأشياء حواليك(34)

    وما زال الشعراء يستدعون من سورة (طه) فيقول أحمد مرتضى عبده فى تشكيل مغاير ومدلولات ضافية :

    - (اقتربى منى / إنى آنس ناراً فى الرماد / وحقولاً من الحلم المعطر (35)

    ويورد محمود الأزهرى الآية 84 من السورة فى تضاعيف نصه :

    ( حين جمعنا / قالوا : محمود جاء بمعنى القافية / لا أدرى هل أخطأت بذكر النص ؟! / أم إنى " هم أولاء على أثرى / وعجلت إليك رب لترضى " ! فقدنا" هم " بتفتت "نا" ماذا قال العباس بن الأحنف عن فوز (36)

    وكذلك عبر الناصر هلال أورد الآية رقم 39 من السورة " وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى " فى نصه الشعرى بعد أن غيّر وبّدل فيها ما يلائم رؤيته الشعرية "ليس فى نطفتى / سوى رجل / لذا / ألقيت عليكم محبتى / ودخلت سر المخاص " ( الخروج صـ 84)

    ويضع علاء الدين نفسه مع الخطاب القرآنى فيجعل منها موسى ليوضح لنا عن طريق المفارقة بين " مَنْ ألقى عليه الله محبته وصنعه على عينه وبين إنسان هذا العصر :



    " جئت على قدر يا علاء الدين




    ألا ساءت أيامك سوء ... (37)










    ويفزع أحوالنا عبد الستار سليم حينما يوازى بيننا وبين قوم موسى الذين أغضبوا موسى : " مازلنا حول العجل الجسد نصلى " (38) مستدعياً إياه من النص القرآنى (88 طه ، 148 الأعراف).

    وترى قليعى يقول " وما تلك ؟! قال هى الخيل تركض نحو التقهقر / نحو الإياب " (39) من ( وما تلك بيمينك يا موسى - 17 طه ) .

    وسيطول بنا الأمر لو تتبعنا انتشار آيات معينة عند شعراء الجنوب مثل "تبت يدا " أو " مغتسل بارد وشراب " أو " لعلك باخع نفسك " " سآوى إلى جبل يعصمنى " أو " ويعرف المجرمون بسيماهم " أو " فاضرب بعصاك البحر " ولا تفسير إلا التغذية الوسيطة ، والاكتفاء - أو يكاد- بمعرفة بعض ما عرفه سابقوهم واستلهموه شعرياً.

    ويتبقى أن نشير إلى ظاهرتين فى استخدام شعراء الجنوب الشبان للنص القرآنى من خلال رؤية مغايرة ، يحاكون فيها هندسة النص القرآنى اللغوية لانتاج دلالات تتباين وتتقاطع مع النص القرآنى ، مؤثرة فى المتلقى عن طريق صدمة المفارقة ، فيقول محمود الأزهرى فى قصيدته " نبوءة " :

    ماذا تعطينا تغريد

    قالت :

    إنا أعطيناك البحر العطشانا.

    وأعطيناك الجبل الملآنا .

    وأعطيناك الكيك الخسرانا .

    كانت تغريد معجزة فى اللغة

    إذ يتحرك فى فمها الحرف الساكن .... إلخ (40)

    ويبين محمد عبد الظاهر الذين كرسوا فى وجدان الأمة المثل القائل " إن لقيتهم بيعبدو العجل حش وارميله " فيستدعى من فاتحة القرآن عبودية الله إلى عبودية الحاكم / العجل ( أبيس الفرعونى ) ، فيقول :

    - ( وقت الظهيرة فى الدجى / يترسم النساك فيه / نشيدهم : / إياك نعبد يا " أبيس " زماننا / والحمد لك / وبك الهدى " (41)

    ويتلقط أبو الفضل بدران من سورة عبس (آية 31) ومن سورة النور آية 35) ليقدم فرحه الذى هو أشبه بمعنى " أبَّا " فى قوله تعالى " فاكهة وأبا " عند عمر بن الخطاب فيقول " لكنى أؤمن أن الفرح تشكل زيتونا / والزيتون توالد فاكهة / والفاكهة احترقت أبا / وضباب قد لف الناحية الشرقية لا الغربية " (42)

    ويلجأ شعراء الجنوب إلى استدعاء النظم اللغوية للنص القرآنى ، وخاصة القسم الذى يدخل على الجمل القصيرة المتوازية التى تؤدى الفواصل دورها فى التوظيف الدلالى ليتناص هذا النسق مع رؤيتهم الشعرية، ويتسرب فى ذاكرة المتلقى ونكتفى - لضيق المساحة مشاهدين :

    كما يقول عزت الطيرى :

    والبلبل إذ يحزن ، والبدر إذا أذعن، لأوامر عينها/ فتمسكن / والعصفور إذا صوصو / إذ يخرج من رحمة رحم البيض إخلال الجو / أن سوف ترينا ، مملكة بادت، وبلاداً عادت ، وحدائق من زمن غابت / وفواكه لم ترها عين " (43) .

    وقد قال محمد أبو دومة :

    - والوجه إذا هش ، وعسل العينين وما قدّس ، والأنف النقش ، وفمها البرعم إما يهمس ، والغمزة فى نون المشمش ، والجيد الأملس ، والرمان إذا وشوش ، وأنامل تتوقى دغدغة اللمس ، وخصر غلبته النشوة داعب طيات الثوب السندس ، وقلب القلب وما وسوس ، ما حاد وما غش(44) .

    3- ولا ضير ( ضير ) - أذن أن تقول كريمة ثابت :

    - والشاى الداكن/ لأعيدن إلى الأوراد طفولة ليل مسكون بدمائى. وجلالك/ لتموتن وأحيا/ قداسا عضاً(45)


    (ب) استلهام الأحاديث النبوية :

    - مكانك فوق النجم يا أيها النبي .

    لو قرأ أحدنا نصف هذا البيت السابق ما خالطه ظن أن الشاعر لا يمدح إلا الرسول r ، بيد أن شاعرنا الرائد يكمل صدر مطلع بائيته بهذا العَجُز :

    ..... وليس إلى درج صغير بمكتب .

    إذ أننا إزاء قصيدة قالها الشاعر فى ابن عمه حينما رقى ناظراً لإحدى المدارس ، وحجة الشاعر الرائد أنه جعل عنوانها " ورثة الأنبياء " (46)، بوصف ابن عمه عالماً و " العلماء ورثة الأنبياء كما جاء فى الحديث النبوي (47) .

    ولقد وجد شعراء الجنوب - شأنهم شأن شعراء المسلمين - فى أحاديث النبي صلوات الله وسلامة عليه وفى شخصه صلى عليه الله استلهاماً واستدعاءً واقتباساً ، فقد استلهم غير شاعر جنوبي شخصية الرسول التى بقيت محاطة بالحذر عند استدعاء الشعراء إياها ، فاستخدموها فى دلالات محددة حيث الرسول يحظى بأكبر قدر من القداسة فى نفوس الأمة " (48) .




    وقد استلهم درويش الأسيوطى شخصية الرسول فى قصيدته " إلى سيدى محمد " بسبب اغترابه عن الحاضر الذى فقد الإنسان فيه قيمته وسادت العصبية والتفرقة ( ... ولم نعد خير أمة / إذ دهانا أرذل الناس / فى الزمان الهوان / واستبحنا دماءنا واستحلت / بفتاوى الغوغاء والكهان / وعدونا بكل واد سبايا / وحشايا بمجلس السلطان ) مشيراً إلى الحديث النبوي " توشك أن تتداعى عليكم الأمم " ( 49 ) .

    ويتقرب شعراء الجنوب إلى الرسول فترى منهم من يصدر قصيدته بحديث الرسول r " اللهم حاسبنى فيما أملك ولا تحاسبنى فيما لا أملك " ليجد فى حديث الرسول r مسوغاً لما جاء فى قصيدته ذات البعد العاطفى الذاتى وعنوانها " ليتنى أملك الحب " (50) . ونجد آخر (51) يكتب عن رؤيته الرسول فى المنام :



    فأنت شفيعنا يوم التخلى




    عن الانساب والأحباب طرا .





    رأيتك فى المنام فيا حبيبى




    فداك أبى وأمى وجدا أحرى





    فطلعة أحمد فى النوم حق




    يكلف من رأى حمداً وشكراً.(52)










    ويشتد التناص الحديثى فاعلية فنرى سعد قليعى يقتبس من قول الرسول " زملينى " إلى السيدة خديجة ، رضى الله تعالى عنها ، لتشد من أزره عند نزول القرآن ليخاطب قليعى محبوبته / الوطن بقوله - زملينى

    فقد اتعبتنى الجراح

    - زملينى



    فهذا المساء الجنوبي باردْ . (53)

    وتوسع درويش الأسيوطى من المخاطب المفرد إلى المجموع موضحاً سببية رجائه:

    ( زملونى / زملونى / ليس من برد أتتنى / تلكم الرعدات / لكن من شجونى ) (54).

    ويقتبس عبد الناصر هلال ما رواه ابن اسحاق عن يعقوب عتبة فيما دار بين الرسول r وأبى طالب ... " فقال رسول r : يا عم ، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى ، والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ما تركته ... " (55) فيعادل برسالة محمد r رسالته هو فيقول فى قصيدته " رسالة "

    - ولو وضعوا الشمى بكفى .

