حلم كلبة
[align=right]أنا كلبة ، تجري في عروقي دماء الكلاب ، ويدور بذهني ما يدور بأذهان الكلاب ، وأحب أن اتصف بما تتصف به الكلاب : الوفاء ، ملازمة الإنسان ؛ استمداد الأمان منه والحرص على أمنه ،مقابل لقمة العيش .الحر شديد ، أكاد أذوب كشمعة في أتون اللهب ، آه لو كان لصاحبي شأن ، لو كانت له يد في الكيس الكبير تصرف ما يجب أن يصرف ، على شؤون القصر ونازليه .. ولا حرج أن تبذر فالمال كان دوما مبذولا للقادر
وأعادها إلى وعيها نباح كلاب ، فتحت عينيها في تكاسل ، وابتسمت ، كان النباح يأتي من تلفاز متهالك أبلى شر البلاء في مهام ومعارك جليلة ، أشهرها تنفيذ وعرقلة ، وإنجاح وإفشال الثورة الزراعية وأخواتها المتوفيات ويبدو من ظاهر حاله أن جوفه قد ضاق عن أمعائه فطرد معظمها إلى الخارج ، ورغم ذلك كان لا يزال يواصل لهاثه ، دوره النضالي التعبوي ، والتثقيفي على طريقة رجال ذلك العصر.وبفضله شاهدت الكلبة سويدة شريطا عن حياة الكلاب في الغرب :حقوقهم وأخلاقهم وواجباتهم:
- من الحاكم هناك ومن المحكوم؟، من الإنسان ومن الكلب ؟ ما الفرق بين الكلب وصاحبه ؟ ومن الخادم ومن المخدوم ؟.
وخشيت أن يجرها خيالها إلى أشياء تبكى العرسان وتضحك الثكالى.
الفرق بين البشر والكلاب هناك يظهر في طريقة المشي فقط ؛ على اثنين أو على أربع ،أما الحقوق والكرامة والقانون فالجميع أمامه شيء واحد.
أقبل صاحب البيت منهكا ساخطا ،ودون أن ينبه الكلبة المسكينة المنخرطة في لعبة الخيال الممتعة ، وفي غفلة منها أهداها ركلة قوية بكل ما أوتي من جهد جمعت مؤخرتها إلى صدرها ، عوت عواء من سقط من شاهق إلى فوهة بركان.وراحت عاوية يسحب ما بقي فيها من حياة، ما تفكك منها أو مات.بينما تخطى هو مكانها بعد أن ألقى فيه بصقة مستعيذا بالله ، يردد الكلب شيطان إذا ربض على الباب هجرته الملائكة أربعين يوما ، و إذا ولغ...
وجدت سويدة قبوا مهجورا ، به برودة منعشة ، تمددت ، خف الألم بالتدريج ، وتذكرت كل المظالم التي ما انفكت تتعرض لها منذ أن ولدت في هذا البيت الثوري الفقير ، الذي لا يحوي شيئا إلا البؤس والجوع والشجار المستمر ، ولا يحسن سكانه من الحركات إلا الالتحام بالأيدي أو الرفس بالأرجل ،وقارنت بين حالها في هذا البيت وحال ما عرض أمامها في الشريط.
وحنت إلى متابعة الشريط، واستقر بها المقام في بلد لا يظلم فيه أحد.
- ما أسعدني، أنا سويدة المسكينة التي كانت تزاحم الصبية على لقمة العيش في المزابل وحاويات القمامة، مشردة بارزة العظام، أتمتع بكل هذه الخيرات ، طوق من جلد فاخر ، ودفء حمام به كل أنواع الصابون والعطور ، وأطعمة متنوعة رفيعة التعليب طيبة الرائحة ، في صحون نظيفة لامعة يكاد بريقها يخطف الابصار.وأمشاط ، وثياب وصدور تفيض عطفا وحنانا ، ورعاية صحية مستمرة آه أه.
أنا سويدة المسكينة هنا ، في جمهورية الكلاب ، مخدومة مدللة ، أشارك في مسابقات ملكة جمال الكلاب ، لي دفتر خاص به اسمي ولقبي ، وسلالتي ، وجواز سفري ، يسأل عني سفراء الدول ، والسادة والقادة، ويحيوني بأصابعهم الرشيقة الرقيقة التي تحرك العالم.!!
