تَمثالُ الحٌرِّيةِ
لا أُصَدِّق عينيَّ … هَل هذا أنَا ؟ فعلاً ! … أنا الذِّي أقف الآن أمام هذا الصّرح الشَّامخ … العَظيم … هَل نَجَحت في تخطّي كلّ العَقبَات التي واجهتني حتى وصلت إلي هنا ؟ … أرضُ الحٌرّياتِ ! التي يَرمز إليها تَمثال الحُرّيةِ … هذا الذِّي أسْتَطيعُ رؤيتَه … أسْتَطيع أن ألمسه بيديَّ … هكذا … يا لهَا من لَحظةٍ رائعةٍ ! … الآن فقط أسْتَطيع أن أفعل ما يخطر لي … أن أجرِي … أصْرخُ … أن أفعل كلّ شيء … وأيّ شيء … دونما أن يَسَتغربني أحدُُ … هُنا … كلّ شيء مُبَاح … ولكي أُثبِت لنفسي وللعالم من حَولي … سأفعل … أُغمِض عينيَّ هكذا … وأصرخُ بأعلى صَوتي هكذا :
-أنا حُرّ ! … أنا حُـــرّ ! …
أفتَحُ عَينيَّ من جَديدٍ … أُريدُ رؤية الدُّنيا من جَديدٍ … أُشَاهد تَجمعاً من النَّاسِ حَولي … كلهم من ذوي الشعور الذَّهبيةِ … يَنظرون إليَّ بدهشةٍ واستغرابٍ … نَظراتهم إليَّ قاتلةً … تتهمني بالجنونِ … أو شيئاً لم أدركُه يَقيناً …
أهمسُ إليهم بابتسَامةٍ فاترةٍ :
- أنا لست مجنوناً ! … أردتُ فقط أن أُطلق صَرختي … أن أثبت للدنيا أني قد جئت إلى أرضِ الحُرِّيةِ … أرضُ الأمل والأحلام …
يَخرجُ رجلُُ من بين المحيطين بي … يَقتربُ مني بِحَذرٍ … يتمتم بكلماتٍ " إنجليزية " لم أفهم منها سوي : أنتَ عربي ! إرهابي ! …
قَتَلتني الكلمةُ … فَجَّرتِ بُركاني … صَرختُ في وجههِ :
- أنت الإرهابي لا أنا !
لقد ظَننتُ أن بإمكاني أن أفعل كل شيءٍ … لهذا صَرَخت فيه … ولِمَ لا ؟ … أليستِ أرضَ الحُريةِ ؟ …
أشَارَ الرجلُ بيديه لأصمت … فصمتُ … ورُحتُ أنظر إليه يتسلل من بين الناسِ … ليعود بعد لحظاتٍ وبصحبتهِ شرطيُُ مُتحفزُُ … لَم أكترثُ بالشُّرطي كثيراً … وأخذت أحدِّثه بلهجةٍ عنيفةٍ تحمل الاتهام إلى الرجلِ … لَم يفهم الشّرطي شيئاً مني … أخرجَ " مُسَدسه " … أشهره في وجهي صَائحاً :
- أنت إرهابي إذن ! تُريد أن تُفجّر تمثال الحريةِ… انبطح أرضَاً وإلا أطلقت الرّصاص … أنتَ مقبوض عليك …
عِندما أفقتُ … كنت بمفردي في غُرفةٍ محكمة الغلقِ … لا يُوجد بها شيء سوي مقعدين خَشَبيين… أحَدُهما الذي قضيت ليلتي جالساً عليه … لَم يَهتم أحَدُُ بي …
مَضَى من الوقتِ غير قليلٍ … وأنا جالسُ دون حِراكِ … لَم أسْتَطع فعل شيء سِوى الانتظارِ … وقد استقرّ في يقيني أنَّ في الأمرِ خَطأ ما … سَنكشفُ حَتماً … وتعودُ إليَّ حُريـتي المسلوبة مني …
فُتِحَ بابَ الغُرفةِ فجأة … دَخل رجلُُ أسْودُُ مُخيفُُ… جَلسَ على المقعدِ الآخر… كَادَ أن يُحطِّم المقعدَ بِسمنتهِ وغلظةِ طَبعهِ … تَفرسني بنظراتٍ غريبةٍ … وقال بابتسامةٍ مُتشفيةٍ :
- علمتُ أنك عربي ؟!