    والقمر يعرج تحت قميصى

    لن أتخير إلاكِ

    عيناك رسالة ربي .... (56)

    ويقول - عيناك لغة / صلوات خمس / الأولى : خيط مربوط بالجرح / الثانية : أشهد : عيناها الزرقاوان / الثالثة : تيمن / الرابعة : تهدج / الخامسة : قيامة / فلذلك/ لن أتخير إلاك/ حتى .... !/ أو أهلك دونك" (57).

    ويستدعى مصطفى رجب مجموعة من أحاديث الرسول وخطبه متأثراً بما أحدثه أمل دنقل من تناص مع الحديث النبوي " الناس سواء كأسنان المشط" (58) حيث يقول أمل دنقل " الناس سواسيه - فى الذل - كأسنان المشط ".

    ينكسرون - كأسنان المشط

    فى لحية شيخ النفط " (59)

    فيقول مصطفى رجب :

    - إن الناس - كأسنان المشط - سواسيه فى حب النفط .

    - فحب النفط من الإيمان .

    - لا فضل لعربي إلا بالنفط (60)

    وسنضرب صفحاً عن تأثر الشعراء بالأحاديث النبوية التى جاءت تفسيراً لها كقول أمين الشيخ - نحن كالبنيان نبدو ... هكذا قال النبي (61)، أو تأثر الشعراء بعلم الحديث حتى وإن جاء مفارقاً لأصول علم الحديث كقول مصطفى رجب فى قصديته " من خطبة مفقودة لزياد بن أبيه " ماء جاء فى نهايتها " ويروى عن الأحمر بن الأحيمر قال عن الأخضر بن الأخيضر قال عن الأصفر بن الأصيفر قال عن ابن ( المقفع ) قال : إذا جعت كل ... " رواه حسين وقال : حسن ! " (62) .




    (جـ) التراث الصوفى :-

    - أبانا الكريم الذى فى الزمالك .

    أتيتك من جنبات الصعيد .

    أفر إليك من الجهل والخوف فرا .

    فما زال قومى فى الريف يخشون بأس الرغيف .

    وبأس الطبيب وبأس العريف .

    وما زال قومى يعيشون كل كرامات شيخ الطريقة.

    وما زال شيخ الطريقة يشفى العليل ويروى الغليل

    ويحكى حكايا عن الفيل والنمل والخنفساء .

    وما زال قومى حول الربابة ينتفخون

    وتهتز أشداقهم والشوارب حين يريش

    الزناتى سهامةْ

    وما زال قومى حول الضريح يطوفون

    يلتمسون السلامةْ . (63) (مصطفى رجب) .

    من البدهي أن يتأثر شعراء الجنوب بتراث الصوفية الذى وجد فى أرض الجنوب بيئة خصبة لازدهاره وسيادة القطاع اللاواعى فى الذات العربية ، ومن ثم فلا نعدم وجود شعراء جنوبيين يعملون بالتصوف، ويحتلون مراتب عليا فى الطرق الصوفية .

    ولعل محمد أبو دومة - بدهيا - من أشهر شعراء الجنوب تأثراً بالميراث الصوفي الذى ينعكس على عناوين دواوينه وقصائده . يقول فى مرثيته إلى أبيه :

    - تدرى شيخى

    إنى كنت أجهز لك قلبى كل مساء

    أتمناك .. تلبى .. تأتى كى تسكنه

    كى يتباهى فيك

    تطوافك يهجع فيه ... (64)

    - آه .. يا من كنت النور الضارب فى عرصات القلب

    منفرداً بالتيه .. مريدك .. يا شيخى .. صار الآن.

    منفرداً .. منهزماً .

    مفقوداً بين بدايات البسط . ، وحد القبض ... (65)

    ويرى أن ليلاه ليست ككل الليليات فـ :

    " هى ليلى .. توحيدى وشمولى ، والمدخل لى من قبة غفراني ومتابى .. زدنى اللهم بها ولهاً لا تصرفه وزدها بى عشقا لا يبلى ، هى ليلى محياى .. وأنت الأرأف بى منى والأعلم بى تبصرها تبصرنى .. ، تبصرني تبصرها يارب الألفة أنت لليلاى ولى .. وولىّ فأصهرنى فى ليلى واصهرها فىّ " (66) .

    ويتكىء أبو دومة على اللغة فيفجر من خلالها التناصات الصوفية التى تشكل رؤاه الشعرية المعاصرة للعشق والغناء ووحدة الوجود ووحدة الشهود والفيض والنوالة والدوال الطقسيّة للمشهد الصوفي .

    ويستحضر درويش الأسيوطى " الأغنية الشعبية الصوفية " والعملية الطقسية فى حلقات الذكر ، ويمر بها فى النص الشعرى حتى تتعدد الدلالة ما بين استحضار الماضى والتعبير عن مشهدية قلقه ، إذ :

    " سلبت ليلى .. منى العقلا .

    قلت يا ليلى ارحمى القتلى .

    تتراقص فى عين الشيخ الجالس فى صدر الحضرة

    يتحسس مسبحة تفترش الأرض .

    - تتساقط حبات الذكر مع الأوراد ...

    - يا شيخى : قابلنى طيفك فى واق الواق .

    ورأيتك فوق الماء تسير

    - ما معنى السر السارى فى السر ... (67)

    ويخترق محمود الأزهرى " تابو " التراث الصوفي حيث تتصارع قوى الحاضر بالماضى لتشكل مستقبلاً كافكاويا - ما يحجب ذاتك عن هذا الشيخ الرضوانى .

    سوى الأحذية

    عن ذاتك فاطرحها .

    ماذاتك إلا روح قائمة فى المسجد .

    إذا تبدو بالية بين الأحذية .

    فكرت تلمعها بالربع جنيه .. فكرت ....

    - فى المرسى أبى العباسي

    امرأة من قريتنا اصدمت بي .

    - كان المرسى أبو العباس

    يراقبنى والله .... (68)

    ويعادل فتحى عبد السميع " المجذوب " قوى الفقد التى تجتاج ما تبقى لنا أن كان ثمة شى باقيا :

    ( المجذوب الذى ينزل قريتنا / كل كارثة / ويربكها بخطواته المترنحة / وطلاسمه التى ينثرها فوق الرؤوس/ وسرعان ما تحولها الأيام إلى هداهد/ لماذا يتفقدنا هذه المرة/ بخطوات حادة/ودون أن ينبس بحرف واحد " (69)


    (د) التراث اليهودى والمسيحى :

    يمثل التراث اليهودى والمسيحى ( الكتاب المقدس خاصة ) للشعراء المعاصرين - عامة - مخزوناً تراثياً إنسانياً ، يستدعونه فى قصائدهم،ويشكلون به بعض أيقونات رؤاهم الشعرية أو يتدون به بنى خطابهم الشعرى ، والأمر اللافت للقلق ، وهو يمثل خللاً بيَّناً يتحتَّم على الدولة ومؤسساتها دراسته وعلاجه هو هذا الانحسار الفادح فى أعداد الشعراء ( الأقباط ) فى مصر عامة والجنوب خاصة على خلاف ما كان ما عليه الأمر منذ عدة عقود(70) .

    ويمكن الزعم أن التراث اليهودى والمسيحى لم يكن يمثل حيزاً فى شعر "الرواد الجنوبين " ، ومن سار على هداهم من أبنائهم وحفدتهم ، فعلى حين اعتصم جل الرواد بالدين الإسلامي ، جاعلين نظمهم " خطاب موعظة ، وتفسير آية " ، ومشيدين به فى كل صغيرة وصغيرة ، واتخذ بعضهم شيئاً من خطابه الشعرى سلاحاً يدافع به عن الإسلام مهاجماً تراث الآخر الدينى والعقيدي، فنرى أحدهم يعنون إحدى قصائده بـ " بينى وبين ملحد " (71) ويكتب شاب قصيدة عنوانها " صلب المسيح " ، كتبها " بعد حوار مع مبشر مصرى قضى فترة فى اليونان ، وطلعها :

    -سخروا وما من زلة لو أدركوا....ما ابتغى من ضربىَ الأمثالا (72)

    والقصيدة نوع من الجدل العقيدى الهش الذى يفتت من عضد أبناء الأرض والتاريخ واللغة والموروث الثقافى ليرتد بنا - فى استدعاء أكثر هشاشة - إلى عصر الاصطراع العقيدى إبان حروب الفرنجة أو ما تسمى فى أدبيات الفكر الغربي " الحروب الصليبية " ، فيتناص الشاعر - من حيث لا يدرى - بمطولة البوصيرى المخرج والمردود فى الرد على النصارى واليهود" (73) ، والتى يقول مطلعها :

    - جاء المسيح من الإله رسولا - فأبى أقل العالمين عقولا .

