الأشجار تموت واقفة ... قصة من الواقع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • وليد زين العابدين
    أديب وكاتب
    • 12-05-2009
    • 313

    الأشجار تموت واقفة ... قصة من الواقع

    العنوان مأخوذ من رواية للروائي العربي عبد الرحمن منيف

    ولكن أحداث هذه القصة تحدث في إحدى المؤسسات الحكومية في مدنية دمشق

    زميلة في العمل ذات طباع هادئة

    إبتسامة رقيقة

    روح شفافة

    تقوم بواجبها على أكمل وجه .... والأهم من ذلك .... بصمت .... بدون ضجيج أو شعارات

    تعمل في قسم آخر وبحكم عملها تضطر لمراجعة مكتبنا عدة مرات في اليوم لإتمام معاملات المواطنين .

    جمالها هادئ ..... وهو الجمال الذي تكتشف فيه ميزة جمالية جديدة كلما شاهدته .

    لم أكن أجرؤ على السؤال أو الاستفسار عنها ... كي لا تفسر أسئلتي على نحو آخر. خاصة وأني متزوج . ولا أريد تعليقات لا عن طريق المزاح ولا عن طريق الجد. ( فمن غير دف نحنا عم نرقص )

    كنت أتابع دخولها وخروجها لحظة بلحظة حتى أني حفظت برنامجها وهو :
    ■ دخول على عجلة مع سلام مع ابتسامة مفعمة بالحياة والحياء.
    ■ إنجاز العمل بجد بدون تأجيل أوتسويف وإنهاء المهمة بأسرع وقت ممكن .
    ■ خروج من القسم مع سلام مع ابتسامة مفعمة بالحياة والحياء وراحة الضمير.
    وعندما كانت الزميلات يصررن عليها لتناول فنجان قهوة أو كاسة شاي أو ضرب متة