أجبته شَاعراً بالفخرِ :
- نعم …
ولم يكن الأملُ قـدْ فارقَ صَدري بعد …
اعتدل الرجل في جلستهِ …سألني :
- لماذا حاولت تفجير تمثال الحرية ؟ …
ثم أطرقَ للحظاتٍ … أخرج خلالها " علكة " من جيبهِ … وراحَ يلوكها قائلاً :
- يبدو لي أن العرب جميعاً مثلك … أقصد أن لديهم موقف خاص من هذا التمثال … لأنه أهمّ رموز حضارتنا …
كنت أنظر إليه بدهشةٍ وعدم تصديق … قلتمحاولاً إقناعه بعكسِ ما يعتقده :
- لا سيّدي ! هذا غير حقيقي … إنكم تفهموننا بالصورة الخاطئة … فنحن نحبكم … ونحب بلادكم …
أرسَلَ المحقق ضحكة شيطانية … أطلَقتِ ما بقلبهِ من مشاعر السَّخطِ والكراهيةِ … ثم قال :
- فلماذا حاولت تفجير التمثال …
صِحتُ مُدافعاً عن نفسي :
- أقسم لك أن شيئاً من ذلك لم يحدث !
- لقد شَهد الجميع ضِدّك … أنت متهم بمحاولة زعزعة الأمن في بلادنا …
أمسكتُ رأسي شَاعراً بمرارةِ اليأسِ … تمتمتُ لنفسي :
- يا له من حَظٍ !
- ماذا كنت تقول ؟
- لا شيء
- سمعتك تقول شيئاً ؟
- قلت يا له من حَظٍ …
نهضَ المحقق فجأة … بَدَا كالقضَاء المُنتظَر … أشَار بإصبعهِ إلى أحدِ معاونيهِ … ثم التفت إليَّ قائلاً بلهجةٍ ظافرةٍ :
- كُلّ الأدلة تؤكد أنَّك أحد الإرهابيين …
وقفتُ مَشدوهاً … محاولاً استيعاب كلماته جيداً …
عندئذ …دخلَ رجُلان سَمينان … يأكل أحَدُهما " الهامبورجر " …
قَال لهما بهدوءٍ :
- خُذوه إلى القلعةِ…
نَظَرا إليه بدهشةٍ … كأنهما يُحذرانه من ذلك … ثم أحالا نظراتهما إليَّ … قَرأت في عينيهما بعض الشفقةِ … قال المحقق مؤكداً :
- هيَّا … نفذا الأمر …
قيَّداني بالسلاسل الحديدية حتَّى القدمينِ … واقتاداني إلى حيث ينتظرني المصير المجهول …
القَلْعةُ بِنايةُُ قَدِيمة في جَزِيرةٍ بِمياهِ المُحيط … تَضُم عُتاة الإجرامِ في أرضِ الحُرِّيةِ … ولا أعْلُم سَبب اعتقالي مع هَؤلاءِ … فَلمْ أُمارسْ العَمَل الإجرامي قَطْ … بَل … لا أفهم لُغةَ المجرمين …
هُنَاكَ …عَرفتُ المعنى الحقيقي لكلمةِ الرُعبِ …لَمْ يَكن ذلك الذِّي طَالمَا شَاهدته عبر شَاشاتِ " التليفزيون " … وإنَّما شيء آخَر… يَختلفُ كُلّ الاختلافِ … كان مَصدرهُ مَجموعة من النَّاس … بَشَر من لَحمٍ ودَمٍ … لكنَّهم ليـسوا مثلي … كُـلَّما نَظرتُ في عينِ أحَدِهـم ؛ أسْتَشعرُ خَطَرَاً مُحْدِقَاً … إنَّه الموتَ في انتِظارِ صَاحبهِ … المَوتُ يَتربصُّ بي وبِغيري … لِذا حَرِصتُ على تَجنُّبهم والابتعادِ عَنهم ما قَدِرتُ على ذلك … ومع هَـذا ، لمْ أنْـجُ من بَطشِ السَّجانين … كانوا كُلَّمَا رأونِي مُنزويَاً يُشَاكسون مَعي … ويَدفعونني إلى الاحتِكاكِ بِهم ؛ حتَّى يُوقعون