    وبالرغم من ذلك نرى ( محمد أبو الفتوح ) لا يستنكف وهو ينادى أمة الإسلام التى يجب أن تتخلص من فراعينها أن يقول لشبابها :

    - فأين منكم ( كليم الله ) ينقذنا ... من ساحر خادع جاث إلى وثن (74)

    ذلك المخلص ، المهدى أو الجودو المنتظر سواء أكان موسى أم عيسى أم غيره يراه عبد الستار سليم أمراً مستحيلاً :

    - ماذا لو جاء مسيح الله لإيقاظ الموتى .

    عفواً ساعات اليوم الفائت

    مازلنا حول العجل الجسد نصلى .

    فى استغراق ، نستجدى البركة

    نتمايل مثل دراويش

    فى حلقات الذكر اللارسمى ... (75)

    والطريف - هنا - أن تجد من رواد الجنوب الذى ملأ ديوانه بقصائد مثل " رؤيا أشواق صوفية - الله أكبر - ورثة الأنبياء - دعاء الإحرام ... " يكتب قصيدة يخاطب بها الفارس الذى يحطم دولة الظلم أو العالم الذى "يرى عائداً يضم كتابا" ويعنونها بـ"فى انتظار جودو(76)" فقط هى الثقافة السماعية العمياء بداهة .

    ويمكن الزعم - أيضاً - أن أمل دنقل " ألقى تأثيره الأجلى على شعراء العربية المعاصرين منذ أن كتب سفر التكوين ، وصلاة ... (77) ، ولا شك أن شعراء جنوب مصر كانوا أكثر تأثراً بابن بيئتهم ، فالنص الانجيلى الذى يقول".. أبانا الذى فى السموات، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك... (78) والذى استدعاه أمل للتعبير عن اغترابه فى ظل سيطرة السلطة عن طريق المفارقة ، حيث استبدل لفظة السموات بلفظة المباحث / السلطة (79) حينما قال " أبانا الذى فى المباحث : نحن رعاياك / باق لك الجبروت / وباق لنا الرهبوت ، ...... (80) نرى مصطفى رجب يستبدل ذلك بطه حسين فيكتب قصيدته " إلى طه حسين" (81) قائلاً : "أبانا العظيم الذى فى مغاغة"، وفيها يقول " أبانا العظيم الذى فى مغاغة / دراك دراك فإن البلاغة صارت بغيا/ يراودها الأرذلون ، يخاصرها الأخسرون / فتعظيمُ ثديها يعبثون ، .... " ، وتتطور فقرات القصيدة بأطوار طه حسين العمرية (أبانا العظيم فى فرنسا) ( أبانا الكريم الذى فى الزمالك ) ( أبانا العظيم الذى فى الخلود ) ، وقد كشف فيها رجب عن ثقافة الصعيد ومرجعياته على نحو مفجع كما مر فيما سبق .

    فلا تثريب - بالتأثر الدنقلى - أن تنتشر ألفاظ مثل " مزامير " سواء على مستوى الدواوين كديوان عبد الستار سليم " مزامير العصر الخلفى " والذى يشكل به ضفيرة من التشكلات والاستدعاءات التي يبنى به رؤاه الشعرية ، وتنتشر اللفظة على مستوى القصائد والقطع الشعرية ، وكذلك ألفاظ من قبيل " الأسفار - تراتيل - آيات - العهد القديم " وجل ورود هذه الألفاظ يجىء منبتاً لا علاقة له بالأصل غير أقحام الألفاظ اقحاماً (82) .

    وقد وجد شعراء الجنوب ( ما بعد السبعينات ) فى التراث اليهودى والمسيحى ما يشدون به عضد بنى قصائدهم استلهاماً واستدعاء وتناصا ، فعلى حين يستدعى أبو الفضل بدران من النص التوراتى ( سفر التكوين ): "وسمعا - أى حواء وآدم - صوت الرب ماشياً فى الجنة عند هبوب ريح النهار،فاختباً آدم وامرأته من وجه الرب الإله فى وسط شجرة الجنة ، فنادى الرب الإله آدم ، وقال له أين أنت " ؟! ، فقال : سمعت صوتك فى الجنة فخشيت لأنى عريان فاختبأت .... " (83) . يقول بدران مخاطباً حبيبته فى قصيدته "نقوش على جذوع الغابة " :

    - هل تعدو تلك اللحظة ذكرى .

    دقائق من ماضى ينسى

    والله تجلى فى أثواب الغابة .

    كى يسمع وقع الأقدام على الأعشاب .

    تلامس كتفينا ... الخ (84) .

    يستدعى محمود مغربي - فى بعد قومى - بدء التكوين - فى البدء كان الكلمة " ليعادل بها - مزجاً بتاريخه المصرى القديم - الحجر الفلسطينى ، فيبدأ تحية للمقاومة الفلسطينية :

    - فى البدء كان الحجر

    قدس الأقداس ... (85)

    فى حين نرى جميل عبد الرحمن يكتب قصديته " صفحات من مذكرات يحى " - فى ديوانه " ابتسامة فى زمن البكاء " فيستخدم شخصية يحى رمزاً للطهر الذى يقاوم الغواية والشر ، وسالومى رمزاً للخيانة والغواية ، وقد استخدم الشاعر فى عرض رؤيته تقنيات المسرح من حوار وشخصيات أماكن وصراع ونهاية " (86) .

    ويمزج أحد الشعراء الشبان بين " السامرى - ويهوذا - واليزيد
    ( ابن معاوية ) مع سالومى وكربلاء والمسيح والحسين وسيد الشهداء وما يعانيه المبدع من صراع فى دولة " قمعستان " على حد تعبير نزار . ، يقول أحمد مصطفى فى قصيدته . لقمان يحذر " :

    - احذر يا بنى / أن تكتب عن الليل وأتباعه

    فالسامرى ويهوذا واليزيد مع سالومى فى كربلاء يرقصون .

    آه يابن العذراء آه يا معمدان ... آه يا سيد الشهداء.

    لم ترهبهم - توارة - إنجيل - قرآن .

    - إن تفعل يا بنى تهان / تصلب على أقلامك ...(87)

    ويلجأ محمود الأزهرى إلى اقتباس النص الأنجيلى الذى يقول " اقتسموا ثيابي بينهم ، وعلى لباسى ألقوا قرعة " (88) فيقول فى قصيدته " تلك الساعة " .

    لكن قال التلميذ الطيب :

    ثوبى يقتسمون

    وقميصى يقترعون عليه " (89)

    وتعد كريمة ثابت من أظهر الأصوات الشابة فى جنوب مصر تأثراً بالموروث اليهودى والمسيحى فتقول فى ديوانها " أسفار امرأة فى جيب قميص " :

    - حزنان من أجلى الرب .

    - سيأمر كل ملائكة الغيث بإغراق بوارى .

    سيقيم بعيداً فى الآفاق العلوية عرسى ... (90)

    - الرب عليم يقرونى كل مساء

    يتحرى كل خطيئاتى .... (91)

    وتقول - من أهَّلك طفلاً / إلهىَّ الخصال / هل يستطيع الرب أن يجتثنى من مفرادتك (92) . وتقول فى القصيدة التى يحمل الديوان عنوانها فى سفر الدهشة "

    ( أنا لحبيبى وإلىَّ اشتياقه )

    فبماذا عَّباك نشيد الإنشاد " . (93)

    وتقول . كان الرب يجادلنى فيك فأقصينى عنى

    والرب يجىء فيزرعنى ألقاً ... (94)

    وتقول مستدعية رقصة سالومى

    - أحياناً / تخطر لى / أن أرقص عارية فوق رفاتك (95)

    وكذلك نجد قدراً من اشكال التناص مع الخطاب الانجيلى عند علاء الدين رمضان فى ديوانه: ديوان المتتاليات على نحو ما أشار أحد الباحثين(96) .

    (3)

    استلهام التراث الأدبي :

    من المفترض أن يمثل التراث الأدبي . بمفهومه الوسيع - حوزة فنية ومرجعية بارزة لشعراء الجنوب ، شأنهم شأن شعراء العربية ؛ قدامى ومحدثين ومعاصرين، حيث يؤدى استدعاء النص التراثي القدرة على الإيحاء والتأثير بما للنص التراثي من مكانة فى ذاكرة أبناء الأمة ووجدانهم .

    ولا نريد - بداية - أن نصدر أحكاماً قد تبدو قاسية بشأن معرفة شعراء الجنوب بالتراث الأدبي ، وقدرتهم على استلهامه والتناص معه ، ولقد رأينا من شعراء الجنوب المجيدين من يجعل عنوان أحد دواوينه يحمل قدرته على استدعاء شاعر ثراثي مثلما فعل مصطفى رجب فى ديوانه " اعتراف جديد لابن أبي ربيعة " بل ومن شبيبة الشعراء مثل أحمد سعيد مصطفى فى ديوانه " صرخة أبى العلاء " .

    سنلم بخريطة التراث الأدبي لدى شعراء الجنوب وفق حدودها السياسية، مبينين قدرتهم على امتصاص النصوص التراثية أو استدعاء الشخصيات الأدبية ، ومما نشير إليه - مسبقاً - أن طائفة من الشعراء جعلت من أشعارها تراثاً أدبياً تستدعيه مرة أخرى أو تستنسخه على نحو فج ممجوح.

