حبيت بلدي وعشان بلدي أنا عاوزك تكبر يا ولدي
كلمات ما زلت أذكرها من أغنية قديمة ارتبطت بالأيام الأولى لطفولتي، كثيراً ما كنت أسمع المطرب يتغنى بها عبر أثير المذياع، كنت أحاول أن أربط بين كلماتها، والأسلوب الذي كان يعتمده والدي في تربيتي والذي كان يتلخص في عبارة " أنا عاوزك تطلع راجل، وبلدك وناسك يفتخروا بك " التي كان يرددها والدي رعاه الله... ما كنت ساعتها أدري ما هي الوطنية، ولا ما هو الوطن، ولا ما هي البلد... كل ما كنت أدريه عن ذلك المضمون هو الانتماء إلى قريتي في ريف مصر... حين كنا صبية صغاراً كنا نتبارى مع أبناء القرى المجاورة، وأحياناً كان التباري يتخطى لعب الكرة ليتحول إلى " حروب قروية طفولية" حين يتجرأ أحد أبناء القرى الأخرى فيهين ابناً لقريتنا... ما زلت أتذكر صياح صديق طفولتي إسماعيل وهو يدق أبواب بيوتنا ويجمع أطفال القرية هاتفاً بهم...." روحوا يا ولاد... ابن بلدنا انضرب".. كان إسماعيل هو وكالة الأنباء وجهاز الاستخبارات التي تنقل لنا كل ما يهدد أمن قريتنا من اعتداءات غاشمة من قبل أطفال القرى المحيطة.... وهكذا تنامت العصبية والانتماء عندي، وصرت أفتخر بقريتي...
ثم انتقلت إلى المدرسة بمركز المحافظة وتوسعت معي دائرة الانتماء تذكيها أغاني عبدالحليم حافظ عن أدهم الشرقاوي –وإن لم يكن ذو أصول شرقاوية-، ومواويل عن الأرض، وعواد الذي فرط فيها فضاع منه الشرف والعرض.. ونادتني المدينة بصوتها القادم من بعيد، فارتميت في خضم بحرها، واتسع محيط " البلد"... و جاء جواز سفري لينقلني إلى مواقع قضايا كنت أعيشها وأتجول عبر ربوعها على حافلة الكلمات والكتابات، فرأيتها رؤى العين، وعشت واقعها، ومرة أخرى يتسع المفهوم...
في كل محطات حياتي كان الانتماء مرادفاً بصورة أو بأخرى للمسئولية والواجب، ما كنت أهتم بالحدود والجغرافيا...لكن كان شعور الفخر بانتمائي لوطني يتنامى كأشجار النخيل والصفصاف على شاطئ الترعة التي تروي حقول بلدي...
أذكر في إحدى المرات أن حواراً أجرته معي صحيفة أوربية حول مصر سألتني الصحفية كيف هي مصر؟ فقلت لها إن ما ترينه من مصر يا سيدتي هو غلاف الكتاب، ومشكلتك –وربما تكون مشكلتنا أيضاً- أن هذا الغلاف قد اعتراه القدم الذي يرجع إلى سبعة آلاف عام، فيظن البعض أن ما بين دفتي كتاب مصر هو صلوات من كتاب الموتى الفرعوني... يا سيدتي إن كتاب مصر غلافه أهرامات، وحضارة لن يجود بمثلها الزمن، وصفحاته كنيلها المتدفق العذب، المتجدد، الصافي حتى وإن تلوثت مياهه في بعض المواضع، إن الكلمات التي وردت في صفحات كتاب مصر هي أهل مصر، قد تطول الكلمات، وقد تقصر، وقد تتبسم العبارات، أو تسمعين أناتها... لكن أنظري فيها وسترين أنها سطرت بنفس المداد....
إن المشكلة هي أنكم -ونحن- قد وقفنا أمام الغلاف، فعافت أنفسكم عن التجول عبر الصفحات إلا من باب الفضول، والبحث عن لعنة الفراعنة، ونحن ارتضينا أن نختصر عالمنا في صخور تاريخ سطره أجداد عظام...