وقطع عليها حبل السعادة سعال مندفع من صدر صاحبها الذي كان يمر بالقرب من مخبئها وهو يلعن الحياة ومن فيها،واستعاد خيالها الوجه الثاني : صور الأطفال في سلاسل ممتدة من حلقات حول حاويات القمامة في الشوارع المهملة ، وسط الذباب المستثار ، والحرارة اللاسعة الغاضبة كأنها نفث صقر في وجوه الكلاب والبشر،الذين اصفرت منهم الوجوه، وتضعضعت الأجساد وغارت العيون المسكونة بالرعب
و الخوف وعدم اليقين .
أرادت أن تتأكد من أن عظامها قد سلمت ولم يكسر منها عظم ، فوقفت بهدوء المجرب ، واطمأنت.
- أستطيع - معتمدة على قدراتي ومواهبي وجهدي الخاص - تحصيل لقمة العيش ، ويمكنني أن احصل على استقلالي وقد ذكر الشريط وجود منظمة حقوق الحيوان ، تحمي حقوق الكلاب في الحياة ، والعمل ، والكرامة.
مرارة الفراق ذاتها ظلم ، كان يعيش بداخلها كل فرد من أفراد العائلة الفقيرة ، تفهم مشاعره وعواطفه وتستطيع التنبؤ بردود أفعاله وكان الصبيان والأطفال أكثرهم رفقا بها وأحبهم إلى قلبها ، لكنهم سرعان ما ينقلبون وتتبدل أمزجتهم كلما شبوا.
كانت تعرف أن داخل كل كلب يعيش إنسان على الأقل، وكانت تعرف أن داخل كل إنسان توجد حيوانات وزواحف شتى.
ورغم ذلك قررت الكلبة سويدة أن تهجر البيت ، وأن تبحث عن مأوى تأوي إليه ، وأن تبني مستقبلها .
على أن يكون مأواها وراء البحر ، لابد أن تهاجر، لم يفصل الله بين الجنوب والشمال ،والشرق والغرب ببحار ومحيطات عبثا ، لابد أن يكون وراء هذا الفصل حكمة ، والظاهر أن العقل ، والعدل ، والكرامة اختارت أن تستقر هناك ، وعلى الراغب فيها أن يرحل إليها لاستحالة أن ترحل إليه.
وفكرت في ثمن و طريقة الخلاص ، وهداها تفكيرها إلى أن تتسلل في غسق
و غبش الليل ؛ أثناء صلاة المغرب وفي أثناء صلاة العشاء والفجر إلى أحذية المصلين المبعثرة أمام المسجد ؛ وتحمل كل يوم ما استطاعت حمله بين فكيها ؛ وتعيد بيعه لمن رغب بأثمان معقولة حتى تجمع أجرة الرحلة ، وتشتري تذكرة حرقة لا رجعة بعدها من إحدى وكالات "الحرقة"
وتعبر مع العابرين ، آه ؛آه . وحتما لن تنسى الأطفال، وستبعث لهم هدايا في كل عيد.
باشرت سويدة تنفيذ خطتها ، وهي تأمل في النجاة التي كانت تقترب كل يوم أكثر، رغم أن ضجر الناس وشكواهم واتهام بعضهم لبعض بسرقة الأحذية كان ينغص عليها حلمها أحيانا وكانت في بعض الليالي تهب مفزوعة من كوابيس مشؤومة مرعبة تزورها بغير سبب واضح.
رصد أحد المصلين السارق ، فاكتشفه ، وأعلن للملإ نتيجة رصده : أن السارق شيطان ملعون في صورة كلبة سوداء ، يسكن قبوا مهجورا في احد أزقة المدينة القديمة، ومن ضاع منه حذاؤه فعليه به هناك ، ولا يتهمن به أحدا.
وتصايح أصحاب الحقوق، والذين مست كرامتهم فساروا في المدينة حفاة، والذين اتهموا أبرياء ظلما وعدوانا ، والذين اُتهموا بغير ذنب، وساروا جميعا إلى قبو الشيطان ، وكل منهم يحمل آلة فناء ، وانجلت المعركة عن أحدهم وهو يغرز أنياب مذراة في بطن الكلبة وقد التصق جنباها فصارا جنبا واحدا والحائط الجنب الثاني.
كانت الكلبة وهي تموت قد تعرفت على الكثير من أمثالها ، وعلى كثير ممن حالهم كحالها ولهم أحلام كأحلامها، وعبرت ، وقد انقضوا على الأحذية يتدافعون بمناكبهم كل يريد الفوز بزوج منها.[/align]
الضيف حمراوي 18/06/2009
تعليق