بي … ويُمارسِون عليَّ أشكالاً من التَّعذيبِ اللانهائي … كانت للتعذيبِ في القـلعةِ آلات شـديدة الغرابةِ … يَأنفُ من اختراعها واسْتِعمالها الشَّيطان الرَّجيم… لَكن أصْعبُ ما ذُقتُ مِنها الصَّلب على عَمودٍ حَديديٍ في العَراءِ … أُعاني من بُرودةِ شَهرِ أيلول القاتلةِ … ما زلتُ أذكر هذا اليوم … يا لبشاعة ما عانيتُ فيه ! … كان الموتُ أعزّ أمنيةٍ لي وقتئذٍ …
ومن أغلى اللحظاتِ في ذلك المكانِ … عِندما تَعاطف معي أحَدُ المسَاجين … فَعمِدَ إلى ضَربي بِمطرقةٍ على رأسِي – مع العلم بأنَّه ضَربني بِحرفيةٍ حتَّى لا يقـتـلني – فسَقطتُ مَغشياً عليَّ … ولَمَّا أفقتُ … بَعد حَوالي ثلاثةِ أشهرٍ – هكذا قالوا لي – كُنتُ راقـداً بإحدى المُسَتشفياتِ … أتلقّى عِلاجَاً مكثَّفاً … وعَلِمتُ – بعد ذلك – أنَّ الطبيبَ الذِّي قام بِعلاجي يَنحَدِر من أصلٍ عَربيٍ … فَتَعاطف مع حالتيِ … وعَمِدَ إلى إبقائيِ في الغيبوبةِ حتَّى يَحميني من أيدي هَؤلاء القَتَلَة … وأكثر من ذلك ، فِعندما عَلِمَ بأسبابِ اعتقالي ؛ اسْتَغربَ كثيراً … وانفعلَت إنسَانيته داخلِه … فقَام بإبلاغِ مُنظمة حقوق الإنسان بما وَقَعَ من ظُلمٍ عليَّ …
حتَّى جَاءت لَحَظَةُ الأملِ … تَحت ضَغط من المسئولين عن المُنَظَّمةِ ؛ تم تَحريري من قَبضةِ السَّجانِ بِشَرطِ تَرحيلي إلى وطنِي الذي أتيتُ مِنه … لا أُنْكِر فَرحتي – رغم قَسوةِ ذلك العِقابِ عليَّ ، ورغم انهيار أحلامي داخل سجون أرض الحُرِّيةِ –…
و في أحَدِ أيَّام الشِّتاء البَاردةِ أعطوني خَطاباً مغلفَّاً بالشَّمعِ ، وطلبوا إليَّ تَسليمه للسلطاتِ حال وصولي إلى بلدي …
وتمت عَملية التَّرحيلِ …
عِندما هَبَطتِ الطائرةُ … كان قلبي يرتَجفُ … وقد حَدَث ما خَشيته تماماً … سَألني المسئول عن الخِطابِ … فأعطيته إليه … ولمْ أعلم ما بداخلهِ … لَم تَكنْ المُعَاملةُ حَميدةً بعد ذلك… أُقحِمتُ في سلسلةٍ من التحقيقاتِ … والتنقلُ ما بين السّجونِ – رغم انعدامِ المقارنةِ بين السّجن هناك والسجن هنا - …
حتَّى تأكدوا من خلوِّ صحيفتي من السَّوابقِ … وتمَّ إخلاء سبيلي من قَبضةِ السَّجانِ … لكني لمْ أتحَرر من وطأةِ الأمراضِ التي سُجِنت داخل قُضبانِ عَجزِي بِها …
ولمَّا خَرجتُ إلى الدُّنيا الواسِعةِ … لَمْ أرَ الشَّمسَ مُجدداً … لم أتحَرَّك بِحريةٍ كما كنتُ … لم أتذكَّر إلاَّ تلك اللحظاتِ الفائتة من المَاضي القريب … فجلستُ على " الرَصيفٍ " وانتظَرتُ … علَّ أن يأخذُ أحَدُُ بيديَّ …– رَغم صِغر سِنِّي - … ظَللت سَاكناً في جلستي… حتَّى سَمعتُ صَوتاً غريباً يقول :
- هَيَّا معي يا أخي !