    باستثناء نفر قليل جداً من شعراء الجنوب أعرض أبناء الجنوب عن التراث الأدبي الجاهلى ، وربما كان جميل عبد الرحمن من أبرز شعراء الجنوب تطلعاً إلى التراث الأدبي وتنوع مصادره ، ففى ديوانه " ابتسامة فى زمن البكاء" اعتمدت أهم قصائده - كما وضح مراد مبروك - على التناص الأدبي مثل الزير سالم يبحث عن شاطىء ، من أقوال تأبط شرا ، وصية الزباء الأخيرة " ، فيكون النص عنده بمثابة الخطاب الخاضع لقوانين طبيعته المادية،فهو لا يعكس التاريخ أو النص الأدبي الجاهلى لكن هذه الأنماط جميعها مضمنة فى النص على مستوى الدال ، وبالتالى يكون الخطاب الشعرى نتاجاً لهذه الأنماط " (97) .

    ويتخذ مصطفى رجب فى قصيدته " أبجدية أخرى " من استدعاءات نصوص جاهلية وشخصيات جاهلية إحداث المفارقة التراجيكوميدية جراء ما تقوم به أمة الإسلام مع ( فـ .. لـ .. س .. ط .. ى .. ن ) يقول :

    - الفاء : فرقعة الخطب .

    - واللام : لام الأمر للساقى الأغر

    " فاليوم خمر "

    وغدا له رب يدبره (98) .

    - والياء : " يشرب غيرنا كدراً / ونشرب / إن وردنا الماء / هل ما زال ماء ؟!

    - والنون : نحن إذا الجبابر عندنا خرت لأصغرنا/
    ونحن إذا ابن هند سامنا خسفا / قبلنا يديه

    ويتخد كذلك - من عبارة " قفا نبك " تيمة يلكز بها عجزنا القومى الفادح فيقول :

    ( قفا نبك / ورددها وراء الهالك الضلّيل آلاف من العرب / قفا نبك/وهذى عبلة العربية بين السبى والهتك / وهذا عنتر العربى مسترخ /يعب الخمر فى بله / يعربد فى مرابعنا / ويحكى عن مكارم جده العبسى يحكى قصة الأفك/قفا نبك/وهذا عنتر العربى/من درك إلى درك)(99).

    وقد عمد مصطفى رجب إلى الاقتباس من شعر النابغة فى قصيدته " من ليالى النابغة " (100) إلى الحد المفرط الذى شتَّت رؤيته الشعرية فسقطت بين بين.

    وما بين ملامسة " الرواد " للتراث الجاهلى دون فاعلية فنية تذكر ، مثل قول عبد المجيد محمد طه فى قصيدته " نصيحة " ومطلعها :
    أرح فؤادك لاحب ولا نصب

    والعب فإن جميع الناس قد لعبوا
    يقول فيها :
    " ودع أميمة إن الركب مرتحل
    ولا تظنن أن الناس تنتحب

    يا ضيعة القلب لو كانت لواعجه

    لكل كتكوتة بالحسن تصطخب (101)

    وما بين تهكم " كريمة ثابت " - مثلاً - فى قولها :

    - راحت " تزوَّغ " من ثرثرات المحاضر

    حين يسائلها عن قصيدة ( عمرو بن كلثوم ) .

    تمرق من شفتيها قصديتك الرائعة (102) .

    تبين لنا اتخاذ شعراء الجنوب - سوى المجيدين منهم - التراث الجاهلى تراثاً مهجوراً ، ولم يكن العصر الإسلامي والأموى لدى شعراء الجنوب إلا وعاء مهشماً باستثناء مصطفى رجب الذى استدعى شخصية عمر بن أبى ربيعة فى قصيدته "اعتراف جديد لابن أبي ربيعة"(103) واقتبس مطلع قصيدته " ليت هندا أنجزتنا ما تعد " وختمها بقوله " كلما قلت متى موعدنا " ، وكذلك ما أورده فى قصيدته "من خطبة مفقودة لزياد بن أبيه" (104) دون ذلك مما أورده الشعراء عرضاً من أسماء شعراء أو ألقاب قصائدهم ( الأخطل - بانت سعاد ..) (105) لم يكن وعى شعراء الجنوب بهذا التراث إلا ثراثاً غائباً ودعك مما يدعيه أحدهم بقوله :
    حسان جدى والكميت أعزنى
    بقريض شعر ماله نقصان
    حسان جدى والكميت أعزنى
    بقريض شعر ماله نقصان
    وجرير عمى والفرزدق مبتغى

    فن الهجاء لقومنا تفنان
    خنساء أختى يا فتاتى فاعلمى

    ذاك القصيد إلىَّ والأوزان(106)

    ولم يكن نصيب التراث العباسي والأندلسي أفضل من سابقه إلا قليلاً،فلم يجد شعراء الجنوب من شعر بشار بن برد إلا قوله :
    أذنى لبعض الحى عاشقة
    والأذن تعشق قبل العين أحيانا
    فأورده محمد أبو الفتوح على هذا النحو :

    قالوا وكـم قاتل للـدر مزدانــا الأذن تعشـق قبـل العيـن أحياناً(107)
    ومحمود بكر هلال فى قصيدته " الأذن تعشق " التى كتبها فى مطربة عربية تعشقها، وفيها يقول الناظم :
    قالوا له : قد سافرت فى بعثة
    قد كانت الأخبار عنها تعلن
    فأصابه ما قد أصاب رصيفه
    فى الحب بشاراً فراح يدندن
    يا قوم أذنى قد أصاب غرامها
    قلبى بمن تغرى العيون وتفتن (108)
    ولم يجدوا فى شعر الشافعى إلا قوله : سافر تجد عوضاً عمن تفارقه " فأوردوه فى نظم كقول عبد الصبور السايح :
    - وذكرت قول الشافعى ومن مضى
    عما يعود من السفر ....(109)

    أو مصطفى رجب فى قصيدته "من مقام الغربة".

    ( قالت وبين حروفها حزن يراوغ وانفعال :

    سافر تجد عوضاً

    فقلت لها : محال

    الله لم يخلق عيونك مرتين !! ....(110)

    ويضمن أحمد منصور نفادى "ولرب نازلة يضيق، ولا تجزع لأحداث الليالى" فيقول ناصحاً " :
    ولا تجزع إذا ما الشر ناب
    نوائبه وأمعن فى دجاه
    لأن وراء ضائقة الليالى
    لكل مقوض فرجاً يراه...(111)
    ولا يجدون من شعر العباس بن الأحنف إلا اسمه(112) ولا من شعر أبى فراس الحمدانى إلا ما ضمنه أحمد الخياط فى قوله :



    إذا الليل أضوانى دهتنى حالة




    وحيرت فى أمرى حنانك يارب(113)










    ولم يكن للمعرى نصيب باستناء ما استدعاه درويش الأسيوطى ( نونية المعرى الشهيرة ) :



    عللانى فإن بيض الأمانى




    فنيت والزمان ليس بفان










    فكتب درويش قصيدته " إلى سيدى محمدr " ومطلعها :



    طلعة الفجر أم ربيع الزمان




    أم مصلاك شحَّ فى وجدانى










    وقال فى نهايتها :



    عللانى فما رفيف الأمانى




    فى الفؤاد المشوق ما أبكانى





    واعذرانى إذا تبدل لحنى




    بعض ما بى تعافه ألحانى(114)










    وقد ذكّرنا عجز البيت الأخير برائحة المتنبي الذى ضاع فى موالد الجنوبيين الشعرية ولما نجد من يعيده كنزار والبردونى ومحمود درويش .

    كذلك ينبغى الإشارة إلى اتكاء كثير من الشعراء على بردة البوصيرى، وهم من الكثرة بمكان عند الشعراء التقليديين ، ونحص بالذكر الشاعر محمد مغربي مكى فى مطولته " فى ظلال البردة " ومحمد أبو الفتوح فى مطولته أيضاً " حلم الطبيب فى مدح الحبيب " وقد أودعها ديوانه " نبع الخير ، والشاعر الرائد : محمود عبد الوهاب الأبنودى والد الشعراء جلال ، وعبد الرحمن ، وكرم برائعته " منحة المنان فى مدح سيد الأكوان " والشاعر رمضان الخطيب والشاعر محمد المعتصم الببلاوى وغيرهم كثير .

    ويعادل جميل عبد الرحمن تعجبه وضجره من أصحاب الجلالات الحاكمة وتعجب الشاعر الأندلسي وضجره من أسماء معتمد معتضد حتى آلت الأندلس إلى إيزابيلا " وأسماء حكامنا وكلاهما أى الأندلسيون وأصحاب الفخامة المعاصرون لا تراهم العين كما قال الشاعر التراثي .



    إنى لأ فتح عينى حين أفتحها




    على كثير ولكن لا أرى أحدا










    يقول جميل عبد الرحمن :

    - وصوت لمعتمد ثم صوت لمعتضد .