إنكم حين تذكرون مصر، فإنكم تتخيلون فيلماً وثائقياً عن أطلال كبقايا "سدوم وعمورة"، ونحن قد ساعدناكم في خلق هذا التصور، حين بتنا نقتات ونجتر ما خلفه أسلافنا، إننا وأنتم في حاجة إلى عدم الوقوف أمام غلاف التاريخ، بل نحتاج إلى اتخاذه منطلقاً نستطيع من خلاله أن نكون تصور مبدئي عن الحاضر والمستقبل... إنني حينما أقرأ تاريخ الحضارة الاشيلية أو الحضارة الكلاكتونية فإن ذلك لا يعني أن أتخيل بأن أهل إنجلترا وفرنسا لا يزالون يعيشون في غياهب العصر الحجري... بل يجب أن تكون نظرتي لهذه الحضارات على أنها نقطة الانطلاق
وأذكر أن أحد الأمريكيين سألني منذ سنتين –أو ما يقرب- هل صحيح أننا في مصر لا زلنا نستخدم الجمال كوسيلة نقل أساسية في مصر؟ في البداية ظننته يريد أن يتهكم ويستظرف. فقلت له نعم لا تزال الجمال هي وسيلة الانتقال عندنا ولكننا طورناها جينياً بحيث صارت تركض كما العربات “الشيفروليه"وعدلنا قوتها حتى صارت بقوة 350 حصان... وكدت أسمعه ما يليق بسؤاله هذا... إلا أنني وجدت الرجل يسأل بكل جدية؟ بل ولديه خطط استثمارية بشأن مزارع الجمال فدعوته لزيارتي في مصر.. لأريه مصانع التطوير الجيني للجمال!!! وجاء الرجل، وتجولت معه في مصر.. مصر التي لم يعرفها... مصر التي لم نحك لهم عنها.... كل ما أستطيع قوله عن الانطباع الذي تكون عند هذا الرجل أن حاجبيه قد ارتفعا بل ويبدو أنهما استقرا على بعد سنتيمترات من موضعيهما الطبيعيين، وتيقنت أن زيارته هذه قد تسببت في تغيير ملامح وجهه،خاصة بعد أن عاد إلى مصر في العام التالي مصطحباً أسرته، ونفر من عائلته وأصدقائه... واتصل بي لألتقيهم ... ليعتذروا لي عن تصورهم القاصر حول مصر وأهلها ... الغريب أنني وجدت نفسي أعتذر عن تقصيرنا في نقل صورة مصر الحقيقية لهم....
واليوم حين أهدهد طفلتاي لا زلت أغني لهما ...
حبيت بلدي وعشان بلدي ... أنا عايزك تكبر يا ولدي...
وأشوفك بتعمر فيها... وبتزرع ورد في صحاريها
وبتبني مصانع يا ولدي ... تبنيها وتسعد أهاليها
كلمات ما زلت أذكرها من أغنية قديمة ارتبطت بالأيام الأولى لطفولتي، كثيراً ما كنت أسمع المطرب يتغنى بها عبر أثير المذياع، كنت أحاول أن أربط بين كلماتها، والأسلوب الذي كان يعتمده والدي في تربيتي والذي كان يتلخص في عبارة " أنا عاوزك تطلع راجل، وبلدك وناسك يفتخروا بك " التي كان يرددها والدي رعاه الله... ما كنت ساعتها أدري ما هي الوطنية، ولا ما هو الوطن، ولا ما هي البلد... كل ما كنت أدريه عن ذلك المضمون هو الانتماء إلى قريتي في ريف مصر... حين كنا صبية صغاراً كنا نتبارى مع أبناء القرى المجاورة، وأحياناً كان التباري يتخطى لعب الكرة ليتحول إلى " حروب قروية طفولية" حين يتجرأ أحد أبناء القرى الأخرى فيهين ابناً لقريتنا... ما زلت أتذكر صياح صديق طفولتي إسماعيل وهو يدق أبواب بيوتنا ويجمع أطفال القرية هاتفاً بهم...." روحوا يا ولاد... ابن بلدنا انضرب".. كان إسماعيل هو وكالة الأنباء وجهاز الاستخبارات التي تنقل لنا كل ما يهدد أمن قريتنا من اعتداءات غاشمة من قبل أطفال القرى المحيطة.... وهكذا تنامت العصبية والانتماء عندي، وصرت أفتخر بقريتي...
ثم انتقلت إلى المدرسة بمركز المحافظة وتوسعت معي دائرة الانتماء تذكيها أغاني عبدالحليم حافظ عن أدهم الشرقاوي –وإن لم يكن ذو أصول شرقاوية-، ومواويل عن الأرض، وعواد الذي فرط فيها فضاع منه الشرف والعرض.. ونادتني المدينة بصوتها القادم من بعيد، فارتميت في خضم بحرها، واتسع محيط " البلد"... و جاء جواز سفري لينقلني إلى مواقع قضايا كنت أعيشها وأتجول عبر ربوعها على حافلة الكلمات والكتابات، فرأيتها رؤى العين، وعشت واقعها، ومرة أخرى يتسع المفهوم...