أحلتُ وجهي إليه … لَمْ أرَ وجهه … وإنَّما أسلمته نَفسي … يأخذُني إلى حيث يشَاء … وكُلّ ما عَلق بِخيالي تلك الصُّورة التي طَالمَا حلمت بِهَا … صُورة تمثالِ الحُرّيةِ … شَامخـاً … رافِعـاً شُعلته إلى عَنانِ السَّماء…
لا أُصَدِّق عينيَّ … هَل هذا أنَا ؟ فعلاً ! … أنا الذِّي أقف الآن أمام هذا الصّرح الشَّامخ … العَظيم … هَل نَجَحت في تخطّي كلّ العَقبَات التي واجهتني حتى وصلت إلي هنا ؟ … أرضُ الحٌرّياتِ ! التي يَرمز إليها تَمثال الحُرّيةِ … هذا الذِّي أسْتَطيعُ رؤيتَه … أسْتَطيع أن ألمسه بيديَّ … هكذا … يا لهَا من لَحظةٍ رائعةٍ ! … الآن فقط أسْتَطيع أن أفعل ما يخطر لي … أن أجرِي … أصْرخُ … أن أفعل كلّ شيء … وأيّ شيء … دونما أن يَسَتغربني أحدُُ … هُنا … كلّ شيء مُبَاح … ولكي أُثبِت لنفسي وللعالم من حَولي … سأفعل … أُغمِض عينيَّ هكذا … وأصرخُ بأعلى صَوتي هكذا :
-أنا حُرّ ! … أنا حُـــرّ ! …
أفتَحُ عَينيَّ من جَديدٍ … أُريدُ رؤية الدُّنيا من جَديدٍ … أُشَاهد تَجمعاً من النَّاسِ حَولي … كلهم من ذوي الشعور الذَّهبيةِ … يَنظرون إليَّ بدهشةٍ واستغرابٍ … نَظراتهم إليَّ قاتلةً … تتهمني بالجنونِ … أو شيئاً لم أدركُه يَقيناً …
أهمسُ إليهم بابتسَامةٍ فاترةٍ :
- أنا لست مجنوناً ! … أردتُ فقط أن أُطلق صَرختي … أن أثبت للدنيا أني قد جئت إلى أرضِ الحُرِّيةِ … أرضُ الأمل والأحلام …
يَخرجُ رجلُُ من بين المحيطين بي … يَقتربُ مني بِحَذرٍ … يتمتم بكلماتٍ " إنجليزية " لم أفهم منها سوي : أنتَ عربي ! إرهابي ! …
قَتَلتني الكلمةُ … فَجَّرتِ بُركاني … صَرختُ في وجههِ :
- أنت الإرهابي لا أنا !
لقد ظَننتُ أن بإمكاني أن أفعل كل شيءٍ … لهذا صَرَخت فيه … ولِمَ لا ؟ … أليستِ أرضَ الحُريةِ ؟ …
أشَارَ الرجلُ بيديه لأصمت … فصمتُ … ورُحتُ أنظر إليه يتسلل من بين الناسِ … ليعود بعد لحظاتٍ وبصحبتهِ شرطيُُ مُتحفزُُ … لَم أكترثُ بالشُّرطي كثيراً … وأخذت أحدِّثه بلهجةٍ عنيفةٍ تحمل الاتهام إلى الرجلِ … لَم يفهم الشّرطي شيئاً مني … أخرجَ " مُسَدسه " … أشهره في وجهي صَائحاً :
- أنت إرهابي إذن ! تُريد أن تُفجّر تمثال الحريةِ… انبطح أرضَاً وإلا أطلقت الرّصاص … أنتَ مقبوض عليك …
***
مَضَى من الوقتِ غير قليلٍ … وأنا جالسُ دون حِراكِ … لَم أسْتَطع فعل شيء سِوى الانتظارِ … وقد استقرّ في يقيني أنَّ في الأمرِ خَطأ ما … سَنكشفُ حَتماً … وتعودُ إليَّ حُريـتي المسلوبة مني …
فُتِحَ بابَ الغُرفةِ فجأة … دَخل رجلُُ أسْودُُ مُخيفُُ… جَلسَ على المقعدِ الآخر… كَادَ أن يُحطِّم المقعدَ بِسمنتهِ وغلظةِ طَبعهِ … تَفرسني بنظراتٍ غريبةٍ … وقال بابتسامةٍ مُتشفيةٍ :
- علمتُ أنك عربي ؟!