    يتهادى خفيفاً كهر يحكى انتفاحاً

    زئير الأسد

    وافتح عينى وما من أحد " (115)

    ومما ينبغى الإشارة إليه - هنا - فضلاً عن سطحية التأثر بالتراث العربي القديم - أمران أولهما استغلاق النص المنتاص منه إلى درجة يتحتم على الناظم أن يعلنه للقارىء كقول حسين منصور :



    وقد أصبحت عندى مثل قوم




    يريدون التدانى لا المفاخر





    فلا يغنون وجداً فى عشيق




    بكى يرجون تنويع المصادر(116)










    يقول المؤلف معلقاً على بيتيه :

    إشارة إلى قول أبى نواس :



    كأنك من بقية آل موسى فهم




    لا يصبرون على طعام واحد










    وقول العباس بن الأحنف :



    يا فوز لم أهجركم لملالة




    حدثت ولا لمقال واش حاسد





    لكننى جربتكم ووجدتكم




    لا تصبرون على طعام واحد










    والثانى - على قلته - زخم التناصات فى الفقرة أو الأبيات الذى يجىء حذلقة كقول سعد قليعى



    إنى عشقتك ، فى شطيك متسع




    لأحمل البحر فى فلك إلى الغرق





    قد القميص على عرى الفتى مزقا




    إذ غلق الباب ما قالت له استبق





    وجاءها تحت جذع الخوف ما خشيت




    وقلت هزى فما هزت ولم تثق





    وأثمر الدمع فى عينيك أغنية




    وجوقة الوهم تزجى الخوف بالفرق





    أمن تذكر جيران بكت لها




    بعثرت عرض الهوى العذرى فى الطرق





    يا نفحة الله فى صدر تؤرقه




    ما أضيق العيش لولا فسحة الورق





    قولى - إذا سأل الأخلال - مرتحل




    ............... (117)










    وينفتح الجنوبيون على التراث الشعرى الحديث ، وكان رواد الجنوب والتقليديون أكثر تأثراً برواد الشعر العربي الحديث ، وكان شعراء القصيدة الجديدة أكثر تأثراً بنزار وأمل ودرويش وأبو سنة حتى رأينا طائفة كبيرة من شعراء ما بعد التسعينات يتأثرون بأندادهم على نحو ما نشير تباعاً ، مؤخرين حكمنا على مساحة التأثر بالتراث الحديث بعد استعراضنا لأصحاب الدواوين التى بين يدى الدراسة .

    ويمكن الزعم أن تأثر الرواد الجنوبيين برواد الشعر الحديث جاء هشاً لا يعدو كونه اقتباساً أو محاكاة أو إفساداً لنصوص تراثية ، فلم تجد من استدعى تراث رب السيف والقلم ( البارودى ) غير عبد الحفيظ النسر " فى قصيدته " وجود غير مرغوب فيه " ، وهى من الشعر " الحلمنتيشى " يجعل مطلعها مطلع بائية البارودى " سواى بتحنان الأغاريد يطرب " يقول فيها :



    فاخص على الدنيا إذا ضاع عزها




    ولم يبق إلا ذلها يتغلبُ





    إذا ذكر الدستور عينى دمعت




    وإن ذكر السطول بطنى تكركبُ





    إذا ما سألتم من خبير وعشرة




    يجيبكم من ذاك طلعت حرببُ





    فسافر إلى لندن وفارق بلادنا




    وجودك فى مصر يذل ويكربُ(118)










    واللافت للنظر أن بعض الرواد مثل صاحب "ثرثرة"(119) ارتكب هذا النمط من الخطاب الشعرى الذى يرتد إلى عصر ازدهاره ( العصر المملوكى ) وقد ورث محمود شوقى أبو ناجى هذا النمط ولم يعرف بغيره .

    وقد وسع الجنوبيون ( الرواد خاصة ) مكانة لتراث شوقى فيجعل الرائد السابق مطلع قصيدة شوقى :



    قولوا له روحى فداه




    هذا التجنى ما مداه










    مطلعاً لقصديته " ذقنا الهوان " (120) ، ويختم قصيدته " إلى الشباب " بشطرة من مطلع قصيدة لشوقى فيقول النسر :



    أيها السادر فى الأرض انتبه




    "ملك القوم من الجو الزماما"(121)










    وكقول " محمد عبد الرحيم أدريس " فى استدعاء قول شوقى " ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً :



    هكذا تؤخذ الحقوق غلاباً




    لم نر الحق يوهب استجداء(122)










    ويحاكى تمام مخلوف " قم للمعلم وفه التبجيلا " ليكتب قصيدته " صرخة معلم " يقول مطلعها :



    قم للمعلم واترك التبجيلا




    كاد المعلم أن يضل سبيلا (123)










    ولا تثريب أن نرى محمد سعيد مصطفى يكتب قصيدته " بصراحة " مصدراً إياها بقوله " ليسمح لى أمير الشعراء أن استعير مطلع رائعته فى تمجيد الأزهر لا ستهل بها هذه القصيدة الساخرة " :



    قم فى فم الدنيا وحى الأزهرا




    وانثر على سمع الزمان الجوهرا





    لمعلم مل الزمان ( حكايته )




    سمع المشايخ كالصخور تحجرا(124)










    إلى آخر ما قاله عما وصل إليه المعلم من حال مزرية .

    ولم يُعرف الجارم إلا فى قول أحمد الخياط :



    عيناك قد ملكت زمام صبابتى




    والخير كل الخير فى ثناك (125)










    والشطرة الأولى مأخوذة من قصيدة الجارم : مالى فتنت بلحظك الفتاك " التى أخذها هو بدوره حينما حاكى قصيدة شوقى " يا جارة الوادى طربت وعادنى ** ما يشبه الأحلام من ذكراك " " وجاره الوادى " نراها عند أحمد الخياط نفسه فى قصيدة مطلعها :



    يا جارة الوادى الخصيب تعالى




    أتلو عليك صحائف الأفعال(126)










    ولم نر لمحمود طه إلا اقتباس محمد عبد الظاهر من قصيدة طه التى تغنى بها محمد عبد الوهاب ( أخى جاوز الظالمون المدى ) ، يقول عبد الظاهر فى نَفَس شابىًّ :



    فجرَّدْ حسامك من غمده




    تر العالمين له تأتمرْ (127)










    وبمناسبة ذكر الثاني نذكر أن مصطفى رجب استدعى رائية الشابى وجعلها تتناص مع نصه تقاطعاً نوَّع به دلالة النص يقول : " وقال أبو القاسم التونسى : إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يتغطى ، ولابد أن يتمطى ، ولابد لليل أن يتجلى ، غير أنى أقول ولابد لليل أن يستمر لئلا يموت اللصوص ، لئلا تموت الخفافيش ، لابد لليل أن يستمر لكى يتمتع فيه المحبون والعاشقون بضوء القمر"(128)

    ولم يغب ناجى عن ذاكرة الجنوبيين ، لكنه حضور- شأن حضور غيره - كالغياب ، فانظر إلى أى حد بلغت فيه قدرة الجنوبي على استلهام قصيدتى ناجى ، وما أذاعته غناءً أم كلثوم مثل قول أحدهم :



    كلما أفرغت كأسى قال خذ




    واملأ الكاسات يعلوها الحبابْ





    واسقنى واشرب فما أبغى سوى




    أن أعيش العمر نهباً وانتهابْ (129)










    وكأن الجنوبيين لم يعرفوا من شعر هاشم الرفاعى إلا قصيدته " رسالة فى ليلة التنفيذ " ، ومطلعها :



    أبتاه ، ماذا قد يخط بنانى




    والحبل والجلاد منتظران(130)










    فحاكاها نفر منهم كمحمد سعيد مصطفى فى قصيدته (وفروا العبرات شاعر يرثى نفسه " ومطلعها:



    أماه ماذا يكتبون لعانى




    والقبر أضحى مستقر رفاتى(131)










    وعبد المجيد محمد طه فى قصيدته " مأتم " ومطلعها :



    رباه ما حزنى وما سلوانى




    وكلاهما خاف على وجدانى (132)












    ولا شك أن أمل دنقل كان أبرز الشعراء تأثيراً على جل الجنوبيين ، فقد رثاه عدد غير قليل منهم ، وكان هذا التأثير يتمثل فى استلهام رؤاه الشعرية أو بنى قصائده ، فمن حيث استلهام هندسة دنقل اللغوية يستدعى مصطفى رجب نص أمل " صلاة " " أبانا الذى فى السماء باق لك الجبروت ، وباق لنا الملكوت، وباق لمن تحرس الرهبوت .. إلخ " فيأتى رجب ليقول فى صدر قصيدته " فى بلاد العربوت" .. "فى بلاد العربوت/ عش كما شئت ،فيوما - كيف شاءوا - ستموت ، وتحدث كما شئت - إذا أنت التزمت / الواو والتاء وكما تقضى لغات العربوت / الجبروت / الرهبوت / الكهوف / الظلموت / السجنوت / الشنقوت / ولك المجد إذا اخترت السكوت .. " (133)

    ويمتص عبد الرحيم الماسخ قصيدة أمل " الكعكعة الحجرية " ليكتب على منوالها قصيدته " رتاب القرية " وكانت نصاً فجاً هشاً واستدعاء أعمى لنص أمل يقول : دقت الساعة الرابعة / كبر الفجر حتى تهاوت حصون الظلام / وغنت طيور الدعة : / دقت الخامسة / عاد شيخ المصلين ، أعلنت الأرض أبوابها / والغناء السعيد انتهى لمبارزة عابسة / دقت السادسة / طار سبر التلاميذ مبتهجاً بالحياة / .. / دقت السابعة / صارت الأرض مملوءة بالحياة / .. / دقت الثامنة / النساء انتعلن رقائق طينية ... إلخ " (134)

    وكأن ليس لمحمد أبو سنة سوى قصيدته " حمدان " التى حاكاها ورؤية نفر منهم ومنهم أبو الفضل بدران فى قصيدته مرثية شعبان (135) محمد أمين الشيخ فى "أحزان أم عبيد (136) وأشبه ذلك كله بقصيدة أحمد عبد المعطى حجازى " مرثية لاعب سيرك " .