    كانت تقبل العزيمة على مضض . فالعمل في قسمها فوق رأسها , ولا تريد تأخير مهامها .
    في أحد الأيام لقط راداري إحدى المحادثات الجانبية بين الموظفات عن حالتها العائلية . فهي مطلقة بعد قصة حب طويلة . وسبب الطلاق تدخل الأهل من الطرفين الذي كاد يؤدي إلى صدام . فآثر الزوجان المحبان الطلاق درءاً للمخاطر والمشاكل . وذهب كلٌ في طريقه . وبانتهاء حياتها الزوجية بهذه الطريقة . طوت صفحة الحب والزواج . وكرست نفسها لعملها .
    في أحد الأيام لاحظت ولاحظ زملائي هرجاً ومرجاً بين الزميلات في المكتب وفي المكاتب الأخرى . فموظفات داخلات , ومخابرات هاتفية على الأرضي والمحمول , وموظفات خارجات مع أحاديث هامسة تارة ... وباكية تارة أخرى .
    حدث ما خاص بالنساء لا يردن أن يطلع عليه الرجال . وكلما انتهت واحدة من إخبار صديقة لها بآخر المستجدات بهمس مبالغ به كانت تنهي حديثها بعبارة ( بس أوعي حدا يعرف هه ) وهذه العبارة كانت تتردد بصوت واضح وجهوري .
    نحن الموظفين وبعد سنوات طويلة من العمل مع زميلاتنا أصبحنا نعرف الموال .
    فلا حاجة لأن نسأل ما الذي يحدث .... ( فيا خبر الآن بفلوس ... بعد نصف ساعة ببلاش )
    لذلك لم نحرك ساكناً . وكنا نعرف أنهن سيجدن مخرجاً لإخبارنا بأدق التفاصيل مع إبقاء الأمر سراً ؟؟؟ !!!
    المهم الخبر كان مزعجاً لي بشكل كبير ....
    فزميلتنا ذات الجمال الهادئ .... وصاحبة الوجدان العملي .... والضمير الصاحي مصابة بمرض خبيث في الرئة . وقد أجريت لها عملية استئصال إحدى رئتيها بشكل كامل . وهي الآن بحاجة إلى علاج شعاعي وكيماوي .
    لماذا يا ربي ؟ أستغفر الله العظيم
    لماذا هذه الموظفة بالذات ؟ أستغفر الله العظيم
    فهناك في العمل المئات من الموظفين ( نساء ورجال ) منهم من يستحق الشنق , منهم من يستحق الحرق , منهم من يستحق التسريح , منهم موظفين عاديين .
    من بين كل هؤلاء لماذا اخترت هذه الموظفة ؟ أستغفر الله العظيم
    - انقضت عدة شهور .... ونحن نتابع أخبارها أول بأول ..... صحتها جيدة إلا أنها تشعر بتعب شديد يستمر لعدة أيام بعد كل جرعة . كانت تستعيد عافيتها ولكن سرعان ما يحين وقت الجرعة التالية فتعود لألمها وتعبها . وكنا ندعو لها بالشفاء من كل قلوبنا . الكبير قبل الصغير .
    - بعد أن استقرت حالتها النفسية والجسدية . عادت للعمل لأن الجلوس في المنزل قد أرهقها أكثر من الداء نفسه . عادت لتمارس عملها على طريقتها الخاصة رغم مرضها . ورغم آلامها . كنا نقرأ الألم في عينيها , وفي مشيتها , وفي كلامها . وكانت تقول الحمد الله أنا اليوم أحسن من غير أيام .
    - كانت تتغيب لعدة أيام عندما كانت تتلقى الجرعة . وبعدها تعود لتبذل جهوداً مضاعفة في تصحيح أخطاء من حاولوا أن يقوموا بعملها . كانوا يقومون به على نحو ما اعتادوه . بدون ضمير . .. بدون احساس بالانتماء ... القيام بالعمل بأقل جهد ممكن بحيث لا ينتج عنه عقوبة . وطالما أن الأمور ماشية فلا داعي لبذل أي جهد عادي أو إضافي .
    - هي كانت تقوم بواجبها وكأن كل مواطن قريب لها , وكأن كل معاملة تخصها شخصياً . وكأن مكافأة مادية ضخمة ستنالها عند انتهاء العمل .
    - كانت تقوم بواجبها بعد المرض مثلما كانت تقوم به قبل المرض .
    - كنا نخشى أن تتغير , تضعف , تصاب الإكتئاب , تتغير نظرتها للحياة , تيأس . إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث .
    - كل ما تغير فيها أنها وضعت غطاءاً على رأسها ليخفي ما قد أحدثته المعالجة الخاصة بالأورام من تغيرات على شعرها ( ربما لم يعد لديها شعر كما كنا نسمع همسة من هنا أو هناك ) .
    - كل ما تغير فيها هو نقص في وزنها . شحوب في وجهها . تعب واضح في حركاتها .
    - إلا أنها عوضت عن ذلك بمزيد من الجهد والعطاء . كان الجميع يسارع ليساعدها في إنهاء عملها على وجه السرعة .
    - كان الجميع يشعر بالحسرة عليها خاصة عندما كانت تعود بعد عدة أيام من غياب منهكة ومتعبة بسبب طبيعة العلاج . إلا أنا حيث كنت أشعر بالحسرة على نفسي وعلى أمثالي . فأنا عندما أصاب بالزكام والرشح أشعر باكتئاب وملل وقرف . وأكره نفسي وأكره من حولي . وأذهب للعمل لأعاقب زملائي والمراجعين لأني مصاب بالرشح أو الزكام أو الصداع . فما بالكم لو أصبت بالسرطان أو أي مرض خطير آخر . لا أدري ما الذي سوف أكون عليه , ولكني متأكد أني لن أستطيع أن أكون مثل زميلتنا فاتن .
    - كانت تمر الأيام وكان البعض يراهن على أنها سوف تتغير . وسوف تتعب , وسوف تمل , وسوف تعتكف العمل وتجلس في البيت لتنال استراحة المحارب قبل الموت . خاصة وأن جسدها بدأ يذبل , وبدأت عينيها تغوران , وبدأ التعب يأخذ منها كل مأخذ .
    - إلا أنها ربحت الرهان حتى الآن . فما زالت تضاعف جهودها كلما أخذ منها التعب لتعوض فتنهي كل ما تستطيع إنهائه بدون تأخير . مثلما حالها قبل المرض .
    - وعلى ما يبدو أن هذه حالها , ولن تتغير مهما نال منها المرض الخبيث . وسوف تستمر في العطاء وبأفضل ما تملك حتى الرمق الأخير

    فالأشــــجار تـموت واقــفـة
يعمل...
X