أجبته شَاعراً بالفخرِ :
- نعم …
ولم يكن الأملُ قـدْ فارقَ صَدري بعد …
اعتدل الرجل في جلستهِ …سألني :
- لماذا حاولت تفجير تمثال الحرية ؟ …
ثم أطرقَ للحظاتٍ … أخرج خلالها " علكة " من جيبهِ … وراحَ يلوكها قائلاً :
- يبدو لي أن العرب جميعاً مثلك … أقصد أن لديهم موقف خاص من هذا التمثال … لأنه أهمّ رموز حضارتنا …
كنت أنظر إليه بدهشةٍ وعدم تصديق … قلتمحاولاً إقناعه بعكسِ ما يعتقده :
- لا سيّدي ! هذا غير حقيقي … إنكم تفهموننا بالصورة الخاطئة … فنحن نحبكم … ونحب بلادكم …
أرسَلَ المحقق ضحكة شيطانية … أطلَقتِ ما بقلبهِ من مشاعر السَّخطِ والكراهيةِ … ثم قال :
- فلماذا حاولت تفجير التمثال …
صِحتُ مُدافعاً عن نفسي :
- أقسم لك أن شيئاً من ذلك لم يحدث !
- لقد شَهد الجميع ضِدّك … أنت متهم بمحاولة زعزعة الأمن في بلادنا …
أمسكتُ رأسي شَاعراً بمرارةِ اليأسِ … تمتمتُ لنفسي :
- يا له من حَظٍ !
- ماذا كنت تقول ؟
- لا شيء
- سمعتك تقول شيئاً ؟
- قلت يا له من حَظٍ …
نهضَ المحقق فجأة … بَدَا كالقضَاء المُنتظَر … أشَار بإصبعهِ إلى أحدِ معاونيهِ … ثم التفت إليَّ قائلاً بلهجةٍ ظافرةٍ :
- كُلّ الأدلة تؤكد أنَّك أحد الإرهابيين …
وقفتُ مَشدوهاً … محاولاً استيعاب كلماته جيداً …
عندئذ …دخلَ رجُلان سَمينان … يأكل أحَدُهما " الهامبورجر " …
قَال لهما بهدوءٍ :
- خُذوه إلى القلعةِ…
نَظَرا إليه بدهشةٍ … كأنهما يُحذرانه من ذلك … ثم أحالا نظراتهما إليَّ … قَرأت في عينيهما بعض الشفقةِ … قال المحقق مؤكداً :
- هيَّا … نفذا الأمر …
قيَّداني بالسلاسل الحديدية حتَّى القدمينِ … واقتاداني إلى حيث ينتظرني المصير المجهول …
***
هُنَاكَ …عَرفتُ المعنى الحقيقي لكلمةِ الرُعبِ …لَمْ يَكن ذلك الذِّي طَالمَا شَاهدته عبر شَاشاتِ " التليفزيون " … وإنَّما شيء آخَر… يَختلفُ كُلّ الاختلافِ … كان مَصدرهُ مَجموعة من النَّاس … بَشَر من لَحمٍ ودَمٍ … لكنَّهم ليـسوا مثلي … كُـلَّما نَظرتُ في عينِ أحَدِهـم ؛ أسْتَشعرُ خَطَرَاً مُحْدِقَاً … إنَّه الموتَ في انتِظارِ صَاحبهِ … المَوتُ يَتربصُّ بي وبِغيري … لِذا حَرِصتُ على تَجنُّبهم والابتعادِ عَنهم ما قَدِرتُ على ذلك … ومع هَـذا ، لمْ أنْـجُ من بَطشِ السَّجانين … كانوا كُلَّمَا رأونِي مُنزويَاً يُشَاكسون مَعي … ويَدفعونني إلى الاحتِكاكِ بِهم ؛ حتَّى يُوقعون بي … ويُمارسِون عليَّ أشكالاً من التَّعذيبِ اللانهائي … كانت للتعذيبِ في القـلعةِ آلات شـديدة الغرابةِ … يَأنفُ من اختراعها واسْتِعمالها الشَّيطان الرَّجيم… لَكن أصْعبُ ما ذُقتُ مِنها الصَّلب على عَمودٍ حَديديٍ في العَراءِ … أُعاني من بُرودةِ شَهرِ أيلول القاتلةِ … ما زلتُ أذكر هذا اليوم … يا لبشاعة ما عانيتُ فيه ! … كان الموتُ أعزّ أمنيةٍ لي وقتئذٍ …