    والمرجح أن الجنوبيين أعرضوا عن شاعر فى منزلة محمود درويش فلم يستدعوا له إلا تيمة " يطير الحمام / يحط الحمام " فى قصيدته " يطير الحمام " فى ديوانه " حصار لمدائح البحر " (137) فيتلقفها نفر من الجنوبيين فنرى محمود الأزهرى يستدعيها فى قصيدة تشابكت فيها تناصات تراثية جيدة وإن جاءت لمحاً خاطفاً مغاضباً " درويشه " :

    - المضلل أنت تغنى .

    " يطير الحمام .. يحط الحمام ..

    فكيف تفكر فى القدس

    كيف تفكر فى شجر يتراقص عند حدود الخيام.(138)

    فى حين اقتبسها محمود مغربى ، وفق قدرة نصه على امتصاص نصوص غيره ، وقد استبدل لفظة الحمام بلفظة الغراب ، يقول :( يطير الغراب / يحط الغراب / الغراب / على شغف الوقت / يدخل شمس الحزانى / بصبح عفى ) . (139)

    ويمثل نزار قبانى - وفق اشتهار شعره نشراً وغناء - مرجعية - بارزة فى وجدان نفر غير قليل من شعراء الجنوب ، وقد صرح أحدهم
    ( حسين محمد منصور ) " أنه من خير المصادر " ، يقول فى رثاء نزار :



    قد تتلمذنا عليه فى صبانا




    بل وحتى اليوم من خير المصادرْ (140)










    وفى القصيدة - بدهيا - إشارات عن بعض دواوين نزار وقصائده .

    ويطول بنا الأمر إذا تتبعنا أثر نزار على الرومانسيين من الجنوبيين، مثل كرم الأبنودى فى قوله ( لأنت الورد والسكر وأنت نكهة العنبر ). (141)

    أو قول دسوقى عبد الموجود :



    ما بين جنون أعشقه




    أو صمت عذب فاختارى(142)










    - أخرجت دفاتر أشعارى

    مزقت حقائب أسرارى .. إلخ.(143)

    ونرى محمد عبد العزيز العسال يعارض مانع سعيد العتيبة أوردَّاً عليه حيث قال العتيبة قصيدة مطلعها :



    ليلى مضت قالوا فماذا نصنع




    قلت البكاء فيما مضى لا يرجع










    وقصيدة العسال تصوفية مطلعها :



    ليلى التى ولت إلينا ترجع




    بل أنها فينا سراج يسطع(144)










    ولم يجد بعض شعراء الجنوب حرجاً أن يذكروا فضل شعراء العامية عليهم مثلما فعل الشاعر : جميل عبد الرحمن فى رثائه للشاعر : حجاج الباى (145)

    ويبقى أن نلفت النظر إلى ظاهرتين فى هذا الأمر أولهما : الانفلات المفرط الذى يقوم به الشعراء الجنوبيون الشبان ، شأنهم شأن أضرابهم فى شمال البلاد فى ذكر أسماء أصدقائهم من الشعراء فى تضاعيف نصوصهم إعلانا لوجودهم فى عصر " نظريات القارىء والتلقى " الغائبة ، وربما سمح مثل هذا الأمر" توارد النصوص " فيما بينهم على نحو ما نراه من امتصاص عبد السميع فى نصه " السمكة الوحيدة " نص السماح عبد الله " خسران



























    من نص السماح ما الذى أجلَّ صيد الملكة / إننى عانيت حال البحر / ورميت الشبكة / صابرا كنت كما يجدر بالصياد / كان طعمى كافيا / هذه الصيدة كانت / آخر المرجو من صيدى جميعاً /هل أنا صرت عجوزاً / أم يداي كلتا / أم شباكى انظروا / إننى / أسحب نفسي / راجعاً من غير صيد / ولا شبك / ولا طعم / كسيرا باهتاً / خاننى البحر / فاعلنت انهزامى وخسرت المعركة. (146)




    من نص فتحى كلهم يرجعون إلى بيوتهم / بصيد ثمين / البحر خاشع أمامى / ماذا ينقضى كى أكون صياداً / سنارتى جيدة / وقاربي متين / لماذا إذن أعود إلى عتمتى/ بلا سمكة الحظ/ ربما/ غير أنهم يصطادون / بلا حظ/ وبلا صبر / وبلا سنارة / وبلا بحر / لماذا لا أريد أن أصدق أننى السمكة الوحيدة / وأنهم لا يفعلون شيئاً / سوى العودة بى إلى بيوتهم كل مساء .(147)










    وثانيهما : جرأة بعض شعراء الجنوب المتمثلة فى جعل نصوصهم مرجعية يستدعونها فى نصوصهم الأخرى ، والحق أن هذا الأمر معروف لدى الباحثين المتخصصين مما يسمى " بالتناص الديوانى " ولكن الأمر هنا لا علاقة له بذلك إلا تذكير القارىء بالنصين ( النص والنص المقتبس ) والقارىء لا يجد لا النصين ولا صاحبهما كقول أحمد مصطفى جاد فى قطعة بعنوان " البلاد " تقول : ( أنا فى مركز الجرح ) / تعانقنى / مسافات ملغمة / ولا أدرى ( متى ينتابنى البحر ) / لأمنحك / أقاليما على الموج " (148) .

    ومن البديهي أن يشير الشاعر فى هامش الصفحة ذاكراً أن ما بين القوسين تضمين من قصيدة أخرى لنفس الشاعر، والاقتباسان من قصيدته "انتظار مالا ينتظر"(149) وليس ثمة مسوغ فنى فى ذلك .

    ويصل هذا الأمر إلى درجة الفجاجة والاستنساخ الممجوج عند أحمد الخياط ، وقد أشار سعد عبد الرحمن فى مقدمة الديوان إلى ذلك بقوله "ويكاد يكون كثير من قصائد الديوان فى مجملها العام نسخاً من بعضها البعض"(150) ، ونقول بل على مستوى القصيدة الواحدة فأول القصائد - مثلاً - تتكون ثلاث فقرات كل فقرة خمسة أبيات ، والحق هى فقرة واحدة ،فالفقرتان الأخريان تكرار ممل للفقرة الأولى ، بغثها وغثها ، وهاك بعض أبياتها الخمسة عشرة بترقيمها المستنتسخ :



    1- إلى ليلى فبلغها السلاما




    ووضح يا نسيم لها الهياما












    6- إلى ليلى فبلغها الودادا




    ووضح كيف جنبت الرقادا





    11- إلى ليلى فبلغها الولاء




    ووضح يا نسيم لها الوفاء





    2- وحدثها حديثا مستفيضاً




    ولا تطل العتاب ولا الملاما





    7- وحدثها حديثاً مستفيضاً




    ولا تطل التنائى والعتابا





    11- وحدثها حديثاً مستفيضاً




    ولا تجلب إلى ليلى العناء





    5- نسيم الصبح لا تبخل عليها




    فحبى قد غدا فرضا لزاما





    10- نسيم الصبح لا تبخل عليها




    فقد ملكت حياتى والفؤادا





    15- نسيم الصبح لا تبخل عليها




    وسق عند الوصول لها الهناء(151)










    وهكذا فى قصائده الأخرى ، بحيث لا تخرج من الديوان إلا ببضعة أبيات أصل ومئات الصور ، وكم من المبدعين الرواد من هم فى قامة النجمى ومن الرواد الأحياء - أطال الله أعمارهم - وهم كثر لا يقلون عن النجمى لا يُعرفون ولا تنشر أعمالهم فى الوقت الذى يطبع فيه مثل هذا الشىء .