في كل محطات حياتي كان الانتماء مرادفاً بصورة أو بأخرى للمسئولية والواجب، ما كنت أهتم بالحدود والجغرافيا...لكن كان شعور الفخر بانتمائي لوطني يتنامى كأشجار النخيل والصفصاف على شاطئ الترعة التي تروي حقول بلدي...
أذكر في إحدى المرات أن حواراً أجرته معي صحيفة أوربية حول مصر سألتني الصحفية كيف هي مصر؟ فقلت لها إن ما ترينه من مصر يا سيدتي هو غلاف الكتاب، ومشكلتك –وربما تكون مشكلتنا أيضاً- أن هذا الغلاف قد اعتراه القدم الذي يرجع إلى سبعة آلاف عام، فيظن البعض أن ما بين دفتي كتاب مصر هو صلوات من كتاب الموتى الفرعوني... يا سيدتي إن كتاب مصر غلافه أهرامات، وحضارة لن يجود بمثلها الزمن، وصفحاته كنيلها المتدفق العذب، المتجدد، الصافي حتى وإن تلوثت مياهه في بعض المواضع، إن الكلمات التي وردت في صفحات كتاب مصر هي أهل مصر، قد تطول الكلمات، وقد تقصر، وقد تتبسم العبارات، أو تسمعين أناتها... لكن أنظري فيها وسترين أنها سطرت بنفس المداد....
إن المشكلة هي أنكم -ونحن- قد وقفنا أمام الغلاف، فعافت أنفسكم عن التجول عبر الصفحات إلا من باب الفضول، والبحث عن لعنة الفراعنة، ونحن ارتضينا أن نختصر عالمنا في صخور تاريخ سطره أجداد عظام...
إنكم حين تذكرون مصر، فإنكم تتخيلون فيلماً وثائقياً عن أطلال كبقايا "سدوم وعمورة"، ونحن قد ساعدناكم في خلق هذا التصور، حين بتنا نقتات ونجتر ما خلفه أسلافنا، إننا وأنتم في حاجة إلى عدم الوقوف أمام غلاف التاريخ، بل نحتاج إلى اتخاذه منطلقاً نستطيع من خلاله أن نكون تصور مبدئي عن الحاضر والمستقبل... إنني حينما أقرأ تاريخ الحضارة الاشيلية أو الحضارة الكلاكتونية فإن ذلك لا يعني أن أتخيل بأن أهل إنجلترا وفرنسا لا يزالون يعيشون في غياهب العصر الحجري... بل يجب أن تكون نظرتي لهذه الحضارات على أنها نقطة الانطلاق
وأذكر أن أحد الأمريكيين سألني منذ سنتين –أو ما يقرب- هل صحيح أننا في مصر لا زلنا نستخدم الجمال كوسيلة نقل أساسية في مصر؟ في البداية ظننته يريد أن يتهكم ويستظرف. فقلت له نعم لا تزال الجمال هي وسيلة الانتقال عندنا ولكننا طورناها جينياً بحيث صارت تركض كما العربات “الشيفروليه"وعدلنا قوتها حتى صارت بقوة 350 حصان... وكدت أسمعه ما يليق بسؤاله هذا... إلا أنني وجدت الرجل يسأل بكل جدية؟ بل ولديه خطط استثمارية بشأن مزارع الجمال فدعوته لزيارتي في مصر.. لأريه مصانع التطوير الجيني للجمال!!! وجاء الرجل، وتجولت معه في مصر.. مصر التي لم يعرفها... مصر التي لم نحك لهم عنها.... كل ما أستطيع قوله عن الانطباع الذي تكون عند هذا الرجل أن حاجبيه قد ارتفعا بل ويبدو أنهما استقرا على بعد سنتيمترات من موضعيهما الطبيعيين، وتيقنت أن زيارته هذه قد تسببت في تغيير ملامح وجهه،خاصة بعد أن عاد إلى مصر في العام التالي مصطحباً أسرته، ونفر من عائلته وأصدقائه... واتصل بي لألتقيهم ... ليعتذروا لي عن تصورهم القاصر حول مصر وأهلها ... الغريب أنني وجدت نفسي أعتذر عن تقصيرنا في نقل صورة مصر الحقيقية لهم....
واليوم حين أهدهد طفلتاي لا زلت أغني لهما ...
حبيت بلدي وعشان بلدي ... أنا عايزك تكبر يا ولدي...
وأشوفك بتعمر فيها... وبتزرع ورد في صحاريها
وبتبني مصانع يا ولدي ... تبنيها وتسعد أهاليها

تعليق