ومن أغلى اللحظاتِ في ذلك المكانِ … عِندما تَعاطف معي أحَدُ المسَاجين … فَعمِدَ إلى ضَربي بِمطرقةٍ على رأسِي – مع العلم بأنَّه ضَربني بِحرفيةٍ حتَّى لا يقـتـلني – فسَقطتُ مَغشياً عليَّ … ولَمَّا أفقتُ … بَعد حَوالي ثلاثةِ أشهرٍ – هكذا قالوا لي – كُنتُ راقـداً بإحدى المُسَتشفياتِ … أتلقّى عِلاجَاً مكثَّفاً … وعَلِمتُ – بعد ذلك – أنَّ الطبيبَ الذِّي قام بِعلاجي يَنحَدِر من أصلٍ عَربيٍ … فَتَعاطف مع حالتيِ … وعَمِدَ إلى إبقائيِ في الغيبوبةِ حتَّى يَحميني من أيدي هَؤلاء القَتَلَة … وأكثر من ذلك ، فِعندما عَلِمَ بأسبابِ اعتقالي ؛ اسْتَغربَ كثيراً … وانفعلَت إنسَانيته داخلِه … فقَام بإبلاغِ مُنظمة حقوق الإنسان بما وَقَعَ من ظُلمٍ عليَّ …
حتَّى جَاءت لَحَظَةُ الأملِ … تَحت ضَغط من المسئولين عن المُنَظَّمةِ ؛ تم تَحريري من قَبضةِ السَّجانِ بِشَرطِ تَرحيلي إلى وطنِي الذي أتيتُ مِنه … لا أُنْكِر فَرحتي – رغم قَسوةِ ذلك العِقابِ عليَّ ، ورغم انهيار أحلامي داخل سجون أرض الحُرِّيةِ –…
و في أحَدِ أيَّام الشِّتاء البَاردةِ أعطوني خَطاباً مغلفَّاً بالشَّمعِ ، وطلبوا إليَّ تَسليمه للسلطاتِ حال وصولي إلى بلدي …
وتمت عَملية التَّرحيلِ …
***
حتَّى تأكدوا من خلوِّ صحيفتي من السَّوابقِ … وتمَّ إخلاء سبيلي من قَبضةِ السَّجانِ … لكني لمْ أتحَرر من وطأةِ الأمراضِ التي سُجِنت داخل قُضبانِ عَجزِي بِها …
ولمَّا خَرجتُ إلى الدُّنيا الواسِعةِ … لَمْ أرَ الشَّمسَ مُجدداً … لم أتحَرَّك بِحريةٍ كما كنتُ … لم أتذكَّر إلاَّ تلك اللحظاتِ الفائتة من المَاضي القريب … فجلستُ على " الرَصيفٍ " وانتظَرتُ … علَّ أن يأخذُ أحَدُُ بيديَّ …– رَغم صِغر سِنِّي - … ظَللت سَاكناً في جلستي… حتَّى سَمعتُ صَوتاً غريباً يقول :
- هَيَّا معي يا أخي !
أحلتُ وجهي إليه … لَمْ أرَ وجهه … وإنَّما أسلمته نَفسي … يأخذُني إلى حيث يشَاء … وكُلّ ما عَلق بِخيالي تلك الصُّورة التي طَالمَا حلمت بِهَا … صُورة تمثالِ الحُرّيةِ … شَامخـاً … رافِعـاً شُعلته إلى عَنانِ السَّماء…
تعليق