    ومن نافلة القول فى مصادر التراث الأدبي الذى يستلهمه شعراء الجنوب ما هو لصيق بذاكرة الوطن ووجدانه من أغان وأناشيد مثل جميل عبد الرحمن فى استدعائه نص " بلادى بلادى " حيث يقول :

    - آه آه يا يا بلادى


    لك حبى وفؤادى
    فى هواك القلب يصحو

    كل صوت للرشاد
    يا بلادى يا بلادى
    لى موتى وعنادى
    لك فخرى وامتدادى
    يا بلادى يا بلادى (152)
    أو استلهام الغناء الشعبى كقول السماح عبد الله :
    - يا بحر يا كذاب
    اكتب على الأبواب
    القلب يملكه
    والروح تطلبه
    لكنه غياب
    يا بحر يا كذاب(153)
    ومن آفة هذه المصادر الغنائية التى تتكىء على مخزون البديع العربى هذه الزوبعات النصية - إن جاز التعبير - التى يرتكبها أحدهم فترى الآخرين يعارضونها سخرية أو يتحذلقون بها تطبيعاً مع من يشار إليهم بالبنان السلطشعرى ، مثلما نرى ما قام به حسن طلب ومعارضات نصار عبد الله،وعزت الطيرى ، أو ما تراه عند محمد أبو دومة فتراه - مثلاً - عند سعد قليعى ، فنقرأ لقليعى - على سبيل التمثيل " أقسم بأقانيم تقاويم كتاب سحاب قباب الليمون / الساكن والمسكون بأطياف الأعراف / الكاف / وتحقيق النون / وبحضرة آلاء جلاء نقاء الأشياء / الموصوفة بالحدس / واللا معرفة بالتحقيق ولا بالحس / أنك ليلى / أبهى ما خلق الخلاق وأحلى / وأنا ألبسنى الله لباس وجودى / لما قد آن أوان استسحان دنو قطافك / قال تدلى ، ليلى بك أولى ، أولى بك ليلى / وتبارك وقت ولوج بروج التعريج بعينى ليلى ، فتجلى - والله تجلى ..... " (154) .
    لمَّ شعراء الجنوب على استحياء بالأمثال الفصحى وضمنوها أشعارهم ، مثل هذه الشواهد :
    فأصبحت يوماً بلا قوتى
    وصار البغاث بأرض خطيب (155)
    قد جاوز السيل الزبى - فتكاثرت
    أشجاننا ما كان إفكا يفترى (156)
    تلك أيامى أراها
    أظهرت ظهر المجن (157)
    ولم يغن عنك قلامة ظفر
    فأنت على الدهر يوم سينم (158)
    ومما يمكن أن يضاف - هنا - ما أورده الجنوبيون عن الأغنية والقصائد التى تغناها المغنون .
    فلم يكن شعراء الجنوب بدعاً عن نظرائهم فى تضمين أو استدعاء أو استلهام التراث الغنائى فى أشعارهم ، وإن لم يكن يمثل ذلك إلا لمحاً ، وقد ضرب الشعراء عن استلهام الموسيقى العربية مكتفين بسيطرة الموسيقى الغربية ، بل الغريب منها على نحو " التانجو " كقول جمال أبو دقة :
    (-لكن الألم أصر / على أن يشبك كفيه بكفى ويراقصنى " التانجو " ) (159)
    أو نغمة " الزلو " كما فى قول علاء الدين رمضان فى ديوانه " غابة الدندنة ! " ( - تنمو حولى/ أشجار / وصلاة / شىء/يشبه نغمات " الزلو"/ حول اللهبْ ) (160)
    حتى وإن وضع عزت الطيرى عنوان أحد دواوينه وهو " عبير الكمنجات"،ولعل محمود درويش أشهر من ردد لفظة " الكمنجات " فى قصديته الشهيرة " أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي .
    ومن جانب آخر لم يكن هناك ذكر الاستدعاء المغنين باستثناء " فيروز" (161) و " صباح " (162) ومطربة بكر هلال التى هام بها عشقا أينما رحلت (163) ومغنية جميل عبد الرحمن الروسية (164) . ومحمد عبد الوهاب الذى رثاه محمد أبو الفتوح بقوله :
    - رحلت قيثارة الحب التى كم أطربتنى .
    عندما رمت ارتشافا من هواها لم أسكرتنى (165) .
    وارتقت بالفن نفسى فانتشى بالحب صدرى
    خلته الآن يغنى " كليوباترا " .. " أنت عمرى "
    يا ترى هل بعده بالفن نرقى ؟ لست أرى (166)
    وعلى استحياء وردت أسماء الأغانى مثل " فات الميعاد " (167) " ضى القناديل " (168) " وطنى الأكبر " (169)
    (4)
    الاستلهام التاريخى :-
    كان لتحولات المجتمع العربي بعد فترة التحرر الوطنى ، صدمة فى وجدان المبدعين عامة ، وما شهده شعراء الجنوب أصحاب القصيدة الحرة من تردى وتشظى أتيا على مقومات القومية الوطنية والمحلية ، كان لذلك كله الدور الأبرز فى لجوء الشعراء إلى خزائن التراث التاريخى ، يستلهمون شخصياته،ويستدعون أحداثه النضالية والزاهرة ، بل ويتخطون حدود تاريخهم العربي والإسلامي إلى مظان التاريخ الإنسانى عامة ، يسترفدون منه ما يصلح تناصاً يتسرب فى نصهم الشعرى ، فيحقق ما يصبون إليه من تشكلات رؤاهم الشعرية .
    وربما كان أمل دنقل فى استدعائه شخصيات عربية جاهلية فى رائعته " أقوال جديدة من حرب البسوس " ما فتح شهية الشعراء لاستقراء التاريخ العربي الجاهلي وإيجاد نص مزاح إلى النص الحال ، كما فعل جميل عبد الرحمن فى قصائده عن "الزباء" و " عنترة "، ومازال جميل يستدعى الشخصيات الإسلامية فى بنى قصائد أخرى له كأبى بكر وخالد والحسين والرشيد والأمين والمأمون وصقر قريش ، ويستدعى أماكن يثير ذكرها الحرقة والمرارة ويدفع بما يسمى "التأثير العكسى" مثل "طليطلة"، "وغرناطة" وتأتى هذه الاستدعاءات سواءً أكانت نصاً كاملاً أم فى نسيج النص على نحو جيد، يقول فى قصيدته إنها القدس ( على سبيل المثال ) مضمنا قول عمر بن الخطاب "يا سارية الجبل الجبل " بوصفه المنذر المعاصر لـ"سارية العرب " مما يلاقيه" جيل أبو غنيم ".
    - إنه الجبل العربي يصرخ يا سارية .
    يا سارية
    ولأصدائه رنة فاجعة
    جبل القدس يصرخ يا سارية
    ولأصدائه رنة موجعة .
    والنداء يعود كسيراً حسيراً .
    لا نغيث ولا نستغاث ............. (170)
    ويقول فى قصيدة اختيار :
    - الفرات يسح دموعا .
    والرشيد تصايح فى قبره
    من سرق السيف منى
    - يسلم أقدارهم لبنى قينقاع الجدد
    أنت خنت سيوف على وخالد والمعتصم (171)
    ويرثى الحسين رضى الله عنه بقصيدة أفرط فيها من خلال ما نسجه الشيعة من أحداث وتفاصيل ينكر شططها التاريخ ، مصوراً الحسين كما هو ضحية الشيعة أنفسهم هذا الإنسان العربي المعاصر الذى هو ضحية حكامه الذين صورهم محمد عبد العزيز العسال بوصفهم من ذكوا الفتنة الكبرى إلى فتنة الأمركة والعولمة والتبعية والاذلال :
    - يا جدى .
    ما زال على ومعاوية يقتتلان
    وقميص .............. (172)
    وقد مثل التراث الفرعونى حيزاً واضحاً كونه مرجعية ثقافية لشعراء الجنوب يجب التأسى بهم ، والاعتذار إليهم مثلما وجه جميل عبد الرحمن " اعتذاراً لمملكة أخميم " (173) ودعك من الرصف اللفظى الذى أصاب الشعراء التقليدين فى استدعاء هذا التاريخ كقول أحدهم :
    أكاد أحسبها إيزيس فى طرب
    وأزوريس إله الخير وافاها
    تكاد تغدو نفرتيتى بروعتها
    وأخناتون كليم الشمس ناجاها
    وحورس بحياة النسل عطرها
    وكف توجت بالتاجين حلاها
    وها هى ذى صاحبة التاجين التى تأمركت تراها عند عبد الستار سليم بعد أن قدم لها ما يملك .
    " لعلك ترضين عنى .
    ولكن عروش التفرد
    تصنع بابا من الغانيات
    وتصنع فوق جبين المعابد
    تاجاً لوجهين ما استيقظا (174)
    ويراها أشرف الخطيب ( أيزيس تستبيح دفء مرافىء / وتهب لعينيها صبحاً جديداً / ولشفتيها قيثارة من ندى / أجمع أشيائي / أفتش عن تاج مملكتى / وأنثر على الطرقات لحنها / أيزيس تفجئنى بالرؤى / وبسورة يوسف إذ هم بها / تعلن صمت المآذن ... ، تستحم فى عيون أوزوريس بالسنا" (175)
    ولمصطفى رجب قصيدته " المحاورة الفرعو هامانية " كما لغيره قصائد فى هذا الشأن ، إنه اختلال العدل الذى جاء توطئة للاحتلال القديم والحديث والمعاصر ، أنهم كما يقول طلعت عباس:
    - هكسوس فى كل الأماكن / فى كوب الشاى نرشفهم / نتنفسهم / هناك / على الشواطىء / فى كل الوزارات /فى قصر الرئاسة/ على صفحات الجرائد/ فى طبق الفول...، أبى العظيم هل من أحمس جديد"...(176)
    ومن أين يجىء أحمس ، وطيبة لم تعد لا طِيْبةَ ولا طَيَّبةَ ، وشعراء الجنوب التقليدون ، وخاصة الرواد ارتضوا أن يكونوا بوقاً شعرياً أو ديوان الوقائع لما يصل إلى أسماعهم من إعلام الحكومات المتتالية ، والشعراء الجدد أماتوا القارىء شعراً ، شعر ليس فيه من حنين الأبل إلا طنين الأوبل وربما هو ما عناه حمدى مهدى فى مقولته التى عنوانها " عبث "

    " ها أنا / أقف على الشاطىء / فى مقصلتى / أسخر من كل عبيد الأرض/أسخر منك سبرتاكوس/كيف تهاجم ملك أسبرطة/تكتب لحناً للحرية/دون مداد " (177)
    ترى ما هو مداد الحرية / الشعر الذى نستعيد به .... نستعيد مَنْ ؟! وممِن ؟! ولمن ؟!
    (5)
    التراث الشعبى :-
    كان طبيعاً أن تنتشر مفردات التراث الشعبى عند عدد من شعراء الجنوب الذى نال ما نال من هجوم لدى بعضهم لما جثم على المجتمع فى الصعيد مما حملته الذاكرة منذ قرون بعيدة بحيث قد لا ترى ثمة فرق بيننا وبين القدامى إلا تغيّر الأسمال .
    كان من الطبيعى أن يستحضر الشعراء قصص البطولة كما شكلتها الذاكرة الشعبية ونسجت قوى خارقة لعنترة ، و "أبو زيد الهلالى" و " سيف بن ذى يزن "كما استدعوا أولاً شخصيات مخُلْصة مُخلَّصة كصلاح الدين ومن ثم فلا ترثيب على النجيلى أن يلقب عبد الناصر بـ "أسد النيل" (178).
    ولقد سجل شعراء الجنوب مفردات التراث الشعبى للمجتمع الجنوبى،أفراحه أتراحه ، قصصه ، أغانيه ، عاداته ، طبائعه ،خرافاته،أمراضه الاجتماعية ، أطعمته، سوامره ؛
    ويمكن أن نلتقط من قصيدة لعبد المجيد محمد طه مصوراً فيها حالته بين العلاج الشعبي وفزعه من العلاج الحديث مؤكداً رفضه للحديث لأنه على حد تعبيره " هكذا سار قبل كل جدودى " يقول الناظم :
    " وأخاف " الأمبول والتحقينا

    وأرى كل إبرة سكينا
    ولشرب العقار أمسك أنفى
    وأمج البرشام حتى يلينا
    فقليل الكمون يبرىء بطنى
    وعصير الأبصال يبرىء عينى
    سفَّه القوم إن يزمر صدرى
    نقطة الزيت إن تطبل أذنى
    وإذا خفت من صداع لعين
    رحت أرجو عصابة من عجين
    وإذا أقبل الصداع علينا
    كان كأس الحجام طوع يمينى
    وتسد الجراح قبضة بن
    سر ( يس ) عند مسة جن
    وإذا جالت العقارب فينا
    شرطونى وضمدونى بتبن(179)
    وكم ردد الشعراء " قراءة يس " وتعاويذ الحص الحصين ، والتعلق بالأولياء وبأمراض اجتماعية مثل ضرب الرمل والطالع ، بل والسرقات،وخاصة السرقة داخل المسجد أو أمام الضريح على نحو ما ترى عند " محمود الأزهرى" (180) ومصطفى رجب ، فيقول الأخير - على سبيل المثال :
    - ( من صحن الحضرة صاح غلام :
    سرقوا المركوب ، اغثنى يا شيخى
    اظهر بركاتك ليعود المركوب إلى الراكب .
    قال الشيخ : اجلس يا ولدى .
    ليس عليك جناح فى حضرتنا أن تمشى
    حافى القدمين ويكفيك رضانا .
    فى اليوم السابع ظهر المركوب بقدم
    الشيخ فهبَّ الناس نشاوى يتحضنون
    الشيخ ودار الذكر
    شهدنالك / شهدنالك
    .................... إلخ (181)
    وكذلك بين أبو الفضل بدران دور هؤلاء الأولياء فى الاحتيال على البسطاء يقول :
    - وتجلس مثل النقيب على عتبة المقبرة .
    فيأتى الضحايا .............. (182)
    وقد استلهم الشعراء الأغنية الشعبية ووظفوها فى نسيج نصهم الشعرى حتى وإن جاء هذا الاستلهام، إيراداً حرفياً للنص الشعبى مثل أغنية الأطفال.
    هللى يا مطرة كما عند السماح (183)
    وأغنية "يا طالع الشجرة" كما عند درويش الأسيوطى.(184)
    وقد وظف نفر من شعراء الجنوب قدراً يسيراً من المخزون الشعبى الذى يتردد على ألسنة العوام ، فضمنوا أو استلهموا فى أشعارهم أمثالاً أو تعابير، وبعضها ينحدر من الفصحى ، وجاء بعض هذا التضمين ، والاستدعاء أو التناص موقفاً فى دلالته ، وجاء بعضه تلصيقاً ورصفاً لفظياً ، ولم تلحظ - بالرغم من هذا كله - بصمة الجنوب وخصوصيته الثقافية على النحو الذى يتوقع من الشعراء.
    فنرى مصطفى رجب يستدعى التعبير الشعبي المعروف " فتح عينيك تاكل ملبن " ليختم بها قصيدته " افتتاحيات مفتوحة " ، تحت عنوان " افتتاحية أخيرة " :
    - فتح عينيك وأغمض أخرى
    تاكل ملبن أو
    فلتسكت ........ (185)
    مقدماً - بهذا التعبير محددات شخصية عصر الأنهيارات الشاملة،والمسوغ لبدايته . ومن التعبيرات " الجنوبية " لفظة " الدلدول " ، وهى لفظة فصحيحة تعنى " القنفذ ، والمتردد والذى لا من هؤلاء ولا من هؤلاء " (186) وتعنى عند العامة الرجل الذى لا كرامة ولا نخوة له ، أوردها أحمد شافعى عبد الحميد فى قوله : ( إن ترفع صوتك / هذا جيد / إن تخفضه / هذا مقبول / لكن أن تخرس صوت الحق بجوفك / فاظفر باللقب الدارج / دلدلول " (187) .
    ويمتص محمد أبو دمة التعبير الغنائى الشعبى " لا كل من لف العمامة ولا كل من ركب الحصان خيال " مازجاً بينه وبين حديث نبوي فينهى احدى قصائده بقوله:
    - هل كل من تحت أضلعه مضغة صلحت .
    لا
    وكل من شرّع السيف جال .... (188)
    أوترى مثل هذه التعبيرات: اقلب كراسيها أو(189) "يا زمان الكلب" (190) أو "يركب رأسه " (191) " لا تصلح كلبة" (192) "ابن موت" (193) "أسطرى
    "يركب رأسه " (191) " لا تصلح كلبة" (192) "ابن موت" (193) "أسطرى معفرتة" (194) "لن تروا وجهى" (195) " أنا المغلوب على أمرى " (196) " البادى مظلوم" (197) "من يوم الخلق إلى يوم الدين " (198) " ويعجعل جمعك به " (199) " أطلب يا باشا " (200) " بنت من فى مصر " (201) ولا بأس - طرافة - أن نرى مثل هذا التعبير الذى جاد فى هذا البيت :
    .. عودى لأيك " يا عصارة مهجتى " ** ما خاصم السيل المدفق زورا (202)
    أو حتى نرى من يقول : " وضعت على فؤادى جزمتى " (203)
    د . قرشي عباس دندراوى
    جامعة جنوب الوادى
    آداب قنا
    :emot129:محبتى وتقديرى
    محمود الأزهرى
    تكاد يدى تندى إذا ما لمستها
    وينبت فى أطرافها الورق الخضر

    [SIGPIC][/SIGPIC]
  • محمود الأزهري
    عضو أساسي
    • 14-06-2009
    • 593

    #2
    هذهالدراسة كتبها الشاعر الكبيرد/ قرشى عباس دندراوى
    وألقاها فى مؤتمر إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافى
    وطبعت مع أبحاث المؤتمر وأذن لنا أستاذنا الشاعرد/ قرشى بنشرها على النت
    :emot129:محبتى وتقديرى
    محمود الأزهرى
    تكاد يدى تندى إذا ما لمستها
    وينبت فى أطرافها الورق الخضر

    [SIGPIC][/SIGPIC]

    تعليق

    • محمود مغربى
      الفرعون العاشق
      • 22-02-2008
      • 694

      #3



      شكرا للصديق العزيزمحمود الازهرى
      وتحية للدكتور قرشى دندراوى

      وافر محبتى

      مغربى
      مدوناتى ونشرف بكم:
      http://magraby1962.maktoobblog.com


      http://mahmoudmagraby.blogspot.com
      للتواصل
      m.magraby@yahoo.com
      magrapy2007@hotmail.com

      تعليق

      • محمود الأزهري
        عضو أساسي
        • 14-06-2009
        • 593

        #4
        الشكر موصول لكم
        شكرا لحضورك البهى
        محمود الأزهرى
        :emot129:محبتى وتقديرى
        محمود الأزهرى
        تكاد يدى تندى إذا ما لمستها
        وينبت فى أطرافها الورق الخضر

        [SIGPIC][/SIGPIC]

        تعليق

        يعمل...
        X